سهر العامري
الحوار المتمدن-العدد: 1454 - 2006 / 2 / 7 - 07:56
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
بدرت من ابن حزم كلمات أربعة في المقدمة من كتاب الطوق ، أوردتها أنا في النص الأول الذي نقلته في الحلقة الأولى من مقالتي هذه ، تلك الكلمات التي صدرت عن الكاتب عفو خاطر ، ولكنها أشارت ، على ما يبدو ، الى جنس الصديق الذي رغب أن يكتب له ابن حزم رسالة في الحب ، مثلما أسلفت من قبل ، والكلمات الأربعة هي : ( وحق النشأة ، ومحبة الصبا ) ، وهذه الكلمات تعني دونما شك أن ابن حزم كان على صلة وثيقة بصديقته تلك ، وعلى معرفة تامة ، وقديمة بها ، تمتد الى أيام النشأة الأولى في مدينة قرطبة قبل أن يفرق الزمان بينهما على إثر سقوط الدولة العامرية فيها ، لتحل تلك الصديقة في مدينة المرية ، ويحل هو في مدينة شاطبة فيما بعد * ، وذلك بعدما صرما هما أيام الطفولة سوية ، وبعدما عقد حب الصبا بينهما ، هناك في قرطبة مسقط رأسيهما ، تلك المدينة التي لا زالت أماكن عديدة منها للآن تذكر برجالها ونسائها على عهد مصنف الطوق ، مثلما تذكر بالعرب ، وعاصمة خلافتهم ، بغداد ، ولكنها على صغر منها .
ورب سائل يسأل : كيف تسنى لي أن أحدد أنا جنس الصديق ذاك بامرأة ، وليس برجل ؟ ألم يكن من المعقول جدا أن يقصد بكلماته الأربعة تلك أنه نشأ وتربى مع صبي ، وليس صبية ، مثلما يرى غيري ؟
في الخبر الذي أنقله بعد قيل عن طوق الحمامة سيرى السائل أن ابن حزم كان يريد بذلك الصديق امرأة ، وليس رجلا ، فها هو يكتب ( ... ولقد شاهدت النساء ، وعلمت من أسرارهن ما لا يكاد يعلمه غيري ، لأني رُبيت في حجورهن ، ونشأت بين أيديهن ، ولم أعرف غيرهن ، ولا جالست الرجال إلا وأنا في حد الشباب ، وحين تفيّل** وجهي ، وهن علمنني القرآن ، وروّينني كثيرا من الأشعار ، ودرّبنني في الخط . ولم يكن وُكدي*** ، وإعمال ذهني منذ أول فهمي ، وأنا في سن الطفولة جدا إلا تعرف أسبابهن ، والبحث عن أخبارهن ، وتحصيل ذلك ، وأنا لا أنسى شيئا مما أراه منهن ، وأصل ذلك غيرة شديدة طبعت عليها ، وسوء ظن في جهتهن فطرت عليه ، فأشرفت من أسبابهن على غير قليل . )
من خلال ما ورد في النص المتقدم يعلن ابن حزم بصراحة متناهية أنه نشأ بين أيدي النساء ، وتربى على أيديهن ، وأنه ما عرف غيرهن ، ويعني بـ (غيرهن ) الرجال طبعا ، وظل على هذه الحال الى أن شبّ ، وزادت سنه ، فقد صرم هو طفولته ، ونشأته مع النساء اللائي علمنّه الكتابة والقراءة ، وكان كل همه ، ومنذ الطفولة ، تتبع أخبارهن ، وتعرف على أفعالهن ، وهو هنا يعترف ، دون أن يدري ، أنه كتب رسالته في الحب لصديقة لها ( حق النشأة ) عليه ، وتربطه وإياها حبال مودة الصبا ، تلك المودة التي قال عنها هو : ( وكانت مودة لله تعالى ) .
ومن عفو الخاطر هذا هو ما أورده ابن حزم من خلال خبر آخر عن كلفه بجارية نشأت معه في دارهم ، كانت بنت ستة عشر عاما ، وكانت غاية في الحسن ، مثلما يصفها هو قبل أن يحدثنا عن يوم قضاه بين النساء ، وكانت هي من بينهن ، فيكتب ( ثم تنقلن الى قصبة**** كانت في دارنا ، مشرفة على على بستان الدار ، ويطلع منها على جميع قرطبة وفحوصها ، مفتحة الأبواب ، فصرن ينظرن من خلال الشراجيب وأنا بينهن ، فأني لأذكر أني كنت اقصد نحو الباب الذي هي فيه ، أنسا بقربها ، متعرضا للدنو منها ، فما هو إلا أن تراني في جوارها فتترك ذلك الباب ، وتقصد غيره في لطف الحركة ، فأتعمد أنا القصد الى الباب الذي صارت إليه ، فتعود الى مثل ذلك الفعل من الزوال الى غيره . )
ومن النص المار يظهر أن ابن حزم مكث طويلا بين النساء ، حتى وهو في عمر ناهز السادسة عشر من السنين على تقدير عمر تلك الفتاة التي شغف بها ، وأحبها من أعماقه ، وهذا ما يثبت كذلك أن من طلب منه كتابة طوق الحمامة هو امرأة كان لها ( حق النشأة ) عليه ، وهذا الطلب جرت له سابقة عند ابن حزم ، وذلك حين صرح هو من خلال الخبر ذاته باسم امرأة أخرى ، هي ضنى العامرية ، إحدى كريمات المظفر ، عبد الملك بن أبي عامر ***** ، والتي كانت قد كلفته بصنع قطعة شعرية على غرار ما كان يكتبه أبو نؤاس في أخذ اللذات عن قرب ، وترك البكاء على الديار التي أصابها البلى ، وقد أجابها ابن حزم على طالبها هذا ، وكتب لها تلك القطعة الشعرية . والمعروف أن ضنى تلك كانت من الأسرة التي حكمت قرطبة ، وكان ابن حزم وأبوه من قبل من بين وزرائها ، ومن هنا يظهر أن المرأة التي كلفته بكتابة طوق الحمامة هي امرأة من أسرة ارستقراطية لا تقل في مكانتها عن مكانة ضنى العامرية ، إن لم تكن هي نفسها ، خاصة وإنهما من جيل واحد ، وإنهما ، بعد ذلك ، ينحدران من أسر مترفة تستهويها أحاديث صالون ، مثل أحاديث الشعر والحب الذي هو عند ابن حزم الفقيه لغو ، لكنه ، رغم ذلك ، كتب فيه .
وبعيدا عن طوق الحمامة ، ونقلا عن مرثية كتبها ابن حزم لمدينة قرطبة بعد أن عاد إليها من نفيه عنها الذي دام سنوات على إثر اجتياح البربر لها ، وتدمير عمارتها ، وتهديم ديار أهلها ، ذلك المنظر الرهيب الذي أثر تأثيرا بالغا قي نفسه ، فكتب مرثيته تلك التي نقلها لنا لسان الدين بن الخطيب في كتابه : ( أعمال الأعلام في من بويع قبل الاحتلال من ملوك الإسلام ) والتي جاء فيها ( وكدت أستطار حزنا عليها ، وتذكرت أيام نشأتي فيها ، وصبابة لداتي بها ، مع كواعب غيد الى مثلهن يصبو الحليم ... )
وهنا كذلك يعلن ابن حزم وخارج عن رسالته تلك من أنه صرم أيام الصبا والنشأة ، مع صديقات له ، قد طفحت صدورهن للتو ، وهو حين يتذكرهن إنما يتذكر حبيبته الأولى ، تلك الفتاة التي لم يرها منذ نفيه من قرطبة في الأول من محرم ، سنة أربع وأربعمئة للهجرة ، ولكنه ، حين عاد إليها في شوال سنة ، تسع وأربعمئة للهجرة ، رآها بعد أن نزل هو على بعض نسائهم ، مثلما يقول هو ، ويضيف ( وما كدت أن أميزها حتى قيل لي هذه فلانة ، وقد تغير أكثر محاسنها ، وذهبت نضارتها ، وفنيت تلك البهجة ، وغاض الماء الذي كان يُرى كالسيف الصقيل ، والمرآة الهندية ... )
من كل ما تقدم يجوز لي أن أقول الآن بثقة أن ابن حزم كتب رسالته تلك نزولا عند رغبة امرأة كانت صديقة له منذ الصبا ، وإنها من بنات رجال الدولة في قرطبة ، تلك الدولة التي فاءت عليه بفيء السلطة والجاه والغني ، مثلما فاءت على أبيه وأسرته من قبل .
وأخيرا ، رب قائل يقول بعد ذلك : ولماذا عدل ابن حزم عن خطاب المؤنث الى خطاب المذكر مادامت المخاطبة أنثى ؟ وجوابا على سؤال مثل هذا ، هو أن العرب كثير ما كانت تخاطب المؤنث خطاب المذكر في النظم والنثر على حد سواء ، ولا أراني بحاجة الى إيراد الكثير من الأمثلة على ذلك ، فالأدب العرب على مختلف عصوره ، وفروعه يزخر بهذا اللون من الخطاب ، وهذا شاعرنا المحدث ، السيد محمد سعيد الحبوبي يقول :
يا غزال الكرخ وا لهفي عليك . . . . كاد سري فيك أن ينهتكا
أعطني كأسا وخذ كأسا إليك . . . . . فلذيذ العيش أن نشتركا
وهذا الشاعر الأندلسي ، لسان الدين بن الخطيب يقول :
ساحر المقلة معسول اللمى . . . جال في النفس مجال النفس
سدد السهم فأصمى إذ رمى . . . . . . بفؤادي نبلة المفترس
= = = = = = = = = = = = = =
* بعد انهيار الدولة العامرية في قرطبة نُفي ابن حزم الى مدينة المرية أول الأمر ثم الى مدينة شاطبة ، وكلتا المدينتين تقعان في شرق الأندلس ، حيث استطاع الصقالبة من موالي المنصور بن أبي عامر ، فيما بعد ، من تأسيس دولة للعامريين فيه .
**تفيّل : سمن ، أو زاد في العمر ، أو اكتهل .
***وُكدي : فعلي . وبفتح الواو منها تعني : قصدي أو همي .
****القصبة : هنا تعني مكانا ، وفي القاموس هي من القرية وسطها ، ومن السواد مدينته .
***** المظفر ، عبد الملك بن المنصور ، وكان وزيرا لدى أبيه المنصور ، محمد بن عبد الله بن أبي عامر ، الذي استولى على الخلافة الأموية في الأندلس بعد أن آلت الى هشام الثاني بن الحكم الثاني ، وكان هشام هذا صغيرا في السن ، وتحت وصاية أمه ( صبح . )
#سهر_العامري (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟