محمود الصباغ
كاتب ومترجم
(Mahmoud Al Sabbagh)
الحوار المتمدن-العدد: 5583 - 2017 / 7 / 17 - 09:39
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ثمة نوع من الذهان الديني تشير إليه موسوعة علم النفس قد يصاب به من يزور مدينة القدس , ومن بعض أعراض هذا الذهان و الذي يعرف بمتلازمة القدس :الجأر بالأغاني الدينية ، وتقديم الخطب و العظات الأخلاقية والاهتمام الحاد بالنظافة وطقوس الطهارة . وعلى الرغم من تسجيل تصرفات و أفعال مماثلة في المدن المقدسة الأخرى، لا سيما روما ومكة، فالقدس لها قصب السبق (1).فمدينة القدس بحد ذاتها ,ومن وجهة نظر أي منطق حضري طبيعي تبدو أكثر جنونا و تمتد حدودها بعيدا جدا من قلب مراكزها السكانية الأساسية، وتطوق عشرات القرى و التلال الجرداء والبساتين والمساحات الصحراوية ، فضلا عن ضواح حديثة البناء تكاد لا تربطها صلة بالمدينة التاريخية؛ وتمتد هذه الضواحي جنوبا حتى مشارف بيت لحم ,أما من جهة الشمال فتنساح مثل إصبع وسطى طويلة حتى حدود رام الله تقريبا على بعد حوالي 10 كيلومترات من أسوار المدينة القديمة لتشمل مطار قلنديا القديم. وعن هذه الحدود المتسعة بطريقة مرعبة يقول ميرون بنفينيستي وهو نائب سابق لرئيس بلدية المدينة: "هناك من قرر أن يمسح بالزيت المقدس تلك التلال التي لا تربطها علاقة بالمدينة ويطلب منا إحكام قبضتنا عليها بشدة و التعامل مع مساحة خارجة عن السيطرة هي ما تعرف بمنطقة "القدس" ,تقودني قناعتي للشعور بالسخرية عندما يتلفظ أحدهم بكلمة "القدس", فهذه التسمية ليست سوى مصطلح مفرغ كلا من محتواه ,إذا لا يوجد اليوم مفهوم جغرافي يسمى "القدس"، بل أقترح استخدام "جيرمودين" كمصطلح جديد لوصف الإقليم الممتد من أريحا حتى موديعين , "(2). .و لكن إن لم يكن للمشهد المكاني للقدس منطق عمراني واضح يمكن التكهن به ، فأي عقلانية شكلت نموها؟ لقد بدأ كل ذلك "من الحدود البلدية لما بعد عام 1967 ومع المبدأ الشهير الذي يقول أرض أكثر و عرب أقل "(3). على حد قول بنفنيستي . هناك الكثير مما ينبغي قوله حول الفرضية. ولكن علينا البدء من وقت سبق ذلك بقليل .
يبدأ تاريخ المدينة القديمة حوالي 1500 ق.م على الأرجح ، عندما قامت جماعة كنعانية تعرف باسم اليبوسيين ببناء أول التحصينات المسورة هناك ، مستغلين موضع المياه الجوفية في مرتفع يقع وسط الأراضي الخصبة ويطل على السهل الساحلي. وعلى مر القرون التالية هدمت الأسوار عدة مرات و أعيد بناؤها كل مرة , فتعرضت المدينة لغزو اليهود بقيادة الملك داود , نحو 1000 ق.م ثم غزاها البابليون في عام 600 ق.م فالفرس 536 ق.م ثم الإسكندر الأكبر 333 ق.م ,ثم المكابيون 164 ق.م فالرومان 63 ق.م وأتى العرب في عهد (الخليفة) عمر بن الخطاب في العام 637 م. وبعدهم الصليبيون نحو 1099 م. فصلاح الدين 1187 م. ثم العثمانيون 1517 م. بقيادة السلطان سليم (الأول) .و الشيء بالشيء يذكر قام الملك سليمان ,كما يقال, ببناء أول معبد يهودي في المدينة، ليس هذا فحسب فيسوع المسيح صلب هنا و النبي محمد صعد إلى السماء من هنا . وقد بنيت أسوار المدينة الحالية في عهد السلطان سليمان القانوني حوالي ثلاثينيات القرن السادس عشر (1542م؟) الذي يضم داخله ما مساحته نحو كيلومترا مربعا واحدا من الشوارع الضيقة والأزقة. وقد عاش سكان المدينة داخل أسوارها لثلاث قرون تلت أو نحو ذلك ولم يتوسعوا خارج أسوارها سوى في أواخر القرن التاسع عشر.
خضعت المدينة لتغير هائل بعد الغزو البريطانيون لها في كانون أول -ديسمبر 1917، وحلولهم محل العثمانيين كقوة إمبريالية في المنطقة. وأدت الهجرة اليهودية المكثفة إلى زيادة عددهم بنسبة تتراوح بين 10% وتصل إلى 40% من تعداد سكان فلسطين الانتدابية مما تسبب في تدهور العلاقات العربية اليهودية إلى مستوى منخفض جدا. بدأت المدينة تتوسع سريعا خارج الأسوار بعد أن أعلنت عاصمة لفلسطين الانتدابية وشرع العمل ببناء "مدينة جديدة":فبنيت الجامعة العبرية على جبل المشارف (سكوبس) سنة 1925 ،و فندق الملك داود سنة 1929 حيث مقر الإدارة العسكرية والعسكرية البريطانية؛ مجمع المؤسسات الإدارية و المالية سنة 1930 ، الذي ضم مقرات الوكالة اليهودية والصندوق القومي اليهودي والصندوق التأسيسي اليهودي فضلا عن الأحياء السكنية الحديثة مثل حي ريحافيا اليهودي سنة 1923 حيث نشأ بنيامين نتنياهو لاحقا ، وحي الطالبية العربي الفلسطيني 1920 ، الذي هرب منه إدوارد سعيد وأسرته سنة 1947. وبحلول نهاية فترة الانتداب، ارتفع عدد سكان القدس إلى 160،000 (حوالي 100،000 يهودي و60000 فلسطيني ) وهو ما يعادل ثلاث أضعاف ما كانت عليه سنة 1922، وتمتعت المدينة الجديدة ببنية تحتية حديثة شملت المياه والكهرباء والطرق المحسنة. ولكن إذا كانت أهمية القدس الإدارية والسياسية جعلت منها قاطرة البناء الحضري في فلسطين، فقد جلبت أيضا مزيدا من الاضطرابات حيث تشير التقديرات البريطانية الرسمية لعدد يقدر بالآلاف من العرب الذين قتلوا على يد قوات الأمن خلال الثورة الكبرى 1936-1939 .كما قتل 91 شخصا في تفجير جماعة الأرغون لفندق الملك داود في العام 1946 ،عدا عن 12 شخصا قتلوا في تفجير مبنى المقرات اليهودية قام به مسلحون فلسطينيون .
في تشرين الثاني -نوفمبر 1947 صدر قرار الأمم المتحدة الخاص بتقسيم فلسطين حيث منحت الأقلية السكانية اليهودية 60 % من فلسطين-تتضمن المناطق الساحلية – بما ما بات يعرف بـ ("الدولة اليهودية")، كما منح 40 % من البلاد -تتضمن الجليل الغربي، للأكثرية العربية بما يعرف بـ"الدولة العربية" . أما القدس فقد تقرر أن تدار من قبل المجتمع الدولي بما يعرف بالوصاية الدولية Corpus Separatum . لكن مفهوم الوصاية هذا أثبت أنه غير قابل للترجمة إلى العبرية أو العربية. وقدمت اللجنة العليا العربية اعتراضها على فكرة تقسيم فلسطين من أساسها ، أما قيادة الحركة الصهيونية بزعامة بن غوريون كانت ترى في السيطرة على القدس - أو على الأقل جزءا منها - أولوية استراتيجية لها فرفضت بدورها أي شكل من أشكال التدويل(4) . ومن ثم كان لخطة الأمم المتحدة تلك أثرا بالغا في اندلاع حرب 1948، التي أدت إلى قيام دولة إسرائيل وطرد أكثر من 700،000 فلسطيني عربي وبداية النكبة الفلسطينية المستمرة .
سعت القوات الإسرائيلية ,في القدس, إلى "إرساء حقائق على الأرض" فضمت أراض وقرى فلسطينية لخلق تواصل إقليمي بين الأحياء اليهودية المحيطة بالمدينة بغية خلق عاصمة قابلة للحياة ويمكن الدفاع عنها. وشملت المناطق المستهدفة دير ياسين( التي أعيدت تسميتها بـ "جفعات شاؤول"(، حيث عجلت مجزرة نيسان 1948 بفرار الفلسطينيين من المدينة، بالإضافة إلى قرى تقع شمال المدينة مثل قرية لفتا "مي نفتوح" و الأحياء الجنوبية مثل القطمون" غونين" ، الطالبية (قومميوت)، البقعة (غوليم)، والقرى الغربية بما فيها بيت مزمل (كريات يوفيل)، المالحة (منهات)، خربة الحمامة (اليوم موقع متحف الهولوكوست ياد فاشيم ) وعين كارم "عين كاريم".أرسى الاحتلال العسكري الإسرائيلي (للقدس الغربية) مايعرف بالخط الأخضر بين الأراضي الإسرائيلية والأراضي التي يديرها الأردن المنصوص عليها في اتفاق الهدنة في نيسان / أبريل 1949. وكان من المقرر تقسيم القدس بحاجز خرساني وأسلاك شائك يفصل بين القدس الكبرى التي تسيطر عليها إسرائيل (و التي تبلغ مساحته نحو 26 كيلومترا مربعا) والتي تضمنت قرى فلسطينية مثل قلونيا (التي اصبحت موتسا ) والشيخ بدر (وهو الآن موقع الكنيست الإسرائيلية) وبين القدس الأصغر الواقعة تحت السيطرة الأردنية (لا تتعدى مساحتها 6 كم مربع)، و تضم المدينة القديمة بما ذلك الأماكن المقدسة و الحي اليهودي .
وقد شهدت الفترة بين 1948-1967 على جانبي الأسلاك الشائكة تطورا لكلا القسمين غير المتناظرين .فأصبحت القدس الإسرائيلية العاصمة الرسمية للبلاد و تسارعت وتائر التشغيل و الوظائف فيها,وسرعان ما أنشئت فيها رموز الدولة كالبرلمان ومباني الإدارة الحكومية ومقبرة جبل هرتسل الوطنية والمتحف الوطني ومزار الكتاب ومتحف الهولوكوست ياد فاشيم والمكتبة الوطنية وظهرت كتل سكنية أشبه بالصناديق على امتداد سفوح المدينة , وانبثقت أحياء جديدة مثل كريات مناحيم (1956) ونايوت (1960). وأبدت الحكومة الإسرائيلية موافقتها على التمدد الواسع للحدود البلدية للمدينة إلى الغرب والشمال والجنوب، فارتفعت مساحتها إلى 38 كيلومترا مربعا بحلول العام 1963. وفي الوقت نفسه شهدت القدس الأردنية ,بسبب عزلها عن الحي التجاري القديم, تدهورا في مكانتها ومزيدا من الفقر و الفقد السكاني الصافي. و أشرفت القوى الغربية بشكل سافر على عملية ضم "الدولة العربية" للنظام الملكي الهاشمي في الأردن وبذل الملك (الأردني)كل ما في وسعه لتشجيع "الهوية الأردنية" ومحو الوعي الوطني الفلسطيني ، ليس أقلها إقرار مرسوم يقضي باستبدال مصطلح "الفلسطينيين" بمصطلح "العرب" في الكتب المدرسية (5) واختزلت القدس الشرقية إلى مجرد مدينة ثانوية في الأردن ،كما استغلت مواقع الأماكن المقدسة من قبل الملك لأغراض سياسية ، في حين انتقلت السلطة والنمو الاقتصادي إلى مدينة عمان (6). عاش سكان القدس في كلا الجانبين في مواجهة بعضهما البعض بسبب تقسيم المدينة بالأسلاك الشائكة، يرصدون بعضهم من على الأسطح فقط.
التقط الشاعر الإسرائيلي (الراحل) إيهودا أميشاي جيدا هذا التقسيم العمراني في قصيدته العبرية "القدس" فيقول :
تحت شمس الظهيرة وعلى سطح في البلدة القديمة
غسيل منشور
ملاية بيضاء لامرأة هي عدوي
منشفة رجل يمسح العرق عن جبينه ,هو عدوي
طائرة ورقية تعلو سماء الطرف الآخر للمدينة
طفل لايرى من الجدار
نشرنا أعلامنا لتجعلنا نعتقد أننا سعداء
ونشروا أعلامهم لتحعلهم يعتقدون أنهم سعداء
لعب التوسع العسكري في العام 1967 مرة أخرى دورا رئيسيا في إعادة تشكيل المدينة. .وكان القتال قد اندلع هذه المرة إثر هجوم إسرائيلي وقائي على القوات الجوية المصرية في 5 حزيران-يونيو 1967 وذلك بعد فترة طويلة من التوتر بين إسرائيل والدول العربية المجاورة. وانضمت لاحقا انضمام كل من سوريا و الأردن إلى الحرب. وكان للهزيمة السريعة للجيوش العربية واحتلال الجيش الإسرائيلي لمرتفعات الجولان والضفة الغربية وقطاع غزة وصحراء سيناء آثار جيوسياسية وانعكاسات على البلدان المشاركة في الحرب(7) . وعلى الصعيد الإسرائيلي اعتبر هذا النصر دليل على دعم الرب ,واستحضر النصر إحساسا بهيجا بالقوة ترافق مع مشاعر ميسيانية للانتصار "المعجزة" وقوة "البلد" التي تضاعفت أراضيها أربعة أضعاف خلال ستة أيام(8) .وكانت القدس مسرحا مثاليا "لرحلة القوة" هذه .وأصبحت المدينة القديمة "صخرة وجودنا" على حد قول موشيه ديان وزير الدفاع الذي كان قد صرح قبيل الحرب واصفا إياها "من يحتاج هذا الفاتيكان، على أي حال؟" وأمست صور لواء المظليين وهم يبكون عند الجدار الغربي وصوت موردخاي غور قائدهم، يقول بحماس للإذاعة العسكرية " ها قد أصبح جبل الهيكل بأيدينا (Har ha-bayit be-yadenu ) مرادفا للانتصار الإسرائيلي و للحالة الجديدة السائدة للدولة .
اتخذ أول قرار تخطيط عمراني للمدينة في اليوم التالي من احتلالها الكامل حيث قام رئيس بلدية القدس الجديد تيدي كوليك رفقة بن غوريون بجولة في المدينة القديمة واتفق الطرفان على ضرورة هدم حي المغاربة الذي يعود لنحو 800 سنة، لإنشاء ساحة وطنية احتفالية أمام حائط المبكى. وأمر مئات من السكان المسلمين بالخروج من منازلهم التي تم تدميرها. وبين عشية وضحاها أصبحت ساحة الجدار الغربي حقيقة واقعة تقريبا، وقد رمز العلم الإسرائيلي المنزرع في الموقع الذي كانت تنتصب فيه المنازل إلى مثلث الدولة والدين والإهمال الجماعي في إسرائيل ما بعد عام 1967. وفي حين أن مستقبل بقية الأراضي المحتلة كان مازال يثير نقاشا حول ما إذا ينبغي ضمها لإسرائيل أو وجوب بقاؤها تحت الاحتلال العسكري أو الدخول في مفاوضات سلام بشأنها؟ فإن ما يتوجب عمله بخصوص القدس الشرقية لم يكن موضع شك ,فهي يجب أن تكون "موحدة" مع القدس الغربية، على الأقل وفقا للقانون الإسرائيلي، وأن تصبح جزءا لا يتجزأ من دولة إسرائيل. و في 27 حزيران -يونيو 1967 ظهرت خريطة جديدة للقدس قدمتها لجنة عينها ديان تضم في عضويتها ثلاثة جنرالات هم حاييم هيرتسوغ، رحبعام زئيفي، شلومو لاهط.
وبالنظر إلى طبيعة اللجنة ,لم يكن مستغربا أن تكون الحدود التي رسموها مزيج غير عقلاني من المتطلبات العسكرية و رغبة التوسع الإقليمي دون إعطاء أي فكرة تقريبا لخطة عمرانية فكانت النتيجة مدينة جديدة مربكة حيث لم تكن القدس "الموحدة" مجرد مجموع مساحة القدس الغربية (38 كيلومترا مربعا) والقدس الشرقية (6 كيلومترات مربعة)،بل شملت 70 كيلومترا مربعا إضافيا من الأراضي المحتلة المحيطة بالمدينة في الشمال والشرق والجنوب. كان هذا نوع جديد من القدس، ليس فقط فيما يخص حدودها، بل سكانها أيضا. فقد وجدت سكان ثمانية وعشرون قرية فلسطينية أنفسهم تحت سلطة "العاصمة الموحدة للشعب اليهودي" وهي -تلك القرى-التي لم تكن جزء من القدس قط. وبهذا ضاعفت المدينة أراضيها ثلاث مرات تأسيسا على المعادلة الإسرائيلية الاستراتيجية الديموغرافية والعسكرية التي وصفها بنفينيستي آنفا : "أرض أكثر, عرب أقل" كما هو حالات عدة مثل بيت إكسا و بيت ساحور حيث تم ضم البساتين والأراضي الزراعية للفلاحين الفلسطينيين في القدس، في حين استبعد السكان القرويون ومنازلهم منها.
وعلى رغم كل هذه تم استيعاب نحو 70 ألف فلسطيني في المدينة بما يشكل ربع سكانها الجدد. وقد عرضت وزارة الداخلية عليهم خيار الجنسية الإسرائيلية الأمر الذي رفضه معظمهم معتبرين أن هذا سيساعد على شرعنة الضم و الاحتلال . ومن ثم فقد تم منحهم وضع "مقيم"، مما يعني أنهم يستحقون - على الورق على الأقل - الخدمات البلدية, كما يمكنهم أیضا التصویت في الانتخابات البلدیة، إلا أن الفلسطینیین سخروا من هذا "الحق" بشکل عام بوصفه يشرعن تبعیتھم . أدان العالم الخارجي ,بطبيعة الحال, ضم القدس الشرقية و ومحيطها باعتباره انتهاكا للقانون الدولي. حتى حليفة إسرائيل الكبرى وجدت نفسها مضطرة لتسجيل احتجاج على قرار الضم على لسان تشارلز بوست السفير الأمريكي لدى الأمم المتحدة إذ يقول "تعتبر الولايات المتحدة أن الجزء من القدس الذي أصبح تحت سيطرة إسرائيل في حرب 1967، هو أرض محتلة مثله مثل جميع المناطق الأخرى التي تحتلها إسرائيل، و هو بالتالي يخضع لأحكام القانون الدولي الذي يحكم حقوق والتزامات دولة الاحتلال "(9) .حتى أن الولايات المتحدة قد صوتت و بشكل استثنائي لصالح القرار رقم 267 الذي اعتمد بالإجماع في 3 تموز-يوليو 1969 والذي جاء فيه أن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة "يدين بأقوى العبارات جميع التدابير التي اتخذتها إسرائيل لتغيير وضع مدينة القدس". ولكن ,وبصرف النظر عن هذا فقد تغير وضع المدينة, فمضت إسرائيل في العام 1980 نحو تكريس تعبير "القدس الموحدة" في القانون الأساسي للكنيست، تحت عنوان "القدس، عاصمة إسرائيل". ويبدو أن مجلس الأمن وقع فريسة شعور سابق مماثل حين اعتمد القرار 478 الذي "يدين بأقوى العبارات تشريع إسرائيل للقانون الأساسي بشأن القدس ورفض الامتثال لقرارات مجلس الأمن ذات الصلة". وإعلان أن قانون القدس لاغ وباطل، ويجب أن يلغى على الفور، ودعوة جميع الدول التي أقامت بعثات دبلوماسية في القدس إلى سحب هذه البعثات من المدينة المقدسة، والتي تعني عمليا الانتقال إلى تل أبيب. " وبالتالي دخلت "القدس الموحدة "ضمن فئة مختارة من العواصم اعترفت بهذه الصفة فقط من تلقاء نفسها.
انهمك القادة الإسرائيليون في مهمة زرع سكانهم في المناطق التي ألحقت بالمدينة ,دون إعارة أدنى اهتمام للإدانة الدولية التي لا طائل منها وها هو بن غوريون يقول في حزيران / يونيو 1967: "يجب أن نجلب اليهود إلى القدس الشرقية بأي ثمن". علينا أن نوطن عشرات الآلاف من اليهود في وقت قصير.,لا يمكننا انتظار بناء أحياء منظمة. فالمطلوب أساسا هو أن يكون اليهود هنا ".(10) . وكان للاستراتيجية
المتمثلة بهندسة واقع جديد من خلال وضع" حقائق على الأرض " دور ريادي في القدس ،هذه الاستراتيجية التي ارتبطت فيما بعد بمبادرات أريئيل شارون في أجزاء أخرى من الضفة الغربية وقطاع غزة. وبحلول تموز / يوليو 1967، عين رئيس الوزراء العمالي ليفي إشكول لجنة من كبار المسؤولين برئاسة إيهودا تامير، لإيجاد السبل "لإسكان وتطوير القدس الشرقية ". وكان الهدف من ذلك هو التخلص من إشكالية فعل الاحتلال والتوحيد من خلال خلق تواصل بين القدس الغربية والقدس الشرقية الأمر الذي من شأنه أن ينهي الخط الأخضر والحدود بين عامي 1948 و 1967، ويجعل انتهاك القانون الدولي يبدو "طبيعيا" قدر الإمكان. اقترحت الخطة الرئيسية التي قدمتها اللجنة في أيلول / سبتمبر 1967، إنشاء قوس أحياء سكنية على هيئة القفل Shekhunot ha-Bari’ach لتربط الجيب اليهودي الموجود في جبل المشارف (سكوبوس ) بالقدس الغربية عبر طريق جديد ،هو جادة ليفي إشكول الذي سيمر في الأحياء اليهودية فقط. وعلى مدى السنوات القليلة التالية أصبحت سلسلة الأحياء السكنية الجديدة المصممة أساسا للسكان اليهود على الجانب البعيد من الخط الأخضر بمثابة "قفل الأمن" اليهودي على جبل المشارف مثل ؛ رامات أشكول (1968)، جفعات ها-ميفتار (1970)، ها-جيفعاه ها تسارفاتيت [1971]، ومعالوت دافنا (1972).
نجحت غولدا مئير"السيدة الحديدية" الإسرائيلية في خلافة أشكول في العام 1969، وبالتالي انتقلت إليها مسؤولية مشروع "القدس الموحدة" .وتم اقتراح خطة رئيسية جديدة لتطوير أحياء " الحلقة أو الخاتم " Shekhunot ha-Taba’at ، مما شكل منعطفا جديدا غريبا في جدلية الاعتبارات العسكرية والسياسية والتطور العمراني. وبدلا من البناء خارج الأحياء القديمة في قلب القدس، دعت هذه الخطة إلى بناء أحياء سكنية متشابكة لليهود على محيط المدينة البعيد حول حدودها الجديدة.كانت هذه المخططات من طبيعة استراتيجية كما لو أنها سرقت من مكتب مهندس في الجيش الإسرائيلي فقد توضعت المنازل بما يشبه الأبراج على السلاسل الجبلية التي تطل على المدينة وعلى طول الشرايين الحيوية المؤدية إليها, وكانت المنازل الجديدة مكسوة بـ"حجر القدس" الأبيض الانتدابي , وأول تلك الأحياء كان نيفي ياكوف (1970)، الذي تم تأسيسه على أرض صودرت من الرام، في أقصى شمال المدينة،ثم تلتها جيلو (1971) في الجنوب الغربي، على أراض صودرت من بيت جالا، وأعقبها طلبيوت مزراح (1973) في الجنوب الشرقي، على أراض مصادرة من جبل المكبر؛ وراموت ألون (1974) في الشمال الغربي، على أراض صودرت من بيت إكسا، وهي الآن أكبر ضواحي القدس؛ و بسغات زئيف (1982) على الحدود الشمالية الشرقية للمدينة، على أراض من بيت حنينا وحزمة. وكرر هذا المنطق التنموي العمراني , أو بالأحرى غير المنطقي، نفسه في التسعينيات أثناء مفاوضات أوسلو، عندما توسعت "القدس الموحدة" إلى مساحة تصل إلى 125 كيلومترا مربعا بعد ضم المزيد من الأراضي في العام 1993. وقد بنيت فيما بعد عليها حي رامات شلومو (1995) على الحدود الشمالية الشرقية للمدينة وقد أقيمت على الأرض المصادرة من العيسوية؛ وتم الشروع ببناء مستوطنة هار حوما (1997) في أقصى الجنوب الشرقي على جبل أبو غنيم على أراض صودرت من بيت ساحور.وكما يقول إيال وايزمان ,فقد خلقت هذه الضواحي اليهودية في الأراضي المحتلة "حزاما من النسيج المبني الذي يغلف ويقسم الأحياء والقرى الفلسطينية المرفقة بالمدينة"(11)ولم يقتصر دورها كتوابع للقدس فقط مدعية السيادة الإسرائيلية على كل الأراضي الواقعة ما بين هذه الضواحي و المدينة ،ولكنها لعبت دورا أيضا كجسور لمستوطنات "القدس الكبرى" الواقعة خارج حدود البلدية في عمق الأراضي المحتلة, حيث تم ربط مستوطنات مثل معاليه أدوميم في الشرق (التي أعطيت مركز المدينة في عام 1991) وجفعات زئيف في الشمال الغربي (التي أنشئت عام 1983) بأسلوب معماري وطرق تؤدي إلى المستوطنات المجاورة الواقعة في محيط بلدية القدس، والتي كانت ,بدورها, متصلة بمركز المدينة ويصفها وايزمان بـ "شظايا متباينة" من المساكن اليهودية المتجانسة، المنسوجة معا بشبكات الطرق والبنية التحتية. ويشبه مصمم إسرائيلي آخر روابط المستوطنات بمركز المدينة مثل "بالونات مربوطة بسلسلة "(12)
وإذا كان الإسرائيليون، والمقدسيون اليهود الإسرائيليون على وجه الخصوص، يتصورون عاصمتهم كمجال جغرافي قانوني "طبيعي" ومتماسك. فهم كانوا بحاجة إلى ما هو أكثر وضوحا من هذه المبررات المنطقية العسكرية الاستراتيجية الأساسية. وبغض النظر عما قيل ويقال في الخارج عن عدم شرعية توسع القدس، فإنه يمكن وبصورة شرعية بموجب القانون الإسرائيلي ضم الأراضي التي تم التعدي عليها .الأمر الذي ساعد كثيرا , إذ يعيش خارج الخط الأخضر أكثر من 000 200 من أصل 497000 شخصا من سكان القدس اليوم، مما يعني أن كل يهودي تقريبا من سكان العاصمة الإسرائيلية الرسمية هو مستوطن وفقا للقانون الدولي . ويضمن هذا الضم بموجب القانون الإسرائيلي أن هذا العدد لن يدرج أبدا في الإحصاءات الرسمية للمستوطنين اليهود في الضفة الغربية. كما تم نشر المصطلحات لإضفاء الطابع اللامركزي على العملية: فكانت وسائل الإعلام و السجلات الرسمية تشير على الدوام إلى العقارات السكنية التي أقيمت في الأراضي المحتلة كأحياء سكنية و كجزء لا يتجزأ من "القدس الموحدة"، وليس كمستوطنات؛ وهذا ما ساعد على قطع اتصال - على الأقل في العقل الإسرائيلي - الجزء الشرقي من بلدية القدس عن بقية الضفة الغربية المحتلة .فالأمر مسألة دلالات، بالنسبة للبعض. ومسألة واقع سياسي، بالنسبة للبعض الآخر .
بيد أن ما أعطى دورا أبعد في عملية "توحيد" المدينة كان بلا شك هو أسلوب البناء المعماري وهو ما يعني قطيعة واضحة مع النزعة النفعية التي ميزت العقود الأولى من عمر الدولة الإسرائيلية. ففي السنوات الأولى كان السؤال المطروح هو كيفية بناء الحد الأقصى من الوحدات السكنية مع الحد الأدنى من نفقات البنية التحتية. وكان الحل في القدس الغربية (ولكن أيضا في مدن أخرى، بما في ذلك حيفا) منسجما مع النم الدولي السائد آنذاك : كتل مستطيلة تشبه إلى حد ما عربات القطارات منحت المدينة شخصية مملة نوعا ما لجهة الذوق العام ؛ ومربعة لجهة التميز الجغرافي(13) .وعلى النقيض من ذلك، استجاب أسلوب البناء لما بعد عام 1967 لما رأته السلطات الإسرائيلية كمجموعة جديدة من المشاكل المتمثلة في سيادتها غير المسبوقة على البلدة القديمة، بما في ذلك الأماكن المقدسة للمسلمين والمسيحيين و الانتقادات الدولية للمستوطنات اليهودية المبنية على أراض مصادرة من القرى الفلسطينية؛ وصعوبة إقامة سلسلة متواصلة بين الأحياء الغربية والأحياء الشرقية، المبنية على أراض فلسطينية مصادرة حديثا. فكانت حلول جعل "قدسا موحدة" أكثر المدن حداثة عبارة عن سطح "مكسو" وأساليب “تاريخية" زائفة. فأول ما قام به المهندسون المعماريون الذين اختارهم كوليك وفريقه هو الذهاب إلى المدينة القديمة كجزء من عملهم الميداني، لتشرب الأفكار والإلهام. واتفقوا -بوحي من نشوة نصر 1967 العسكري -على أن الأسلوب الاستشراقي الجديد سيكون الأسلوب الأنسب لقدس مؤسرلة ، مما يدل على مدى حساسية الإسرائيليين جماليا للتراث الثقافي للمنطقة، وعلى الكيفية التي يستمزجون بها المشهد المكاني. فقد تبنت تقنيات البناء الحديثة معالم العمارة العربية من عقود وبوابات وقباب المستوحاة من العمارة العربية الاستشراقية وأصبحت جزءا من مشهد "القدس الجديدة". وتطابق هذا الأسلوب بشكل وثيق مع العديد من الأفكار السياسية الرئيسية من قبيل الإصرار الإسرائيلي على "عودة" الشعب اليهودي إلى جذوره الشرقية؛ والحاجة إلى صهر القدس القديمة "والكتابية" بمشاريع الإسكان الجديدة للتقليل من أثر فعل الاحتلال؛ وانسياح النموذج الاستعماري الصهيوني وتوسعه لإحداث التنمية و التحديث في "الشرق اللامتغير". تضمن ,في الواقع، ما يسمى بالعمارة "السياقية" مجموعات لا شكلية من "مبان عاطفية متأثرة بعلاقات(إقليمية) مزعومة" .مجموعة من "الإبداعات الزائفة التاريخية لمحاكاة الشرق والبحر المتوسط"يراد لها أن تجسد "ارتباطا ما مع العصور القديمة والجذور الوطنية" على حد قول المؤرخ المعماري الإسرائيلي زفي إفرات 14.
ثمة عنصر معماري هام آخر ساعد في التمويه على الاحتلال وخلق سلسلة متصلة بين الشرق والغرب، وهو قرار السلطات الإسرائيلية تدعيم تعليمات الانتداب البريطاني بوجوب أن تكون جميع مباني المدينة مصنوعة من " حجر القدس". الأصلي bona fide .وكانت هذه التعليمات تؤكد في ثلاثينيات القرن الماضي على استخدام كتل صلبة من الحجر الجيري في أعمال البناء؛ وقد فرضت سلطات المدينة في القدس الغربية خلال الفترة من 1948 إلى 1967 استخدام طبقة خارجية من الحجر، تغطي البنية الداخلية من الطوب أو الحواجز وتم توسيع نطاق هذه التعليمات بعد العام 1967 لتشمل المناطق المرفقة بالمدينة كافة، مما رفع أسعار المباني الفلسطينية وجعل الكثير منها غير قانوني. ولعب الاستخدام واسع الانتشار للكسوة الحجرية الأرقى في مراكز التسوق والفنادق والكتل الشاهقة دورا حيويا في النضال الاستراتيجي والرمزي لإسرائيل لصبغ ضواحي القدس الجديدة المترامية الأطراف بالهوية "المقدسة" للمدينة المقدسة. لقد كان استخدام حجر القدس إيديولوجيا أكثر منه معماريا فقد أدى استخدامه إلى "تأصيل " المناطق التي لم تكن جزء من القدس من قبل ، كما تمددت عباءة القداسة نحو مستوطنات بعيدة علن مرمى النظر داخل حدود البلدية وخارجها. ويمكن للمدن الاستيطانية مثل معاليه أدوميم أن تشارك في هالة المدينة المقدسة من خلال حجر جيري لا تتعدى أبعاده 6 سم. وهكذا لعبت العمارة دورا أساسيا في التوحيد الزمني والمكاني للمدينة و أضافت بعدا رومنسيا وفنيا للتعزيزات العسكرية والسياسية التي دفعت إلى توسع المدينة، مما أدى إلى خلق استمرارية "طبيعية" بين مختلف العصور: من الكتاب المقدس، مرورا بقدسية المدينة ,وصولا إلى الحقبة الصهيونية وإسرائيل الحديثة. ويشير وايزمان إلى أن استخدام العمارة النيو استشراقية وحجر القدس قدم "الفنتازيا" التي تعتبر ضرورية لتوطيد هوية قومية جديدة وتمدن المدينة الموسعة": لقد وضعت كل ضاحية نائية مبنية حديثا ضمن حدود "عاصمة الشعب الأبدية الموحدة"، وبالتالي، بقدر ما يتعلق بها معظم الإسرائيليين، إن ما يسمى القدس، بالاسم، بالعمارة، وباستخدام الحجر، يقع في قلب الإجماع الإسرائيلي, بعيدا عن طاولة المفاوضات. "(15)
ثمة ما هو مثير للسخرية في ما يتعلق بهذا الحجر الأيقوني الذي أصبح رمزا للمدينة في عيون الإسرائيليين ورمزا "للمبنى اليهودي" في نظر العالم. ومثار السخرية يكمن في أن هذا الحجر أولا ,يستخرج أساسا من محاجر الخليل ونابلس ومناطق أخرى في الضفة الغربية ,وهو معروف محليا باسم "الحجر النابلسي" وجزء كبير من عمل المقالع الشاق يقوم به الفلسطينيون. ثانيا، يعطي استخدامه مثالا على المحاولة الاستعمارية لما بعد 67 لتقليد العمارة الفلسطينية المحلية مع استبعاد الفلسطينيين: وهكذا وعلى مدى الهضاب في شمال و شرق وجنوب" القدس" الملحقة حديثا تناثرت عشرات الآلاف من المنازل المكسوة بهذا الحجر و المطلة على القرى والبلدات الفلسطينية الفقيرة و المتخلفة في "المدينة الموحدة" (16)و هذا هو ,في الواقع ,قلب مشروع "التوحيد" إذ أن الأمر ليس مجرد وضع حقائق معمارية على الأرض، بل ملؤها بالسكان اليهود الإسرائيليين، لما هو أبعد من الخط الأخضر. ومع ذلك، في حين أن إبطال إسرائيل للقانون الدولي يمكنه أن يخبرنا كثيرا عن الدولة اليهودية، وليس أقلها هاجسها بالسلطة، فإن الديموغرافيا والمخاوف مما سيأتي غدا - بالتركيز على تعريفات القانون الدولي لن يكون كافيا وحده لفهم العمليات المعقدة التي تحدث في المدينة. ويمكن أن يرعى الوهم القائل بأن التقسيم لايزال حلا منصفا، الأمر الذي أظنه بعيدا عن الحقيقة. وعلى مستوى أكثر تحديدا فإن ما يمكن أن يحد من تحليلنا لما تقوم به الدولة ودوافع وخبرة الناس أنفسهم يكمن في النظر إلى الخط الأخضر وحده، دون من يعيش على جانبيه ،.
حاربت السلطات الإسرائيلية بلا هوادة من أجل زيادة عدد اليهود وتقليل عدد الفلسطينيين في القدس بغية إحباط محاولات الطعن في سيادتها هناك, ورغم هذه السياسات ارتفعت نسبة الفلسطينيين في المدينة من 25 % سنة 1967 إلى 36 % في العام 2012. ووفقا للتوقعات سيكون في "القدس الموحدة" 40 % من سكانها فلسطينيين بحلول عام 2020؛ و إذا لم تجد إسرائيل سبيلا لتغيير هذه النسبة فسوف يشكل الفلسطينيون المقدسيون أغلبية السكان بحلول سنة 2030. إن خمسين لونا من ألوان التمييز التي انتشرت ضد سكان القدس الفلسطينيين في عهود رؤساء البلدية والحكومة المتعاقبين، وإن كانت تختلف اختلافا جذريا في بعض النواحي، إلا أنها تتحد في هدف مشترك وهو العمل ضد المصلحة القومية الفلسطينية داخل المدينة(17) .وهذا ما كانت تصرح به السلطات الإسرائيلية بوضوح. و كما حذر أمير تشيشين وأفي ميلاميد، وهما مستشاران سابقان للشؤون العربية لرؤساء البلديات في القدس في ثمانينيات وتسعينات القرن الماضي:"لا تصدقوا البروباغاندة. . . الصورة الوردية التي تحاول إسرائيل أن تظهرها للعالم عن الحياة في القدس منذ إعادة توحيدها في العام 1967. لقد تعاملت إسرائيل بشكل رهيب مع فلسطينيي القدس وكمسألة سياسية، أجبرت الكثيرين منهم على ترك منازلهم وجردتهم من أرضهم، وكانت طوال الوقت تكذب عليهم وتخدعهم و تخدع العالم حول نواياها الشريفة18).إن "المنطق" وراء هذه الاستراتيجية منصوص عليه في الخطة الرئيسية للقدس 2000 تحت عنوان "التوازن الديمغرافي" "وفقا لقرارات الحكومة"..." تحتاج المدينة إلى الحفاظ على نسبة 70 % من اليهود و 30 % تبعا للهدف الذي قدمته البلدية واعتمدته الحكومة, ومع ذلك فقد أدت الأنماط الديموغرافية في المدينة منذ عام 1967 إلى ابتعاد القدس عن هذا الهدف. ومنذ التسعينات لم يعد هناك نسبة 70:30 وما زالت هذه النسبة تنتهك"(19).وتمضي الخطة الرئيسية في جعل "التنبؤات الصارمة " حول نسبة نمو للفلسطينيين - الذين يفترض أن يكونوا مقيمين بحقوق متساوية - في "المدينة الموحدة" والحاجة إلى اتخاذ "تدابير بعيدة المدى" من أجل منع عملية نمو النسبة هذه . إن استراتيجية "نسبة" القدس لها آثار عملية جدا على السكان الفلسطينيين، على صعيد كل من "المسألة السياسية" كما يرى تشيشين وميلاميد، وعلى صعيد الإهمال المتعمد. ويقدم العمدة الأسطوري للقدس (1965-1993)العمالي تيدي كوليك ، مثالا واضحا على المواقف العلنية و المضمرة تجاه فلسطيني القدس حيث شملت خطته للعام 1968 مشاريع بناء ضخمة في الجزء الشرقي من المدينة، "لضمان توحيد القدس بطريقة تحول دون إمكانية إعادة تقسيمها" (20) . هذا هو كوليك الذي يقال عنه , رسميا، في إسرائيل بأنه" المدافع الشرس عن التسامح الديني "، والذي" بذل العديد من المحاولات للوصول إلى ناخبيه العرب " عندما عمل على " تحسين أنظمة المياه والصرف الصحي في الأحياء العربية في القدس "21) .ولكن، و باعتراف كوليك نفسه لصحيفة معاريف الإسرائيلية في العام 1990 ، وبعد 25 عاما في منصبه:"قلنا أشياء لم نكن نعنيها ، ولم ننفذها. قلنا مرارا وتكرارا أننا سنساوي العرب في الحقوق مع حقوق اليهود. [وكان هذا] كلام فارغ . لم نمنحهم قط شعورا بالتساوي أمام القانون. كانوا ولا يزالوا مواطنين من الدرجة الثانية والثالثة. نعم لقد فعلت أشياء للقدس اليهودية على مدار السنوات الـ 25 الماضية. أما القدس الشرقية؟ فلا شيء ! ماذا فعلت؟ لا شيء. الأرصفة؟ لا شيء! المؤسسات الثقافية؟ ولا واحدة ..ولكن نعم قمنا بإصلاح نظام الصرف الصحي لهم وتحسين إمدادات المياه. ولكن هل تعرف لماذا؟ هل تعتقد أنها كانت لصالحهم، ولرفاههم؟ انس ذلك! كانت هناك بعض حالات الكوليرا، لذلك قمنا بإصلاح شبكة الصرف الصحي والمياه لوقاية الكوليرا لخشية السكان اليهود من انتقال العدوى لهم ."(22)
هزم تيدي كوليك فى انتخابات 1993 . هزمه إيهود أولمرت من الليكود بتحالف مع الأحزاب الارثوذكسية المتطرفة الذي يدل على تحول كبير في السلطة، لأن أولمرت كان يعتمد اعتمادا كبيرا على المجتمع الحريدي، الذي يقبل نسية 90 % منهم على التصويت ممن يحق لهم ذلك مقارنة بنسبة 50% من الجانب العلماني ,وقد أعطى ذلك للأرثوذكسيين دورا أكثر رحابة على صعيد القرارات المتعلقة بالميزانيات والبنية التحتية والإسكان في المدينة، وقدموا ما في وسعهم لتأمين احتياجات السكان والناخبين . وعلى الرغم من ذلك ، واصل أولمرت طوال عشر سنوات تلت كرئيس لبلدية القدس سياسات كوليك في الحديث عن الحاجة إلى تحقيق المساواة في توفير الخدمات والبنية التحتية بين الأحياء اليهودية والعربية الفلسطينية في حين فشل في القيام بأي شيء مفيد(23). وكان هناك الكثير من الأسباب وراء هذه الأولويات المتأصلة، والسياسات المالية المتوترة ، ونسبة 70:30 التي اتخذها كل من حزب العمل والليكود كهدف، واعتبارات سياسية عملية بشأن مكان إنفاق الهبات، لأن "المقدسيين العرب لن يصوتوا لي بأي حال".ومع ذلك، كان الاعتبار الرئيسي دائما هو التأكد على أن السيادة المهيمنة في القدس الشرقية ستبقى لإسرائيل، وخاصة بعد اتفاقات أوسلو، لإضعاف موقف السلطة الفلسطينية هناك. وهكذا قامت الشرطة الإسرائيلية في العام 2001 بإغلاق بيت الشرق التاريخي، وهو مقر منظمة التحرير في القدس منذ التسعينيات ، كما أغلقت المراكز الثقافية الفلسطينية. علاوة على تزايد عمليات هدم المنازل الفلسطينية خلال هذه الفترة، بذريعة أنها بنيت "بدون تصريح" (24) .ولم يطرأ أي تغيير يذكر على السياسة الإسرائيلية في القدس في عهد خليفة أولمرت، أوري لوبوليانسكي، أول عمدة أرثوذكسي متطرف للمدينة ( 2003-2008 (، وعندما سألته القناة العاشرة لماذا لم لا تتوفر في البيوت العربية في القدس إمدادات المياه، نفى لوبوليانسكي ذلك أولا ثم أعلن: "إن الأمر يتعلق بالذهنية فالعرب لا يفضلون ، بحكم طبيعتهم، أنابيب المياه في بيوتهم ". وخلال فترة وجوده على رأس بلدة القدس ، بدأت الحكومة الإسرائيلية ببناء الجدار الفاصل حول وخلال " المدينة الموحدة "، تاركة الأحياء الفلسطينية مثل كفر عقب ومخيم شعفاط للاجئين داخل الحدود البلدية، ولكن تم عزلهم بالجدار عن المدينة، في حين كان الأثر الرئيسي للجدار هو عزل القدس عن بقية الضفة الغربية
غير أنه كان لهذه السياسات نتيجة غير مقصودة تمثلت في اقتناع المزيد من المقدسيين الفلسطينيين بالبقاء في المدينة، وجذب أولئك الذين غادروها إلى أجزاء أخرى من الضفة الغربية، بعد أن أدركوا أن إسرائيل تحاول إلغاء إقامتهم في مدينتهم . وكان النمو المطرد في نسبة الفلسطينيين في المدينة أحد نتائج عودة هؤلاء ,فعلى سبيل المثال، قدر بلدية القدس عدد طلاب المدارس الفلسطينية في العام 2012 بـ 88845 طالبا، أي 38 % من طلاب المدارس في المدينة كافة. ومع ذلك، فإن هذا الرقم مازال بعيد عن تمثيل الوضع الحقيقي على الأرض حيث تشير الأرقام الخاصة بالبلدية إلى أن هناك 106534 طفلا فلسطينيا مقدسيا تتراوح أعمارهم بين 6-18 عاما، أي حوالي 44 % من أطفال المدينة (و الذين يفترض أنهم يذهبون جميعا إلى المدارس). و تشير الأرقام إلى أن مجلس مدينة القدس لايتلاعب بالأعداد فقط بل أنه يغض النظر عن قلة الحضور المدرسي ، وهو ما يدل على حقيقة أن البلدية لم توفر مدارس كافية لهذه الفئة العمرية من سكان المدينة (25). ناهيك عن عدم التكافؤ الصارخ على المستوى الاجتماعي والاقتصادي فمتوسط الأجر في القدس الغربية يبلغ 54 دولارا في اليوم؛ وينخفض في القدس الشرقية إلى 27 دولارا. ويقدر أن 78 % من الفلسطينيين المقدسيين الذين يقطنون في القدس الشرقية يعيشون في فقر، وأن 84 % من الأطفال الفلسطينيين يعيشون تحت خط الفقر (26)
اتخذ رئيس بلدية القدس الحالي، المليونير اليميني العلماني نير بركات، المنتخب منذ العام 2008، نهجا مختلفا قليلا, وهو , مثل من سلفه كان مدفوعا أيضا بالرغبة في تعزيز السيادة الإسرائيلية على جميع أنحاء المدينة؛ لكن استراتيجيته تشير إلى أن استمرار التمييز ضد الفلسطينيين والظلم الواضح بين المناطق المختلفة كان يلعب ضد المصالح الصهيونية، لأنه استمرار التمييز هذا عزز الإحساس بوجود مدينتين مختلفتين داخل "القدس الموحدة"، وبالتالي يجعل التقسيم السياسي المستقبلي لها يبدو أكثر سهولة. ولذلك كانت سياسات بركات أكثر تطورا. وقد أعطى حقيبة القدس الشرقية لمنافسيه المعارضين، حزب ميريتس اليساري. و بدأ مشروعا لتسمية الشوارع في القدس الشرقية، التي سبق أن أهملها مجلس المدينة. وكان من بينها تدشين شارع أم كلثوم في بيت حنينا، حيث كان بمقدور بركات أن يشير للفلسطينيين بكل وقاحة بأن البلدية الإسرائيلية اليهودية يمكن أن "تحتويهم" وتحتوي ثقافتهم، المتثملة (هنا) بالمغنية المصرية العظيمة . وفي احتفال آخر، أعلن عن إطلاق مشروع بقيمة 42 مليون شيكل لتحسين "شارع المنطقة الصناعية " في وادي الجوز يشمل أنابيب صرف صحي جديدة والإضاءة، والأرصفة، والأشجار، والدوارات و يقول بركات "هذا مجرد مثال واحد على المشروع الشامل لتضييق الفجوات بين الجانب الشرقي من المدينة [والغربي]. نحن نشارك في جميع الجبهات، بما في ذلك النقل والتعليم والبنية التحتية، ويمكنك الآن أن تبدأ في رؤية النتائج. " كما قال لصحيفة تايمز أوف إسرائيل" فقد أضرت سنوات من الإهمال وحدة المدينة في أعين العالم. عندما ندعي أن المدينة موحدة ولكننا لا نبرهن على أننا نعرف كيفية التعامل مع جميع السكان، فإن هذا يضر بنا. . . [نحن بحاجة] للعمل الجاد والتأكد من أننا نتعامل مع جميع السكان لذلك نحن في الواقع نوحد المدينة بقوة أكبر(27)
وشرح بركات أن مثل هذا قد يمنع انتفاضة فلسطينية في سياق الغضب العارم بسبب جدار الفصل: "ينبغي لاستراتيجية ما أن تركز على تحسين نوعية الحياة لسكان القدس [الفلسطينيين] و شعورهم حيال المدينة، وأن يكونوا متأكدين أن لديهم الكثير ليخسروه. وطالما واصلنا في هذا الاتجاه، فإن الأساس المنطقي لأي نوع من العنف بين سكان القدس سينخفض ". وفي الوقت نفسه، شملت سياسة بركات" لتهويد "القدس العربية زيادة في عدد مشاريع الاستيطان اليهودي داخل الأحياء الفلسطينية ، بما يعزز قبضة إسرائيل ويجعل تحديد مكان "القدس العربية" و "القدس اليهودية" أمرا مستحيلا، وبالتالي استبعاد إمكانية التقسيم السياسي. وتشمل خططه قرية طلابية يهودية إسرائيلية دعيت Sha’ar Ha-Mizrah " بوابة الشرق"، في قرية عناتا الفلسطينية؛ و مستوطنة من 200 وحدة سكنية ، هي كيدمات تسيون، بين أبو ديس وجبل المكبر، بتمويل من المليونير من ولاية فلوريدا إيرفينغ موسكوفيتز؛ ومستوطنتان اسماهما مرتفعات الزيتون و مرتفعات ديفيد بتمويل من موسكوفيتز أيضا ، تطلان على قرية رأس العامود، وعقارات سيمون في حي الشيخ جراح، في تحالف مع مجموعة نحلات شيمون الدولية التي تتخذ من الولايات المتحدة مقرا لها. كما قدم بركات الدعم الكامل للمشاريع الأثرية المريبة و المعروفة باسم إلعاد Elad التي تقوم بحفريات واسعة النطاق في قلب بلدة سلوان الفلسطينية بحثا عن بقايا مدينة داود الأسطورية. ويجب النظر إلى هذه التدابير كجزء وحزمة من جهوده الرامية إلى "تحسين" الجوار الفلسطيني.
وما يجدر بنا ملاحظته هو الانقسام الواقع ضمن السكان اليهود الإسرائيليين والذي يعد الأكثر دراماتيكية خلال العقود القليلة الماضية.ويمكن للتغيير الديموغرافي أن يتضح مرة أخرى بشكل أفضل من خلال التعليم حيث يقسم نظام المدارس اليهودية إلى ثلاثة أنساق (أ) "مدارس عامة"، أي العلمانية, (ب)"مدارس قومية-دينية",(ج)"مدارس حريدية". ومنذ العام 1998، تجاوز عدد الطلاب الحريديين في القدس الفئتين الأخرتين ؛ ومنذ ذلك الحين، استمرت الفجوة في الاتساع. وما بين عامي 2006 و 2011، نقص عدد الطلاب في المدارس العامة من 32،400 إلى 30،200، أي بانخفاض قدره 7 %؛في حين ازدادت معدلات أعداد طلاب المدارس القومية - الدينية بنسبة 3 %، وبعدد إجمالي يتراوح بين 700 25 إلى 500 26؛ ولكن طلاب مدارس التيار الحريدي ارتفع بنسبة 10 % وبعدد إجمالي من 85 900 إلى 94200. كما شكل الحريديون نسبة 63% من تلاميذ المدارس اليهودية الإسرائيلية في القدس. في العام 2013. ومنذ الثمانينيات ابتدأت معدلات تناقص العلمانيين -أو زيادة معدل المتدينين إن شئت , وبدأت تظهر هذه النسب في إحصاءات القدس منذ التسعينات وكما يعلق المؤرخ دافيد كرويانكر : لقد كانت قصة ديموغرافية بسيطة جدا, "لم تكن هناك مجموعة من حكاء صهيون الأرثوذكس يتحلقون حول طاولة و يخططون للاستيلاء على القدس. .فلم تكن زياد ة أعداد الأرثوذكسيين في المدينة سوى نتيجة لحقيقة أنهم يتكاثرون بعشرة أضعاف تكاثر العلمانيين "(28) .وقد اتخذت العديد من الأحياء اليهودية في القدس طابع مختلف تماما حاليا . أما "الأحياء المفصلية" التي أقيمت على الأراضي المحتلة إلى الشرق من الخط الأخضر بعد حرب 1967، فقد كانت تتكون في البداية من خليط من السكان العلمانيين والدينيين-القوميين. ولكن الأمور بدأت بالتغيير منذ الثمانينيات، وبدأت الأحياء الأرثوذكسية الواقعة إلى الغرب من الخط الأخضر، مثل شموئيل ها-نافي و سانهدريا، تعاني من الاكتظاظ الشديد؛ وبدأ عدد متزايد من الحريديم بالتحرك شرقا، وشراء شقق في الأحياء المفصلية وخلق "جيوب" أرثوذكسية متطرفة هناك. و بدأت في رامات أشكول عملية "تحريد" في أواخر الثمانينيات وتكثفت في التسعينات، تلاها نمط مماثل في جفعات ها-ميفتار القريبة و معالوت دافنا. وحدثت نفس العملية في رامات شلومو، مما أدى إلى خلق تواصل بين الأحياء الأرثوذكسية المتطرفة في شمال شرق القدس. وأدى نجاح المرشحين الحريديين في انتخابات مجلس المدينة سنة 1993، إلى زيادة الاستثمار البلدي للجالية الحريدية .وبلغ متوسط دخل الأسرة الحريدية المقدسية في العام 1995 نصف دخل الأسرة العلمانية ، أي 3700 شيكل، مقابل 7100 ، وهو ما يعني في المقابل اعتمادهم على الدعم الحكومي والتأمين القومي(29).وفي تطور آخر أجبر ارتفاع أسعار المنازل في القدس واكتظاظ الأحياء الأرثوذكسية الحديثة البعض على مغادرة المدينة بحثا عن مساكن أرخص، "أمنتها" لهم الحكومة في موديعين عيليت وبيتار عيليت، وهما مدينتان استيطانيتان حريديتان في الضفة الغربية.
تصاحب كل هذا مع السفر المتزايد لسكان المدينة العلمانيين في الغالب، بحثا عن ما يعتبرونه موائل أكثر ليبرالية أو سلمية أو أماكن عيش واعدة .وشهدت المدينة منذ التسعينات هجرة صافية مترافقة مع ارتفاع عدد السكان بسبب ارتفاع معدل المواليد عند الحريديم والفلسطينيين . وفي الوقت نفسه، كانت المدينة تنمو بدرجة أكثر فقرا: فبلغ متوسط دخل الفرد فيها 3300 شيكل، وهو بالضبط نصف ما عليه الدخل في تل أبيب . وفي عام 2010، منحت القدس لقبا مريبا بوصفها أفقر مدينة في إسرائيل(30). وقد بدأت هذه الاتجاهات تثير قلق واضعي السياسات الإسرائيليين. وتحاول هيئة تنمية القدس وهي وكالة مشتركة بين الحكومة الإسرائيلية ومجلس المدينة، منذ العام 1998 العمل في مشاريع لجذب رواد الأعمال والطلاب والعاملين في مجال التكنولوجيا العالية للقدوم للعيش والاستثمار في المدينة. من بين هذه المشاريع مشروع بيوجيروزاليم و أكاديمي سيتي ,وهو مشروع يهدف إلى "جذب" شركات التقانة الحيوية والطلاب إلى المدينة. وإذاء كانوا "علمانيين" و "صهيونيا" و "يعملون" و "أثرياء"، سيكون ذلك أفضل. كما ارتبطت الهيئة بمشاريع أكثر إثارة للجدل، مثل محاولة مركز سيمون فيزنتال بناء "متحف للتسامح وكرامة الإنسان" على أراضي المقبرة الإسلامية في مأمن الله في القدس الغربية. فضلا عن اقتراح آخر لتوسيع حدود المدينة غربا : فبدلا من جلب يهود إسرائيليين جدد إلى المدينة، وهي عملية هامة تماما، فإنه يمكن للقدس أن تبتلع القرى"القوية" على حدودها و تعني "القوية" في السياق الإسرائيلي "القومي "، "الصهيوني"، "العمل"، مثل بيت-نكوفا، وحتى سابير، وبيت زيت. وهذا ليس سوى مرحلة أخرى في الكفاح الإسرائيلي الدائم لإبقاء القدس "موحدة"، "يهودية"، وعلى ما يبدو، منذ عام 1998، "جذابة".
قصة شخصية
ولدت في العام 1978 في القدس لكني أعيش الآن في تل أبيب. وقد تركت شقيقتاي المدينة أيضا، والأمر ذاته فعله الغالبية العظمى من أصدقا ء دراستنا ، في اختيارهم العيش في منطقة تل أبيب، أو في ما بين المدينتين , في موديعين على سبيل المثال. وتتمثل الخطوة الثانية لأي شاب عندما يقرر مغادرة منزل والديه هو أن يقرر والداه أن يتبعاه حيث يقطن ، لاسيما عندما يبدأ الأحفاد بالإعلان عن ظهورهم على مسرح الحياة . ما سأرويه هو قصة شخصية , ولكنها ليست بالضرورة تمثيلية للعديد من اليهود المقدسيين "العلمانيين" على مدى العقد الماضي أو نحو ذلك. وبالعودة إلى نطاق العائلة , يمكن للمرء أن ينظر في الأنماط السكنية المتغيرة في المبنى الذي كانت فيه شقة والدي على أنها "عمارة يعقوبيان" إسرائيلية. فعلى مدى السنوات الثلاثين الماضية عاش والداي في الطابق الثالث من مبنى مؤلف من ثمانية طوابق في جفعات أورانيم، أحد أحياء القدس الغربية. وتنعكس التغيرات الاجتماعية التي حدثت في المدينة خلال هذه الفترة بوضوح في هوية السكان. وعلى حد علمي , لم يبق أي من أبناء فئتي العمرية الذين نشأوا هناك في القدس. وعلاوة على ذلك، تم استبدال كل أسرة علمانية تركت المبنى بعائلة دينية أو أرثوذكسية متطرفة من تلك العائلات التي انتقلت للقدس . ويتضح هذا التغيير بقوة في الشوارع. ففي مساء الجمعة، على سبيل المثال، لو ذهبت لإحضار جدتي من منطقة ريحافيا القريبة، يينبغي علي القيادة بعناية فائقة لأن العديد من اليهود الأرثوذكس المتطرفين يشقون طريقهم باتجاه الكنس القديمة والجديدة التي تقع في المنطقة وقد تحولت الآن مدرستي الابتدائية القديمة لوريا إلى كنيس أيام السبت والأيام الأخرى شديدة القدسية لتلبي احتياجات السكان المتزايدة. وعلى مسافة قصيرة حول المنطقة يوم كيبور، يتسنى لي سماع أصوات الصلاة القادمة من العديد من المدارس الابتدائية الأخرى. لا أقصد هنا إطلاق الأحكام جزافا ,بل هي مجرد محاولة لشخصنة التغييرات التي اجتاحت القدس في العقود الثلاثة الماضية.
إن تصوري للتقسيم بين "الغرب" و "الشرق" ,وبوصفي طفل نشأ في القدس في الثمانينيات إنما كان يقتصر على التباين بين الحي الذي سكنته حيث درست ولعبت، والبلدة القديمة و ذلك الشرق الملون حيث كنا نتجول عبر الأزقة المزدحمة في نزهات يوم السبت العائلية .و داخل الجدران الضخمة، والتي كنت على الدوام أربطها بالملك سليمان .كان خيالي حبيس صورة الشيخ و الرابي و القسيس وهم يسيروا جنبا إلى جنب، في حين تختلط رائحة البخور مع طعم عصير اللوز وصراخ أصحاب المحلات العرب... ذكريات تبدو اليوم كأنها لوحة البازار المغربي لإدوين لورد ويكس. و أذكر إني شاركت في رحلة مدرسية إلى قلعة ديفيد التي كان شعارها " متحف برج داود حيث تبدأ أورشليم" ,كنا وقتها نبحث ونحن بأعمار 12 و 13 عاما عن المكان الدقيق الذي كان قد لمح فيه الملك داود بتشبع وهي تستحم على السطح. ولم أكن قد تجرأت بعد على قبول أن رموز "العاصمة اليهودية الأبدية" التي يحتفل بها لها قصص أخرى: فعلى الرغم من التجانس اللفظي لأسميهما ، فإن جدران المدينة العظيمة لم يبنها سليمان الحبيب ولكن بناها سليمان آخر أتى بعده بنحو 2500 سنة، السلطان العثماني المسلم سليمان القانوني. وأن قلعة داود أخذت اسمها من صليبيي القرن الحادي عشر ؛ وأن برج داود "حيث تبدأ أورشليم" كان في الواقع مسجد بمئذنة أسطوانية يعود تاريخه إلى القرن التاسع عشر بني بعد ما يقارب من ثلاثة آلاف من السنين من قيام الملك باختلاس النظر نحو السطح حيث كانت تستحم بتشبع .لقد أدركت أن البلدة القديمة لم تكن مرادفة للقدس الشرقية، بل جزء صغير منها، وأن العديد من المقدسيين-" يروشالميم في العبرية" - كانوا فلسطينيين. . ثم علمت لاحقا أنهم يعيشون في أماكن لم أسمع عنها ولا زارتها، مثل أم طوبا وكفر عقب والولجة. لقد اكتشفت أن ثمة مخيما للاجئين داخل بلدية "مدينتي"...قد يكون تشكل في عقل صبي صغير مثلي, تلك الصور و الإنكارات التي تمثلها ، لكنها بلا شك توحي بعمليات أكبر بكثير من مجرد الرفض والمحو. بل إن حقيقة أن هذه كانت ممارسة مكثفة ممارسة لكل من المحو و الرفض على نحو مكثف حتى يمكن اعتبارهما ظاهرة موحدة في مدينة التوترات هذه, فالسجالات بين اليهود و المسلمين ,الإسرائيليين و الفلسطينيين هي ألعاب بمحصلة صفرية، معارك على هيئة مناظرات يتم فيها تجنيد الأسلحة كافة :الدينية والأثرية والقانونية والسياسية ..كل ذلك لإثبات أن هذه المدينة لا تنتمي للآخر. و في الوقت الذي سيباع للسياح الأمريكيين حفريات إلعاد البيزنطية على أنها من مواقع توراتية ، فإن زوار المتحف الإسلامي في الحرم الشريف لن يجدوا أي إشارة إلى وجود يهودي تاريخي. لقد حقق موردخاي كيدار ، المحاضر في جامعة بار إيلان، ثروة سياسية لنفسه-على الأقل بين الإسرائيليين اليمينيين- عندما ظهر على قناة "الجزيرة" يقول إنه " لا يمكن العثور على القدس في أي مكان في القرآن " (31) . مثل هذا القول يمكن أن يكون له نتائج عكسية ، ليس فقط لأنه يدل على فهم ضيق لصيرورة التقديس ، ولكن لأنه يمكن أن استخدامه من أي من الطرفين بصورة جيدة و بطريقة متكافئة. وإذا ما قرر المرء أن يلعب اللعبة ويتحقق من الكتب المقدسة، فسوف يجد أن لا ذكر للقدس في القرآن حيث التلميح الوحيد هو كلمة "الأقصى". ولكن أيضا لا ذكر ليروشالايم في اسفار موسى :اسفار التوراة الخمسة الكتابية" والتلميح الوحيد هو ما ينص على القول "المكان الذي يختاره الرب إلهك"(32) .ويعتقد السامريون أن الدليل الوحيد على المكان الذي اختاره الرب كموقع للمعبد المقدس هو "قرب كتف نابلس" الذي يعتبروه جبل جيريزيم حيث يعيشون. فهل كنا نصلي في الاتجاه الخاطئ طوال هذه السنوات؟
تتواصل الاضطرابات الدينية والاجتماعية والسياسية بالهيجان , ولو تحت السطح. ويبدو أنه من المستحيل أن تكون القدس قادرة على احتواء كل تناقضاتها. ومع تزايد عدد الفلسطينيين وتكاثر الأساطير من كلا الجانبين تمضي المدينة نحو المجهول بسبب واقع سياسي عبثي خلقه إصرار إسرائيل على امتلاك كل القدس، وعدم تقاسم السيادة عليها مع أحد. ولعل المثال على ذلك هو الاحتفالات الرسمية بيوم القدس، وهو يوم عطلة قومية إسرائيلية مكرس للاحتفال بتوحيد المدينة الذي حصل سنة 1967، حيث تجد الغالبية العظمى من أولئك الذين يرقصون حاملين أعلاما إسرائيلية تحت أسوار المدينة القديمة من اليهود المتدينين الذين يمثلون "الروح الجديدة" للقدس ,فضاء صهيوني عمراني مسياني غير اندماجي. في هذا الاحتفال وفي هذا المكان لا يكاد يوجد حريدي ونادرا ما يتواجد يهودي "علماني" ، ناهيك عن العرب الذين يشكلون أكثر من ثلث سكان المدينة المحتفل "بتوحيدها "، تبدو المدينة في احتفالها مجزأة أكثر من أي وقت مضى.....وإذن من المنطقي الاعتقاد بأن القدس لن تكون متحدة حقا إلا إذا كانت سيادتها مشتركة بين شعبيها. وخيار "الدولتين" المتمثل في التقسيم -تقسيمها من الوسط ليخلق غربا يهوديا "نقيا" وشرقا فلسطينيا "نقيا" - لم يعد, من وجهة نظري, قابلا للتطبيق عمليا، سواء لمسألة القدس أو لقضية الصراع الإسرائيلي الفلسطيني عموما: لقد جعلت مقولة "الحقائق على أرض الواقع" في ما يتعلق بالمستوطنات الإسرائيلية والنمو السكاني الفلسطيني التقسيم الجغرافي "النقي" على أي أساس منصف مستحيلا. ولا يزال الخيار الآخر هو: عيش مشترك يمارسه الإسرائيليون والفلسطينيون على حد سواء، مع تكليف بتطوير المدينة لتلبية الاحتياجات القومية والاجتماعية والسياسية لكلا الشعبين. ثم قد تكون القدس فرصة للشفاء من المتلازمة النفسية التي تحمل اسمها.
................................
العنوان الأصلي: NEW JERUSALEM
الكاتب :yonatan mendel
نشر في مجلة :New Left Review , العدد 81 , أيار-حزيران 2013
ترجمة:محمود الصباغ
..............................
ملاحظات
1-See for example Mark Popovsky, ‘Jerusalem Syndrome’, in David Leeming, Kathryn Madden and Marlan Stanton, eds, Encyclopedia of Psychology and Religion, vol. 2, New York 2009
2-Nir Hasson, ‘Meron Benvenisti, Why Does Jerusalem Not Exist Anymore?’ (in Hebrew), Haaretz, 29 May 2011.
3-Haaretz, 29 May 2011.
4-Avi Shlaim, The Iron Wall: Israel and the Arab World, London 2000, p. 36.38
5-See, for example, Riad M. Nasser, Palestinian Identity in Jordan and Israel: The Necessary ‘Other’ in the Making of a Nation, New York 2004, pp. 68–70.
6-Roger Friedland and Richard D. Hecht, To Rule Jerusalem, Berkeley 2000, pp. 248–49.mendel: Jerusalem 39
7-See, for example, Tom Segev, 1967: Israel, the War, and the Year that Transformed the Middle East, New York 2007.
8-Baruch Kimmerling, The Invention and Decline of Israeliness: State, Society and the Military, Berkeley 2001, p. 109.40
9-Baruch Kimmerling, The Invention and Decline of Israeliness: State, Society and the Military, Berkeley 2001, p. 109.40
10-Uzi Benziman, A City without a Wall, Jerusalem 1973, p. 2.42
11-Eyal Weizman, Hollow Land: Israel’s Architecture of Occupation, London and New York 2007, p. 25.
12-Quoted in Moshe Amirav, Jerusalem Syndrome: The Palestinian–Israeli Battle for the Holy City, Eastbourne 2009, p. 72.44
13-David Kroyanker, Jerusalem: Neighbourhoods and Houses, Periods and Style, Jerusalem 1996, p. 190 (in Hebrew). Kroyanker, an Israeli architectural historian, sees the buildings in Stern Street (Kiryat Yovel neighbourhood) and Ha-Nurit Street (Ir Ganim neighbourhood) as the ultimate examples of this style: 8- and 9-storey buildings with no elevator, due to the austerity of the times.mendel: Jerusalem 45
14-Zvi Efrat’s text in his exhibition, ‘The Israeli Project’, held in Tel Aviv in October 2000, quoted in Weizman, Hollow Land, p. 47.46
15-Weizman, Hollow Land, p. 47.
16-Haim Yacobi, ‘The Third Place: Architecture, Nationalism and the Postcolonial Gaze’, Theory and Criticism 30, 2007, pp. 63–88 (in Hebrew).mendel: Jerusalem 47
17 According to the Israeli Information Centre for Human Rights in the Occupied Territories, B’Tselem, Israeli policy towards the Palestinians in Jerusalem cannot be described in any other way than discriminatory see their extensive reports on the subject at: http://www.btselem.org/english/jerusalem
18 Amir Cheshin, Bil Hutman and Avi Melamed, Separate and Unequal: The Inside Story of Israeli Rule in East Jerusalem, p. 251.
19 Jerusalem 2000 Master Plan, published August 2004, Chapter 7, ‘Population and Society’ (in Hebrew).48
20 Jerusalem Master Plan 1968 (in Hebrew).
21 See the Go-Jerusalem official website page on Kollek.
22 Cited in the B’Tselem report, ‘A Policy of Discrimination: Land Expropriation, Planning and Building in East Jerusalem’, May 1995. mendel: Jerusalem 49
23 This was nicely illustrated when an opposition member of the City Council, Meir Margalit, tabled a question for Olmert about the provision of municipal services to the Arab village of Ein Fuad in eastern Jerusalem. The reply duly came back from Olmert’s office, denying that there was any discrimination in provision: ‘Ein Fuad receives all municipal services, including welfare, education, lighting and clean¬liness.’ A sly smile no doubt played Margalit’s lips when he read those lines. He penned back a short message to the mayor: ‘There is no such place as Ein Fuad’. See Meir Margalit, Discrimination in the Heart of the Holy City, Jerusalem 2006, p. 176.
24 In reality, and due to the discriminatory Israeli policies, these permits became almost impossible for Palestinians to get. Therefore, their decision to build with no permit can be considered as their ongoing act of ‘spatial protest’ against Israel’s and the Jerusalem municipality’s urban-planning policies. See Irus Braverman, ‘Powers of Illegality: House Demolitions and Resistance in East Jerusalem’, Law and Social Inquiry, vol. 32, no. 2, 2007, pp. 333–72.50
25´-or-Kashti, ‘East Jerusalem: The Capital of Dropouts’, Haaretz, 5 September 2012.
26 Association for Civil Rights in Israel, Jerusalem Day 2012: Unprecedented Deterioration in East Jerusalem. mendel: Jerusalem 51
27 David Horovitz, ‘Nir Barkat: How I’m ensuring Israeli Sovereignty in Jerusalem’, Times of Israel, 29 February 2012.52
28 Neta Sela, ‘Jerusalem should be a Haredi city’, Ynet, 24 May 2006 (in Hebrew).mendel: Jerusalem 53
29 Momi Dahan, ‘The Ultra-Orthodox Jews and Municipal Authority, Part ii: Budgetary Effects of the Demographic Composition in Jerusalem’ (in Hebrew), Jerusalem Institute for Israel Studies Research Series No. 82, Jerusalem 1999, pp. 15–16.
30 This is according to the statistics of poverty in big cities in Israel. See Asah Shtull-Trauring, ‘Ahead of Jerusalem Day, reports highlight extent of city’s poverty’, Haaretz, 11 May 2010.54
31 Chana Ya’ar, ‘Prof. Mordechai Kedar: “A Ball of Fire”’, Arutz Sheva: Israel National News, 12 January 2012.56
32 Qur’an, Sura 17:1 Bible, Deuteronomy 12:5.
ثمة نوع من الذهان الديني تشير إليه موسوعة علم النفس قد يصاب به من يزور مدينة القدس , ومن بعض أعراض هذا الذهان و الذي يعرف بمتلازمة القدس :الجأر بالأغاني الدينية ، وتقديم الخطب و العظات الأخلاقية والاهتمام الحاد بالنظافة وطقوس الطهارة . وعلى الرغم من تسجيل تصرفات و أفعال مماثلة في المدن المقدسة الأخرى، لا سيما روما ومكة، فالقدس لها قصب السبق (1).فمدينة القدس بحد ذاتها ,ومن وجهة نظر أي منطق حضري طبيعي تبدو أكثر جنونا و تمتد حدودها بعيدا جدا من قلب مراكزها السكانية الأساسية، وتطوق عشرات القرى و التلال الجرداء والبساتين والمساحات الصحراوية ، فضلا عن ضواح حديثة البناء تكاد لا تربطها صلة بالمدينة التاريخية؛ وتمتد هذه الضواحي جنوبا حتى مشارف بيت لحم ,أما من جهة الشمال فتنساح مثل إصبع وسطى طويلة حتى حدود رام الله تقريبا على بعد حوالي 10 كيلومترات من أسوار المدينة القديمة لتشمل مطار قلنديا القديم. وعن هذه الحدود المتسعة بطريقة مرعبة يقول ميرون بنفينيستي وهو نائب سابق لرئيس بلدية المدينة: "هناك من قرر أن يمسح بالزيت المقدس تلك التلال التي لا تربطها علاقة بالمدينة ويطلب منا إحكام قبضتنا عليها بشدة و التعامل مع مساحة خارجة عن السيطرة هي ما تعرف بمنطقة "القدس" ,تقودني قناعتي للشعور بالسخرية عندما يتلفظ أحدهم بكلمة "القدس", فهذه التسمية ليست سوى مصطلح مفرغ كلا من محتواه ,إذا لا يوجد اليوم مفهوم جغرافي يسمى "القدس"، بل أقترح استخدام "جيرمودين" كمصطلح جديد لوصف الإقليم الممتد من أريحا حتى موديعين , "(2). .و لكن إن لم يكن للمشهد المكاني للقدس منطق عمراني واضح يمكن التكهن به ، فأي عقلانية شكلت نموها؟ لقد بدأ كل ذلك "من الحدود البلدية لما بعد عام 1967 ومع المبدأ الشهير الذي يقول أرض أكثر و عرب أقل "(3). على حد قول بنفنيستي . هناك الكثير مما ينبغي قوله حول الفرضية. ولكن علينا البدء من وقت سبق ذلك بقليل .
يبدأ تاريخ المدينة القديمة حوالي 1500 ق.م على الأرجح ، عندما قامت جماعة كنعانية تعرف باسم اليبوسيين ببناء أول التحصينات المسورة هناك ، مستغلين موضع المياه الجوفية في مرتفع يقع وسط الأراضي الخصبة ويطل على السهل الساحلي. وعلى مر القرون التالية هدمت الأسوار عدة مرات و أعيد بناؤها كل مرة , فتعرضت المدينة لغزو اليهود بقيادة الملك داود , نحو 1000 ق.م ثم غزاها البابليون في عام 600 ق.م فالفرس 536 ق.م ثم الإسكندر الأكبر 333 ق.م ,ثم المكابيون 164 ق.م فالرومان 63 ق.م وأتى العرب في عهد (الخليفة) عمر بن الخطاب في العام 637 م. وبعدهم الصليبيون نحو 1099 م. فصلاح الدين 1187 م. ثم العثمانيون 1517 م. بقيادة السلطان سليم (الأول) .و الشيء بالشيء يذكر قام الملك سليمان ,كما يقال, ببناء أول معبد يهودي في المدينة، ليس هذا فحسب فيسوع المسيح صلب هنا و النبي محمد صعد إلى السماء من هنا . وقد بنيت أسوار المدينة الحالية في عهد السلطان سليمان القانوني حوالي ثلاثينيات القرن السادس عشر (1542م؟) الذي يضم داخله ما مساحته نحو كيلومترا مربعا واحدا من الشوارع الضيقة والأزقة. وقد عاش سكان المدينة داخل أسوارها لثلاث قرون تلت أو نحو ذلك ولم يتوسعوا خارج أسوارها سوى في أواخر القرن التاسع عشر.
خضعت المدينة لتغير هائل بعد الغزو البريطانيون لها في كانون أول -ديسمبر 1917، وحلولهم محل العثمانيين كقوة إمبريالية في المنطقة. وأدت الهجرة اليهودية المكثفة إلى زيادة عددهم بنسبة تتراوح بين 10% وتصل إلى 40% من تعداد سكان فلسطين الانتدابية مما تسبب في تدهور العلاقات العربية اليهودية إلى مستوى منخفض جدا. بدأت المدينة تتوسع سريعا خارج الأسوار بعد أن أعلنت عاصمة لفلسطين الانتدابية وشرع العمل ببناء "مدينة جديدة":فبنيت الجامعة العبرية على جبل المشارف (سكوبس) سنة 1925 ،و فندق الملك داود سنة 1929 حيث مقر الإدارة العسكرية والعسكرية البريطانية؛ مجمع المؤسسات الإدارية و المالية سنة 1930 ، الذي ضم مقرات الوكالة اليهودية والصندوق القومي اليهودي والصندوق التأسيسي اليهودي فضلا عن الأحياء السكنية الحديثة مثل حي ريحافيا اليهودي سنة 1923 حيث نشأ بنيامين نتنياهو لاحقا ، وحي الطالبية العربي الفلسطيني 1920 ، الذي هرب منه إدوارد سعيد وأسرته سنة 1947. وبحلول نهاية فترة الانتداب، ارتفع عدد سكان القدس إلى 160،000 (حوالي 100،000 يهودي و60000 فلسطيني ) وهو ما يعادل ثلاث أضعاف ما كانت عليه سنة 1922، وتمتعت المدينة الجديدة ببنية تحتية حديثة شملت المياه والكهرباء والطرق المحسنة. ولكن إذا كانت أهمية القدس الإدارية والسياسية جعلت منها قاطرة البناء الحضري في فلسطين، فقد جلبت أيضا مزيدا من الاضطرابات حيث تشير التقديرات البريطانية الرسمية لعدد يقدر بالآلاف من العرب الذين قتلوا على يد قوات الأمن خلال الثورة الكبرى 1936-1939 .كما قتل 91 شخصا في تفجير جماعة الأرغون لفندق الملك داود في العام 1946 ،عدا عن 12 شخصا قتلوا في تفجير مبنى المقرات اليهودية قام به مسلحون فلسطينيون .
في تشرين الثاني -نوفمبر 1947 صدر قرار الأمم المتحدة الخاص بتقسيم فلسطين حيث منحت الأقلية السكانية اليهودية 60 % من فلسطين-تتضمن المناطق الساحلية – بما ما بات يعرف بـ ("الدولة اليهودية")، كما منح 40 % من البلاد -تتضمن الجليل الغربي، للأكثرية العربية بما يعرف بـ"الدولة العربية" . أما القدس فقد تقرر أن تدار من قبل المجتمع الدولي بما يعرف بالوصاية الدولية Corpus Separatum . لكن مفهوم الوصاية هذا أثبت أنه غير قابل للترجمة إلى العبرية أو العربية. وقدمت اللجنة العليا العربية اعتراضها على فكرة تقسيم فلسطين من أساسها ، أما قيادة الحركة الصهيونية بزعامة بن غوريون كانت ترى في السيطرة على القدس - أو على الأقل جزءا منها - أولوية استراتيجية لها فرفضت بدورها أي شكل من أشكال التدويل(4) . ومن ثم كان لخطة الأمم المتحدة تلك أثرا بالغا في اندلاع حرب 1948، التي أدت إلى قيام دولة إسرائيل وطرد أكثر من 700،000 فلسطيني عربي وبداية النكبة الفلسطينية المستمرة .
سعت القوات الإسرائيلية ,في القدس, إلى "إرساء حقائق على الأرض" فضمت أراض وقرى فلسطينية لخلق تواصل إقليمي بين الأحياء اليهودية المحيطة بالمدينة بغية خلق عاصمة قابلة للحياة ويمكن الدفاع عنها. وشملت المناطق المستهدفة دير ياسين( التي أعيدت تسميتها بـ "جفعات شاؤول"(، حيث عجلت مجزرة نيسان 1948 بفرار الفلسطينيين من المدينة، بالإضافة إلى قرى تقع شمال المدينة مثل قرية لفتا "مي نفتوح" و الأحياء الجنوبية مثل القطمون" غونين" ، الطالبية (قومميوت)، البقعة (غوليم)، والقرى الغربية بما فيها بيت مزمل (كريات يوفيل)، المالحة (منهات)، خربة الحمامة (اليوم موقع متحف الهولوكوست ياد فاشيم ) وعين كارم "عين كاريم".أرسى الاحتلال العسكري الإسرائيلي (للقدس الغربية) مايعرف بالخط الأخضر بين الأراضي الإسرائيلية والأراضي التي يديرها الأردن المنصوص عليها في اتفاق الهدنة في نيسان / أبريل 1949. وكان من المقرر تقسيم القدس بحاجز خرساني وأسلاك شائك يفصل بين القدس الكبرى التي تسيطر عليها إسرائيل (و التي تبلغ مساحته نحو 26 كيلومترا مربعا) والتي تضمنت قرى فلسطينية مثل قلونيا (التي اصبحت موتسا ) والشيخ بدر (وهو الآن موقع الكنيست الإسرائيلية) وبين القدس الأصغر الواقعة تحت السيطرة الأردنية (لا تتعدى مساحتها 6 كم مربع)، و تضم المدينة القديمة بما ذلك الأماكن المقدسة و الحي اليهودي .
وقد شهدت الفترة بين 1948-1967 على جانبي الأسلاك الشائكة تطورا لكلا القسمين غير المتناظرين .فأصبحت القدس الإسرائيلية العاصمة الرسمية للبلاد و تسارعت وتائر التشغيل و الوظائف فيها,وسرعان ما أنشئت فيها رموز الدولة كالبرلمان ومباني الإدارة الحكومية ومقبرة جبل هرتسل الوطنية والمتحف الوطني ومزار الكتاب ومتحف الهولوكوست ياد فاشيم والمكتبة الوطنية وظهرت كتل سكنية أشبه بالصناديق على امتداد سفوح المدينة , وانبثقت أحياء جديدة مثل كريات مناحيم (1956) ونايوت (1960). وأبدت الحكومة الإسرائيلية موافقتها على التمدد الواسع للحدود البلدية للمدينة إلى الغرب والشمال والجنوب، فارتفعت مساحتها إلى 38 كيلومترا مربعا بحلول العام 1963. وفي الوقت نفسه شهدت القدس الأردنية ,بسبب عزلها عن الحي التجاري القديم, تدهورا في مكانتها ومزيدا من الفقر و الفقد السكاني الصافي. و أشرفت القوى الغربية بشكل سافر على عملية ضم "الدولة العربية" للنظام الملكي الهاشمي في الأردن وبذل الملك (الأردني)كل ما في وسعه لتشجيع "الهوية الأردنية" ومحو الوعي الوطني الفلسطيني ، ليس أقلها إقرار مرسوم يقضي باستبدال مصطلح "الفلسطينيين" بمصطلح "العرب" في الكتب المدرسية (5) واختزلت القدس الشرقية إلى مجرد مدينة ثانوية في الأردن ،كما استغلت مواقع الأماكن المقدسة من قبل الملك لأغراض سياسية ، في حين انتقلت السلطة والنمو الاقتصادي إلى مدينة عمان (6). عاش سكان القدس في كلا الجانبين في مواجهة بعضهما البعض بسبب تقسيم المدينة بالأسلاك الشائكة، يرصدون بعضهم من على الأسطح فقط.
التقط الشاعر الإسرائيلي (الراحل) إيهودا أميشاي جيدا هذا التقسيم العمراني في قصيدته العبرية "القدس" فيقول :
تحت شمس الظهيرة وعلى سطح في البلدة القديمة
غسيل منشور
ملاية بيضاء لامرأة هي عدوي
منشفة رجل يمسح العرق عن جبينه ,هو عدوي
طائرة ورقية تعلو سماء الطرف الآخر للمدينة
طفل لايرى من الجدار
نشرنا أعلامنا لتجعلنا نعتقد أننا سعداء
ونشروا أعلامهم لتحعلهم يعتقدون أنهم سعداء
لعب التوسع العسكري في العام 1967 مرة أخرى دورا رئيسيا في إعادة تشكيل المدينة. .وكان القتال قد اندلع هذه المرة إثر هجوم إسرائيلي وقائي على القوات الجوية المصرية في 5 حزيران-يونيو 1967 وذلك بعد فترة طويلة من التوتر بين إسرائيل والدول العربية المجاورة. وانضمت لاحقا انضمام كل من سوريا و الأردن إلى الحرب. وكان للهزيمة السريعة للجيوش العربية واحتلال الجيش الإسرائيلي لمرتفعات الجولان والضفة الغربية وقطاع غزة وصحراء سيناء آثار جيوسياسية وانعكاسات على البلدان المشاركة في الحرب(7) . وعلى الصعيد الإسرائيلي اعتبر هذا النصر دليل على دعم الرب ,واستحضر النصر إحساسا بهيجا بالقوة ترافق مع مشاعر ميسيانية للانتصار "المعجزة" وقوة "البلد" التي تضاعفت أراضيها أربعة أضعاف خلال ستة أيام(8) .وكانت القدس مسرحا مثاليا "لرحلة القوة" هذه .وأصبحت المدينة القديمة "صخرة وجودنا" على حد قول موشيه ديان وزير الدفاع الذي كان قد صرح قبيل الحرب واصفا إياها "من يحتاج هذا الفاتيكان، على أي حال؟" وأمست صور لواء المظليين وهم يبكون عند الجدار الغربي وصوت موردخاي غور قائدهم، يقول بحماس للإذاعة العسكرية " ها قد أصبح جبل الهيكل بأيدينا (Har ha-bayit be-yadenu ) مرادفا للانتصار الإسرائيلي و للحالة الجديدة السائدة للدولة .
اتخذ أول قرار تخطيط عمراني للمدينة في اليوم التالي من احتلالها الكامل حيث قام رئيس بلدية القدس الجديد تيدي كوليك رفقة بن غوريون بجولة في المدينة القديمة واتفق الطرفان على ضرورة هدم حي المغاربة الذي يعود لنحو 800 سنة، لإنشاء ساحة وطنية احتفالية أمام حائط المبكى. وأمر مئات من السكان المسلمين بالخروج من منازلهم التي تم تدميرها. وبين عشية وضحاها أصبحت ساحة الجدار الغربي حقيقة واقعة تقريبا، وقد رمز العلم الإسرائيلي المنزرع في الموقع الذي كانت تنتصب فيه المنازل إلى مثلث الدولة والدين والإهمال الجماعي في إسرائيل ما بعد عام 1967. وفي حين أن مستقبل بقية الأراضي المحتلة كان مازال يثير نقاشا حول ما إذا ينبغي ضمها لإسرائيل أو وجوب بقاؤها تحت الاحتلال العسكري أو الدخول في مفاوضات سلام بشأنها؟ فإن ما يتوجب عمله بخصوص القدس الشرقية لم يكن موضع شك ,فهي يجب أن تكون "موحدة" مع القدس الغربية، على الأقل وفقا للقانون الإسرائيلي، وأن تصبح جزءا لا يتجزأ من دولة إسرائيل. و في 27 حزيران -يونيو 1967 ظهرت خريطة جديدة للقدس قدمتها لجنة عينها ديان تضم في عضويتها ثلاثة جنرالات هم حاييم هيرتسوغ، رحبعام زئيفي، شلومو لاهط.
وبالنظر إلى طبيعة اللجنة ,لم يكن مستغربا أن تكون الحدود التي رسموها مزيج غير عقلاني من المتطلبات العسكرية و رغبة التوسع الإقليمي دون إعطاء أي فكرة تقريبا لخطة عمرانية فكانت النتيجة مدينة جديدة مربكة حيث لم تكن القدس "الموحدة" مجرد مجموع مساحة القدس الغربية (38 كيلومترا مربعا) والقدس الشرقية (6 كيلومترات مربعة)،بل شملت 70 كيلومترا مربعا إضافيا من الأراضي المحتلة المحيطة بالمدينة في الشمال والشرق والجنوب. كان هذا نوع جديد من القدس، ليس فقط فيما يخص حدودها، بل سكانها أيضا. فقد وجدت سكان ثمانية وعشرون قرية فلسطينية أنفسهم تحت سلطة "العاصمة الموحدة للشعب اليهودي" وهي -تلك القرى-التي لم تكن جزء من القدس قط. وبهذا ضاعفت المدينة أراضيها ثلاث مرات تأسيسا على المعادلة الإسرائيلية الاستراتيجية الديموغرافية والعسكرية التي وصفها بنفينيستي آنفا : "أرض أكثر, عرب أقل" كما هو حالات عدة مثل بيت إكسا و بيت ساحور حيث تم ضم البساتين والأراضي الزراعية للفلاحين الفلسطينيين في القدس، في حين استبعد السكان القرويون ومنازلهم منها.
وعلى رغم كل هذه تم استيعاب نحو 70 ألف فلسطيني في المدينة بما يشكل ربع سكانها الجدد. وقد عرضت وزارة الداخلية عليهم خيار الجنسية الإسرائيلية الأمر الذي رفضه معظمهم معتبرين أن هذا سيساعد على شرعنة الضم و الاحتلال . ومن ثم فقد تم منحهم وضع "مقيم"، مما يعني أنهم يستحقون - على الورق على الأقل - الخدمات البلدية, كما يمكنهم أیضا التصویت في الانتخابات البلدیة، إلا أن الفلسطینیین سخروا من هذا "الحق" بشکل عام بوصفه يشرعن تبعیتھم . أدان العالم الخارجي ,بطبيعة الحال, ضم القدس الشرقية و ومحيطها باعتباره انتهاكا للقانون الدولي. حتى حليفة إسرائيل الكبرى وجدت نفسها مضطرة لتسجيل احتجاج على قرار الضم على لسان تشارلز بوست السفير الأمريكي لدى الأمم المتحدة إذ يقول "تعتبر الولايات المتحدة أن الجزء من القدس الذي أصبح تحت سيطرة إسرائيل في حرب 1967، هو أرض محتلة مثله مثل جميع المناطق الأخرى التي تحتلها إسرائيل، و هو بالتالي يخضع لأحكام القانون الدولي الذي يحكم حقوق والتزامات دولة الاحتلال "(9) .حتى أن الولايات المتحدة قد صوتت و بشكل استثنائي لصالح القرار رقم 267 الذي اعتمد بالإجماع في 3 تموز-يوليو 1969 والذي جاء فيه أن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة "يدين بأقوى العبارات جميع التدابير التي اتخذتها إسرائيل لتغيير وضع مدينة القدس". ولكن ,وبصرف النظر عن هذا فقد تغير وضع المدينة, فمضت إسرائيل في العام 1980 نحو تكريس تعبير "القدس الموحدة" في القانون الأساسي للكنيست، تحت عنوان "القدس، عاصمة إسرائيل". ويبدو أن مجلس الأمن وقع فريسة شعور سابق مماثل حين اعتمد القرار 478 الذي "يدين بأقوى العبارات تشريع إسرائيل للقانون الأساسي بشأن القدس ورفض الامتثال لقرارات مجلس الأمن ذات الصلة". وإعلان أن قانون القدس لاغ وباطل، ويجب أن يلغى على الفور، ودعوة جميع الدول التي أقامت بعثات دبلوماسية في القدس إلى سحب هذه البعثات من المدينة المقدسة، والتي تعني عمليا الانتقال إلى تل أبيب. " وبالتالي دخلت "القدس الموحدة "ضمن فئة مختارة من العواصم اعترفت بهذه الصفة فقط من تلقاء نفسها.
انهمك القادة الإسرائيليون في مهمة زرع سكانهم في المناطق التي ألحقت بالمدينة ,دون إعارة أدنى اهتمام للإدانة الدولية التي لا طائل منها وها هو بن غوريون يقول في حزيران / يونيو 1967: "يجب أن نجلب اليهود إلى القدس الشرقية بأي ثمن". علينا أن نوطن عشرات الآلاف من اليهود في وقت قصير.,لا يمكننا انتظار بناء أحياء منظمة. فالمطلوب أساسا هو أن يكون اليهود هنا ".(10) . وكان للاستراتيجية
المتمثلة بهندسة واقع جديد من خلال وضع" حقائق على الأرض " دور ريادي في القدس ،هذه الاستراتيجية التي ارتبطت فيما بعد بمبادرات أريئيل شارون في أجزاء أخرى من الضفة الغربية وقطاع غزة. وبحلول تموز / يوليو 1967، عين رئيس الوزراء العمالي ليفي إشكول لجنة من كبار المسؤولين برئاسة إيهودا تامير، لإيجاد السبل "لإسكان وتطوير القدس الشرقية ". وكان الهدف من ذلك هو التخلص من إشكالية فعل الاحتلال والتوحيد من خلال خلق تواصل بين القدس الغربية والقدس الشرقية الأمر الذي من شأنه أن ينهي الخط الأخضر والحدود بين عامي 1948 و 1967، ويجعل انتهاك القانون الدولي يبدو "طبيعيا" قدر الإمكان. اقترحت الخطة الرئيسية التي قدمتها اللجنة في أيلول / سبتمبر 1967، إنشاء قوس أحياء سكنية على هيئة القفل Shekhunot ha-Bari’ach لتربط الجيب اليهودي الموجود في جبل المشارف (سكوبوس ) بالقدس الغربية عبر طريق جديد ،هو جادة ليفي إشكول الذي سيمر في الأحياء اليهودية فقط. وعلى مدى السنوات القليلة التالية أصبحت سلسلة الأحياء السكنية الجديدة المصممة أساسا للسكان اليهود على الجانب البعيد من الخط الأخضر بمثابة "قفل الأمن" اليهودي على جبل المشارف مثل ؛ رامات أشكول (1968)، جفعات ها-ميفتار (1970)، ها-جيفعاه ها تسارفاتيت [1971]، ومعالوت دافنا (1972).
نجحت غولدا مئير"السيدة الحديدية" الإسرائيلية في خلافة أشكول في العام 1969، وبالتالي انتقلت إليها مسؤولية مشروع "القدس الموحدة" .وتم اقتراح خطة رئيسية جديدة لتطوير أحياء " الحلقة أو الخاتم " Shekhunot ha-Taba’at ، مما شكل منعطفا جديدا غريبا في جدلية الاعتبارات العسكرية والسياسية والتطور العمراني. وبدلا من البناء خارج الأحياء القديمة في قلب القدس، دعت هذه الخطة إلى بناء أحياء سكنية متشابكة لليهود على محيط المدينة البعيد حول حدودها الجديدة.كانت هذه المخططات من طبيعة استراتيجية كما لو أنها سرقت من مكتب مهندس في الجيش الإسرائيلي فقد توضعت المنازل بما يشبه الأبراج على السلاسل الجبلية التي تطل على المدينة وعلى طول الشرايين الحيوية المؤدية إليها, وكانت المنازل الجديدة مكسوة بـ"حجر القدس" الأبيض الانتدابي , وأول تلك الأحياء كان نيفي ياكوف (1970)، الذي تم تأسيسه على أرض صودرت من الرام، في أقصى شمال المدينة،ثم تلتها جيلو (1971) في الجنوب الغربي، على أراض صودرت من بيت جالا، وأعقبها طلبيوت مزراح (1973) في الجنوب الشرقي، على أراض مصادرة من جبل المكبر؛ وراموت ألون (1974) في الشمال الغربي، على أراض صودرت من بيت إكسا، وهي الآن أكبر ضواحي القدس؛ و بسغات زئيف (1982) على الحدود الشمالية الشرقية للمدينة، على أراض من بيت حنينا وحزمة. وكرر هذا المنطق التنموي العمراني , أو بالأحرى غير المنطقي، نفسه في التسعينيات أثناء مفاوضات أوسلو، عندما توسعت "القدس الموحدة" إلى مساحة تصل إلى 125 كيلومترا مربعا بعد ضم المزيد من الأراضي في العام 1993. وقد بنيت فيما بعد عليها حي رامات شلومو (1995) على الحدود الشمالية الشرقية للمدينة وقد أقيمت على الأرض المصادرة من العيسوية؛ وتم الشروع ببناء مستوطنة هار حوما (1997) في أقصى الجنوب الشرقي على جبل أبو غنيم على أراض صودرت من بيت ساحور.وكما يقول إيال وايزمان ,فقد خلقت هذه الضواحي اليهودية في الأراضي المحتلة "حزاما من النسيج المبني الذي يغلف ويقسم الأحياء والقرى الفلسطينية المرفقة بالمدينة"(11)ولم يقتصر دورها كتوابع للقدس فقط مدعية السيادة الإسرائيلية على كل الأراضي الواقعة ما بين هذه الضواحي و المدينة ،ولكنها لعبت دورا أيضا كجسور لمستوطنات "القدس الكبرى" الواقعة خارج حدود البلدية في عمق الأراضي المحتلة, حيث تم ربط مستوطنات مثل معاليه أدوميم في الشرق (التي أعطيت مركز المدينة في عام 1991) وجفعات زئيف في الشمال الغربي (التي أنشئت عام 1983) بأسلوب معماري وطرق تؤدي إلى المستوطنات المجاورة الواقعة في محيط بلدية القدس، والتي كانت ,بدورها, متصلة بمركز المدينة ويصفها وايزمان بـ "شظايا متباينة" من المساكن اليهودية المتجانسة، المنسوجة معا بشبكات الطرق والبنية التحتية. ويشبه مصمم إسرائيلي آخر روابط المستوطنات بمركز المدينة مثل "بالونات مربوطة بسلسلة "(12)
وإذا كان الإسرائيليون، والمقدسيون اليهود الإسرائيليون على وجه الخصوص، يتصورون عاصمتهم كمجال جغرافي قانوني "طبيعي" ومتماسك. فهم كانوا بحاجة إلى ما هو أكثر وضوحا من هذه المبررات المنطقية العسكرية الاستراتيجية الأساسية. وبغض النظر عما قيل ويقال في الخارج عن عدم شرعية توسع القدس، فإنه يمكن وبصورة شرعية بموجب القانون الإسرائيلي ضم الأراضي التي تم التعدي عليها .الأمر الذي ساعد كثيرا , إذ يعيش خارج الخط الأخضر أكثر من 000 200 من أصل 497000 شخصا من سكان القدس اليوم، مما يعني أن كل يهودي تقريبا من سكان العاصمة الإسرائيلية الرسمية هو مستوطن وفقا للقانون الدولي . ويضمن هذا الضم بموجب القانون الإسرائيلي أن هذا العدد لن يدرج أبدا في الإحصاءات الرسمية للمستوطنين اليهود في الضفة الغربية. كما تم نشر المصطلحات لإضفاء الطابع اللامركزي على العملية: فكانت وسائل الإعلام و السجلات الرسمية تشير على الدوام إلى العقارات السكنية التي أقيمت في الأراضي المحتلة كأحياء سكنية و كجزء لا يتجزأ من "القدس الموحدة"، وليس كمستوطنات؛ وهذا ما ساعد على قطع اتصال - على الأقل في العقل الإسرائيلي - الجزء الشرقي من بلدية القدس عن بقية الضفة الغربية المحتلة .فالأمر مسألة دلالات، بالنسبة للبعض. ومسألة واقع سياسي، بالنسبة للبعض الآخر .
بيد أن ما أعطى دورا أبعد في عملية "توحيد" المدينة كان بلا شك هو أسلوب البناء المعماري وهو ما يعني قطيعة واضحة مع النزعة النفعية التي ميزت العقود الأولى من عمر الدولة الإسرائيلية. ففي السنوات الأولى كان السؤال المطروح هو كيفية بناء الحد الأقصى من الوحدات السكنية مع الحد الأدنى من نفقات البنية التحتية. وكان الحل في القدس الغربية (ولكن أيضا في مدن أخرى، بما في ذلك حيفا) منسجما مع النم الدولي السائد آنذاك : كتل مستطيلة تشبه إلى حد ما عربات القطارات منحت المدينة شخصية مملة نوعا ما لجهة الذوق العام ؛ ومربعة لجهة التميز الجغرافي(13) .وعلى النقيض من ذلك، استجاب أسلوب البناء لما بعد عام 1967 لما رأته السلطات الإسرائيلية كمجموعة جديدة من المشاكل المتمثلة في سيادتها غير المسبوقة على البلدة القديمة، بما في ذلك الأماكن المقدسة للمسلمين والمسيحيين و الانتقادات الدولية للمستوطنات اليهودية المبنية على أراض مصادرة من القرى الفلسطينية؛ وصعوبة إقامة سلسلة متواصلة بين الأحياء الغربية والأحياء الشرقية، المبنية على أراض فلسطينية مصادرة حديثا. فكانت حلول جعل "قدسا موحدة" أكثر المدن حداثة عبارة عن سطح "مكسو" وأساليب “تاريخية" زائفة. فأول ما قام به المهندسون المعماريون الذين اختارهم كوليك وفريقه هو الذهاب إلى المدينة القديمة كجزء من عملهم الميداني، لتشرب الأفكار والإلهام. واتفقوا -بوحي من نشوة نصر 1967 العسكري -على أن الأسلوب الاستشراقي الجديد سيكون الأسلوب الأنسب لقدس مؤسرلة ، مما يدل على مدى حساسية الإسرائيليين جماليا للتراث الثقافي للمنطقة، وعلى الكيفية التي يستمزجون بها المشهد المكاني. فقد تبنت تقنيات البناء الحديثة معالم العمارة العربية من عقود وبوابات وقباب المستوحاة من العمارة العربية الاستشراقية وأصبحت جزءا من مشهد "القدس الجديدة". وتطابق هذا الأسلوب بشكل وثيق مع العديد من الأفكار السياسية الرئيسية من قبيل الإصرار الإسرائيلي على "عودة" الشعب اليهودي إلى جذوره الشرقية؛ والحاجة إلى صهر القدس القديمة "والكتابية" بمشاريع الإسكان الجديدة للتقليل من أثر فعل الاحتلال؛ وانسياح النموذج الاستعماري الصهيوني وتوسعه لإحداث التنمية و التحديث في "الشرق اللامتغير". تضمن ,في الواقع، ما يسمى بالعمارة "السياقية" مجموعات لا شكلية من "مبان عاطفية متأثرة بعلاقات(إقليمية) مزعومة" .مجموعة من "الإبداعات الزائفة التاريخية لمحاكاة الشرق والبحر المتوسط"يراد لها أن تجسد "ارتباطا ما مع العصور القديمة والجذور الوطنية" على حد قول المؤرخ المعماري الإسرائيلي زفي إفرات 14.
ثمة عنصر معماري هام آخر ساعد في التمويه على الاحتلال وخلق سلسلة متصلة بين الشرق والغرب، وهو قرار السلطات الإسرائيلية تدعيم تعليمات الانتداب البريطاني بوجوب أن تكون جميع مباني المدينة مصنوعة من " حجر القدس". الأصلي bona fide .وكانت هذه التعليمات تؤكد في ثلاثينيات القرن الماضي على استخدام كتل صلبة من الحجر الجيري في أعمال البناء؛ وقد فرضت سلطات المدينة في القدس الغربية خلال الفترة من 1948 إلى 1967 استخدام طبقة خارجية من الحجر، تغطي البنية الداخلية من الطوب أو الحواجز وتم توسيع نطاق هذه التعليمات بعد العام 1967 لتشمل المناطق المرفقة بالمدينة كافة، مما رفع أسعار المباني الفلسطينية وجعل الكثير منها غير قانوني. ولعب الاستخدام واسع الانتشار للكسوة الحجرية الأرقى في مراكز التسوق والفنادق والكتل الشاهقة دورا حيويا في النضال الاستراتيجي والرمزي لإسرائيل لصبغ ضواحي القدس الجديدة المترامية الأطراف بالهوية "المقدسة" للمدينة المقدسة. لقد كان استخدام حجر القدس إيديولوجيا أكثر منه معماريا فقد أدى استخدامه إلى "تأصيل " المناطق التي لم تكن جزء من القدس من قبل ، كما تمددت عباءة القداسة نحو مستوطنات بعيدة علن مرمى النظر داخل حدود البلدية وخارجها. ويمكن للمدن الاستيطانية مثل معاليه أدوميم أن تشارك في هالة المدينة المقدسة من خلال حجر جيري لا تتعدى أبعاده 6 سم. وهكذا لعبت العمارة دورا أساسيا في التوحيد الزمني والمكاني للمدينة و أضافت بعدا رومنسيا وفنيا للتعزيزات العسكرية والسياسية التي دفعت إلى توسع المدينة، مما أدى إلى خلق استمرارية "طبيعية" بين مختلف العصور: من الكتاب المقدس، مرورا بقدسية المدينة ,وصولا إلى الحقبة الصهيونية وإسرائيل الحديثة. ويشير وايزمان إلى أن استخدام العمارة النيو استشراقية وحجر القدس قدم "الفنتازيا" التي تعتبر ضرورية لتوطيد هوية قومية جديدة وتمدن المدينة الموسعة": لقد وضعت كل ضاحية نائية مبنية حديثا ضمن حدود "عاصمة الشعب الأبدية الموحدة"، وبالتالي، بقدر ما يتعلق بها معظم الإسرائيليين، إن ما يسمى القدس، بالاسم، بالعمارة، وباستخدام الحجر، يقع في قلب الإجماع الإسرائيلي, بعيدا عن طاولة المفاوضات. "(15)
ثمة ما هو مثير للسخرية في ما يتعلق بهذا الحجر الأيقوني الذي أصبح رمزا للمدينة في عيون الإسرائيليين ورمزا "للمبنى اليهودي" في نظر العالم. ومثار السخرية يكمن في أن هذا الحجر أولا ,يستخرج أساسا من محاجر الخليل ونابلس ومناطق أخرى في الضفة الغربية ,وهو معروف محليا باسم "الحجر النابلسي" وجزء كبير من عمل المقالع الشاق يقوم به الفلسطينيون. ثانيا، يعطي استخدامه مثالا على المحاولة الاستعمارية لما بعد 67 لتقليد العمارة الفلسطينية المحلية مع استبعاد الفلسطينيين: وهكذا وعلى مدى الهضاب في شمال و شرق وجنوب" القدس" الملحقة حديثا تناثرت عشرات الآلاف من المنازل المكسوة بهذا الحجر و المطلة على القرى والبلدات الفلسطينية الفقيرة و المتخلفة في "المدينة الموحدة" (16)و هذا هو ,في الواقع ,قلب مشروع "التوحيد" إذ أن الأمر ليس مجرد وضع حقائق معمارية على الأرض، بل ملؤها بالسكان اليهود الإسرائيليين، لما هو أبعد من الخط الأخضر. ومع ذلك، في حين أن إبطال إسرائيل للقانون الدولي يمكنه أن يخبرنا كثيرا عن الدولة اليهودية، وليس أقلها هاجسها بالسلطة، فإن الديموغرافيا والمخاوف مما سيأتي غدا - بالتركيز على تعريفات القانون الدولي لن يكون كافيا وحده لفهم العمليات المعقدة التي تحدث في المدينة. ويمكن أن يرعى الوهم القائل بأن التقسيم لايزال حلا منصفا، الأمر الذي أظنه بعيدا عن الحقيقة. وعلى مستوى أكثر تحديدا فإن ما يمكن أن يحد من تحليلنا لما تقوم به الدولة ودوافع وخبرة الناس أنفسهم يكمن في النظر إلى الخط الأخضر وحده، دون من يعيش على جانبيه ،.
حاربت السلطات الإسرائيلية بلا هوادة من أجل زيادة عدد اليهود وتقليل عدد الفلسطينيين في القدس بغية إحباط محاولات الطعن في سيادتها هناك, ورغم هذه السياسات ارتفعت نسبة الفلسطينيين في المدينة من 25 % سنة 1967 إلى 36 % في العام 2012. ووفقا للتوقعات سيكون في "القدس الموحدة" 40 % من سكانها فلسطينيين بحلول عام 2020؛ و إذا لم تجد إسرائيل سبيلا لتغيير هذه النسبة فسوف يشكل الفلسطينيون المقدسيون أغلبية السكان بحلول سنة 2030. إن خمسين لونا من ألوان التمييز التي انتشرت ضد سكان القدس الفلسطينيين في عهود رؤساء البلدية والحكومة المتعاقبين، وإن كانت تختلف اختلافا جذريا في بعض النواحي، إلا أنها تتحد في هدف مشترك وهو العمل ضد المصلحة القومية الفلسطينية داخل المدينة(17) .وهذا ما كانت تصرح به السلطات الإسرائيلية بوضوح. و كما حذر أمير تشيشين وأفي ميلاميد، وهما مستشاران سابقان للشؤون العربية لرؤساء البلديات في القدس في ثمانينيات وتسعينات القرن الماضي:"لا تصدقوا البروباغاندة. . . الصورة الوردية التي تحاول إسرائيل أن تظهرها للعالم عن الحياة في القدس منذ إعادة توحيدها في العام 1967. لقد تعاملت إسرائيل بشكل رهيب مع فلسطينيي القدس وكمسألة سياسية، أجبرت الكثيرين منهم على ترك منازلهم وجردتهم من أرضهم، وكانت طوال الوقت تكذب عليهم وتخدعهم و تخدع العالم حول نواياها الشريفة18).إن "المنطق" وراء هذه الاستراتيجية منصوص عليه في الخطة الرئيسية للقدس 2000 تحت عنوان "التوازن الديمغرافي" "وفقا لقرارات الحكومة"..." تحتاج المدينة إلى الحفاظ على نسبة 70 % من اليهود و 30 % تبعا للهدف الذي قدمته البلدية واعتمدته الحكومة, ومع ذلك فقد أدت الأنماط الديموغرافية في المدينة منذ عام 1967 إلى ابتعاد القدس عن هذا الهدف. ومنذ التسعينات لم يعد هناك نسبة 70:30 وما زالت هذه النسبة تنتهك"(19).وتمضي الخطة الرئيسية في جعل "التنبؤات الصارمة " حول نسبة نمو للفلسطينيين - الذين يفترض أن يكونوا مقيمين بحقوق متساوية - في "المدينة الموحدة" والحاجة إلى اتخاذ "تدابير بعيدة المدى" من أجل منع عملية نمو النسبة هذه . إن استراتيجية "نسبة" القدس لها آثار عملية جدا على السكان الفلسطينيين، على صعيد كل من "المسألة السياسية" كما يرى تشيشين وميلاميد، وعلى صعيد الإهمال المتعمد. ويقدم العمدة الأسطوري للقدس (1965-1993)العمالي تيدي كوليك ، مثالا واضحا على المواقف العلنية و المضمرة تجاه فلسطيني القدس حيث شملت خطته للعام 1968 مشاريع بناء ضخمة في الجزء الشرقي من المدينة، "لضمان توحيد القدس بطريقة تحول دون إمكانية إعادة تقسيمها" (20) . هذا هو كوليك الذي يقال عنه , رسميا، في إسرائيل بأنه" المدافع الشرس عن التسامح الديني "، والذي" بذل العديد من المحاولات للوصول إلى ناخبيه العرب " عندما عمل على " تحسين أنظمة المياه والصرف الصحي في الأحياء العربية في القدس "21) .ولكن، و باعتراف كوليك نفسه لصحيفة معاريف الإسرائيلية في العام 1990 ، وبعد 25 عاما في منصبه:"قلنا أشياء لم نكن نعنيها ، ولم ننفذها. قلنا مرارا وتكرارا أننا سنساوي العرب في الحقوق مع حقوق اليهود. [وكان هذا] كلام فارغ . لم نمنحهم قط شعورا بالتساوي أمام القانون. كانوا ولا يزالوا مواطنين من الدرجة الثانية والثالثة. نعم لقد فعلت أشياء للقدس اليهودية على مدار السنوات الـ 25 الماضية. أما القدس الشرقية؟ فلا شيء ! ماذا فعلت؟ لا شيء. الأرصفة؟ لا شيء! المؤسسات الثقافية؟ ولا واحدة ..ولكن نعم قمنا بإصلاح نظام الصرف الصحي لهم وتحسين إمدادات المياه. ولكن هل تعرف لماذا؟ هل تعتقد أنها كانت لصالحهم، ولرفاههم؟ انس ذلك! كانت هناك بعض حالات الكوليرا، لذلك قمنا بإصلاح شبكة الصرف الصحي والمياه لوقاية الكوليرا لخشية السكان اليهود من انتقال العدوى لهم ."(22)
هزم تيدي كوليك فى انتخابات 1993 . هزمه إيهود أولمرت من الليكود بتحالف مع الأحزاب الارثوذكسية المتطرفة الذي يدل على تحول كبير في السلطة، لأن أولمرت كان يعتمد اعتمادا كبيرا على المجتمع الحريدي، الذي يقبل نسية 90 % منهم على التصويت ممن يحق لهم ذلك مقارنة بنسبة 50% من الجانب العلماني ,وقد أعطى ذلك للأرثوذكسيين دورا أكثر رحابة على صعيد القرارات المتعلقة بالميزانيات والبنية التحتية والإسكان في المدينة، وقدموا ما في وسعهم لتأمين احتياجات السكان والناخبين . وعلى الرغم من ذلك ، واصل أولمرت طوال عشر سنوات تلت كرئيس لبلدية القدس سياسات كوليك في الحديث عن الحاجة إلى تحقيق المساواة في توفير الخدمات والبنية التحتية بين الأحياء اليهودية والعربية الفلسطينية في حين فشل في القيام بأي شيء مفيد(23). وكان هناك الكثير من الأسباب وراء هذه الأولويات المتأصلة، والسياسات المالية المتوترة ، ونسبة 70:30 التي اتخذها كل من حزب العمل والليكود كهدف، واعتبارات سياسية عملية بشأن مكان إنفاق الهبات، لأن "المقدسيين العرب لن يصوتوا لي بأي حال".ومع ذلك، كان الاعتبار الرئيسي دائما هو التأكد على أن السيادة المهيمنة في القدس الشرقية ستبقى لإسرائيل، وخاصة بعد اتفاقات أوسلو، لإضعاف موقف السلطة الفلسطينية هناك. وهكذا قامت الشرطة الإسرائيلية في العام 2001 بإغلاق بيت الشرق التاريخي، وهو مقر منظمة التحرير في القدس منذ التسعينيات ، كما أغلقت المراكز الثقافية الفلسطينية. علاوة على تزايد عمليات هدم المنازل الفلسطينية خلال هذه الفترة، بذريعة أنها بنيت "بدون تصريح" (24) .ولم يطرأ أي تغيير يذكر على السياسة الإسرائيلية في القدس في عهد خليفة أولمرت، أوري لوبوليانسكي، أول عمدة أرثوذكسي متطرف للمدينة ( 2003-2008 (، وعندما سألته القناة العاشرة لماذا لم لا تتوفر في البيوت العربية في القدس إمدادات المياه، نفى لوبوليانسكي ذلك أولا ثم أعلن: "إن الأمر يتعلق بالذهنية فالعرب لا يفضلون ، بحكم طبيعتهم، أنابيب المياه في بيوتهم ". وخلال فترة وجوده على رأس بلدة القدس ، بدأت الحكومة الإسرائيلية ببناء الجدار الفاصل حول وخلال " المدينة الموحدة "، تاركة الأحياء الفلسطينية مثل كفر عقب ومخيم شعفاط للاجئين داخل الحدود البلدية، ولكن تم عزلهم بالجدار عن المدينة، في حين كان الأثر الرئيسي للجدار هو عزل القدس عن بقية الضفة الغربية
غير أنه كان لهذه السياسات نتيجة غير مقصودة تمثلت في اقتناع المزيد من المقدسيين الفلسطينيين بالبقاء في المدينة، وجذب أولئك الذين غادروها إلى أجزاء أخرى من الضفة الغربية، بعد أن أدركوا أن إسرائيل تحاول إلغاء إقامتهم في مدينتهم . وكان النمو المطرد في نسبة الفلسطينيين في المدينة أحد نتائج عودة هؤلاء ,فعلى سبيل المثال، قدر بلدية القدس عدد طلاب المدارس الفلسطينية في العام 2012 بـ 88845 طالبا، أي 38 % من طلاب المدارس في المدينة كافة. ومع ذلك، فإن هذا الرقم مازال بعيد عن تمثيل الوضع الحقيقي على الأرض حيث تشير الأرقام الخاصة بالبلدية إلى أن هناك 106534 طفلا فلسطينيا مقدسيا تتراوح أعمارهم بين 6-18 عاما، أي حوالي 44 % من أطفال المدينة (و الذين يفترض أنهم يذهبون جميعا إلى المدارس). و تشير الأرقام إلى أن مجلس مدينة القدس لايتلاعب بالأعداد فقط بل أنه يغض النظر عن قلة الحضور المدرسي ، وهو ما يدل على حقيقة أن البلدية لم توفر مدارس كافية لهذه الفئة العمرية من سكان المدينة (25). ناهيك عن عدم التكافؤ الصارخ على المستوى الاجتماعي والاقتصادي فمتوسط الأجر في القدس الغربية يبلغ 54 دولارا في اليوم؛ وينخفض في القدس الشرقية إلى 27 دولارا. ويقدر أن 78 % من الفلسطينيين المقدسيين الذين يقطنون في القدس الشرقية يعيشون في فقر، وأن 84 % من الأطفال الفلسطينيين يعيشون تحت خط الفقر (26)
اتخذ رئيس بلدية القدس الحالي، المليونير اليميني العلماني نير بركات، المنتخب منذ العام 2008، نهجا مختلفا قليلا, وهو , مثل من سلفه كان مدفوعا أيضا بالرغبة في تعزيز السيادة الإسرائيلية على جميع أنحاء المدينة؛ لكن استراتيجيته تشير إلى أن استمرار التمييز ضد الفلسطينيين والظلم الواضح بين المناطق المختلفة كان يلعب ضد المصالح الصهيونية، لأنه استمرار التمييز هذا عزز الإحساس بوجود مدينتين مختلفتين داخل "القدس الموحدة"، وبالتالي يجعل التقسيم السياسي المستقبلي لها يبدو أكثر سهولة. ولذلك كانت سياسات بركات أكثر تطورا. وقد أعطى حقيبة القدس الشرقية لمنافسيه المعارضين، حزب ميريتس اليساري. و بدأ مشروعا لتسمية الشوارع في القدس الشرقية، التي سبق أن أهملها مجلس المدينة. وكان من بينها تدشين شارع أم كلثوم في بيت حنينا، حيث كان بمقدور بركات أن يشير للفلسطينيين بكل وقاحة بأن البلدية الإسرائيلية اليهودية يمكن أن "تحتويهم" وتحتوي ثقافتهم، المتثملة (هنا) بالمغنية المصرية العظيمة . وفي احتفال آخر، أعلن عن إطلاق مشروع بقيمة 42 مليون شيكل لتحسين "شارع المنطقة الصناعية " في وادي الجوز يشمل أنابيب صرف صحي جديدة والإضاءة، والأرصفة، والأشجار، والدوارات و يقول بركات "هذا مجرد مثال واحد على المشروع الشامل لتضييق الفجوات بين الجانب الشرقي من المدينة [والغربي]. نحن نشارك في جميع الجبهات، بما في ذلك النقل والتعليم والبنية التحتية، ويمكنك الآن أن تبدأ في رؤية النتائج. " كما قال لصحيفة تايمز أوف إسرائيل" فقد أضرت سنوات من الإهمال وحدة المدينة في أعين العالم. عندما ندعي أن المدينة موحدة ولكننا لا نبرهن على أننا نعرف كيفية التعامل مع جميع السكان، فإن هذا يضر بنا. . . [نحن بحاجة] للعمل الجاد والتأكد من أننا نتعامل مع جميع السكان لذلك نحن في الواقع نوحد المدينة بقوة أكبر(27)
وشرح بركات أن مثل هذا قد يمنع انتفاضة فلسطينية في سياق الغضب العارم بسبب جدار الفصل: "ينبغي لاستراتيجية ما أن تركز على تحسين نوعية الحياة لسكان القدس [الفلسطينيين] و شعورهم حيال المدينة، وأن يكونوا متأكدين أن لديهم الكثير ليخسروه. وطالما واصلنا في هذا الاتجاه، فإن الأساس المنطقي لأي نوع من العنف بين سكان القدس سينخفض ". وفي الوقت نفسه، شملت سياسة بركات" لتهويد "القدس العربية زيادة في عدد مشاريع الاستيطان اليهودي داخل الأحياء الفلسطينية ، بما يعزز قبضة إسرائيل ويجعل تحديد مكان "القدس العربية" و "القدس اليهودية" أمرا مستحيلا، وبالتالي استبعاد إمكانية التقسيم السياسي. وتشمل خططه قرية طلابية يهودية إسرائيلية دعيت Sha’ar Ha-Mizrah " بوابة الشرق"، في قرية عناتا الفلسطينية؛ و مستوطنة من 200 وحدة سكنية ، هي كيدمات تسيون، بين أبو ديس وجبل المكبر، بتمويل من المليونير من ولاية فلوريدا إيرفينغ موسكوفيتز؛ ومستوطنتان اسماهما مرتفعات الزيتون و مرتفعات ديفيد بتمويل من موسكوفيتز أيضا ، تطلان على قرية رأس العامود، وعقارات سيمون في حي الشيخ جراح، في تحالف مع مجموعة نحلات شيمون الدولية التي تتخذ من الولايات المتحدة مقرا لها. كما قدم بركات الدعم الكامل للمشاريع الأثرية المريبة و المعروفة باسم إلعاد Elad التي تقوم بحفريات واسعة النطاق في قلب بلدة سلوان الفلسطينية بحثا عن بقايا مدينة داود الأسطورية. ويجب النظر إلى هذه التدابير كجزء وحزمة من جهوده الرامية إلى "تحسين" الجوار الفلسطيني.
وما يجدر بنا ملاحظته هو الانقسام الواقع ضمن السكان اليهود الإسرائيليين والذي يعد الأكثر دراماتيكية خلال العقود القليلة الماضية.ويمكن للتغيير الديموغرافي أن يتضح مرة أخرى بشكل أفضل من خلال التعليم حيث يقسم نظام المدارس اليهودية إلى ثلاثة أنساق (أ) "مدارس عامة"، أي العلمانية, (ب)"مدارس قومية-دينية",(ج)"مدارس حريدية". ومنذ العام 1998، تجاوز عدد الطلاب الحريديين في القدس الفئتين الأخرتين ؛ ومنذ ذلك الحين، استمرت الفجوة في الاتساع. وما بين عامي 2006 و 2011، نقص عدد الطلاب في المدارس العامة من 32،400 إلى 30،200، أي بانخفاض قدره 7 %؛في حين ازدادت معدلات أعداد طلاب المدارس القومية - الدينية بنسبة 3 %، وبعدد إجمالي يتراوح بين 700 25 إلى 500 26؛ ولكن طلاب مدارس التيار الحريدي ارتفع بنسبة 10 % وبعدد إجمالي من 85 900 إلى 94200. كما شكل الحريديون نسبة 63% من تلاميذ المدارس اليهودية الإسرائيلية في القدس. في العام 2013. ومنذ الثمانينيات ابتدأت معدلات تناقص العلمانيين -أو زيادة معدل المتدينين إن شئت , وبدأت تظهر هذه النسب في إحصاءات القدس منذ التسعينات وكما يعلق المؤرخ دافيد كرويانكر : لقد كانت قصة ديموغرافية بسيطة جدا, "لم تكن هناك مجموعة من حكاء صهيون الأرثوذكس يتحلقون حول طاولة و يخططون للاستيلاء على القدس. .فلم تكن زياد ة أعداد الأرثوذكسيين في المدينة سوى نتيجة لحقيقة أنهم يتكاثرون بعشرة أضعاف تكاثر العلمانيين "(28) .وقد اتخذت العديد من الأحياء اليهودية في القدس طابع مختلف تماما حاليا . أما "الأحياء المفصلية" التي أقيمت على الأراضي المحتلة إلى الشرق من الخط الأخضر بعد حرب 1967، فقد كانت تتكون في البداية من خليط من السكان العلمانيين والدينيين-القوميين. ولكن الأمور بدأت بالتغيير منذ الثمانينيات، وبدأت الأحياء الأرثوذكسية الواقعة إلى الغرب من الخط الأخضر، مثل شموئيل ها-نافي و سانهدريا، تعاني من الاكتظاظ الشديد؛ وبدأ عدد متزايد من الحريديم بالتحرك شرقا، وشراء شقق في الأحياء المفصلية وخلق "جيوب" أرثوذكسية متطرفة هناك. و بدأت في رامات أشكول عملية "تحريد" في أواخر الثمانينيات وتكثفت في التسعينات، تلاها نمط مماثل في جفعات ها-ميفتار القريبة و معالوت دافنا. وحدثت نفس العملية في رامات شلومو، مما أدى إلى خلق تواصل بين الأحياء الأرثوذكسية المتطرفة في شمال شرق القدس. وأدى نجاح المرشحين الحريديين في انتخابات مجلس المدينة سنة 1993، إلى زيادة الاستثمار البلدي للجالية الحريدية .وبلغ متوسط دخل الأسرة الحريدية المقدسية في العام 1995 نصف دخل الأسرة العلمانية ، أي 3700 شيكل، مقابل 7100 ، وهو ما يعني في المقابل اعتمادهم على الدعم الحكومي والتأمين القومي(29).وفي تطور آخر أجبر ارتفاع أسعار المنازل في القدس واكتظاظ الأحياء الأرثوذكسية الحديثة البعض على مغادرة المدينة بحثا عن مساكن أرخص، "أمنتها" لهم الحكومة في موديعين عيليت وبيتار عيليت، وهما مدينتان استيطانيتان حريديتان في الضفة الغربية.
تصاحب كل هذا مع السفر المتزايد لسكان المدينة العلمانيين في الغالب، بحثا عن ما يعتبرونه موائل أكثر ليبرالية أو سلمية أو أماكن عيش واعدة .وشهدت المدينة منذ التسعينات هجرة صافية مترافقة مع ارتفاع عدد السكان بسبب ارتفاع معدل المواليد عند الحريديم والفلسطينيين . وفي الوقت نفسه، كانت المدينة تنمو بدرجة أكثر فقرا: فبلغ متوسط دخل الفرد فيها 3300 شيكل، وهو بالضبط نصف ما عليه الدخل في تل أبيب . وفي عام 2010، منحت القدس لقبا مريبا بوصفها أفقر مدينة في إسرائيل(30). وقد بدأت هذه الاتجاهات تثير قلق واضعي السياسات الإسرائيليين. وتحاول هيئة تنمية القدس وهي وكالة مشتركة بين الحكومة الإسرائيلية ومجلس المدينة، منذ العام 1998 العمل في مشاريع لجذب رواد الأعمال والطلاب والعاملين في مجال التكنولوجيا العالية للقدوم للعيش والاستثمار في المدينة. من بين هذه المشاريع مشروع بيوجيروزاليم و أكاديمي سيتي ,وهو مشروع يهدف إلى "جذب" شركات التقانة الحيوية والطلاب إلى المدينة. وإذاء كانوا "علمانيين" و "صهيونيا" و "يعملون" و "أثرياء"، سيكون ذلك أفضل. كما ارتبطت الهيئة بمشاريع أكثر إثارة للجدل، مثل محاولة مركز سيمون فيزنتال بناء "متحف للتسامح وكرامة الإنسان" على أراضي المقبرة الإسلامية في مأمن الله في القدس الغربية. فضلا عن اقتراح آخر لتوسيع حدود المدينة غربا : فبدلا من جلب يهود إسرائيليين جدد إلى المدينة، وهي عملية هامة تماما، فإنه يمكن للقدس أن تبتلع القرى"القوية" على حدودها و تعني "القوية" في السياق الإسرائيلي "القومي "، "الصهيوني"، "العمل"، مثل بيت-نكوفا، وحتى سابير، وبيت زيت. وهذا ليس سوى مرحلة أخرى في الكفاح الإسرائيلي الدائم لإبقاء القدس "موحدة"، "يهودية"، وعلى ما يبدو، منذ عام 1998، "جذابة".
قصة شخصية
ولدت في العام 1978 في القدس لكني أعيش الآن في تل أبيب. وقد تركت شقيقتاي المدينة أيضا، والأمر ذاته فعله الغالبية العظمى من أصدقا ء دراستنا ، في اختيارهم العيش في منطقة تل أبيب، أو في ما بين المدينتين , في موديعين على سبيل المثال. وتتمثل الخطوة الثانية لأي شاب عندما يقرر مغادرة منزل والديه هو أن يقرر والداه أن يتبعاه حيث يقطن ، لاسيما عندما يبدأ الأحفاد بالإعلان عن ظهورهم على مسرح الحياة . ما سأرويه هو قصة شخصية , ولكنها ليست بالضرورة تمثيلية للعديد من اليهود المقدسيين "العلمانيين" على مدى العقد الماضي أو نحو ذلك. وبالعودة إلى نطاق العائلة , يمكن للمرء أن ينظر في الأنماط السكنية المتغيرة في المبنى الذي كانت فيه شقة والدي على أنها "عمارة يعقوبيان" إسرائيلية. فعلى مدى السنوات الثلاثين الماضية عاش والداي في الطابق الثالث من مبنى مؤلف من ثمانية طوابق في جفعات أورانيم، أحد أحياء القدس الغربية. وتنعكس التغيرات الاجتماعية التي حدثت في المدينة خلال هذه الفترة بوضوح في هوية السكان. وعلى حد علمي , لم يبق أي من أبناء فئتي العمرية الذين نشأوا هناك في القدس. وعلاوة على ذلك، تم استبدال كل أسرة علمانية تركت المبنى بعائلة دينية أو أرثوذكسية متطرفة من تلك العائلات التي انتقلت للقدس . ويتضح هذا التغيير بقوة في الشوارع. ففي مساء الجمعة، على سبيل المثال، لو ذهبت لإحضار جدتي من منطقة ريحافيا القريبة، يينبغي علي القيادة بعناية فائقة لأن العديد من اليهود الأرثوذكس المتطرفين يشقون طريقهم باتجاه الكنس القديمة والجديدة التي تقع في المنطقة وقد تحولت الآن مدرستي الابتدائية القديمة لوريا إلى كنيس أيام السبت والأيام الأخرى شديدة القدسية لتلبي احتياجات السكان المتزايدة. وعلى مسافة قصيرة حول المنطقة يوم كيبور، يتسنى لي سماع أصوات الصلاة القادمة من العديد من المدارس الابتدائية الأخرى. لا أقصد هنا إطلاق الأحكام جزافا ,بل هي مجرد محاولة لشخصنة التغييرات التي اجتاحت القدس في العقود الثلاثة الماضية.
إن تصوري للتقسيم بين "الغرب" و "الشرق" ,وبوصفي طفل نشأ في القدس في الثمانينيات إنما كان يقتصر على التباين بين الحي الذي سكنته حيث درست ولعبت، والبلدة القديمة و ذلك الشرق الملون حيث كنا نتجول عبر الأزقة المزدحمة في نزهات يوم السبت العائلية .و داخل الجدران الضخمة، والتي كنت على الدوام أربطها بالملك سليمان .كان خيالي حبيس صورة الشيخ و الرابي و القسيس وهم يسيروا جنبا إلى جنب، في حين تختلط رائحة البخور مع طعم عصير اللوز وصراخ أصحاب المحلات العرب... ذكريات تبدو اليوم كأنها لوحة البازار المغربي لإدوين لورد ويكس. و أذكر إني شاركت في رحلة مدرسية إلى قلعة ديفيد التي كان شعارها " متحف برج داود حيث تبدأ أورشليم" ,كنا وقتها نبحث ونحن بأعمار 12 و 13 عاما عن المكان الدقيق الذي كان قد لمح فيه الملك داود بتشبع وهي تستحم على السطح. ولم أكن قد تجرأت بعد على قبول أن رموز "العاصمة اليهودية الأبدية" التي يحتفل بها لها قصص أخرى: فعلى الرغم من التجانس اللفظي لأسميهما ، فإن جدران المدينة العظيمة لم يبنها سليمان الحبيب ولكن بناها سليمان آخر أتى بعده بنحو 2500 سنة، السلطان العثماني المسلم سليمان القانوني. وأن قلعة داود أخذت اسمها من صليبيي القرن الحادي عشر ؛ وأن برج داود "حيث تبدأ أورشليم" كان في الواقع مسجد بمئذنة أسطوانية يعود تاريخه إلى القرن التاسع عشر بني بعد ما يقارب من ثلاثة آلاف من السنين من قيام الملك باختلاس النظر نحو السطح حيث كانت تستحم بتشبع .لقد أدركت أن البلدة القديمة لم تكن مرادفة للقدس الشرقية، بل جزء صغير منها، وأن العديد من المقدسيين-" يروشالميم في العبرية" - كانوا فلسطينيين. . ثم علمت لاحقا أنهم يعيشون في أماكن لم أسمع عنها ولا زارتها، مثل أم طوبا وكفر عقب والولجة. لقد اكتشفت أن ثمة مخيما للاجئين داخل بلدية "مدينتي"...قد يكون تشكل في عقل صبي صغير مثلي, تلك الصور و الإنكارات التي تمثلها ، لكنها بلا شك توحي بعمليات أكبر بكثير من مجرد الرفض والمحو. بل إن حقيقة أن هذه كانت ممارسة مكثفة ممارسة لكل من المحو و الرفض على نحو مكثف حتى يمكن اعتبارهما ظاهرة موحدة في مدينة التوترات هذه, فالسجالات بين اليهود و المسلمين ,الإسرائيليين و الفلسطينيين هي ألعاب بمحصلة صفرية، معارك على هيئة مناظرات يتم فيها تجنيد الأسلحة كافة :الدينية والأثرية والقانونية والسياسية ..كل ذلك لإثبات أن هذه المدينة لا تنتمي للآخر. و في الوقت الذي سيباع للسياح الأمريكيين حفريات إلعاد البيزنطية على أنها من مواقع توراتية ، فإن زوار المتحف الإسلامي في الحرم الشريف لن يجدوا أي إشارة إلى وجود يهودي تاريخي. لقد حقق موردخاي كيدار ، المحاضر في جامعة بار إيلان، ثروة سياسية لنفسه-على الأقل بين الإسرائيليين اليمينيين- عندما ظهر على قناة "الجزيرة" يقول إنه " لا يمكن العثور على القدس في أي مكان في القرآن " (31) . مثل هذا القول يمكن أن يكون له نتائج عكسية ، ليس فقط لأنه يدل على فهم ضيق لصيرورة التقديس ، ولكن لأنه يمكن أن استخدامه من أي من الطرفين بصورة جيدة و بطريقة متكافئة. وإذا ما قرر المرء أن يلعب اللعبة ويتحقق من الكتب المقدسة، فسوف يجد أن لا ذكر للقدس في القرآن حيث التلميح الوحيد هو كلمة "الأقصى". ولكن أيضا لا ذكر ليروشالايم في اسفار موسى :اسفار التوراة الخمسة الكتابية" والتلميح الوحيد هو ما ينص على القول "المكان الذي يختاره الرب إلهك"(32) .ويعتقد السامريون أن الدليل الوحيد على المكان الذي اختاره الرب كموقع للمعبد المقدس هو "قرب كتف نابلس" الذي يعتبروه جبل جيريزيم حيث يعيشون. فهل كنا نصلي في الاتجاه الخاطئ طوال هذه السنوات؟
تتواصل الاضطرابات الدينية والاجتماعية والسياسية بالهيجان , ولو تحت السطح. ويبدو أنه من المستحيل أن تكون القدس قادرة على احتواء كل تناقضاتها. ومع تزايد عدد الفلسطينيين وتكاثر الأساطير من كلا الجانبين تمضي المدينة نحو المجهول بسبب واقع سياسي عبثي خلقه إصرار إسرائيل على امتلاك كل القدس، وعدم تقاسم السيادة عليها مع أحد. ولعل المثال على ذلك هو الاحتفالات الرسمية بيوم القدس، وهو يوم عطلة قومية إسرائيلية مكرس للاحتفال بتوحيد المدينة الذي حصل سنة 1967، حيث تجد الغالبية العظمى من أولئك الذين يرقصون حاملين أعلاما إسرائيلية تحت أسوار المدينة القديمة من اليهود المتدينين الذين يمثلون "الروح الجديدة" للقدس ,فضاء صهيوني عمراني مسياني غير اندماجي. في هذا الاحتفال وفي هذا المكان لا يكاد يوجد حريدي ونادرا ما يتواجد يهودي "علماني" ، ناهيك عن العرب الذين يشكلون أكثر من ثلث سكان المدينة المحتفل "بتوحيدها "، تبدو المدينة في احتفالها مجزأة أكثر من أي وقت مضى.....وإذن من المنطقي الاعتقاد بأن القدس لن تكون متحدة حقا إلا إذا كانت سيادتها مشتركة بين شعبيها. وخيار "الدولتين" المتمثل في التقسيم -تقسيمها من الوسط ليخلق غربا يهوديا "نقيا" وشرقا فلسطينيا "نقيا" - لم يعد, من وجهة نظري, قابلا للتطبيق عمليا، سواء لمسألة القدس أو لقضية الصراع الإسرائيلي الفلسطيني عموما: لقد جعلت مقولة "الحقائق على أرض الواقع" في ما يتعلق بالمستوطنات الإسرائيلية والنمو السكاني الفلسطيني التقسيم الجغرافي "النقي" على أي أساس منصف مستحيلا. ولا يزال الخيار الآخر هو: عيش مشترك يمارسه الإسرائيليون والفلسطينيون على حد سواء، مع تكليف بتطوير المدينة لتلبية الاحتياجات القومية والاجتماعية والسياسية لكلا الشعبين. ثم قد تكون القدس فرصة للشفاء من المتلازمة النفسية التي تحمل اسمها.
................................
العنوان الأصلي: NEW JERUSALEM
الكاتب :yonatan mendel
نشر في مجلة :New Left Review , العدد 81 , أيار-حزيران 2013
ترجمة:محمود الصباغ
..............................
ملاحظات
1-See for example Mark Popovsky, ‘Jerusalem Syndrome’, in David Leeming, Kathryn Madden and Marlan Stanton, eds, Encyclopedia of Psychology and Religion, vol. 2, New York 2009
2-Nir Hasson, ‘Meron Benvenisti, Why Does Jerusalem Not Exist Anymore?’ (in Hebrew), Haaretz, 29 May 2011.
3-Haaretz, 29 May 2011.
4-Avi Shlaim, The Iron Wall: Israel and the Arab World, London 2000, p. 36.38
5-See, for example, Riad M. Nasser, Palestinian Identity in Jordan and Israel: The Necessary ‘Other’ in the Making of a Nation, New York 2004, pp. 68–70.
6-Roger Friedland and Richard D. Hecht, To Rule Jerusalem, Berkeley 2000, pp. 248–49.mendel: Jerusalem 39
7-See, for example, Tom Segev, 1967: Israel, the War, and the Year that Transformed the Middle East, New York 2007.
8-Baruch Kimmerling, The Invention and Decline of Israeliness: State, Society and the Military, Berkeley 2001, p. 109.40
9-Baruch Kimmerling, The Invention and Decline of Israeliness: State, Society and the Military, Berkeley 2001, p. 109.40
10-Uzi Benziman, A City without a Wall, Jerusalem 1973, p. 2.42
11-Eyal Weizman, Hollow Land: Israel’s Architecture of Occupation, London and New York 2007, p. 25.
12-Quoted in Moshe Amirav, Jerusalem Syndrome: The Palestinian–Israeli Battle for the Holy City, Eastbourne 2009, p. 72.44
13-David Kroyanker, Jerusalem: Neighbourhoods and Houses, Periods and Style, Jerusalem 1996, p. 190 (in Hebrew). Kroyanker, an Israeli architectural historian, sees the buildings in Stern Street (Kiryat Yovel neighbourhood) and Ha-Nurit Street (Ir Ganim neighbourhood) as the ultimate examples of this style: 8- and 9-storey buildings with no elevator, due to the austerity of the times.mendel: Jerusalem 45
14-Zvi Efrat’s text in his exhibition, ‘The Israeli Project’, held in Tel Aviv in October 2000, quoted in Weizman, Hollow Land, p. 47.46
15-Weizman, Hollow Land, p. 47.
16-Haim Yacobi, ‘The Third Place: Architecture, Nationalism and the Postcolonial Gaze’, Theory and Criticism 30, 2007, pp. 63–88 (in Hebrew).mendel: Jerusalem 47
17 According to the Israeli Information Centre for Human Rights in the Occupied Territories, B’Tselem, Israeli policy towards the Palestinians in Jerusalem cannot be described in any other way than discriminatory see their extensive reports on the subject at: http://www.btselem.org/english/jerusalem
18 Amir Cheshin, Bil Hutman and Avi Melamed, Separate and Unequal: The Inside Story of Israeli Rule in East Jerusalem, p. 251.
19 Jerusalem 2000 Master Plan, published August 2004, Chapter 7, ‘Population and Society’ (in Hebrew).48
20 Jerusalem Master Plan 1968 (in Hebrew).
21 See the Go-Jerusalem official website page on Kollek.
22 Cited in the B’Tselem report, ‘A Policy of Discrimination: Land Expropriation, Planning and Building in East Jerusalem’, May 1995. mendel: Jerusalem 49
23 This was nicely illustrated when an opposition member of the City Council, Meir Margalit, tabled a question for Olmert about the provision of municipal services to the Arab village of Ein Fuad in eastern Jerusalem. The reply duly came back from Olmert’s office, denying that there was any discrimination in provision: ‘Ein Fuad receives all municipal services, including welfare, education, lighting and clean¬liness.’ A sly smile no doubt played Margalit’s lips when he read those lines. He penned back a short message to the mayor: ‘There is no such place as Ein Fuad’. See Meir Margalit, Discrimination in the Heart of the Holy City, Jerusalem 2006, p. 176.
24 In reality, and due to the discriminatory Israeli policies, these permits became almost impossible for Palestinians to get. Therefore, their decision to build with no permit can be considered as their ongoing act of ‘spatial protest’ against Israel’s and the Jerusalem municipality’s urban-planning policies. See Irus Braverman, ‘Powers of Illegality: House Demolitions and Resistance in East Jerusalem’, Law and Social Inquiry, vol. 32, no. 2, 2007, pp. 333–72.50
25´-or-Kashti, ‘East Jerusalem: The Capital of Dropouts’, Haaretz, 5 September 2012.
26 Association for Civil Rights in Israel, Jerusalem Day 2012: Unprecedented Deterioration in East Jerusalem. mendel: Jerusalem 51
27 David Horovitz, ‘Nir Barkat: How I’m ensuring Israeli Sovereignty in Jerusalem’, Times of Israel, 29 February 2012.52
28 Neta Sela, ‘Jerusalem should be a Haredi city’, Ynet, 24 May 2006 (in Hebrew).mendel: Jerusalem 53
29 Momi Dahan, ‘The Ultra-Orthodox Jews and Municipal Authority, Part ii: Budgetary Effects of the Demographic Composition in Jerusalem’ (in Hebrew), Jerusalem Institute for Israel Studies Research Series No. 82, Jerusalem 1999, pp. 15–16.
30 This is according to the statistics of poverty in big cities in Israel. See Asah Shtull-Trauring, ‘Ahead of Jerusalem Day, reports highlight extent of city’s poverty’, Haaretz, 11 May 2010.54
31 Chana Ya’ar, ‘Prof. Mordechai Kedar: “A Ball of Fire”’, Arutz Sheva: Israel National News, 12 January 2012.56
32 Qur’an, Sura 17:1 Bible, Deuteronomy 12:5.
#محمود_الصباغ (هاشتاغ)
Mahmoud_Al_Sabbagh#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟