أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - كميل داغر - سياسة حافة الهاوية وافتقاد يسار ثوري فاعل















المزيد.....



سياسة حافة الهاوية وافتقاد يسار ثوري فاعل


كميل داغر

الحوار المتمدن-العدد: 1453 - 2006 / 2 / 6 - 11:30
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


إثر الحرب الأهلية الأطول في تاريخ الصراعات الدموية التي عرفها لبنان، والتي وضع حداً لها اتفاق الطائف، جرى، بموجب ذلك الاتفاق، والقانون الدستوري الصادر في 21/9/1990، إدخال تعديلات عدة على دستوره، من ضمنها المقدمة التي أضيفت إليه وجاء في بندها «أ» ما يلي: «لبنان وطن سيد حر مستقل، وطن نهائي لجميع أبنائه، واحد أرضاً وشعباً ومؤسسات، في حدوده المنصوص عنها في هذا الدستور والمعترف بها دولياً». أما البند «ح» من المقدمة عينها فينص على الآتي: «إلغاء الطائفية السياسية هدف وطني أساسي يقتضي العمل على تحقيقه وفق خطة مرحلية».
بعد تلك التعديلات بأربع عشرة سنة ونصف السنة، شهد وسط بيروت، بفاصل أيام ٍ ستة، مظاهرتين لم يعرف تاريخ البلد ما يشبههما، سواء من حيث الحجم أو من حيث المضمون، وذلك في الثامن فالرابع عشر من آذار 2005، أي بعد أيام قليلة على صدور قرار النظام السوري بالانسحاب العسكري من لبنان. وقد تمت الأولى، التي قدَّرت وكالة الصحافة الفرنسية عددها بمليون وستمئة ألف متظاهر، تحت شعار أساسي هو الشكر لسوريا، فيما تمت الثانية، وقد قدَّرها منظموها بما بين المليون والنصف والمليونين، على أساس المطالبة بالحقيقة حول اغتيال رئيس الوزراء الأسبق، رفيق الحريري، فضلاً عن رفع شعارات السيادة والحرية والاستقلال، مطلقين عليها منذ تلك الفترة تسمية «انتفاضة الاستقلال»، وبالتحديد عن سوريا.
وسواء كانت التقديرات بخصوص عدد المشاركين في كل من المظاهرتين دقيقة، أو تفتقر إجمالاً إلى الدقة، فثمة واقع لا بد من الاعتراف به هو أن أكثر من نصف سكان البلد، على الأقل، نزلوا إلى الشارع، تعبيراً عن مواقف أساسية متناقضة جذرياً بخصوص العلاقة بسوريا، من جهة، ومفهومي الاستقلال والسيادة، من جهة ثانية. وقد جاء ذلك يكشف حالة انشطار وطني عميق، رأى كثيرون أنه ذو سمة طائفية غالبة. وهو انشطار يمكن أن يتفاقم لاحقاً، ولا سيما إذا استمر – كما يحصل منذ تعديل الدستور عام 1990 – تجاهل بند إلغاء الطائفية السياسية، والمضي على العكس في شتى أنواع الممارسات التي لا تعزز فقط البنى الطائفية القائمة، بل أيضاً التعبئة والشحن والانقسام النفسي والفكري والعملي على أساس الطوائف والمذاهب. وقد سهَّل هذا الواقع سابقاً، ويسهِّل الآن، وسيظل يسهِّل ما دام قائماً، إبقاء الغالبية الساحقة من المواطنين، المتضررين بعمق من النظام الذي يعيشون في ظله، والسيطرة الطبقية التي هم تحت وطأتها، في حال من التمزق والانقسام كان وسيبقى المستفيد الأساسي منه الطبقةُ السائدةُ والقوى السياسية والاجتماعية القابضة على السلطة، أو المتناوبة عليها. وهي القوى ذاتها التي كان قد دخل معظمها في شراكة مكشوفة، على امتداد الخمس عشرة سنة الماضية، مع الجهاز الأمني السوري-اللبناني، في عملية نهب البلد وشعبه – الأمر الذي أدى إلى تكبيله بعشرات مليارات الدولارات من الديون، وتعميق حالة الإعاقة والتخلف في اقتصاده، وشل مؤسساته وتشويه الحياة الديمقراطية، والحد الأدنى من عناصر الممانعة والدفاع الاجتماعي – ، قبل أن تطرأ ظروف عالمية وإقليمية جديدة وجد خلالها جزء هام من هذه القوى أن مصلحته تقضي بفك تلك الشراكة. وهو ما سوف يؤدي وضعه موضع التنفيذ، في النصف الثاني من العام ما قبل الفائت 2004، إلى إطلاق سيرورة مجنونة، في الوقت نفسه الذي تعمِّق فيه أزمات البلد، تضعه في مهب رياح عاتية بات من الواضح أن التحكم بها مسألة عسيرة جداً، إذا لم تكن مستعصية، ولا سيما في غياب يسار ثوري فاعل وعميق الانغراس في الوسط الجماهيري، وطالما سوف يستمر ذلك الغياب.
هذه الرياح، إذا كان مصدرها الأساسي التبدل الجذري في طبيعة سلطة الوصاية وهويتها، وما يتلازم مع ذلك من سياسات تود الوصية الجديدة (الإمبريالية الأميركية بوجه أخص، وحلفاؤها) أن تفرضها على البلد، عبر شريحة سياسية مطواعة، في غالبيتها المسيطرة الآن على المجلس النيابي والحكم، فهي (أي الرياح) لا تندفع من الصعيد السياسي وحسب، بل أيضاً من واقع اقتصادي تنبع خطورته من الانهيارات المحدقة في هذا المجال، كما من المشاريع النيوليبرالية المدمرة للطبقة المسيطرة، وبوجه خاص رأس حربتها الراهن المتمثل بالحالة الحريرية، المتمتعة بالغالبية النيابية، والتي يقودها في الظاهر، رئيس الوزراء، فؤاد السنيورة، وفي الحقيقة السيد سعد الحريري، الحاظي بالدعم السعودي الكامل، وبوجه خاص بدعم الإمبرياليتين الأميركية والفرنسية. هذا الواقع، سوف نتناوله بإيجاز نسبي، في نقطة أولى، فيما نعالج في نقطة ثانية واقع اليسار المحلي الراهن، الذي يزداد ترهلاً، في حين أن الأمل الوحيد لمنع الطبقة السائدة من المضي بالبلد إلى الهاوية يكمن في السعي الدائب لإخراج هذا اليسار من أزمته، بأكبر قدر ممكن من السرعة، بحيث يمكِّنه ذلك من خوض مواجهة صعبة جداً بالتأكيد، ولكنها تمتلك حظوظاً بالنجاح، للمنحى الكارثي الذي تتخذه قيادة ُ البرجوازية المحلية لبلدنا.

أولاً: السمات الأساسية للوضعين الاقتصادي-الاجتماعي والسياسي

إذا كان الفهم المادي للتاريخ يربط السياسة إجمالاً ربطاً محكماً بالاقتصاد، فهذا الفهم ينطبق تماماً على الوضع اللبناني، ولا سيما منذ قيام الحالة الحريرية في أوائل تسعينيات القرن الماضي، بما هي ظاهرة انطلقت من إمكانات مالية كبرى لشخص، هو الرئيس الراحل للوزراء، رفيق الحريري، لأجل الاستيلاء على موقع حاسم في السلطة السياسية، ومن ثم تسخير هذا الموقع في خدمة تعظيم تلك الإمكانات، عموماً، فضلاً عن تعظيم دور الرأسمال المالي، وذلك على حساب مالية الدولة إجمالاً، وفي آن معاً القطاعات الاقتصادية الأخرى في الدولة والمجتمع، والوضع المعيشي للغالبية الساحقة من المواطنين.
1 – الوضع الاقتصادي-الاجتماعي
كان أحد المظاهر الأكثر نتوءاً لعلاقة العامل الاقتصادي بالصعيد السياسي ما حدث في أيار 1992، حين جرى إسقاط حكومة عمر كرامي بنتيجة تدابير اتخذتها مصارف عديدة كان يسيطر عليها الرئيس الراحل رفيق الحريري أدت إلى رفع سعر الدولار بصورة خطيرة، وهو الأمر الذي مهّد آنذاك لارتقاء الشخص المذكور سدة الرئاسة الثالثة – بعد فاصل انتقالي قصير مثلته حكومة الرئيس الأسبق رشيد الصلح – ، وهيمنته مذاك، وعلى مدى سنوات طوال، إذا استثنينا السنتين الأوليين من عهد الرئيس لحود، ليس فقط على السلطة السياسية، بل أيضاً على القرار الاقتصادي، وذلك من موقع الشريك الأهم في ما عرف على امتداد وجوده في مواقع القرار بـ «الترويكا» أو الثالوث الطائفي الحاكم.
وقد أسفر هذا الواقع في سياق المشروع طويل الأمد الذي كان تبلور لدى الرجل منذ السنوات الأولى لحكمه، عن جملة نتائج بنيوية بالغة الأهمية والخطورة، في الواقع الاقتصادي والاجتماعي للبلد، هي التالية:
أ – تعاظم موقع البرجوازية المصرفية، ورأس المال المالي، عموماً، حيال الشرائح الأخرى من البرجوازية المحلية، كما حيال المجتمع ككل، وذلك بصورة فائقة، بحيث انعكس هذا الواقع بعمق على وضع القطاعات الإنتاجية، ومن ضمنها بوجه أخص الصناعة والزراعة، وهي القطاعات التي شهدت تراجعاً واضحاً، سواء في وزنها الإجمالي على مستوى الاقتصاد والدخل القومي، أو في الدور السياسي للكتلة الاجتماعية التي تتخذها مصدراً أساسياً لمعيشتها.
ب – مفاقمة مشكلة الدين العام وتعظيمها باستمرار، بحيث بلغ مجموع الديون أكثر من 48 مليار دولار بعد أن كان ملياراً ونصف المليار في أوائل التسعينيات، وذلك خلال مهلة لا تتعدى الثلاث عشرة سنة. وهو الأمر الذي يعرِّض البلد لمخاطر كبرى، ليس فقط من حيث حيلولة متطلبات خدمة دين بهذه الجسامة في ظروف بلد صغير ومحدود الدخل كلبنان، لكي لا نقول إطفاءه، دون القيام ولو بالحد الأدنى من التنمية، بل أيضاً من حيث الهشاشة والتبعية المطلقة السياسية والاقتصادية، وإخضاعه لاحقاً لإملاءات البنك الدولي والدائنين الخارجيين، بوجه أخص.
ج – انفتاح الطريق واسعة أمام ربط البلد بالسياسات النيوليبرالية، ومن ضمنها اعتماد سياسة تخصيص قائمة على بيع القطاع العام بثمن بخس للغاية للشركات المحلية والعالمية، من دون أن يؤدي ذلك، بالتأكيد، إلى إطفاء الدين العام، أو على الأقل جزء هام منه، كما يعد أصحاب هذا المشروع. وهو الأمر الذي قد يؤدي إلى انهيارات اقتصادية كبرى، لاحقاً، على شاكلة ما حصل في الأرجنتين، بنتيجة سياسات مشابهة، في أوائل العقد الحالي، كما سيؤدي إلى تفشي مستويات عليا من البطالة، والبؤس، والهجرة، ولا سيما في صفوف الشباب، ومن ضمنهم الكادرات العلمية والتقنية، مع ما سيلازم ذلك من تأثيرات ديمغرافية واجتماعية سلبية بالغة الجسامة.
د – المضي في سياسة تجميد الأجور، ضمن الوضع الذي وصفناه أعلاه، ناهيكم عن اعتماد سياسات ضريبية تحمّل الطبقات المتوسطة والفقيرة كامل أوزار أزمة الطبقات السائدة، مع انعكاسات ذلك الوخيمة على حياة الناس ومستقبلهم وطبيعة خياراتهم.
ه – تعاظم الهدر والفساد، ليس فقط عبر صناديق الإنفاق المذهبية (على شاكلة مجلس الجنوب، وصندوق المهجرين، الخ...)، بل أيضاً في شتى وزارات الدولة ومؤسساتها، ولا سيما في ظل تفاقم الانقسام الطائفي والمذهبي، في المجتمع، وانعكاسه الحاسم على واقع الدولة والنظام القائمين.
و – الضربات المدروسة والمتواصلة التي تم توجيهها، على امتداد العقدين الأخيرين، لشتى بنى الممانعة الاجتماعية، ممثلة بوجه خاص بالحركة النقابية، والاتحاد العمالي العام، لكن أيضاً بأحزاب وقوى اليسار، مع ما يعنيه ذلك من تفتيت للحركة الجماهيرية وتيئيس لها وشل لطاقاتها النضالية ولقدرتها على الاعتراض والمواجهة، بحيث تمرَّر هكذا بسهولةٍ مشاريع البرجوازية المحلية التابعة وشركائها في السلطة السياسية، من أمراء حرب وقادة مذاهب وأغنياء جدد. في كل حال، لقد شاركت عن كثب، في توجيه تلك الضربات، قوى محلية شديدة الارتباط بالنظام السوري، تناوبت على الإمساك بوزارة العمل، كما بالاتحاد العمالي العام، سواء انتمت إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي، أو إلى حزب البعث، أو إلى غيرهما.
2 – الوضع السياسي
إذا كانت تلك أعلاه هي الخطوط العريضة التي يمكن أن تصف الوضع الاقتصادي-الاجتماعي، فثمة حاجة قصوى أيضاً لوعي الوضع الخطير الذي يمر فيه لبنان، وسط الهجمة الراهنة لإعادة هيكلة المنطقة على أساس ضمان مصالح كل من الولايات المتحدة وإسرائيل، بصورة طاغية، لعقود عديدة قادمة، وهو الوعي الذي لا بد من أن يمر، لأجل تحديد متطلبات المواجهة الناجحة لهذه الهجمة، بإدراك شامل لواقع الجسم السياسي المحلي الذي يعاني حالة اهتراء متقدمة، يمكن تلخيص سماتها الأساسية بما يلي:
أ – الانقسام المذهبي العميق
ولقد ظهر هذا الانقسام بشدة، في مرحلة بدت مصيرية جداً، بعد اغتيال الرئيس الأسبق للوزراء، رفيق الحريري، ليس فقط في الأعمال الكثيرة التي أحيطت بالكتمان، والتي تمثلت في تصفيات وأعمال ثأرية واعتداآت طائفية، بل أيضاً كما أشرنا أعلاه في أضخم مظاهرتين في تاريخ لبنان، في كل من 8 و14 آذار الماضي، على الرغم مما حيك من أساطير كاذبة حول طابع المظاهرة الثانية التوحيدي، وهو الأمر الذي سرعان ما تجلى مدى تهافته. هذا وقد جاءت الانتخابات النيابية التي تلت ذلك لتكشف انشطاراً وطنياً عميقاً، وهو انشطار يعبر عن نفسه أيضاً في شكل المجيء بالرئاسات الثلاث الأساسية، التي بات مطروحاً أن تحدد هوية كل منها طائفة الرئيس المعني، بوجه خاص. وهو ما تقصَّده الرئيس الكتائبي الأسبق، أمين الجميل، حين دعا في فترة سابقة إلى المجيء برئيس جديد للجمهورية يكون «ربعه راضياً عنه»!!، فيما دعا سمير جعجع العائد إلى الساحة السياسية بعد 11 عاماً من حياة السجن، إلى أن يحدَّد اسم الرئيس الجديد في اجتماع توافقي يتم في بكركي وتحت رعاية البطريرك الماروني!!!
وبالطبع، فإن الأزمة الوزارية التي احتدمت، بعد مقاطعة وزراء حزب الله وحركة أمل اجتماعات مجلس الوزراء، ودعوة السفير الأميركي لحلها عبر استبدال المذكورين بآخرين، وحتى إن أمكن تطويقها، مؤقتاً، إنما تندرج، في جوانب منها، في هذا الانقسام بالذات، ويمكن أن تدفع باتجاه المزيد من التقاطب والتأزم، كما تعطي صورة عن مقدمات ذلك تحركات الأكثرية النيابية الحالية، ومقررات لقاء البريستول الأخير؛ وأخيراً وليس آخراً، التفجيرات الكلامية المستجدة، من جانب وليد جنبلاط، ضد حزب الله وسلاحه، هذه التفجيرات التي تفتح الباب الآن أمام منعطف يتسم بالخطورة.
ب – الفساد والتفاهة السياسيان
قبل انتخابات عام 1992 النيابية، ووصولاً إلى ذلك العام، كانت الدوائر الصـغرى – التي اعتمدت مراراً – تقيم قدراً من العلاقة بين النائب والقاعدة التي تأتي به إلى المجلس النيابي، وإن كان مصدر القوى السياسية القادمة إلى هذا المجلس ارتبط في معظم الأحيان بالبنى العائلية بشكل خاص، وبالأصول شبه الإقطاعية، قبل أن تنضم إلى هذه الحالة رموز محدودة من البرجوازية المحلية، مع ارتهان، بلا ريب، وفي كل تلك الحالات، بالتقسيم الطائفي والمناطقي للدوائر الانتخابية.
إن اعتماد المحافظات، بشكل خاص، منذ عام 1992، دوائر انتخابية على أساس النظام الأكثري، في ظل دور أساسي في الحياة السياسية للأجهزة الأمنية اللبنانية – السورية، إذا لم يكن قد ألغى كلياً الواقع السابق، إلا أنه أدخل عوامل جديدة بالغة الأهمية على الحياة المشار إليها، ولا سيما في ظل الدور المستجد الذي أخذته البرجوازية المالية (حالة الحريري بوجه أخص)، المتحالفة عملياً مع الأجهزة المذكورة، أو الداخلة في تبادل مصالح عميق معها، من جهة، ومع أسياد الحرب الذين تم استيعابهم في السلطة السياسية، من جهة أخرى، وذلك بعد حرب طاحنة أدت إلى تدمير واسع للبنى التحتية للبلد ولأوجه العمران فيه. وهو واقع أوجب إعادة إعمار بدت مكلفة للغاية، وأدت إلى سيرورة استدانة باهظة جداً تلازمت مع استشراءٍ غير مسبوق للفساد، بالدرجة التي بلغها في العقدين الأخيرين.
إن قسماً أساسياً من الشريحة التي برزت في واجهة الحياة السياسية (سواء في المجلس النيابي، أو في الوزارات والإدارات)، وتبرز الآن، لا يكتسب موقعه في هذه الواجهة إلا على أساس التبعية الكاملة للرموز والقيادات المسيطرة ضمنها، من شتى المشارب والأصول، وسواء كانت تلك الرموز والقيادات تستمد صفتها هذه من قوتها المالية المتلازمة مع تمثيلها الطائفي (الحريري الراحل، ومن بعده وريثه الحالي، وأمثالهما)، أو من موقعها الطائفي الراهن المتلازم مع دورها الطاغي في الحرب الأهلية الأخيرة (بري، جنبلاط، بوجه أخص، ولاحقاً، أي الآن، كل من عون، وجعجع، الخ...).
إن الجزء من الجسم السياسي المشار إليه أعلاه، الذي عايش المرحلة من عام 1992 حتى الأشهر الأولى من العام 2005، كان يغوص في غالبيته الساحقة في حالة الفساد منقطعة النظير التي سادت خلالها. وهذا الجزء، فضلاً عما يشوبه من تلوث وانحلال عميقين، والتحاق مطلق بأولياء نعمته، ينخرط في ما يمكن وصفه بحالة التفاهة السياسية المطلقة، هذه الحالة التي تقصيه بالكامل عن الهموم والحاجات الفعلية للغالبية الساحقة من المواطنين، كما عن القضايا الوطنية الجوهرية، وتجعل البلد ككل، على سبيل المثال، وعلى امتداد أكثر من أحد عشر شهراً هي التي تفصلنا الآن عن تاريخ اغتيال الحريري في 14 شباط الماضي، كما لو كان منشغلاً بهاجس واحد، هاجس متابعة مستجدات التحقيق في هذا الاغتيال، بحيث يطمس ذلك، أو يتم السعي بصورة واعية لكي يطمس، كل ما عداه من مشكلات حقيقية للمواطن والوطن. وهو ما تبرره بعض الأصوات المسموعة، ولا سيما في كتلة الحريري النيابية بالذات (كما جاء في العشرينيات من تشرين الأول الماضي على لسان الناطق بلسانها النائب وليد عيدو)، بكون الرئيس الراحل «أكبر من لبنان»!!!
ج – التبعية المفرطة للخارج
وبالطبع فإن التبعية الداخلية هذه تتلازم مع تبعية مفرطة للخارج يتشارك فيها الأتباع الصغار وأسيادهم في الداخل. وهي تبعية لا تتجلى فقط في ما جرى إحلاله محل الوصاية السورية السابقة من وصاية أميركية طاغية (بوجه أخص، وفرنسيةٍ بدرجةٍ أقل وضوحاً وأهميةً بكثير)، وفي الوقت عينه مهينة ومحقرة للجسم السياسي المـحلي – الذي يبدو كما لو أنه بات يشتغل على طريقة الدمى المتحركة، بضغطات من السفير فيلتمان، وموفدين للإدارة الأميركية غدا تردد أمثالهم على لبنان أمراً مألوفاً، وكان آخرهم مساعد وزيرة الخارجية ديفيد وولش ومرافقه إليوت أبرامز – بل تتجلى أيضاً بطبيعة المواقف التي بات يقفها الكثير من أفراد هذا الجسم من القضايا الوطنية الكبرى، التي لا تخص لبنان وحسب، بل كامل المنطقة العربية.
فنحن إذا كنا نؤكد أن ثمة حاجة جدية لكشف ملابسات مجمل الاغتيالات السياسية التي شهدها البلد في الأشهر الأخيرة، ومن ضمنها حتماً جريمة 14 شباط، إلا أن ثمة فرقاً شاسعاً بين الاهتمام بجلاء حقيقة تلك الاغتيالات وإنزال العقاب بالمسؤولين عنها والضالعين فيها، أياً يكونون، وبين العمل، فوق ذلك، لأجل تمرير المخططات الجديدة، الأميركية والإسرائيلية، للبنان والمنطقة ككل. وهي مخططات بدأت قبل عام ونيِّف بالقرار 1559، وتتواصل الآن بقرارات أخرى ليس القرار 1636، ومن بعده القرار 1644، اللذان يهددان عملياً باستخدام البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة ضد سوريا، إلا خطوة أولى في سياقها نحو قرارات أشد خطورة ليس فقط على البلد المذكور بل أيضاً على لبنان وكامل الوطن العربي. وعلى افتراض أن يكون النظام السوري هو المسؤول الحقيقي عن جريمة اغتيال الرئيس الحريري ورفاقه – وهذا احتمال بلا ريب، وإن كان ينبغي التأكد بصورة جازمة من ذلك، وبالوسائل المناسبة – فإن هذا النظام قد لقي عقاباً شديداً حتى الآن تمثل بإخراجه عنوة من لبنان، مع كل المصالح الحيوية التي خسرها بالتلازم مع ذلك. وثمة حاجة قصوى لفضح كل القوى، التي تعمل الآن ضمن الساحة السياسية اللبنانية، إما سراً أو علانية، لأجل تسهيل المخطط الأميركي (المدعوم إسرائيلياً) لتفجير الساحة السورية وإشاعة الفوضى وأجواء الحرب الأهلية فيها، أو خلق شروط تدخل عسكري إمبريالي مدمر على أرضها. هذا مع التأكيد على أن الظفر بالديمقراطية لا يمكن أن يتم على حراب التدخل الخارجي، بل بمبادرة من الجماهير السورية، وبفعل نضالها الذاتي، المعادي للديكتاتورية حتماً، لكن أيضاً للهيمنة الأميركية. وبالتالي فإن ما يهم قبل كل شيء، وفوق كل شيء، ألا يكون ما يجري الآن مقدمة لتدفيع الشعب السوري المزيد من الخسائر، ولا سيما بتعريضه لاحقاً لاستخدام شتى العقوبات الدولية، ليس فقط الاقتصادية منها، بل حتى العسكرية أيضاً، وعلى الطريقة العراقية. ذلك أن أي عقوبات قد يتخذها مجلس الأمن لاحقاً لن يدفع ثمنها النظام وحسب، بل كامل الشعب في البلد الشقيق، ومعه حتى الشعب اللبناني بالذات، والعلاقات الأخوية بين الشعبين، التي تسعى قوى مؤثرة في الوسط السياسي المحلي وضمن الأكثرية النيابية الحالية لإفسادها وضربها والدفع بها إلى نقطة اللاعودة. علماً بأن النظام السوري ليس أقل مسؤولية عن تردي هذه العلاقات، انطلاقاً من الممارسات العدائية التي لا ينفك يلجأ إليها.
هذا ومع أننا نعرف طبيعة النظام السوري التي تجمع إلى الاستبداد السلطوي درجة عالية من الفساد، وتاريخاً من التصفيات السياسية المدانة، إلا أننا في تعاملنا مع الجرائم التي افتتحتها بوجه خاص عملية 14 شباط ، ينبغي أن نتريث جدياً، على عكس ما يجري بالفعل، في تحميل النظام المذكور سلفاً تبعة هذه الجرائم، التي لا تزال تتكرر، بالطريقة نفسها تقريباً، على رغم الانسحاب السوري العسكري، من جهة، والتغييرات الكبرى في الجهاز الأمني المحلي، من جهة أخرى، وذلك من دون التمكن من كشف حقيقة أي منها. إن أبسط مقدار من استخدام العقل، والشجاعة وبعد النظر أيضاً، يفترض بالضرورة تصور احتمالات أخرى، تنبع من طبيعة المشاريع الأميركية (والإسرائيلية أيضاً)، لإعادة صياغة المنطقة ككل، ولبنان من ضمنها. كما يفترض علاوة على ذلك أخذ هذا التصور بالاعتبار في التحقيقات لجلاء المسؤولية الفعلية عن تلك الجرائم، ولا سيما أن مسلسل الاغتيالات يوحي بوضوح بأنه سوف يستمر، وقد يستهدف لاحقاً رموزاً أساسية، ليس فقط في الوسط السياسي، بل أيضاً على مستوى رجال الدين، كما تشي بذلك الإشاعات المنتشرة بشكل واسع بين الناس، مع مخاطر ذلك على السلم الأهلي.
إن هذا الاحتمال، الذي يمتلك عناصر هامة من عناصر الصحة، ولا سيما إذا نظرنا إلى ما تنفذه الإدارة الأميركية على أرض الواقع في العراق، من تفتيت مذهبي وقومي مدروس ومن تغذية متعمدة لأسباب التشظي والحرب الأهلية، لن يمكن كشفه، وبالتالي التصدي له بنجاح، عبر المضي في الاستنجاد بالخارج الإمبريالي، ولو تحت مظلة الأمم المتحدة، في معرض العمل على كشف حقيقة الاغتيالات المتواصلة فوق الأرض اللبنانية، ومن ثم إنزال العقاب بالمسؤولين عنها.
د – الطابع الخطير لسياسات التحالف المسيطر
على الرغم من الهجاء المرير الذي استخدمه التحالف المسيطر الآن على السلطة السياسية في البلد لقانون الألفين للانتخابات، فلقد كان حريصاً، برغبة منه وفي آن معاً بضغط من جانب الإدارة الأميركية، على استعجال الانتخابات، على أساس هذا القانون، للاستفادة إلى أقصى ما يمكن من التعبئة الشعبية التي تلت اغتيال الحريري والخروج العسكري السوري من لبنان لأجل الحصول على أكثرية واسعة في المجلس النيابي. وهو ما حصل بالفعل وأدى إلى إنتاج الأكثرية الحالية التي باتت تسيطر على المجلس، وبالتالي على الحكومة الحالية، التي تقودها في الواقع الحالة الحريرية بزعامة سعد الدين الحريري، والتي جاء بيانها الوزاري يبشر بكونها في هذا الموقع لأجل استكمال تنفيذ مشروع الحريري الأب، على المستوى الاقتصادي بوجه أخص، كما على باقي المستويات.
وإذا كنا أشرنا، أعلاه، وإن بصورة سريعة إلى موضوع الخصخصة ضمن هذا المشروع وما يلازمه من مهام أخرى في سياق الانخراط الكامل في الصورة الراهنة للسياسة النيوليبرالية وللعولمة الرأسمالية، إجمالاً، فسنكتفي أدناه بالمرور، ولو سريعاً أيضاً، على التوجهات السياسية الأساسية للتحالف المسيطر، وبين أهمها:
1) تنفيذ القرار 1559
إذا كان الرئيس السنيورة متحفظاً في الإعلان منذ الآن عن النية الصريحة لديه للانخراط في سيرورة مكشوفة لتنفيذ هذا القرار – الخطير جداً، ليس فقط لكونه يسهِّل لاحقاً فرض تسوية مجحفةً، وبالشروط الإسرائيلية، على لبنان، بل أيضاً لكونه يعرِّض هذا الأخير لاحتمالات جدية وكارثية للاقتتال الداخلي – ، فإن هذا ما يفعله، بالنيابة عنه، حلفاؤه في اليمين المسيحي بوجه أخص، لكن كذلك العديد من نواب تيار المستقبل الذي ينتمي إليه. فضلاً عن ذلك، فإن زعيم هذا التيار، السيد سعد الحريري، قد كشف عن موقفه الفعلي من هذه المسألة بوضوح، مباشرةً بعد تسلمه ميراث والده السياسي في الربيع الماضي فلقائه نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني، وذلك في مقابلة أجرتها معه الواشنطن بوست الأميركية، حين قال حرفياً: «سوف أنزع سلاح حزب الله». وبالتالي فإن رئيس الوزراء الحالي، فؤاد السنيورة، سوف يكون منحكماً حتماً بالالتزام بهذا الموقف، وهو ما تمهد له تصريحات متناقضة لديه تصب في هذا المآل، في نهاية المطاف.
في كل حال، فالخطوات التي تتخذها الحكومة الحالية، على طريق المزيد من تدويل الأزمة اللبنانية، منذ الآن، إنما تعكس، عملياً، هي الأخرى، واقع كونها خطوات تمهيدية في هذا المسار.
2) الإمعان في سيرورة التدويل
لقد كان أفصح تعبير عن هذا التوجه، في الفترة الأخيرة، إقدام الأكثرية الوزارية، برئاسة السنيورة، على تجاوز اعتراض وزراء حزب الله وحركة أمل وتهديدهم بالاستنكاف عن حضور جلسات مجلس الوزراء، وحتى بالاستقالة منه، واتخاذ قرارها بالطلب إلى مجلس الأمن إنشاء محكمة «ذات طابع دولي» للنظر في جريمة 14 شباط، وتوسيع مهمة لجنة التحقيق الدولية في هذه الجريمة لتشمل كل الاغتيالات الأخرى التي تمت في لبنان منذ خريف عام 2004. الأمر الذي، إذا كان يعكس النية في المزيد من تدويل الصراع الحالي داخل الساحة اللبنانية، فهو يتيح عملياً، بقدر ما يتم النجاح في تحقيق ذلك، إحكام سيطرة الإدارة الأميركية على الوضع اللبناني، أكثر فأكثر، وتنفيذ مخططاتها في هذا البلد، وانطلاقاً منه في سوريا وباقي المنطقة.
وهو مسار من الواضح أن الأكثرية النيابية الحالية (ومعها الأكثرية الوزارية حتماً) تعمل الآن على تصليبه، وتأمين مقومات النجاح له، عبر المجيء بمجلس دستوري مطواع ولا يشكل بالتالي عائقاً أمام تمرير القوانين التي تود هذه الأكثرية سنها في هذا السياق.
3) التعديلات لقانون المجلس الدستوري
لقد كانت حكومة السنيورة عملت بدأب في الأشهر الماضية، على استكمال شل المجلس الدستوري الحالي، ولا سيما عن طريق الامتناع عن تعيين الأعضاء الخمسة الذين يكلفها قانونه بتسميتهم، مؤجلة بالتالي، بصورة غير قانونية، حسم الطعون المقدمة بخصوص الانتخابات التشريعية الأخيرة، ومتيحة للعديد من النواب الحاليين، المطعون بصحة انتخابهم – وغالبيتهم بالمناسبة من تيار الأكثرية – ، المشاركة في الحياة الاشتراعية والتمثيلية، وفي تمرير قرارات مصيرية، علماً بأن حسم مسألة قانونية وجودهم في المجلس النيابي، قبل إدخال التعديلات الجديدة لقانون المجلس الدستوري، كان سيؤدي على الأرجح إلى استبعادهم جميعاً أو استبعاد معظمهم من عضوية هذا المجلس.
إن التعديلات التي وضعت مشروعها الحكومة الحالية ونجحت الأكثرية النيابية في تمريرها في جلسة 30 تشرين الثاني الماضي، على الرغم من معارضة كل من كتلة التحرير والتنمية التي يتزعمها رئيس المجلس النيابي، وكتلة الوفاء للمقاومة الخاصة بحزب الله، وكتلة الإصلاح والتغيير بقيادة العماد عون، كان من ضمنها تعديل يؤدي إلى إنهاء مهمات المجلس الدستوري الحالي، بانتظار تعيين مجلس جديد، وفقاً لآلية جديدة يحددها تعديل آخر. أي أنه، باختصار، وبعد أن أعاد الرئيس لحود القانون المشار إليه إلى المجلس، إذا تمكن هذا المجلس من إقراره مجدداً، وأصبح بالتالي نهائياً، فسوف تتمكن الأكثرية الحكومية، من جهة، والنيابية، من جهة أخرى، من المجيء بمجلس دستوري جديد، مضمون الولاء لهما، سواء من حيث حماية مواقع الأعضاء المطعون في صحة نيابتهم، أو من حيث تسهيل مرور القوانين اللاحقة التي ستضعها هاتان الأكثريتان، وهما في الواقع أكثرية واحدة.
في كل حال، وتحسباً لامتناع الرئيس لحود عن نشر أي قانون يمكن سنه لاحقاً، فقد كان بين مقررات لقاء البريستول الأخير، في 19/12/2005، لما تمت تسميته قوى 14 آذار رسم الخطط والآليات المناسبة لإطاحته من موقعه في الرئاسة الأولى، وذلك كبند أساسي ضمن بنود أخرى كانت صريحة تماماً، لا بل بالغة الفجاجة في إعلان الحرب على دمشق، بحجة أن هذه الأخيرة تنخرط في «حرب إرهابية» على لبنان!
4) العلاقات اللبنانية- السورية
في حين كان الأمين العام للجامعة العربية، عمرو موسى، قد بدأ بعض الخطوات، من ضمن مبادرة لأجل منع استمرار التدهور في العلاقات اللبنانية- السورية – وهي مبادرة لم تتضح طبيعتها، وإن كان معروفاً أن للنظام المصري دوراً أساسياً في الدفع باتجاه قيامها – ، وفي حين كانت تتواصل في الوقت نفسه مساعي الأكثرية الحاكمة للمزيد من تدويل الأزمة اللبنانية، سرعان ما بدأت مواجهة المبادرة العربية المشار إليها، لأجل إجهاضها. وقد شارك في هذا الهجوم شتى عناصر هذه الأكثرية، وبوجه خاص العديد من رموز تيار المستقبل، فضلاً عن الحليف الأساسي للتيار المذكور، السيد وليد جنبلاط، الذي عبر عن رفضه أي مبادرة عربية هدفها، على حد قوله، «مقايضة القتل السوري بحرية لبنان»، مشدِّداً على «أننا نقيم توازن رعب عبر سلاح الكلمة التي لا نملك غيرها في مواجهة إجرام حاكم الشام الذي يريد الهرب من العدالة الدولية (!) إلى التعريب». وقد بلغت الأمور بالسيد جنبلاط في الفترة الأخيرة حد مطالبة الأميركيين باحتلال سوريا، وذلك في اتصال أجراه مع الـ «واشنطن بوست». ففي معرض طلب الحماية الأميركية للبنان، قال لمحرر الصحيفة «ديفيد أغناسيوس»: «لقد أتيتم إلى العراق باسم حكم الأكثرية وبإمكانكم فعل الشيء ذاته في سوريا» (السفير 5/1/2006).
هذا ولقد بذلت محاولات لاحقة عديدة من جانب الحكومتين السعودية والمصرية لأجل احتواء التصعيد بين البلدين، وكان آخرها من جانب الحكومة السعودية في أواسط كانون الثاني من العام الجديد، ولكن الجماعات نفسها في ما سمي قوى 14 آذار عمدت إلى إجهاض هذه المبادرة – على الأقل مؤقتاً، إذ ثمة معلومات عن خطوات لتجديدها – ، مثلما فعلت بخصوص ما سبقها من مبادرات. ومن الواضح أن ذلك قد تم بالتفاهم الكامل مع الأميركيين، وبإيعاز منهم، بحيث يتم تصعيد الضغط على دمشق وحشرها أكثر وأكثر في الزاوية، وذلك بالتلازم مع تصعيد المواجهة مع حزب الله، التي يتكفل جنبلاط بالجانب الأهم والأخطر منها.
هذا الموقف الذي يرفع المواجهة مع دمشق إلى درجة «اللاعودة»، على حد قول جنبلاط قبل أسابيع قليلة، حين وصف الرئيس السوري بالرجل المريض، يأتي في توازٍ مع مقررات لقاء البريستول المشار إليه أعلاه، الذي حض «الحكومة على إعلان الاستنفار الشامل لمواجهة الحرب (كذا !) التي يشنها النظام السوري ضد لبنان»، وقرر تشكيل مجموعة من اللجان لتنفيذ مقرراته، من بينها «لجنة للتواصل مع الاغتراب وتعبئته للتحرك تحت عنوان حماية لبنان من الحرب الإرهابية التي تُشَنُّ عليه». وقد تلا ذلك دخول الزعيم الفعلي للأكثرية الحاكمة حالياً، السيد سعد الحريري، على الخط نفسه بإعلانه في مقابلة أجرتها معه قناة «العربية» الفضائية: «لدينا اقتناع أن هناك حرباً تشن علينا من نظام إرهابي يريد أن يغير النظام الديمقراطي اللبناني» (الصحافة في 22/12/2005).
بمعنى آخر، لم تصل العلاقات اللبنانية- السورية يوماً إلى هذه الدرجة من التصعيد في حالة العداء، وقد باتت تنذر بخطر كارثي حقاً، ولا سيما ضمن ظروف الهجمة الأميركية والصهيونية الراهنة على المنطقة العربية. وهذا الواقع، عدا مخاطره القاتلة، ولا سيما إذا انتقلت المواجهة من الجانب اللفظي إلى الممارسات العملية في شتى المجالات، السياسية، كما الاقتصادية، وصولاً إلى العسكرية، كاحتمال أخير، إنما يهدد أيضاً باندلاع المواجهات الداخلية، بما فيها الدموية، في تاريخ لاحق، مع الأطراف الأخرى في الساحة المحلية، التي تصطف في مواقع مناهضة لمواقع الأكثرية الراهنة.
إن الحالة الراهنة، الموصوفة أعلاه، تعطي انطباعاً بأننا على شفير هاوية حقيقية، حتى في حال تم الالتفاف، مؤقتاً، على الأزمة الوزارية الطارئة، التي تكشف مدى هشاشة التركيبة اللبنانية. فضلاً عن ذلك، لا بد من الاعتراف بأن الواقع القائم، الذي يعيشه البلد، في ظل سيطرة قوى الأكثرية الحالية، وقوى طائفية أخرى، على السلطة السياسية لدينا، يكتسب خطورته بوجه أخص بسبب التبدل العميق الذي طرأ، في العقدين الأخيرين، على الوزن الفعلي لليسار المحلي. ذلك أنه عدا التغيرات الكبرى في الظروف الدولية، ومن ضمنها بوجه أخص زوال الاتحاد السوفييتي السابق والتوازنات العالمية التي كانت قائمة، في تاريخ سابق، تغيَّر المعطى الإقليمي بعمق، ومن ضمنه الوزن الفلسطيني السياسي والعسكري داخل الساحة اللبنانية، ولا سيما منذ اجتياح 1982 الإسرائيلي، وخروج منظمة التحرير الفلسطينية وجهازها العسكري من لبنان، وافتقاد اليسار المحلي، بذلك، حليفاً مؤثراً جداً، مهما تكن العلاقة بذلك الحليف اتخذت طابعاً ملتبساً ، أحياناً، وحتى متناقضاً، لم يصب دائماً في مصلحة المشروع العام لذلك اليسار. والأدهى أيضاً هو أنه جرت تبدلات جسيمة في بنية هذا اليسار بالذات، الذي انتقل جزء هام منه، نهائياً، إلى مواقع اليمين، فيما توارت عن الساحة الفعلية قوى كانت تنتمي إليه، ويعيش الحزب الشيوعي منذ سنوات عديدة أزمة تزداد تفاقماً، وتهدد بالمزيد من التشققات والانكفاآت، في وقت يبدو فيه البلد بأقصى الحاجة إلى وجود حالة يسارية جذرية مؤثرة هي الوحيدة التي يمكن أن توفر، في حال النجاح في بنائها، شروط مواجهة ظافرة للتدهور الشامل في الوضع اللبناني وربما، انطلاقاً من ذلك، في الوضع العربي العام.

ثانياً: هل يمكن بناء يسار ثوري فاعل؟

لقد أوضحت التجليات الكبرى للتعبئة الشعبية، في السنة الأخيرة، وبوجه خاص التظاهرات الثلاث الأكثر تعبيراً عن واقع انقسام المجتمع المحلي، والتي تمت في كل من الثامن، فالثالث عشر (مظاهرة الحزب الشيوعي، الهامة عدداً وبرنامجاً، لكن التي لا مجال لمقارنة حجمها بحجم الأخريين)، فالرابع عشر من آذار، ومن ثم الانتخابات النيابية في أواخر الربيع الماضي، واقع الانشطارات الراهنة، وإمكانات تفاقمها بما هي تتسم بشكل طاغ بالطابع الطائفي والمذهبي، وتكشف استئثار البرجوازية المحلية، الكبرى والمالية بوجه أخص، بالموقع الأساسي في قيادة السواد الأعظم من مكونات الحالة الجماهيرية.
وبالطبع، فإن المتضرر الأكبر من هذا التقاطب هو أوسع الجماهير الكادحة والمعسرة، من شتى الطوائف والمذاهب، ومن الطبقات الاجتماعية المتوسطة والدنيا، والتي تفتقد القيادة الممثلة لمصالحها الحقيقية بما هي مصالح طبقية في الجوهر. وبالتالي، فالحاجة ماسة جداً إلى إنضاج قيادة ثورية فعلية لهذه الجماهير، وذلك من دون تلكؤ أو مماطلة؛ قيادةٍ حازمة في تمثيل المصالح الطبقية المتقدمة لتلك الجماهير، وفي جعل هذه الأخيرة تتعرف إليها بصفتها هذه، بحيث يتم إحلال انشطار اجتماعي من نوع آخر، في الساحة الاجتماعية-السياسية، محل الانشطارات الراهنة، هو ذلك المرتكز على ثنائية يسار/ يمين، لا على الثنائيات الأخرى داخل اليمين بالذات، صاحبة الأساس الطائفي والمذهبي بوجه أخص.
إن هذا التحول يُفترض أن يأخذ مداه، فهو لن يتم بين ليلة وضحاها، بل عبر سيرورة ينبغي بذل أقصى ما يمكن من جهد لأجل أن تصبح ناجزة قبل أن يسبق السيف العذل. وهي، إذا أمكن حقاً وعي ضرورتها والارتفاع إلى مستوى المهام التي تطرحها، وما تتطلبه من تضحيات، سوف تمر بواحد من احتمالين:
· إما تجاوز الحزب الشيوعي اللبناني واقعه الراهن كحزب إصلاحي، من جهة، وكحالة تفتقد، من جهة أخرى، العلاقات التنظيمية الديمقراطية، إلى حزب ثوري ديمقراطي حقاً، قادر، ليس فقط على استعادة الأفضل بين المناضلين الذين غادروه، أو جمدوا حياتهم التنظيمية في أطره وهيئاته، بل أيضاً على استقطاب مناضلين ثوريين من تجارب يسارية أخرى،
· أو السعي، في حال الفشل في ذلك، للبحث عن مكوِّنات هذا الحزب الأخير في عناصر موجودة ضمن التجارب السابقة للحركة اليسارية، عموماً، داخل لبنان، ومن ضمنها التجربة في الحزب الشيوعي بالذات، وفي عناصر أخرى يجري بناؤها على أساس فهم نظري وبرنامجي وتنظيمي ثوري متكامل.
1 – الاحتمال الأول:
ويتمثل في أن ينجح الحزب الشيوعي اللبناني، في حالة المخاض الطويل والعسير الذي يعيشه منذ انهيار الاتحاد السوفييتي السابق، وما كان يعرف بالمعسكر الاشتراكي، في أن يتجاوز إرثاً ستالينياً ثقيلاً لا يزال يعيق تحوله إلى حزب شيوعي ثوري، وذلك على المستويات التالية:
أ – الخلفية النظرية:
فعلى الرغم من أن شتى مؤتمراته الأخيرة، بعد التحولات الكبرى في المنظومة التي كانت تزعم بناء الاشتراكية، قد واظبت على تأكيد الالتزام بما سماه النظام الداخلي المقر في المؤتمر الوطني التاسع، عام 2003، «المنهج العلمي الماركسي لفهم العالم، وآليات تطوره وسبل تغييره»، فإن «الاشتراكية» التي يطرح السعي لبلوغها، ويصفها بالاشتراكية اللبنانية، لا تتفق إطلاقاً مع الفهم الماركسي لهذا الطور من تقدم المجتمعات البشرية.
ففي وثائق مؤتمره السادس النهائية ورد أنه «يتمسك بحقه في اختيار طريقه الخاص إلى الاشتراكية ورؤيته الخاصة للمجتمع الاشتراكي»، ويضيف: «ويرفض الحزب المفهوم المبتذل (كذا!) الذي يجعل الاشتراكية تعني نزع الملكية ليحل محله المفهوم الصحيح عن جعل كل أفراد الشعب مالكين لوسائل الإنتاج واحترام تعدد أنماط الإنتاج في الاشتراكية واعتماد أشكال جديدة ملائمة من العلاقة بين آليات السوق وآليات التخطيط (...)» (الوثائق والتقارير والقرارات (...)، ص 59).
والتصور المعروض أعلاه، عدا أنه يقدم فهماً غير ماركسي إطلاقاً لإمكانية قيام اشتراكية خاصة بلبنان، البلد الواحد، والصغير جداً، والمتخلف، وشحيح الإمكانات المادية الفعلية – العاجزة بالتالي عن أن تتيح تطور قوى الإنتاج فيه في اتجاه اشتراكي، بمعزل عن اندراج ذلك في تقدم فعلي لسيرورة الثورة الاشتراكية، وتالياً البناء الاشتراكي، في المنطقة العربية بشكل خاص، وعبر العالم – ، فهو يعطي أيضاً صورة مغلوطة تماماً عن الاشتراكية، حين يخلط بينها، كحالة ناجزة، وبين الطور الانتقالي إلى الاشتراكية. ففقط في الطور المشار إليه يبقى ثمة تعدد لأنماط الإنتاج، وتبقى ثمة حاجة إلى اللجوء لآليات السوق، في حين تزول الملكية الخاصة بالكامل، وتنتفي آليات السوق كلياً في الاشتراكية، التي وصفها ماركس بأنها مجتمع «المنتجين المتشاركين بحرية».
أكثر من ذلك، ففي شتى النصوص المؤتمرية الخاصة بالحزب، ولا سيما منذ المؤتمر السادس، يغيب تماماً أي حديث عن صراع الطبقات، وعن الدور القيادي للطبقة العاملة في عملية الانتقال إلى الاشتراكية، ويخرج المرء بانطباع واضح تماماً، هو أن «الاشتراكية اللبنانية» هذه ليست سوى أحد أشكال الرأسمالية.
في كل حال، أليس غريباً أن يكون الحزب، الذي يطمئن قاعدته وجمهوره إلى أنه يسعى لإقامة الاشتراكية في لبنان (!)، يضرب صفحاً عن أي إشارة إلى هذا الهدف، ولو كأفق أخير للتغيير على المستوى العربي العام (راجع وثائق المؤتمر التاسع، الموضوعات السياسية/ التقرير السياسي)؟!

ب – البرنامج والتحالفات:
1) حول البرنامج:
سنكتفي هنا بخطوط عريضة كاشفة للرؤية البرنامجية العامة للحزب الشيوعي اللبناني، ولفهمه لمسألة التحالفات، في الوقت نفسه الذي نقدم فيه تصوراً آخر، أولياً بلا ريب، لما يفترض أن يشكل نواة أساسية لبرنامج حزب ثوري حقاً يطرح الرد المناسب على الأزمة المستفحلة في البلد المعني، في مستوياتها المختلفة، وبالتالي مسألة التغيير فيه؛ فضلاً عن تصور مختلف لموضوع التحالفات، التي من شأنها أن تخدم وضع البرنامج المنوه به موضع التنفيذ.
هذا مع الحاجة لتوضيح مسألة هامة، هي أن برنامجاً يقدمه حزب ثوري يفترض ألا يكتفي بمطالب الحد الأدنى التي تستجيب المصالح الآنية البسيطة لطبقة المأجورين وباقي الشرائح الكادحة، والمعرّضة للحرمان والتهميش، والتي يمكن فرض تلبيتها في ظل النظام الطبقي القائم، بل أن يضيف إليها مطالب وشعارات انتقالية تنطلق من الشروط القائمة الدولية والقومية، ومن الوعي الحالي لدى أوسع شرائح الطبقة العاملة، لأجل الارتفاع بها عبر النضال إلى المستوى السياسي الأعلى، وبالتالي إلى الارتقاء بوعيها إلى حد إدراك الحاجة لأخذ السلطة والمبادرة هكذا للاستيلاء عليها. وهذا يعني أن هكذا برنامجاً ينطرح، في الواقع، على قاعدة أن تنفيذه، جزئياً أو كلياً، يفترض أن يتم على يد طرفين متناقضين، وفي ظل سلطتين مختلفتين تماماً تعقب إحداهما الأخرى، في مجرى الصراع.
المطالب الانتقالية هذه غائبة تماماً عن برنامج الحزب الشيوعي اللبناني، لأنه على الرغم من الحديث المكرر عن الهدف الاشتراكي، فموضوع بلوغه، وبالتالي لعب دور قيادي في الانتقال بحركة الجماهير إلى أخذ السلطة وإحداث القطيعة الجذرية مع السلطة الطبقية القائمة، مؤجل إلى تاريخ غير معروف، انطلاقاً من فهم للمراحل لم يتبدل كثيراً بعد البدء بإدانة الستالينية ونقدها منذ المؤتمر السادس، ومن ضمن ذلك كشفه خلال الإعداد لذلك المؤتمر «خطأ المفهوم السائد في الحركة الشيوعية حول مسألة المرحلية».
· إن الشعار الأساسي الذي بات يرفعه الحزب، بخصوص لبنان، بعد ذلك بسنوات، وبالتحديد منذ المؤتمر الثامن، إنما هو «البديل الديمقراطي للنظام السياسي الطائفي اللبناني». وهو يصف هذا البديل – في إحدى وثائق المؤتمر التاسع، بعنوان الموضوعات السياسية/ التقرير السياسي – بأنه «نظام مدني علماني بخصائص لبنانية»، مضيفاً أنه «نظام يؤمِّن حريات المعتقد ويضمن لكل جماعة دينية حقها الدستوري في ممارسة شعائرها والدعوة إليها، ويفصل في الوقت نفسه الدين عن الدولة (...)». وهذا هو القدر من العلمانية، حصراً، الذي ينص عليه اتفاق الطائف، حيث أن نصوص الحزب لا تنبس ببنت شفة حول ضرورة علمنة، بوجه خاص، الأحوال الشخصية والتربية والتعليم أيضاً، وهي المواقع الأساسية التي تعيد باستمرار إنتاج الفكر والشعور الطائفيين وما يلازم ذلك من وعي مدمِّر للعلاقات الاجتماعية والسياسية لدى المواطنين.
وفي سياق طرح الشعار المذكور أعلاه، حول «البديل الديمقراطي...»، تتكرر بلا انقطاع لازمة «المصالحة الوطنية»، التي تكشف مدى انحكام الحزب إلى الآن بالفكر الإصلاحي البحت، وهو فكر برجوازي بامتياز، يبتعد به عن بديهيات الماركسية حول الصراع الطبقي وضرورة الالتزام بفكر الطبقة العاملة العلمي، والمادي. فمن نصالح مع من؟ وهل ثمة تناقض في المصالح بين الغالبية الساحقة من المواطنين،من عمال وفلاحين فقراء وحرفيين وصغار كسبة ومهمشين وعاطلين عن العمل، يستدعي معه إجراء مصالحة في ما بينهم؟ أم أن هذه المصالحة ستتم، إذا تمت، بين رجال الدين وممثلي الطبقات والشرائح الحاكمة، ومن ضمنهم قوى مرتبطة حتى العظم بأسيادها في الخارج؟! وهل إن مهمة الحزب الثوري هي اعتماد أساليب ووسائل من شأنها تشويه وعي أوسع الكادحين، وإعادة ربطهم برموز الطبقات السائدة، بدل فصلهم عنها جذرياً وتحريضهم ضدها، وبالتالي تعميق وعيهم الطبقي؟
· وبخصوص الموقف من المسألة الوطنية، باتت ثمة حاجة، الآن، أكثر من أي وقت آخر، لرؤية مركبة للمهام التي يطرحها موضوعياً، بحيث تتضافر مع الرفض المطلق للقرار 1559، في جانبيه اللبناني (نزع سلاح حزب الله) والفلسطيني (نزع سلاح المخيمات)، مهمة إحياء المقاومة الوطنية. وهو أمر بات ضرورياً للغاية، بما هو يعيد الاعتبار للطابع الوطني الشامل للعمل المقاوم، بدلاً من بقائه مصبوغاً بصبغة طائفية، بل مذهبية، تسهِّل مسعى القوى المعادية، الخارجية كما المحلية، للانقضاض عليه، لاحقاً. في حين أنه بات الآن ضرورة قصوى، ليس فقط في مواجهة إسرائيل، ومشاريعها التوسعية، على حساب لبنان وسوريا، وربما غيرهما أيضاً، من جهة، والتصفوية، من جهة أخرى، لحقوق الشعب الفلسطيني وقضيته التحررية، بل أيضاً في مواجهة الهجمة الأميركية-البريطانية الراهنة على العراق بوجه خاص، والمنطقة العربية ككل.
· وفي ما يتعلق بالعلاقات اللبنانية-السورية، لن يكون الموقف السليم بتاتاً الالتحاق بأي من فريقي الصراع، أو الاقتراب من المواقف المتشنجة لأي منهما، بل التنديد في آن معاً بكلا الطرفين، وبأي تصعيد من جانب دمشق أو من جانب اليمين المحلي؛ على أن تتم بلورة خطة لتصحيح العلاقات بين البلدين تأخذ بالاعتبار مصالح شعبيهما، والحاجة المطلقة إلى حمايتهما من التدخلات الإمبريالية، وأي اعتداآت لاحقة، سواء من جانب أميركا أو من جانب إسرائيل، في الوقت نفسه الذي يتم فيه ضمان عدم تدخل أي من سلطتي البلدين في شؤون البلد الآخر، بما يعود بالأذى عليه، وعلى مواطنيه. هذا وإن تفاقم الخلاف بين بيروت ودمشق، حالياً، لا ينعكس بالضرر الشديد على نظامي البلدين، بقدر ما على شعبيهما بالذات، وجماهيرهما الكادحة بوجه أخص، كما على مستقبل العلاقة بين الشعبين في الوقت عينه، وعلى مصلحتهما الحيوية في التضامن السياسي الأخوي، والتكامل الاقتصادي، وتبادل الخدمات والخيرات، عدا التنسيق الوثيق في مواجهة الأعداء المشتركين، ولا سيما إسرائيل.
· أما على الصعيد الاقتصادي، فأدبيات الحزب تنجح في وضع الإصبع على المشكلات الكبرى التي خلقها أداء الطبقات السائدة، والقوى التي مارست السلطة السياسية في العقدين الأخيرين، وأدارت اقتصاد البلد، وأوصلته إلى شفير الهاوية، ولا سيما على مستوى الدين العام، وإمساك البرجوازية المصرفية والمالية عموماً «بالخيوط الأساسية لفروع النشاط الاقتصادي المختلفة»، وما يلازم ذلك من «تحميل الطبقات الوسطى والفقيرة الوزر الأكبر لهذه الأزمة»، ومن اتجاه متزايد إلى تخصيص أجزاء أساسية من القطاع العام، واعتماد السياسات النيوليبرالية المدمرة للاقتصاد المحلي. إلا أن ذلك لا يترافق ببلورة رد متقدم على هذه السياسة الكارثية وبتحديد السياسة المضادة، على المستويات كافة، التي تمثل مصالح أوسع الجماهير، ويمكن أن تؤدي، في نهاية المطاف، إلى إنقاذ البلد من مخاطر إفلاس حقيقي ومن فرض المؤسسات الدولية عليه «عقد إذعان» يرهن مستقبله ومستقبل شعبه، وكادحيه بوجه خاص، بقرارات قادمة من مراكز القرار الإمبريالية، وانطلاقاً من مصالح الرأسمالية العالمية في طورها الأكثر توحشاً وعدوانية.
ومع أن الوثيقة البرنامجية التي طرحت للنقاش في المرحلة التمهيدية للمؤتمر السادس للحزب كانت اقتربت من الموقف المناسب، فسرعان ما تم تجاهل ما ورد فيها على هذا الصعيد، بحيث لم يظهر منذ ذلك الحين في أي من التوجهات الحزبية اللاحقة. لقد كانت الوثيقة دعت إلى «فك تبعية الاقتصاد الوطني للاستعمار الجديد، ووقف هيمنة الرساميل الأجنبية، والأميركية خاصة، وتصفية الشركات الاحتكارية الأجنبية وتأميم مؤسسات التمويل والتأمين، وحصر التجارة الخارجية في مؤسسات تابعة للقطاع العام».
ونحن نعتقد أن التدابير المذكورة أعلاه هي بين التدابير الأهم في مواجهة الكارثة المحدقة، على أن تتلازم مع إجراآت إضافية بين أهمها:
1) الحؤول دون المضي في سياسة الخصخصة، وحماية القطاع العام، وإخضاعه لرقابة مشددة يشارك فيها العاملون فيه، فضلاً عن المحاسبة الصارمة لكل حالات الفساد والهدر في شتى الإدارات والمؤسسات العامة؛ وفي الوقت نفسه التصدي الحازم للتوجهات الحكومية لتطبيق البرامج الاقتصادية والمالية النيوليبرالية، وبوجه خاص البرنامج الأصلي لرئيس الوزراء الأسبق الراحل، الذي يعلن الحريري الابن، والرئيس الحالي للوزراء، السنيورة، العزم على وضعه موضع التنفيذ.
2) إعادة النظر بالسياسة الضريبية نحو اعتماد الضريبة التصاعدية على الدخل، وإنزال أشد العقوبات بالتحايل على الضريبة من جانب أرباب العمل وأصحاب المهن الحرة والتجار وغيرهم من أصحاب الدخول المرتفعة.
3) وقف الاستدانة، وفرض تحقيق شامل لكشف حقيقة صرف عشرات المليارات من الدولارات المستدانة في الـ 15 سنة الماضية، مع ما رافق هذه العملية من نهب وهدر، وتحديد القوى المسؤولة عن ذلك والمستفيدة منه، ومحاسبتها الدقيقة على نهبها وهدرها، واستعادة الأموال المنهوبة مع فوائدها. كما ثمة أهمية كبرى للانضمام إلى القوى التي تناضل، عبر العالم، لأجل إلغاء ديون العالم الثالث، وفي ما يخص لبنان العمل على إلغاء جزء أساسي، على الأقل، من ديونه الخارجية. فضلاً عن ضرورة استعادة الأملاك البحرية وغيرها من الأملاك العامة من تحت سيطرة مستثمريها غير الشرعيين الحاليين، بعد إجراء تسوية لصالح خزينة الدولة تأخذ بالاعتبار الأرباح المحققة سابقاً من استثمارها.
4) المضي جدياً في استكشاف وجود كميات من النفط الخام والغاز، ولا سيما في المياه الإقليمية، لأجل استخراجها، ووضع أسس صناعة نفطية تملكها الدولة، وتتشارك مع العاملين فيها في تسييرها، وفقاً للالتزام بأقصى شروط حماية البيئة، ومياه البحر من التلوث.
· حول الطبقة العاملة واجهزتها: إنه لمعبّر جداً أن تكون النصوص المؤتمرية للحزب، وأدبياته الأخرى تسترسل منذ سنوات عديدة في تكرار تعبير الطبقة السياسية المتداول في الوسط السياسي اليميني بوجه عام، متحاشية الدخول في التحليل الطبقي، بفهمه الماركسي، وهو أمر يجب إعادة النظر فيه بصورة جذرية. وفي هذا السياق لا بد من التأكيد بوضوح كافٍ، في برنامج حزب يزعم الانخراط في سيرورة للتغيير الثوري، على دور الطبقة العاملة القيادي في هذه السيرورة، وعلى الحاجة القصوى لاستقلاليتها واستقلالية أجهزتها، السياسية كما النقابية. وهنا يجدر التشديد على ضرورة إعادة الاعتبار لدور الحركة النقابية، ولا سيما الاتحاد العمالي العام، في مواجهة الدولة وأرباب العمل، مع إعادة نظر جذرية في هيكليتها، ضمن هذه الغاية، والسعي الحثيث لضمان انغراسها في الوسط العمالي وقطاعات الإنتاج، والتزامها النضالي بالقضايا الشعبية والوطنية. هذا وثمة حاجة ماسة، في آنٍ، للتعبئة الشعبية الواسعة لأجل الكف عن تحميل الشغيلة إجمالاً، وكامل الفئات الاجتماعية المعسرة وزر الأزمة المسؤولة عنها حصراً الطبقات السائدة، وتالياً تطبيق سياسة اجتماعية قائمة على اعتماد السلم المتحرك للأجور، وتأميم المنشآت المهددة بالإفلاس والمتجهة نحو الإقفال، وتسييرها من جانب عمالها وموظفيها، كما حصل بالضبط خلال احتدام الأزمة الأرجنتينية، في السنوات الأخيرة. ناهيكم عن الضغط لأجل اعتماد الرقابة العمالية في شتى مرافق الإنتاج.
· وفي المسألة الزراعية، لا بد من التشديد على جملة مطالب من ضمنها التسليف بفائدة منخفضة للمزارعين، وتنظيم نزيه لتصريف المنتجات الزراعية، مع الحاجة لإحداث لجان لصغار المزارعين تكون بين مهماتها مراقبة عمليات النقل والتسليف والتسويق. ناهيكم عن الحاجة إلى اتخاذ تدابير لحماية المنتجين، ولا سيما الصغار بينهم، عبر منع إغراق السوق بالمنتجات الزراعية الأجنبية الحاظية بالدعم من بلدان المنشأ؛ فضلاً عن تقديم دعم جدي لقيام العمل التعاوني، ولا سيما في مجال الإنتاج والتسويق؛ ولاستكمال بنية تحتية متقدمة للزراعة، وفي مقدمة ذلك إنشاء السدود المدروسة، وحماية حقوق البلد الكاملة في مياهه، ولا سيما في الجنوب اللبناني، والعمل على الاستفادة القصوى منها.
· وبخصوص البيئة، فإن البلد مهدّد بصورة داهمة بخراب بيئته الكاملة، بحراً وبراً وعلى صعيد المياه الجوفية. وفقط فإن يساراً ثورياً حقيقياً قادر على طرح وتنفيذ برنامج متقدم لحماية الطبيعة ، ومصادر المياه والغابات، وذلك بمنظار معاد للرأسمالية، وفي سياق ذلك وقف المرامل والكسارات نهائياً ومنع الحرائق، ومكافحتها الفورية ومعاقبة مفتعليها، وإيجاد حل جذري للنفايات الصلبة والسائلة، والحيلولة دون التلوث الناجم عن الصناعة ومياه الصرف، وبوجه خاص ذلك الذي يصيب الأنهار والشواطئ، ومياه البحر.
· وعلى صعيد تحرر المرأة، نلاحظ أن هذه المسألة تمر عرضاً في شتى برامج الحزب، بينما ثمة حاجة ماسة جداً لوضعها في أعلى السلم البرنامجي لحركة التغيير. وهنا ينبغي التشديد على ضرورة تنفيذ مقررات مؤتمر بكين والأمم المتحدة من بعده، بخصوص إعطاء المرأة حصة في التمثيل النيابي لا تقل عن الـ 30 بالمائة من المقاعد، فضلاً عن تعديل جميع القوانين التي لها علاقة بوضع المرأة، ومن ضمنها قوانين الإرث والعمل، والعقوبات ، والجنسية، بحيث تحصل المرأة على مساواة فعلية مع الرجل، في شتى الميادين. علماً بأن وضع حد لشتى أشكال الاضطهاد الذكوري يمر أيضاً عبر دعم قيام حركة نسائية مستقلة، بالإضافة إلى انخراط النساء في الحركة العامة لتحرر المجتمع ككل.
· وفي ما يتعلق بإصلاح التمثيل السياسي، والموقف من الانتخابات، لا بد من إبراز ما يلي: في حين يلتزم الحزب بموقف جيد ثابت من ضرورة إقرار قانون يعتمد الدائرة الكبرى ( لبنان دائرة واحدة)، والتمثيل النسبي غير الطائفي، مع إنزال سن الانتخاب إلى الثامنة عشرة، والاقتراع في مكان السكن، نعتقد أن الموقف الذي يقفه من الهدف من الانتخابات لا ينسجم إطلاقاً مع الرؤية الثورية لهذه المسألة، التي إذ تعتبر أن على الثوريين توسل الانتخابات معبراً لشرح برنامجهم لأوسع الجماهير، والتحريض ضد السلطة الطبقية القائمة وفضحها، وفي حال بلوغ البرلمان اعتماده منبراً هو الآخر للدعاية والتحريض بصورة خاصة، لا تراهن على اعتبار الانتخابات معبراً إلى التغيير المطلوب. هذا في حين ترى الوثائق التمهيدية للمؤتمر الثامن (مشروع التقرير التقييمي...) أن الانتخابات «أداة كبرى من أدوات التغيير» وأن «الانتخابات لا تجري بالنسبة لنا كل 4 سنوات، بل كل الأربع سنوات!»
أكثر من ذلك ، فبعد أن كانت الوثيقة البرنامجية التي طرحت للنقاش على أعتاب المؤتمر السادس حددت موقفاً جيداً من مفهوم الديمقراطية يرفض الوقوع في تقديس الديمقراطية الشكلية البرجوازية القائمة على الفصل بين «الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاجتماعية» (ص11)، ويؤكد على ضرورة البحث عن صيغ للديمقراطية تضيف إلى الحرية السياسية ممارسة الشعب للسلطة، جاء المؤتمر التاسع بوجه خاص، ليطرح تصوراً معاكساً تماماً ، حيث نقرأ بالحرف: «آن الأوان للتخلي عن مواجهة النضال في سبيل الديمقراطية السياسية بكل أشكالها بزعم أولوية الديمقراطية الاجتماعية. فقد دلت تجارب معظم الدول العربية أن لا إمكان لتحقيق هذه دون تلك» (الموضوعات السياسية /التقرير السياسي، ص30).
· حول الجمعية التأسيسية: على الرغم من وجود لازمة في أدبيات الحزب حول ضرورة تطبيق اتفاق الطائف، توجه إليه هذه الأدبيات بعض النقد على أساس استناده «إلى تركيبة سلطوية هي تحالف هجين بين برجوازية كولونيالية وأمراء إقطاع وأثرياء حرب»، فضلاً عن طرحها سلسلة من المطالب الإصلاحية، من قانون الانتخابات وصولاً إلى طبيعة النظام، وكل ذلك إنما هو أبسط البديهيات واقل الإيمان، كما يقولون.. إلا أن ذلك يبقى بعيداً، عن مطلب ديمقراطي هو بين الأهم، حتى في معرض السعي نحو استيفاء شروط قيام ديمقراطية برجوازية فعلية، ألا وهو الدعوة إلى انتخاب جمعية تأسيسية على أساس غير طائفي. إن هذه الجمعية بالذات هي احد المداخل الأساسية نحو تجاوز البنى المتحجرة، والرجعية جداً للنظام القائم، ومن ضمنه اتفاق الطائف، بما هو اتفاق وضع تحت رعاية أنظمة التخلف والاستبداد العربية، وفي عقر دارها، مع إشراف حقيقي، وإن غير منظور، من جانب الإمبريالية الأميركية.
· في الحريات الديمقراطية. لقد تم النظر في بلدنا، حتى الآن، إلى مطلب الحريات الديمقراطية على أنه يعني حصراً إطلاق هذه الحريات. وهذا أمر بالغ الأهمية والضرورة، بلا ريب، وينبغي النضال باستمرار لحماية هذه الحريات، ومن ضمنها حرية الرأي والاجتماع والتجمع والانتقال، والتظاهر، مع إصدار قانون متقدم للأحزاب يضمن تأسيسها بحرية، على أساس العلم والخبر، والممارسة الحرة للحياة الحزبية.
إلا أن ما لا يقل أهمية هو أن يقترن ذلك بجعل ممارسة تلك الحريات ممكنة حقاً، عبر تأمين شروطها المادية. ولا سيما بخصوص حرية التعبير والإعلام، التي يجب ضمانها بمشاركة الدولة في تمويل الصحافة الحزبية، من دون قيد أو شرط، بحيث يتيح ذلك لليسار الثوري، أسوة بقوى اليمين، أن يكون قادراً على إصدار صحافة يومية، عدا تقديمها إعلاماً سليماً يكشف الحقيقة اليومية لنظام القهر والاستغلال الطبقيين، تكون أداة أساسية للدعاية والتكوين والتنظيم الحزبي والجماهيري.
· أما بخصوص المسألة القومية والوضع العربي، فنعتقد أن الحزب يخطئ حين يدرج تحليلاته منذ المؤتمر السادس في تصور جرى التركيز عليه أخيراً ، وبصورة نافرة جداً، من جانب أحد حلفائه الأساسيين سابقاً في تنظيم يساري زائل، مفاده وجود خلل متمثل في استصغار العمل الوطني اللبناني. فالوثيقة الفكرية السياسية التنظيمية، الصادرة عن ذلك المؤتمر تقول حرفياً: «فتغليب العامل العربي على العمل الوطني اللبناني قد أدى إلى تحميل لبنان أعباء لم يكن من الجائز في الأساس تحميله إياها، فضلاً عن أنها كانت اكبر من إمكانياته وقدراته» (ص27).
هذا في حين نعتقد أن المنظور العربي منظور يجب إيلاؤه موقعاً أساسياً في العمل النضالي للثوريين في شتى البلدان العربية، إذ إنه المدخل الأهم نحو تجاوز الأزمات البنيوية الخانقة في شتى هذه البلدان، ومنها بوجه أخص، لبنان بالذات. ويمكن، في ظروف محددة، أن يؤدي إعطاء أولوية لهذا المنظور إلى أن يتحمل أحد هذه البلدان أعباء كبرى قد تكون تتجاوز طاقاته، على أن يتم الضغط الكافي لكي يتلازم ذلك مع حصوله على الدعم المناسب من البلدان الأخرى وجماهيرها الواسعة. هذا مع العلم بأن العاملين الوطني والعربي ليسا بالضرورة، ودائماً مختلفين أحدهما عن الآخر، بل يمكن أن يتماهيا، أو أن يندمجا. وعلى أساس هذا الفهم يمكن القول إن لبنان، بتحمله أعباء كهذه، تمكن من تقديم مثال غير مسبوق، وبالغ الأهمية، في الصراع العربي مع إسرائيل، حين أجبر هذه الأخيرة، لأول مرة في تاريخ ذلك الصراع، على الانسحاب من أراضيه، من دون قيد أو شرط.
في كل حال، لا بد من أن يتضمن برنامج الثوريين المحليين، في هذا المجال، المهام الأساسية التالية:
- الضغط لأجل تحويل الجامعة العربية إلى مؤسسة فعالة تعمل على حل الخلافات سلماً بين أعضائها، وفرض تطبيق الاتفاقات المعقودة في إطارها، ولا سيما اتفاقية الدفاع المشترك، ومقاطعة إسرائيل والشركات المتعاملة معها، وسحب الاعترافات بها وقطع شتى أشكال العلاقات التي أقيمت إلى الآن معها من جانب العديد من الدول العربية.
- العمل على إلغاء الحواجز الجمركية بين الدول العربية، والسعي لإقامة سوق عربية مشتركة، تمهيداً لتوحيد العملة، وللدخول في سيرورة توحيدية شاملة، ولا سيما في ظل العولمة الرأسمالية الراهنة، والحاجة إلى احتواء الأضرار الجسيمة جداً التي تلحقها بالاقتصادات الوطنية، وبقدرة بلدان العالم الثالث على أحداث تنمية ذاتية حقيقية وسيطرة جدية على ثرواتها.
- تقديم أقصى أشكال التضامن والدعم للشعب الفلسطيني لأجل ممارسة حقه في العودة إلى وطنه على أساس القرار 194، ولإقامة دولته المستقلة في كامل الأراضي الفلسطينية التي احتلت عام 1967، بما فيها القدس، على طريق حل نهائي يضع حداً للظلم التاريخي الذي لحق بالشعب الفلسطيني.
- الضغط لإجبار الحكومات العربية على أن تضع في أعلى جدول أعمالها، في الأمم المتحدة والمنظمات الدولية المختلفة، مسألة نزع سلاح الدمار الشامل الإسرائيلي، ولا سيما السلاح النووي.
- رفض مشاريع الإدارة الأميركية لإقامة ما تسميه الشرق الأوسط الأكبر، والضغط في آنٍ لتفكيك القواعد العسكرية التي تقيمها في العديد من البلدان العربية وفي البلدان المجاورة، كتركيا بوجه خاص.
- دعم حق الشعب العراقي في فرض انسحاب فوري للقوات الإمبريالية من العراق، وفي استعادة سيادته، وسيطرته الكاملة على ثرواته، كما في الحصول على تعويضات كاملة عن الأضرار التي كبدتها القوات الأميركية والبريطانية والقوات المتحالفة معها للشعب العراقي منذ حرب عام 1991، ووصولاً إلى الحرب الأخيرة، بما في ذلك أضرار الحصار الاقتصادي بين الحربين المشار إليهما.
- السعي لإرساء علاقات تضامن وتنسيق وثيقة بين قوى اليسار في شتى البلدان العربية، على أساس البنود الواردة في هذا البرنامج. فضلاً عن بلورة نقاط برنامجية ذات طابع انتقالي، تتضمن السعي المشترك لإنهاء السيطرة الإمبريالية على ثروات الوطن العربي، ولأجل إحداث تصنيع متقدم للمنطقة على أساس المصالح الفعلية للمواطنين، سواء كمنتجين للثروة الاجتماعية أو كمستهلكين، مع مراعاة دقيقة لحماية البيئة، وإرساء الأسس الفعلية للتحول الاشتراكي، بالتعاون والتضامن مع شعوب العالم الأخرى.
· وأخيراً بما يخص المسألة الأممية، فمع أن الحزب كان قد تحدث منذ الأعمال التمهيدية للمؤتمر السادس عن الحاجة إلى «تضامن أممي جديد قائم على وحدة المصالح»، وعاد النص المذكور أعلاه الصادر عن المؤتمر التاسع، فأشار إلى «أن شعوب العالم وقواها، ومن بينها الشعب الأميركي، قادرة على بلورة أممية جديدة، أممية ديمقراطية حقاً، وإنسانية حقاً، من شأنها أن توازن الخلل السائد في ميزان القوى المادي، وان تتفوق عليه (...)»، فليس ثمة تصور واضح لهذه الأممية، ولقوامها، ولمهامها الأساسية المطلوبة، كهيئة أركان عالمية لإطاحة الرأسمالية ومظالمها نهائياً.
إننا نعتقد أن ثمة حاجة لبلورة سلسلة من المطالب التي يمكن أن تصب في هذا الاتجاه، ويمكن أن تشكل تصوراً أولياً لها النقاط الآتية:
- المشاركة في كل النشاطات التي تتم، على المستوى العالمي، ضد العولمة الرأسمالية والعسكرة، ومن أجل عولمة بديل، كما لأجل إحباط المغامرات العسكرية للدول الإمبريالية، وتعزيز نضال الشعوب لأجل السلام.
- الضغط لأجل تحويل المنظمة العالمية إلى منظمة متحررة من الهيمنة الأميركية، أو أي هيمنة إمبريالية أخرى، وتمثل حقاً مصالح الشعوب في عالم يسوده السلام القائم على العدل، والتنمية المتوازنة، وتبادل الخبرات والمعارف والخيرات، وإنهاء الاستغلال والقمع وشتى أشكال التمييز بين الشعوب والأجناس والأديان والحضارات.
- السعي الحثيث للرد على انتظام الدول الرأسمالية الصناعية الكبرى، والقوى الإمبريالية العالمية، في تجمعات وأحلاف (الحكومات الثماني، الحلف الأطلسي، منتدى دافوس وتفرعاته، الخ...) بأممية الشعوب المقهورة والطبقات المستغلة في شتى أنحاء العالم، وبناء الأشكال المناسبة في عصرنا للتلاقي والتضامن والكفاح المشترك للكتل البشرية الكبرى، عبر العالم، المتضررة من هيمنة الشركات العابرة للقارات، والمهددة بسياسة الاستغلال المفرط للإنسان والبيئة على أساس تحقيق أقصى الربح، في أسرع وقت ممكن، وبالتالي على حساب البشرية ككل وكوكب الأرض وغلافه الجوي، وشتى أشكال الحياة على هذا الكوكب.
- إعادة الاعتبار، سواء عبر الجهود النظرية، أو في الممارسة اليومية، على أساس المصالح الفعلية للناس، ذكوراً وإناثاً، ومن كل الأعمار، وفي كل مكان، لمشروع اشتراكية خلاقة وديمقراطية لن يكون إنجاز مهامها ممكناً إلا على مستوى عالمي، وبمبادرة من أوسع الكتل البشرية في شتى مواقع الإنتاج، والعمل، والسكن، وفي المدينة كما في الأرياف، وذلك على أساس نموذج للتطور الاقتصادي لا يتميز فقط عن الديمقراطية البرجوازية واستبداد المال، بل كذلك عن الديكتاتورية البيروقراطية واستبداد الدولة، نموذج ديمقراطية «المنتجين المتشاركين بحرية» والمستهلكين، الذي يدمج البعدين النسوي والقومي، المتمثلين في إنجاز سيرورة حقيقية لتحرر المرأة والقوميات المضطهدة، ويولي اهتماماً أساسياً لحماية البيئة.
2 ) التحالفات:
لقد كانت الأممية الثالثة، في عصرها الذهبي، أي في السنوات الأربع الأولى لقيامها (1919/1922) بوجه أخص، طرحت مفهوم الجبهة المتحدة في ما بين المنظمات والأحزاب العمالية، على أساس برامج ثورية لإطاحة الرأسمالية، لكنها تركت المجال مفتوحاً أمام لقاءات ظرفية مع قوى شتى، ومن طبقات مختلفة، لأجل أهداف محددة، وعلى أساس مبدأ «الضرب معاً والسير على حدة». وهو فهم لا يزال صالحاً إلى الآن، يضمن عدم خلط الرايات، وحماية وعي الجماهير، ومهمة الارتقاء بهذا الوعي إلى حدود تسمح بإنجاز عملية التغيير. وفي إطار هذا الفهم، يمكن الاهتمام بإقامة علاقات تتفاوت وثوقاً مع العديد من القوى الوطنية، أو الديمقراطية، بهدف العمل المشترك مع هذا الطرف منها أو ذاك، أو أكثر من طرف بينها، بحسب الحالات، لأجل نقاط برنامجية أساسية، كالعلمنة الشاملة، أو حماية المقاومة، أو إعطاء الحقوق الديمقراطية للفلسطينيين في لبنان، أو فرض قانون انتخابات ديمقراطي، أو حماية البيئة، أو ضمان مساواة فعلية للنساء، أو منع الخصخصة ووقف الاستدانة، وما إلى ذلك.
هذا وإن الحزب، في ممارساته السابقة المنحكمة بالفكر والممارسة الستالينيين، تعامل مع هذه المسألة على أساس تمييع واسع للحدود الطبقية، ولا يبدو أن إدانته منذ المؤتمر السادس، ونقده المرير للستالينية، أتاحا له تعديل سياسة التحالفات لديه.
فعلى رغم التبدل العميق في طبيعة الحزب التقدمي الاشتراكي، في ظل قيادة السيد وليد جنبلاط، وظروف الحرب وما بعدها، بحيث بات يغلب على هذا الحزب الفكر والبرنامج الطائفيان، والالتحاق العميق بقيادة البرجوازية المصرفية والمالية، وبرنامجها ، جاءت وثائق المؤتمر السادس للحزب الشيوعي اللبناني لتعلن بوضوح ما يلي:
«إن الحزب الشيوعي اللبناني سيواصل نهجه العام للتحالف والتعاون مع الحزب التقدمي الاشتراكي وكل القوى والتنظيمات السياسية على أساس أوسع انفتاح سياسي واكثرها مرونة».
وإذا كان هذان التحالف والتعاون لم يتحققا، عملياً، فلم يكن ذلك بقرار من الحزب الشيوعي ، بل بفعل موقف الزعيم الجنبلاطي بالذات وتوجهاته الخاصة به.
أكثر من ذلك، لقد بلغ التميع في فهم مسألة التحالفات، في ظل الموقف المتكرس الآن من موضوع الانتخابات، حدوداً قصوى، إلى حد أن الحزب يعترف في وثائق مؤتمره التاسع انه حاول إقامة تحالف انتخابي" مع لائحة كرامي" في الشمال، في العام 2000، وشرح الموقف الذي اتخذه من ترشيح السيد غبريال المر في الانتخابات الفرعية على الشكل التالي:
«من جهتنا بكرنا في إعلان تأييد المرشح غبريال المر، محاولين تعزيز الجوانب الديمقراطية في المعركة وسعينا لكي ينسحب المرشح غسان مخيبر لمصلحته(...) وقد انخرطت منظماتنا وانخرط رفاقنا بنشاط في هذه المعركة».
وضمن تصوره للانتخابات ، توصل الحزب إلى اعتبار أن «النجاح والحصول على أكبر عدد ممكن من الأصوات هو الثمرة الأساسية لكل معركة انتخابية، وذلك يستدعي إلى التحالفات الفعالة في ضوء الخطة، تأمين أوسع عملية تبادل أصوات بحيث يضاعف الشيوعيون أصوات مرشحيهم إلى اكثر من مرة ، مستخدمين قدرتهم على التجيير وفق لوحة معقدة ولكن مدروسة مبكراً على مستوى كل قرية وبالتعاون مع عشرات المرشحين هنا وهنالك» (وثائق المؤتمر الثامن، مشروع التقرير التقييمي / مشروع النظام الداخلي).
وبالطبع إن ذلك ينسف بالكامل التصور الماركسي للانتخابات ، ووظيفتها بالنسبة لحزب ثوري. الأمر الذي يتطلب بالضرورة إعادة نظر جذرية في هذه التحولات، التي تلغي مسألة الارتقاء بوعي الجماهير، وبتعبئتها، باتجاه القطيعة مع الوضع القائم، والانخراط في سيرورة التغيير، وتفضي في الواقع إلى تكريس اندماج هذه الجماهير وحركتها بالمجتمع القائم والأنظمة الرجعية السائدة.
ج – الديمقراطية التنظيمية:
لقد كانت الأعمال التمهيدية للمؤتمر السادس طرحت تصوراً متقدماً جداً لهذه الديمقراطية نتبناه بالكامل، وإن كان الحزب عجز عن وضع هذا التصور موضع التطبيق وتكريسه في المؤتمر السابع، ومن ثم في المؤتمرين الآخرين اللاحقين. فلقد نص مشروع الوثيقة البرنامجية المنوه بها سابقاً ومن ثم الوثيقة الفكرية السياسية التنظيمية الصادرة عن المؤتمر السادس على ما يلي:
« ينبغي على الحزب أن يؤمن حق كل رفيق بأن ينشر كل آرائه في صحافة الحزب، وحق كل رفيق أن يعترض على قرارات الهيئات الحزبية، وان يبرر اعتراضه وينشره ويعممه في وسائل الحزب (...) إن حزباً من هذا النوع ينبغي أن يكون قادراً على استيعاب الاتجاهات والتيارات المختلفة التي يشكل حوارها ونقاشها إغناء للحزب وإسهاما في إيصال رأيه إلى الجماهير .. إن المنطق السابق حول الكتل الانقسامية سيتغير بالنسبة لهذا المفهوم الديمقراطي، وهو مفهوم سابق كان يستند إلى العقلية التآمرية في القيادة وفي المعارضة، وليس إلى «العلنية» التي هي أساس حرية الرأي وحرية الاختيار وحرية مغادرة الحزب أفراداً وجماعات، وحرية تكوُّن رأي أكثرية يتجلى في النهاية في وصول أصحابه إلى موقع القرار الأساسي في الحزب من خلال صراع ديمقراطي عادي وليس من خلال عملية قيصرية (الوثيقة الأولى، ص 73 – 74، والوثيقة الثانية، ص51) .
هذا وسوف ننهي حديثنا عن الاحتمال الأول، المتعلق بتجاوز الحزب لذاته الراهنة، بإيراد هذا المقطع من النص الذي كانت أوردته نشرة ما العمل؟، التي كان يصدرها التجمع الشيوعي الثوري، والذي كان يعبر عن نقد اللجنة المركزية للتجمع آنذاك لمشروع الوثيقة البرنامجية المقدم إلى المؤتمر السادس للحزب، وهو النقد المؤرخ في 14 آب 1991.
يقول النص المذكور: « ونحن واثقون من أن هناك قسماً هاماً من مناضلي الحزب الشيوعي اللبناني وكوادره ومثقفيه قادرون فعلاً على إنجاز ذلك التحول التاريخي بعد ان غدت ضرورته جلية في ضوء انهيار عالم أوهامهم السابقة الذي كان البيروقراطيون المهترئون يتربعون على كراسي السلطة فيه وينطقون زوراً باسم الشيوعية، مقدمين اكبر خدمة تاريخية لأعداء الشيوعية على اختلاف أنواعهم وتعددها. إن مهمة إعادة الاعتبار للشيوعية الحقيقية، شيوعية ماركس وإنجلس ولينين وتروتسكي وروزا لكسمبورغ وأنطونيو غرامشي باتت اليوم ألحّ المهام لكل شيوعي حقيقي، ونحن من هذا الصنف وعلى أتم الاستعداد للعمل يداً بيد مع كل الذين يشاطروننا هذا التوجه بخطوطه العريضة.
«غير أننا لسنا موهومين، ويجب ألا يكون أحد موهوماً، حول إمكان تحويل الحزب بأكمله في الاتجاه الثوري المطلوب تاريخياً. فان هذا الحزب ضم ويضم شتى أنواع البشر من أفضل الناس إلى أردئهم، من مناضلين ثوريين متميزين بروح الفداء إلى بيروقراطيين لا يختلفون نوعياً عن زملائهم الذين أسقطتهم الجماهير الغاضبة في أوروبا الشرقية. إن انسلاخ الأولين عن الآخرين شرط من الشروط التاريخية لتحول الحزب الشيوعي اللبناني، أو عموده الفقري المناضل، إلى حزب يتناسب برنامجه وممارسته السياسية مع اسمه. لكن مقتضيات هذا الانسلاخ قد لا تكون ناضجة بعد وتتطلب استكمال عملية الفرز الضرورية التي لا يمكن أن يقدّر المستوى الذي بلغته سوى الذين يعرفون الحزب من الداخل.
«إن عملية الفرز التاريخي بين الثوريين والإصلاحيين تتخذ أشكالاً متعددة بحسب الحالات، من تطهير أو تساقط أو انشقاق. إلا أن شرط إتمامها بأفضل حال هو أن تكون عملية سياسية بالدرجة الأولى وعملية ديمقراطية، أي غربلة مستندة إلى الجدال النظري والبرنامجي والسياسي في إطار ديمقراطي يصون حرية النقاش ويحسمه بالاحتكام إلى أصوات القاعدة الحزبية، وليس بإجراءات القمع البيروقراطي الخانق لكل نقاش وإبداع. فان الحزب العمالي لا بد أن يكون حزباً طوعياً، يلتقي فيه من يشاء وينسلخ عنه من يشاء في ضوء موازين القوى داخله وطبيعة الخلافات ، ولا يُمارس الطرد إلا في حالات قصوى تشكل خرقاً حقيقياً لمنطلقات أساسية حيوية في حياة الحزب وليس لمجرد الاختلاف في الرأي كما درجت العادة في الأحزاب الستالينية. إن المطلوب هو حزب يعود إلى الأصول البلشفية الحقيقية في تنظيمه، بعيداً عن الستالينية، حزب يتوفر فيه شرط الديمقراطية الأساسي ألا وهو التعددية، أي حرية تشكيل التيارات المعارضة لنهج الأكثرية في القيادة وحريتها في التعبير عن آرائها داخل صفوف الحزب وفي تنسيق خطاها في هذا السبيل ، شرط احترامها قرارات الأكثرية، وقرارات القيادة المنتخبة ديمقراطياً، في مجال النشاط الخارجي للحزب. تلك هي المركزية الديمقراطية الحقيقية، التي مارسها الحزب البلشفي طوال تاريخه حتى ذلك القرار الخاطئ في عام 1921 الذي منع التكتلات في لحظة كانت حرجة حقاً وساهم في تعبيد الطريق أمام الستالينية».
إن تحولاً من هذا النوع، مهما يكن عسيراً، سيكون مدخلاً، في حال حصوله، لتغيرات عميقة في حالة الشرذمة الراهنة لليسار المحلي، إذ يمكن أن يقود إلى مؤتمر توحيدي شامل لكل الذين يجدون مستقبل نضالهم في منظور التغيير الجذري للدولة والمجتمع اللبنانيين. وهو ما كان الطرف نفسه المذكور أعلاه قد عبر عنه أيضاً في رسالة وجهها إلى المؤتمر السابع للحزب الشيوعي اللبناني، في أيار 1993، بين ما جاء فيها:
«ولا شك أن إعادة الاعتبار للحرية الداخلية سوف تقف عائقاً في وجه النمو البيروقراطي، وتساعد في إطلاق سيرورة الوحدة في صفوف اليسار الديمقراطي، وربما شكلت مدخلاً لأن ترى تجمعات اشتراكية عدة خارج الحزب مكاناً لها فيه، في ظل تغيير حقيقي يتم فيه التخلي عن العصبوية، واحترام التعددية وتنوع الاتجاهات. ذلك أنه لا أحد يملك الأجوبة الجاهزة عن مجمل مشاكل الحياة، ولا أحد يمتلك وحده الحقيقة. وبقدر ما يصبح ذلك قناعة عميقة يصبح بالإمكان الخروج من التقوقع إلى الوحدة، ومن العمل الفئوي إلى أوسع أشكال النضال المشترك. إلا أن شرطاً أساسياً لا يمكن المهادنة بشأنه، ألا وهو مصالح جمهور الكادحين، والاحتفاظ بالاستقلالية تجاه الرأسمالية وأجهزتها وأحزابها».
2 – الاحتمال الثاني: حزب شيوعي ثوري جديد
وهو يصبح أمراً محتوماً إذا فشل الحزب الشيوعي اللبناني في الاضطلاع بالمهمة الواردة، في سياق الاحتمال الأول. ويتمثل ببناء حزب شيوعي ثوري جديد انطلاقاً من نواة ديمقراطية ثورية تسترشد بوضوح بالماركسية كدليل، وكمنهج في فهم التناقضات الاجتماعية وتحديد سبل حلها وتتبنى فهماً للبرنامج والتحالفات وللعلاقات التنظيمية شرحناه أعلاه. على أن يتجمع في هذه النواة عناصر من اكثر من اتجاه في تجربة هذا اليسار، وبالتأكيد من تجربة الحزب الشيوعي اللبناني والأحزاب والمنظمات اليسارية الأخرى، سواء منها الباقية أو تلك التي جرى حلها، أو انحلالها.
هذا وسيكون على هذه النواة أن تخاطب الشيوعيين والثوريين والتقدميين من شتى الضفاف للانخراط في سيرورة البناء وإعادة التجمع هذه ، فاتحة الأبواب بوجه خاص أمام النساء والشباب، والمثقفين الثوريين والطلاب والعمال والفلاحين الفقراء والمهمشين والعاطلين عن العمل.
أما الحالة التي سوف تسعى لاستكمال عناصرها، وإعطائها بنيتها التنظيمية المتماسكة، على قاعدة العداء للرأسمالية والاستقلال الكامل عنها، والالتزام بقضية الكادحين ككل، يدويين وذهنيين، فيفترض أن تتبنى في آن معاً ديمقراطية تنظيمية واسعة، يكون المجال متاحاً فيها بالكامل لتفاعل حي وحوار خلاق، ليس فقط بين القيادة والقاعدة داخل هذه الحالة، بل أيضاً بين هذه الأخيرة والمجتمع، على أن يتم، ضمن هذا المنظور، إطلاق حرية إنشاء الاتجاهات، والتعامل مع التكتلات، أو التيارات، في حال قيامها، على أساس أنها حق تنظيمي لا يستدعي تشجيع ممارسته بالضرورة، لكن ينبغي، بالمقابل، اعتبار هذه الممارسة تعبيراً عن الاختلاف المشروع في الرأي جديراً بالحماية، مع الإفساح في المجال للنضال من اجل انتصار هذا الرأي، على أساس التكافؤ الكلي للفرص في ما بين شتى التوجهات والآراء.
إن ما يطرحه هذا الاحتمال من خيارات ينبغي، في كل حال، أن لا يتم النظر إليه على انه في حالة تناقض مطلق مع الاحتمال الأول. كلا، بل إن مستقبله يتوقف على القدر الذي يمكن المبادرين إليه أن ينجحوا، مع الوقت، في أن يفتحوا نوافذ الأمل، ليس فقط أمام الشيوعيين الذين تركوا الحزب الشيوعي (والمنظمات الاشتراكية الأخرى) ، أو جمدوا نشاطهم ضمن أطره، على امتداد العقود الأخيرة، بل كذلك أمام الباقين فيه (وفي تلك المنظمات).
هذا مع العلم انه لا بد من أن تضطلع الحالة التنظيمية الجديدة – التي سيكون من الضروري السعي لبنائها في حال الفشل في إنجاح المسعى الذي يطرحه الاحتمال الأول – بمسعى دائم للحوار الرفاقي الحقيقي مع الحزب الشيوعي اللبناني، بشتى الطرق، وعبر مختلف القنوات، لأجل استشراف إمكانات إنضاج الوحدة معه، وفي حال الفشل في ذلك إنضاج أشكال جديدة من الممارسة المشتركة، وذلك في العلاقة بهيئاته القيادية ، وحتى بقواعده في شتى المواقع.
إنها بعض الأفكار التي قد يكون في وسعها تشكيل نقطة انطلاق إلى نقاش جدي، في صفوف الشيوعيين، من شتى التجارب التنظيمية، كما من خارج هذه التجارب، نحو تأسيس حالة قادرة على إنهاء التشرذم والضياع الراهنين، وبلورة علاقات تنظيمية ديمقراطية وبرنامج سياسي متقدم؛ ووضع حد للبلبلة المخيفة الراهنة داخل الحركة الجماهيرية، وللشلل الذي يمنعها من التصدي بفعالية ونجاح لهجمات سلطة طبقية وطائفية مأزومة وممعنة في الرجعية، من جهة، وفي الانجراف وراء مخططات الإمبريالية الأميركية وأعوانها الدوليين والإقليميين، من جهة أخرى، كما للسلام الصهيوني الذي يجري السعي لفرضه حالياً، بمباركة من واشنطن وتغطية وتواطؤ من الأنظمة العربية الممعنة في التآمر والخيانة والاستسلام.
وهذا لا يعني رفض أي حوار على أساس تصورات مختلفة. على العكس، فثمة استعداد للتعامل بديمقراطية قصوى مع الأفكار والآراء التي قد يطلقها آخرون من تجارب أخرى. المهم أن تشعل الشرارة، التي نود أن تشكلها هذه التصورات الأولية، أكداس الأفكار اليابسة التي لا تني تربك الساحة اليسارية وتمنع الرؤية الواضحة في صفوف القوى الاجتماعية ذات المصلحة الحاسمة في التغيير.





#كميل_داغر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ماياكوفسكي سيكون حزيناً
- لئلا تنجح خطة تقسيم العراق وتقزيمه رسالة إلى أصدقاء عراقيين ...
- لبنان: أزمة وطن وأزمة يسار
- اغتيال الحريري وإطلاق الجن قراءة هادئة لشهر هائج
- مقدمة الترجمة العربية ل-النبي المنبوذ-، الجزء الثالث من سيرة ...
- مقدمة الجزء الأول من الترجمة العربية ل -النبي المسلح- الجزء ...
- رداً على المجلس الأعلى للثورة الإسلامية أليس من خيار غير الن ...
- كلنا معنيون بمصير الشعب العراقي
- حكومة الموت وطائر الفينيق


المزيد.....




- -لقاء يرمز لالتزام إسبانيا تجاه فلسطين-.. أول اجتماع حكومي د ...
- كيف أصبحت موزة فناً يُباع بالملايين
- بيسكوف: لم نبلغ واشنطن مسبقا بإطلاق صاروخ أوريشنيك لكن كان ه ...
- هل ينجو نتنياهو وغالانت من الاعتقال؟
- أوليانوف يدعو الوكالة الدولية للطاقة الذرية للتحقق من امتثال ...
- السيسي يجتمع بقيادات الجيش المصري ويوجه عدة رسائل: لا تغتروا ...
- -يوم عنيف-.. 47 قتيلا و22 جريحا جراء الغارات إلإسرائيلية على ...
- نتنياهو: لن أعترف بقرار محكمة لاهاي ضدي
- مساعدة بايدن: الرعب يدب في أمريكا!
- نتانياهو: كيف سينجو من العدالة؟


المزيد.....

- المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية / ياسين الحاج صالح
- قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي / رائد قاسم
- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - كميل داغر - سياسة حافة الهاوية وافتقاد يسار ثوري فاعل