|
جمعيات -الطابور الخامس-
أحمد عصيد
الحوار المتمدن-العدد: 5587 - 2017 / 7 / 21 - 09:24
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
يتمثل دور المجتمع المدني أساسا في إعادة الاعتبار للقضايا العادلة التي أغفلتها السياسات العمومية وهمشتها الطبقة الحاكمة، إما لعدم ملاءمتها لتوجهاتها، أو لتعارضها مع مصالحها، وإما لوجود توازنات داخلية أو خارجية تمنعها من أخذ تلك القضايا بعين الاعتبار وإنصاف أهلها. ونظرا للضغوط التي تمارسها الجمعيات المدنية على السلطة داخليا وخارجيا من أجل انتزاع المكتسبات المطلوبة ديمقراطيا (حيث تعمل هذه الجمعيات بأسلوب اللوبي المدني المنظم، الذي يعتمد التنظير والترافع والاحتجاج والتواصل والاقتراح من أجل تغيير سياسة الدولة في قطاع من القطاعات) ، نظرا لهذا كله فإن السلطة تلجأ في كثير من الأحيان إلى خلق جمعيات أخرى تتظاهر بحمل نفس المطالب، ولكن بأهداف معكوسة تعمل على التشويش بالدرجة الأولى على أصحاب المطالب الأصليين، وذلك بغرض إضعافهم، ويتم ذلك أساسا عن طريق تحريف الخطاب المطلبي واختلاق المؤامرات لصرف النظر عن المطالب الحقيقية. هذه الجمعيات هي التي نسميها "جمعيات الطابور الخامس". وإذا أردنا التمثيل الواضح لهذا المضمون الذي عبرنا عنه، فسنقدم المثال الحيّ التالي: ظهرت الحركة الأمازيغية بسبب اعتماد الطبقة الحاكمة المغربية منذ الاستقلال نموذج الدولة الوطنية التقليدي، القائم على مبدأ التأحيد واستبعاد عناصر التنوع، وذلك بغرض التمكين لنفسها وتقوية نظامها المركزي، مما جعلها تعتبر عناصر التنوع تهديدا لقوتها الناشئة، وعامل إضعاف لها، فكان دور الجمعيات الأمازيغية التي ظهرت منذ منتصف الستينات هو إعادة الاعتبار للأمازيغية هوية ولغة وثقافة، في مقابل توجهات الدولة التي كانت بحاجة إلى صناعة هوية مركزية لها بلغة وحيدة ودين واحد ومذهب واحد وفكر أوحد، بهذا يمكن القول إن الجمعيات الأمازيغية قد مثلت صوت الهوامش المنسية في ذلك الوقت. ومع تزايد الضغوط وكذا التحولات المجتمعية الكثيرة والتطورات الدولية التي لا داعي لذكرها ها هنا، اضطرت السلطة إلى أن تأخذ بعين الاعتبار مطالب الجمعيات الأمازيغية، وإلى إفساح المجال بالتدريج لأطروحة التنوع اللغوي والثقافي عوض الأحادية القديمة، لكن سرعان ما ظهر عاملان اثنان معرقلان: ـ الأول يتمثل في كون السلطة بعيدة كل البعد عن الانسجام، حيث تنطوي في دواليبها على توجهات مختلفة تترنح بين التقليدانية والعصرانية، وعلى عوامل متضاربة بين التقدم والنكوص كما كان عليه الأمر دائما في غياب الحسم النهائي المطلوب. ـ الثاني أن التيارات المجتمعية الدينية والقومية التي تربت في أحضان الفكر الأحادي، ونخص بالذكر هنا القومية العربية والإسلام السياسي، إن كانت قد وجدت نفسها في اللغة الواحدة والثقافة الأحادية سابقا، إلا أنها لم تستسغ التحولات الأخيرة التي جعلت الدولة تغير توجهاتها تدريجيا نحو الاعتراف بالمكونات المختلفة. ومن نتائج هذين العاملين ظهور مقاومات كثيرة لسياسة الاعتراف الرسمي بالأمازيغية، ولكن أيضا خلق جمعيات جديدة تحمل شعارات أمازيغية، دون أن تكون لها نفس أهداف الجمعيات الأمازيغية، حيث تعمل في مساعيها الحقيقية على الإبقاء على الأمازيغية في موقع الدونية أمام العربية، والحيلولة دون رفع الميز عن مظاهر الهوية والثقافة الأمازيغيتين. هذه الجمعيات لا تقوم بتنظيم أية تظاهرات أو لقاءات أو تصدر أية كتب أو مطبوعات للنهوض بالأمازيغية، كما أنها لا تؤطر مبدعين وكتابا باللغة الأمازيغية، ولا تحضر لقاءات النقاش العمومي التي تنظمها الحركة الأمازيغية، لكنها تظهر خلال لحظات النقاش داخل المؤسسات، وفي ظروف صياغة القوانين، لكي تستعمل من طرف الذين خلقوها باسم "التوافقات" وباسم "الطرف الآخر المختلف" الذي هو في الحقيقة طرف في السلطة لا يريد القبول بالواقع وبمنطق التطور، كما يتحفظ على العديد من الحقوق التي تدخل ضمن الحقوق الأساسية. لقد واكبنا في صمت على سبيل المثال مسلسل خلق "جمعيات أمازيغية" من طرف حزب "العدالة والتنمية"، ولا حظنا كيف حضر وزراء الحزب في تأسيس جمعيات أمازيغية في الفترة الممتدّة ما بين 2011 و2016، وتناولوا الكلمة في الافتتاح ليحدّدوا التوجهات ويرسموا المسار، في الوقت الذي ظلت فيه الحركة الأمازيغية منذ نشأتها مستقلة استقلالا تاما عن الأحزاب وعن السلطة، وقد لاحظنا بأن الخطاب الذي اعتمده هؤلاء في التشكيك في الحركة الأمازيغية ومطالبها هو نفس الخطاب الذي اعتمده القوميون العرب خلال سنوات السبعينات والثمانيات والتسعينات من القرن الماضي، خطاب الحديث عن "تهديد الوحدة الوطنية" و"تقسيم البلد" واستعمال نظرية المؤامرة مع ربطها بإسرائيل إلى غير ذلك من الخطابات الهذيانية، وكأنهم لا يدركون بأن الناس يعلمون اليوم جميعا بأن الخطر الوحيد الذي يهدّد بلدنا حاليا هو توظيف الدين في السياسة وخلق الخلايا الإرهابية النائمة واليقظة التي تسعى إلى إشاعة الخراب وتهديد الاستقرار، ويعرف الجميع المرجعية الإيديولوجية التي يعتمدها أصحاب تلك الخلايا ومن وراءهم من المنظرين سواء في التيار الراديكالي أو الانتخابي. من جانب آخر توجد لدينا اليوم خريطة ملتهبة من الحروب والمذابح في العديد من البلدان، أبطالها مجموعات مسلحة يعرف الجميع خطابها وأهدافها ومن يناصرها ويخطب لها في مؤتمرات "علماء الأمة"، التي تصدر توصيات "النصرة" و"الجهاد" في هذا البلد أو ذاك. لم يؤدّ مسار الحركة الأمازيغية الطويل المليء بالحوار والفكر الحيّ والعمل النظري والميداني المثمر والوطني، ومنذ أيام سنوات الرصاص وغلو الفكر القومي، لم يؤدّ إلى تهديد وحدة البلاد، فكيف يقوم بذلك اليوم بعد انتزاع الاعتراف ونجاح الحركة في تغليب منطقها ومفاهيمها على فكر ومفاهيم الإقصاء. إنّ مطالب الحركة الأمازيغية تندرج في إطار مسلسل الانتقال نحو الديمقراطية بمفهومها الشامل، وهو إطار لا يمكن أن تنفصل عنه، والهدف هو الترسيخ الديمقراطي القائم على احترام الحريات الفردية والجماعية والمساواة التامة بين الرجال والنساء، وفصل السلط وفصل الدين عن الصراعات السياسية، وبدون تمام هذا المشروع لن يكون للأمازيغية مكان تحت الشمس، لأن سياسة الدولة في غياب الديمقراطية لن تكون إلا ظالمة منكرة للحقوق، وبهذا الصدد نذكر بأن الحزب المذكور نفسه ، بجانب إنشاء جمعيات أمازيغية مناوئة لحقوق الأمازيغية، بادر إلى خلق تنظيمات نسائية ضد حقوق النساء، وتنظيمات حقوقية تتحفظ على حقوق الإنسان، ومن تمّ فعلى الطبقة السياسية أن تدرك بأن "التوافقات" لا ينبغي تكون مع من يسعى إلى التراجع عن الحقوق والمكتسيات الإيجابية، وأن "إشراك الجميع" يكون هدفه الاستماع إلى الكل، ثم أخذ الأفكار البناءة والمستقبلية والمنصفة بعين الاعتبار، وليس الأفكار الساعية إلى إعادة النزاع الشسابق، والتراجع عن الخيار الديمقراطي، لأن من شأن ذلك أن يؤدي بنا إلى اليأس من المؤسسات، وإلى نزع الثقة التام من جدوى العمل المدني المستقل.
#أحمد_عصيد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
-الاستثناء المغربي- هل يخون نفسه ؟
-
عود على بدء
-
حياد المساجد هو الذي يقي من الفتنة
-
الفلسفة في درس التربية الإسلامية
-
-حتى لا تفقد الأمة روحها !-
-
ليسوا أشرارا يا زغلول النجار
-
تركيا: خطوات ثابتة نحو العودة إلى ترسيخ الاستبداد الشرقي
-
ترتيب البيت الداخلي أولا قبل نظرية المؤامرة
-
كيف نعيد للناس متعة القراءة ورُفقة الكتاب ؟
-
من يحمي منظومتنا التربوية من الإرهاب ؟
-
بين الصوفية والسلفية والإخوانية
-
-البرقع- بين الحقوقي، القانوني والسياسي
-
هل استوعب حزب -العدالة والتنمية- الدرس ؟
-
رسائل قصيرة إلى المغاربة
-
أزمة سياسة أم أزمة دولة ؟
-
توسيع مفهوم -إمارة المؤمنين- يقتضي تدبيرا عمليا للتعددية الد
...
-
الصورة والحياة الخاصة، قراءة في -النزعة الفضائحية-
-
عالم مجنون يتجه بخطى ثابتة نحو الكارثة
-
لماذا تنعدم الثقة بين أطراف الدولة ؟
-
مقاطعة الانتخابات يقوي سلطوية الدولة ونفوذ المحافظين
المزيد.....
-
خطيب المسجد الأقصى يؤكد قوة الأخوة والتلاحم بين الشعبين الجز
...
-
القوى الوطنية والاسلامية في طوباس تعلن غدا الخميس اضرابا شام
...
-
البابا فرنسيس يكتب عن العراق: من المستحيل تخيله بلا مسيحيين
...
-
حركة الجهاد الاسلامي: ندين المجزرة الوحشية التي ارتكبها العد
...
-
البوندستاغ يوافق على طلب المعارضة المسيحية حول تشديد سياسة ا
...
-
تردد قناة طيور الجنة على القمر الصناعي 2024 لضحك الأطفال
-
شولتس يحذر من ائتلاف حكومي بين التحالف المسيحي وحزب -البديل-
...
-
أبو عبيدة: الإفراج عن المحتجزة أربال يهود غدا
-
مكتب نتنياهو يعلن أسماء رهائن سيُطلق سراحهم من غزة الخميس..
...
-
ابو عبيدة: قررت القسام الافراج غدا عن الاسرى اربيل يهود وبير
...
المزيد.....
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
المزيد.....
|