أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - جميل حسين عبدالله - شوارد الفكر -7-















المزيد.....


شوارد الفكر -7-


جميل حسين عبدالله

الحوار المتمدن-العدد: 5587 - 2017 / 7 / 21 - 09:16
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


شوارد الفكر
‏-7- ‏
وإذا كان أسمى ما يوحي إليه المصير من صفي الآمال، وأقوى ما فيه من لحظات الآجال، هو عدم إدراكنا للمبتغى التي حير ‏الألباب، وبدد الأحباب، فإن أسطورية الموقف الذي نجادل حول ما يضمره من تلافيف، ونحاجج في تفوقه ‏المعنوي على ما ‏يعن لنا أنه مادة له بالائتلاف، قد يخلق فينا أكنانا للمأساة التي تخيرنا بين العدم، والوجود، وتجبرنا على افتراض النفي، أو ‏الإيجاب، وهي الألم الذي يغذي فينا الرجاء، وينمي فينا الإرجاء، لعلنا نعتني بما تبقى من زمن الديار التي جللها العناء، ‏وكللها الشقاء، وصارت من ‏حدة الضجر شاحبة الجلاء، وحاسرة البلاء. فهل تهاون الزمن في إنجاز ما تبقى من رسوم الحياة ‏الأليمة.؟ أم عاندنا حين مرغنا بين أوحال الوعي الشقي، والحزن الدوي.؟ لو استقل بنا وابل العبث، وطالعه اللئيم، ‏ودسنا بأفكارنا راكد الفوضى، وخضنا بأنظارنا أشرس معارك العدمية، ونازلنا بأخلافنا فرسان اللاأدرية، فهل يعني ذلك ‏أن ‏مصيرنا لن يكون مأساويا.؟ أم يعني أننا نجتاز المحيط الذي صوره الدهاة خالدا، فإذا به هجين العنصر، ورقيع المركب.؟ ‏
ربما من اكتناز العقول لتلك الصورة التي تجسد الإله فقيرا في صفته، وتحصره إيديولوجيا في صياغة وعي البروليتاريا ‏الرثة، والطبقات الهشة، وكأنه لا ينزل من عليائه إلا ‏لمناصرة المقهورين، ومواساة المنكوبين، ولو لم يكن ذلك منتهيا في ‏فلسفته إلى توجه معرفي، أو نظام وجودي، لا نبصر الحقيقة التي تجعل هذه الصورة عاجزة عن أن تمنحنا قوة في الانفعال، ‏وقدرة على التفاعل، لأننا حين نستنجد بالسماء لدحض حجج الاستعباد الذي يغلنا بقيوده الخشنة، لا ننجرف إلا في سياق ‏يفارق أسباب كآبة أكواخنا، وسآمة أكوارنا، ولا ننحرف إلا في اتجاه يجعل الاستضعاف ضرورة يضمرها ترتيب الدرج على ‏لوحة المنى العتيدة، والاستعباد صولة يعريها تقريب الأرجل من عتبة الربى اللذيذة. ولذا، لا يجوز لنا أن نغفل عن ‏السبب الذي دمر موانئ أحلامنا، ومرافئ آمالنا، ولا أن ننسى انحصارنا في مغامرات خضناها بين سراديب الخفاء، وكهوف ‏الجفاء، إذ معرفة ذلك بشرارة العقل الباقر لسلال الألفاظ، وجراب المعاني، ودرك ما تفرشه الأرض من مهاد تنزف ‏بالضجر، والعناء، وما تمده السماء من أكسية، وغطاء، هو الذي يقدس الحقيقة في بطن الفضاء، ويعلي شأنها عند منتهى جموع ‏إرادات الخير على بساط الطبيعة السمحاء، لأننا لا نفترض في كثير من ‏الخصال العقلية، والخلال الفكرية، إلا إلها منقوشا في ‏الذات بريشة عواطفنا السالبة، وأحاسيسنا الخانعة، فهو الناطق بنا، والمتحدث عنا، فإن بكينا، فهو المعول، الباكي، وإن ‏فرحنا، فهو الفرح، الجذلان. ربما قد يكون هذا واضحا في سيكولوجيا الصورة التي حميناها بالصراع، وعانقناها بالكروب، ‏وواجهناها بالحروب، لأنها تعبر في احتلال ظلالها عن اختلاف فئاتنا المتعارضة، وبنياتنا المتنافرة، واصطراعها حول ‏النصيب الذي يجب تقديسه في الكسب، وتدنيسه في النهب، واصطدامها حول العدد الذي يصير به الثمن قوي الامتلاك، ‏وعريض الاشتباك، لكن، هل يجوز لنا أن نؤلف القضية من تناقضات تبني أساس المعرفة على أضداد تندمج في برزخ المعنى، ‏وتنخرط في حركية دائمة، وطفرات سريعة، تنتج الفعل السوي، وخصيمه، ونحن في سهوم دهشتنا لا نحكم عليها بمنطق ينعطف ‏مع الصيرورة سلبا، أو إيجابا.؟ ‏
شيء ‏يضمره القلب، وينطق به حاله المستلين، ومقامه المستكين، وهو ذلك الرسم الذي لا يقابله رسم آخر، والحرف الذي لا ‏يشاكسه شبيه، أو نظير، وكأنه نقش مقرور في عيوننا، ونحت موشوم على بصماتنا، لا نكاد نخالفه، ولا لا نطيق أن نفارقه، لأنه ‏بمنزلة ‏الظل الذي يلازمنا، والاسم الذي يحوينا. وأي عزوف عنه، أو تردد في اختياره، لكي نصوغ على أنقاضه ما تصارعت ‏حوله كتب اللاهوت في صون حقيقة الإله، لن يكون إلا غرسا لأشجار نافرة في أعماقنا، وأحجار ناشزة في ‏أفكارنا، لأن صورة ‏الإله لا تبتغى في المأساة، ولا ترتجى في المعاناة، إذ هي في ثباتها لا تكتسي حقيقتها في المتحرك إلا بمعاييره، ولا في الجامد إلا بمقاييسه، ‏ولا تنطلي في سموها إلا على ما يدونه الدنو من رغبات الكمال، ورعشات الجمال، لأنها تعبر عن الإنسان، لا عن الإله، ولو ‏تضمنت صفةَ الإطلاق في لانهائيتها، وحقيقةَ النسبية في ارتباطها بالمهد الذي ركبها، وعدلها، وجعلها معنى لا يبلغه ‏السؤال، والنقاش. ولذا، لا يفيد وضع الصورة الذي حددناه بواقع عيون زمننا الرديء، وعصرنا التعيس، ما نراه ‏انتصارا لها في صراع الوجود، ووجع البروز، لأنه مظهر يضمر في حيثيات رغبته سببا خارجيا، وهو في كبرى تمثلاته مستند إلى ‏التضخيم، ومتجه نحو التفخيم، إذ لا شيء أتفه من الجماهيرية التي يغرد بها طلاب العظمة، وقصاد السطوة، ‏إذا لم يكن السياق ‏واضحا، والقول صادقا، لأن اعتلال الأشياء بما يضاف إليها من دخيل، وما يلحق بها من دعي، واحتدام النزاع حول ‏المعاني التي تضبط حدودها، وتنشط مدارها، لا يأتي من إنكارها، ولا من الاستفهام لها، بل من الغلو فيها، والحنو إلى جعلها ‏مرمى النظر في كل العلامات، ومنتهى الرجاء في كل الأمارات، لاسيما إذا نافح عنها من لم يشرب روحها، ولم يتذوق ‏روْحها، إذ الأشياء لا يحتقرها ‏من حاربها، وحفر ثُغرة للعدو في حصونها، بل يهدمها من ظن الحرب حقيقة في الوفاء ‏لعهودها التالدة، وقيمة في الالتزام بمبادئها الخالدة. ‏
وإذا كان انحدارنا عن العقل سبة في عدم درك جوهر الصورة المعنوية للأشياء الثاقبة، وحقيقةِ مادة الهيولي المجسد لقوة ‏معناها الفاعلة، فإننا لا نملك في قاعنا إلا زفير الأسى، وأنين الحزن، لأننا نتعالى في كثير من الأحيان بغبطة مفتعلة، أو نشوة ‏مزيفة، فنخال برودة عاطفتنا حرارة، وخمود إحساسنا سكينة. وربما نتعاوى بأننا ملاك الحقيقة، وحذاق المعنى، فنزعم أننا ‏عبدنا طريقا ميسرا إلى باب السماء، ونظن أننا صرنا أدلة على منعرجات السير إلى بئر الفناء. لكن، لو قيل لنا بأن طرق ‏السماء بعدد الأبصار المشاهدة لها، أو بقوة الأفكار المعانقة لها، فهل سنقبل ما يرويه كل معرِّج يحكي عن سفرته، أو يُرغِّب ‏في رحلته.؟ لعل اختلاط اللفظ بمعناه في خمرة الدليل، وعطشة الغليل، هو الذي يوقد نيران الحرب بين الناظرين إلى الفضاء، ‏والمتأملين للسماء، لأن صورة الإله في الصراع الذي حبرته اللغة بغرابتها المستعارة، وكسوتَه التي خاطها التصوير للفظ ‏المبهم الكناية، هي التي تحدد ماهيته في الذوات المتحاربة، وفعله في الإرادات المتعادية، إذ هو على لسان البائسين، ‏والمحرومين، يلبس قميص جيفارا، ويجري في عروقه دم الإيرلانديين، المتمردين، ويسري في نجوده حزن الفلاحين، وكمد ‏المزارعين، ووجع المحرومين، وجرح المنكوبين. وهوفي عز تيهه بين مهامه الوجد، والفناء، يمتطي صهوة دراجته الحالمة، ‏وينتضي صولة قبعته الهادئة، والمدى بين عينيه شاسع، والأفق في عشقه ساطع، والمسير في كبده واسع، إذ لم يبرح دائرة القمر ‏في محيط الأرض، إلا لكي يجوب الأدغال بحثا عن الثوار، ويحرر العبيد من طغيان الملاك المقسطين. وإذا كان هذا إلها لكل من ‏التمس الوجود في ظهور مطالع الحرية، وانتخابَ المكان لأنقى أعراقه، وأصفى أخلاقه، فإنه على لسان الواجدين، يتبختر في ‏فسطاطه بحلله السندسية، لكي يرمق سكون النهار بين أوردة الكون العطرة، وهدوء الشمس على خمائل الطبيعة الندية، ‏وينتشي برقصات الجذلى بين زهيرات الفل، والياسمين، ورعشات السكارى بين حفيف الأشجار، وخرير الغدران. ‏
شيء من ذا يجعله منتقما للصادحين بصوت الإنسان الضائع بين الدروب الشاحبة، والمدن الصاخبة، فلا يُرى إلا شاهرا سيفه ‏مع النبيل دون كيخوت، وجوالا معه بين الفيافي الفاتكة، لعله يعثر على منفذ إلى بحبوحة الشجاعة، فيدمر قلاع الظالمين بما ‏تبقى من فروسية في بطولة الحماسة، وملحمة البسالة. وشيء من ذا يصيره سواحا بين المدن الطازجة بالأحلام الوردية، ‏والأماني الفضية، لكي يكتشف ما فيها من ملاحم الغناء، وتراجيديا الكوميديا، وسخرية القدر بالمغنين، والنائحين، لأنه في ‏نهاية المحاكاة، وبداية المناجاة، لن يكون إلا مستهزئا مما فارق بستان الياسمين، وعانق مدافن الأكنان، إذ هو الجنة التي تهدى ‏من أجلها مهج الأرواح الراقصة، والأشباح العابثة. فإلى أيهما سينتمي الوعي حين يكتمل في برزخ المعاني.؟ ربما لا يثير هذا ‏شهية عند من خال تحديد الفرق بين صورة الإله، وحقيقته التي ركبها الإنسان لتمام بشريته في عالم المثل الإنسانية، هو عين ‏الضلال الذي تستفتح به الأجران، وتوقد به الأفران، لأن تصويره لما انتهى إليه دركه للجمال في عالم الاستسلام، هو الذي ‏يمنحه حق الكتابة على الجدران، ويهبه حظ طي الصحف بمفروض الحياة، أو بمكتوب الموت، لأنه يفصح عن امتلاكه لما تطويه ‏القلاع، وتحويه الحصون، لئلا يكون هناك طريق إلى الديار إلا من بابه، ولا وسيلة لسكن الأكواخ إلا تحت رحمته. وإذا كان ‏هذا واردا في الحجة التي أقامها المتوقف عند حد اكتمال الصورة بين أمدائه، فإن ما يتأبطه الهم، والغم، قد تتجاوز عند ‏بعض محصور الذوات في المعاني، ومقصور اللغات عن المباني، لأنه لا يكون في سربها إلا نسيما عليلا لتلك الروح السارية في ‏جوهر الأشياء، والجارية في منطقها بلا التواء، وهمسا جميلا للعقلِ المتدافع هوجه بين عتبات الزمان، وطبقات المكان، ولحنا ‏لطيفا للنفسِ التي تحتضن تناقضات العالم، وصراعاته حول الوجود، وإخفاقاته في تحقيق ملاذ لشطآن الحياة الكريمة، ونشواته ‏في لمس النعيم بأهداب الخيال، أو بأثداء الحقيقة، لأن صورته التي تفجرت من جون الآدمي، وغوره العميق، وصوته ‏السحيق، لا تستوعب مداركها ماهية ما هو راسخ في ثبات المعنى على الذات الأزلية، لأنه خاضع لمعيار المادة التي نتصور ‏تمامها في بداية ما ننسخه من صور المثال في الوجدان، أو ما ننشئه من معنى لا حقيقة لها في وجوده إلا بالآثار.‏
‏ ومن هنا، يكون مرسوم الإله فينا بمقدار جلاء المرآة، وصفاء الزجاجة، لأنه في حقيقة ما ارتبط به من تصديقات، وما عانقه ‏من تصورات، ليس إلا صورة تتحرك بسرعة ما فيها من فهم للطبيعة، ودرك للمعاني المتجلية على الكون، والمتفجرة في الحياة، ‏والمترنحة مع الإنسان، ولونا جامعا لكل الأفراد المتناهية إلى ماهية مشتركة، وهوية مستولية، وحقيقة متوحدة، إذ هي ‏المعراج الذي لا يجوز إنكاره في سِير المتقدمين، وسيْر المتأخرين، لأنه مرتهن بحرية الإرادة، ووافر الاختيار، والمعنى الذي ‏يصبغ الذات بأطيافه، ويكسوها بألوانه، إذ هو حقيقة الإنسان في برزخ انتفاء الصفات للوحدة الخالدة، وطبيعة الكون ‏حين يجمع على لحن واحد في الأنغام الماجدة. ولا غرابة إذا كانت الكلمة التي تدل على المكنون فينا علامة توحي بالتأويل، ‏والتماس الذرائع، واستحسان التسويغ، لأن ما نمنحه هذا الكون الفسيحَ في عقولنا، وما نصبغ به الحياة من صريح أذواقنا، لم ‏يكن واضحا في كثير من حدودنا، ولا محدودا في عظيم لغاتنا، لئلا يقبل الجدل الحاصل في واقعنا، والصراع النازف في ‏مواردنا، بل هو غامض في ضجيج احترابنا حول نصيبنا منه، واقتتالنا حول امتلاك قلعته بالهدنة، أو الخراج، أو الصغار، ‏إذ من شدة التباسه في صور أذهاننا، واختلافه في ظواهر أعياننا، لم يتم فيه الاتصال بين الاسم، والمسمى، ولم يتحدد فيه ‏صوت المرتابين مما يحصل شؤمه في الدائرة البشرية، ولا صدى المحتارين مما انبجست ظلماته في القبيلة الإنسانية، ولا صمت ‏المودعين لمعاهد الروح العتيقة، وهم يقولون بموت الحقيقة، وبفوض النظام، ثم غالى بهم ملل التيه، وتجهم المطلع البهي ‏بين الآفاق، فأيقنوا باستقالة الحقيقة عن التدبير للموارد، والتفريد للمشاهد، ثم استسلموا للكمد الذي ابتنى لهم حصونا ‏تقي اللذات من غارات المشاكسين، وسخريات المشاغبين.‏
ولذا، لا نحتاج في استظهار الصورة إلى أن نفارقها عن مادتها، ولا إلى أن نعاديها بمطلقها، لأنها لا تتركب في أذهاننا إلا ‏بمقتضى ما تفي به ذواتنا من مواثيق السماء، وتلتزم به في مساحات وجدانها بالوفاء. فهل يجوز لنا أن نفصل بين ما يتركب ‏فينا، وبين ما نستوحيه من ظلال المعنى في خارجنا.؟ لو قلنا بوجوب الانفصال، وتعدد المقال في الاتصال، فإن ما تقوم به ‏الصورة في الذات التي لم تقرأ تاريخها من فرح البشر، وقرحهم بين المناكب، ولغبهم في المجالب، لن يكون إلا ازدواجية ‏مقيتة، وانفصاما هجينا، لأنها ستركب من الإله إنسانا، ومن الملاك شيطانا، ومن الأرض مقبرة، ومن السماء بركانا، ومن الكون ‏شريرا. وإذ ذاك، سيضيع المعنى بين ظواهر الأشياء التي تقدس لعطائها، لا لروحها المتناغمة مع جوهرها الكلي في روح ‏الطبيعة، إذ لولا هذا الانفصام الذي باعد المسافة بين اللفظ وغايته في الوجود، لما غدا الاسم الدال على الكمال مجافيا ‏للفكر، ومجانفا للنظر، لأنه في صياغة الذات المفكرة، أو في حيازة الموضوع المدبر لغاية القصد، والامتلاك، لا يكون حقيقة ‏متمثلة في نقاوة تربة العقل، وطهارة قدس القلب، إلا إذا تخيلنا في النهاية بداية، وفي البعيد قربا، وفي الثابت حركة، لكي ‏نوقن بأن المواقع وإن اختلفت منطلقات منطقها، وتنوعت مراحل السفر إلى مغابن مكامنها، لا تدل على النزاع حول ‏الحدود المرسومة لها، ولا على الأوجاع التي تنزف منها عند انحراف الرغبة فيها، بل تعني أننا كنا أفرادا مشتركين في ‏البهجة، ومتوائمين على المسرة، ثم استحلنا تيوسا تتناطح بين أيدي القصابين، والمتوحشين، أو طواويس تثير سفاهة العشاق، ‏والمتغزلين، أو ببغاوات تحاكي ما تسمعه من أصوات الغربان الذاهلين، والمنتشين. فإما أن نقبل بأن الصياغة يجب أن تبتدئ ‏من حيث انتهينا، وتتوقف حيث اتفقنا، فيكون معلوم القضية سرا فيما بيننا، ونصا نقرأه عند خلودنا إلى المعاني الجميلة ‏فينا، وإما أن نقول بوجود أساس نريد أن يكون ما نبنيه عليه مقابلا لأشدنا حمية، وأكثرنا مناعة، فيكون المشي على الأرض ‏وجلا، والتنقل بين مدد الزمن حذرا، لأننا لن نكون متآلفين على اجترار غصة ما بعد الحياة، إلا إذا كان ما بيننا من صلات ‏بدءا لصون ما اتفقنا عليه من عقود، وما دوناه من عهود، إذ عند الافتقار إلى الضد المزيل للعناء، والممتع لنا في عجز ‏الذات عن الوفاء، ننزل عن عالم الصفاء، فنختار أيسر السبل لضمان البقاء، لأن نفورنا من خير قائم في جوننا إلى شر يجيز لنا ‏طي الموارد بالخداع، وكسب المرام بالاحتيال، هو الذي يوضح تنافي الصورة لمسماها في النية، ولمعناها في الغاية.‏
‏ وإلا، فإننا إذا اختلفنا في المتآلف عليه من أنظار بلغت المنتهى، وأفكار نالت المرتجى، فلا محالة، سيضيع طويل الزمن من ‏أعمارنا بلا حركة، وسيتيه وفير الجهد من أفعالنا بلا قيمة، إذ ما نتشبث به في ذاكرتنا التي تمنح حياتنا ملحا، وواقعنا إداما، ‏هو ذلك النداء الذي رفعه الإنسان حين تقاسم معلوم الحظوظ من نوال السعادة بالسوية، وتشارك موفور المتعة بالعدالة، ‏لأنه إذا انبثق من طي هذا الاختيار حزن، واجتوت الذات ما تألب عليها من كدر، واحتوت شواظ ما يحترق بين عينها من ‏نظر، فإننا سننتهي إلى أقصر مسافة في الأواصر، وألين حبل في الروابط. وإذ ذاك، لن تكون لغتنا إلا قاسية، ولا ألفاظها إلا ‏حوشية، لا تقصد مألوف المعنى في الدلالات المعتبرة، ولا تستوحي ما تراكم متآلفُه على محدود الحقيقة المتبعة، إذ قلب ‏الإنسان، هو ذلك الطين الذي ييبس عوده بالكره، ويرطب غصنه بالحب. وعقله، هو ذلك الحجر الذي يرصف حصن حريته ‏بأوزان منضبطة، ويمد خيار نظره إلى ما يتجاوز مدار غيره من مساحات مشتركة، لأنه في إدراكه لكينونته التي تبني يقينه ‏بكليته، لا يستطيب أن يعيش إلا حرا، ويموت كريما، وفي وعيه بصيرورته التي تصل جزئيته بمجموعه، لا يستهدي صفائه بتدنيس ‏مناطه، وتلويث مجاله، وتنجيس مآله. ولذا، فإن أي تغيير للغته، وتحريف لما تسكنه ألفاظه معناها، ونحن نريد إفساد صوته، ‏وإغراق عمقه في حزنه، لن يصنع في تعاقب الأجيال إلا صورا مشتتة، وألوانا مبددة، لا ينظمها نظام، ولا يجمعها وئام. ‏
إن انتصار الصخر على الطين، وانتهاء الحرب لقساة، العتاة، هو في ذاته زائد الثقل الذي يغرق ليالينا بين حنادس التعاسة، ‏ويكدر أفراحنا بشقوة الفتوة الرديئة، لأننا إذا اعتمدنا على التأويل، أو التماس المعاذير، أو استوهبنا من عقولنا ‏عطية التسويغ، أو اجترحنا جريرة التجديف، أو اقترفنا كبيرة التحريف، سنكون قد قررنا أن نسير إلى شيء مستور، لا يحده ‏فينا إلا ما نصوب إليه سهام الذهول بين خيالنا الجامح، وسواء كان له اتجاه، ووجهة، أو لم يكن له بعد، ومدى، لأننا سنتضخم ‏في ذواتنا، وسنتعالى بكثير من الأوصاف التي حاربنا من أجلها بأقذر الوسائل، وأفظع الأدوار، إذ هي لا تنال بالدم ‏المسفوح من روح الإنسان، وإنما تنال بما يسري بين الشرايين من دماء الحقيقة التي وجد لها هذا الكون في أصل الصياغة، ونص ‏الطباعة، لأنها أجازت التضحية في محل الخشونة، وحرمت الفداء في مقام النعومة . وإذ ذاك، لن نكون مذنبين بما يشتد كمده ‏فينا، ولا معنيين بما يتولد وجعه بيننا، لأنه لا يؤلمنا عذابه، ولا يكدرنا صراخه، ما دمنا قد تطبعنا على الذلة في أعماقنا، ‏والضعة في أذواقنا، وترقينا في معنى الصبر إلى منتهى جبنه، ومشتهى خوفه، ونلنا منه شأوا لا يضيره ما يتكالب علينا من بؤس، ‏وما يتبدد فينا من أسوس. ‏
ربما سنستمر على حالنا، وسندهس الأرض بخفافنا، ونحن نتألم لما يوجعنا من عنائها، ونتأفف مما كابدناه في شقائها، لأنه لا ينجو ‏مجتاز بين الآجام إلا بمعجزة، ولا يعبر الفيافي إلا قاصد موقن بموتة الفجاءة، إذ الغيل معاد للوحوش الضارية، وملاذ ‏للهوام السامة، وهي في خبث طمعها، وفي خزي جشعها، تحارب بما وضعت له معنى في قاموس الحيل، والخدع، وصورة في رسوم ‏البطش، والفتك، فتغتال الأعزل، وشاكي السلاح، لأنه لا ينفع السيف بجوهره، ولا يغري بفرنده، ولا يدمي بوشيه، إذا ‏صار العدو دملجا على معصم الأبعاد، وغدت الأربعة مضاعفة في ذاتها، وصار كل بعد يحاكي ما يحوم حوله، ويدور في ‏حلقته، إذ ما يمر علينا، ونحن نمتلك الفطنة لدرايته، يجعلنا نوقن بأن الكائن الحي يجثم حيث يصطاد رزقه، ويقف حيث ‏يستظل بأمنه، إذ عرينه لن تكون له متعة الصفاء، ما لم يكن مجال قنصه ممتدا في المدى البعيد الخطوات، لأنه من العيب أن نكره ‏السواد، ونحن نرى به الأشياء، وهي ليست إلا معاني تختفي بالنهار، لكي تبرز واضحة في سدف الظلام، إذ لولاه، لما اصطدنا ‏ظبي الأحلام في خفاء، لئلا يستيقظ الغافل من لموع السراب في سباته، فيشهد سنابل حقله مهفهفة بلا طعام. وحينئذ، لا حرج ‏في تزاحم أكتافنا على الرصيف، ولا في تعاندنا حول الموضوع الذي نحرره بجهدنا المبذول، ونحن نشرئب إلى أمل يغذي ‏الوجود، وينمي في الكائن كيف يكون السر في الكيان، وكيف يصير كسبه عقدة مركبة عند طالبه بالأغاليط، والأضاليل.‏
‏ تلك هي المعادلة الصعبة التي لم نختبر رموزها، ولم نجرب ألغازها، إذ لا نرى في عقدتنا ما يقتضي أن نتساءل عن الصغار، ولا ‏أن نتحير من الذلة، فنقول: هل هي كامنة فينا بالجبلة.؟ أم هي النص الذي قرأناه بلا إمعان.؟ لن يكون ذا، ولا ذاك، ما دمنا ‏نتعرف على المصير الذي لن يمنحنا صفة تكون لنا تاجا، ما دمنا لم نتفق على الحد الذي يثمر في كل شجرة ما يفي بالكفاف، وينادي ‏بالعفاف، إذ في زمن الاختلال، وفي عهد الاعتلال، يصدر كل صوت بلغته التي يسجنها الصدر في زفراته، ويرد كل وافد ‏بجرمه الذي يحترق كبده من غلوائه، لأن انقشاع الصبح على الظلام، وانتظار الهلال من وراء الجبال، قد حدد لنا مصيرا غير ‏الذي لهونا به حين شربنا مدامة الفرح، وتعانقنا بمرح، وخلنا الديار باسمة بما أطل عليها من فلاح، وما جللها من رباح، لكن ‏ما أنجزه بائع الشجر، وواهب الحجر، لم يكن إلا فرحة الوداع، لأنها ما غنت إلا لمجدها، وما نعت إلا فخرها، وحق لها أن ‏تفارقه بأمل، فلا بأس إذا رقصت، لأنها تودع الأبناء في زفرة المكان، وتفارق الشهامة في قبر النسيان. فهل سيكون نوحا ما ‏عبرت عنه، أو ما أنشدته، وهي تُورِّي عن عشقها بشوقها، وعن ألمها بأملها.؟ لا غرابة إذا كان ما نسمعه قصائد شعر تنشد في ‏عنفوان الشوق، أو في غليان الشبق، لأنه النزق الذي أظهرنا برخاصة، وأقعدنا بنذالة، والخرق الذي عرى سوأة العقول ‏الخابية وراء رماد الهوج، وابتذال الأطماع، إذ كثير مما قيل ادعاء، وما روي انتسابا، لم يكن إلا مقبورا في أعماق تحترق ‏بسعار الذكرى، وموجوءا في أفواه هدها الضنى. فهل سيعوضها القدر ما ضاع بما تسمعه.؟ أم ستسمع ما يفسد ذوقها، ‏ويقصي جمالها.؟ قد يقال عن هذا قول يستوجب التوضيح، لأن ما هو موجود، لا يحتاج في ظهوره إلى عنف، أو استبسال، إذ ‏هو في كلية النظر إليه، يبتعد عن الجزئية، لكي يكون كونيا، وعالميا، فكيف سيكون زينة، وهو لم يوجد إلا ليكون جمالا يمتع ‏الناظرين، ويرغب الساهمين.؟
‏ ربما من شدة الغموض التي تضمره البحار حين تهيج، والجبال حين تميد، يكتب الحرف الذي يخبر عما في الأعماق، وينقش اللون ‏الذي يفصح عما في الأذواق، فيصير بعد الهدوء نقطة بيضاء، تعوم بين السواد الملتف حول العيون، وتغطس بين الأغوار ‏المستورة عن الأذهان، لأنها ولو بدت ضئيلة في حدة البصر، وضحلة في نهر الكدر، فإنها هي الأمل الذي يطوقه تجهم ‏المكان، وترقب الزمان، فلا يكاد وضوحه يزداد إلا غموضا، ولا قوته إلا ضعفا، إذ اللغة لا تعبر إلا عن ذاتها، ولا تنطق إلا ‏بصوتها، وإذا صاحبت مهدها فينا، وعانقت لفظها في غورنا، كان الصوت غناء، أو رثاء. تلك هي قصة الوداع، وحكاية ‏البداية، لأن طالب اللحن الذي يمجد العدم، ولم يطلب الإثبات، لم يكن إلا محرفا للنغم الذي يدل على الوجود، ويصد ‏النفي عن حياض المعنى، إذ هو شدو الحياة التي نشرب من عصيرها سما زعافا، أو خمرا معتقا، إذ لو أجاد اللفظ حبكه فيما ‏ينشده من قصائد، أو فيما يرويه من حكايات، لكان صوتا في الإنسان، وناموسا في الأجيال، لكن النديم لم يكن إلا عاجزا على طي ‏مسافات الناي، وكاسدا في اكتشاف الحزن في الوتر، فلم ينز منه ما يعيد الذكرى، ويرجع العجوز بكرا في النجوى، لكي ينزف ‏في العمق صوت الأنين، أو يختلط بحشاشة الروح همس الحنين. ‏
وإذا بدأنا نستمرأ ما في الحان، ونستوخم ما في الخان، وغدا صوته غريبا فينا، ولغته رديئة عندنا، فإن ما يرسله الشجن من ‏غموض، لن يعبر عن نغم الأمواج الحزينة، ولن يفصح عن نوح الأكنان الجريحة، لأن مفارقة اللفظ لمعناه، ومعادنته لمبناه، ‏ومجاورته لمرماه، هو الدليل على شجار اللغة لذاتها، ومخالفة العقول لأفكارها، وإذا حدث ذلك في طراز يغري كليل ‏النظر، وضئيل الحذر، ورغب في الجود مفتول العضلات الكاسدة، واحتبس عن الفعل طالبه بالكياسة الهادئة، ظهر ‏التفويض في محل الجد، والتواكل في مهيع الكد، إذ لن يدل ذلك على استواء الهمم، ولا على تغاير الذمم، ولن يرشد إلى ‏التفاف الحظ على الأنصبة الموقرة، والحظوظ الموفرة. ولذا لن يتمخض الناي عما امتزج من دلالة ولحن ومعنى في لغات ‏الذات البشرية، لأنها في فصلها بين الصفات، والأعراض، وفي حصرها للموصوف بما اكتسبه من قوة، ولذات، ستصير ‏عجماء، وستغدو بكماء، لا تنطق بالخبر، ولا تستهدي بالنظر. وإذ ذاك، لن يكون المجبول على المدح قادرا على قرض الشعر، ‏ولن يكون الذام نازفا بما ينكأ الجرح من نثر، لأن عدمية القرار، وفوضية المسير، وهلامية المصير، لا تقودنا إلا إلى الضجيج، ‏والتيه، والسفه، والعنف، ولا تسوقنا إلا إلى برك يخوض أوحالها المتطهرون، والمتسخون. ‏



#جميل_حسين_عبدالله (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- شوارد الفكر -6-
- شوارد الفكر -5-
- شوارد الفكر -4-
- شوارد الفكر -3-
- شوارد الفكر -2-
- شوارد الفكر -1-
- سوانح البيان (3-4)
- سوانح البيان (1-2)
- موارد العنف -8-
- موارد العنف -7-
- موارد العنف -6-
- موارد العنف -5-
- موارد العنف -4-
- عطر الصباح (شهادة في حق والدي رحمه الله)-2-
- عطر الصباح (شهادة في حق أبي رحمه الله) -2-
- موارد العنف -3-
- موارد العنف -2-
- عطر الصباح (شهادة في حق والدي رحمه الله) -1-
- موارد العنف -1-
- عقيدة التسويغ -11-


المزيد.....




- بيان إماراتي بشأن اختفاء الحاخام اليهودي
- قائد الثورة الاسلامية آية الله‌خامنئي يصدر منشورا بالعبرية ع ...
- اختفاء حاخام يهودي في الإمارات.. وإسرائيل تتحرك بعد معلومة ع ...
- إعلام العدو: اختفاء رجل دين اسرائيلي في الامارات والموساد يش ...
- مستوطنون يقتحمون مقبرة إسلامية في الضفة الغربية
- سفير إسرائيل ببرلين: اليهود لا يشعرون بالأمان في ألمانيا
- المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف مستوطنة -أفيفيم- بصلية صا ...
- المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف مستوطنة -ديشون- بصلية صار ...
- سفير إسرائيل ببرلين: اليهود لا يشعرون بالأمان في ألمانيا
- أسعد أولادك…. تردد قناة طيور الجنة التحديث الجديد 2025 على ج ...


المزيد.....

- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - جميل حسين عبدالله - شوارد الفكر -7-