أخبار الشرق - 21 شباط 2003
خرج البريطانيون والأمريكيون والإيطاليون والأسبان .. متظاهرين في 15 شباط 2003 لأن مشكلتهم مع جورج بوش وطوني بلير وسلفيو برلسكوني .. أي مع سياسات دولهم ونخب السلطة فيها، ولأنهم يستطيعون الخروج والتظاهر. بينما لم يخرج الناس في البلاد العربية لأن مشكلتهم ليست مع بوش وبلير وشركاهم، ولأنهم لا يستطيعون الخروج والاحتجاج ضد "أهل" مشكلتهم. لم يخرج المتظاهرون الغربيون دفاعا عن صدام حسين ونظامه، بل في الأساس احتجاجا على خيارات حكومات بلدانهم، وبالمقابل لم يقعد الناس لدينا حبا ببوش وبلير ولا ترقبا لخير يأتي على أيديهم، بل رفضا "سلبيا" لأنظمتهم وإدراكا منهم أنه يصعب أن يكون الآتي أسوأ.
من المستحسن أن نثق ثقة إيجابية بسلبية الجمهور العام لدينا أو أن نعطيها ما تستحق من اهتمام، فهناك الكثير من الحكمة في امتناع الناس عن الاستجابة لدعوات التظاهر، بما فيها الصادرة عن قوى وأحزاب مستقلة أو معارضة، ضد الغزو الأمريكي المرتقب للعراق. ومن السذاجة، المفيدة والضرورية، أن نذكر أن هذه الثقة أقل تعارضا مع الديمقراطية من أي موقف آخر، حتى لو انتحل الحداثة والعقلانية. وسنحاول أن نثبت أنها تنطوي على قدر من الحقيقة ومن "الثقافة"، ومن الوطنية، أكبر بكثير من العقائد المستقرة ومن أكثر تحليلات المثقفين.
يتنوع جمهور المحتجين الغربيين كثيرا: بعضهم ضد الحرب بالمطلق، وبعضهم يساريون ضد الامبريالية وحروبها، وبعضهم يرون أن التفتيش عن الأسلحة العراقية لم يستنفد فائدته، وقد يؤيدون الوسائل العسكرية إذا اقتنعوا بأنها الخيار الوحيد، وهناك من يخشى توجه حكومة بلاده نحو سياسات داخلية متشددة إذا مرت مغامراتها العسكرية دون احتجاج، وبعضهم أخيرا عرب ومسلمون لا يريدون حربا على ذوي قرباهم. وهم في كل الحالات آمنون من الخوف المزعزع الذي بلغت الحكومات العربية فيه مراتب عالمية لا تجارى خلال الربع الأخير من القرن العشرين. وليست السلبية المفترضة للقاعدين العرب أقل تركيبا كما سأبين.
سياسة التظاهر
لم يتجاوز عدد المشاركين في التظاهرات المستقلة في دمشق خمسة آلاف شخص، وأقل منها في المدن السورية الأخرى. وكانت ذروة هذه التظاهرات في أواخر آذار وبداية نيسان 2002 تضامنا مع الفلسطينيين في ذروة السحق الإسرائيلي لهم. أما بعد ذلك، وصولا إلى تظاهرات التضامن مع العراق، فقد تراوح عدد المشاركين بين مئات قليلة أو ربما ألفا أو ألفين. لكن التظاهرات الحكومية كانت تصل إلى مليون أو تتجاوزه. في 15 شباط تحدثت وسائل الإعلام الرسمية عن مليون متظاهر، بينما قدرتهم الوكالات الأجنبية بحدود 200 ألف. وليس من المستبعد أن يكون الرقم الأول قريبا من الصحة إذا عرفنا أن الاشتراك فيها إلزامي "تحت طائلة المسئولية" على كل طلبة المدارس وعلى موظفي الدولة جميعا. ثم أن الهتافات والصور واللافتات المرفوعة في هذه التظاهرات مقررة سلفا من الجهات الرسمية المنظمة لها. وتتكرر معظم الهتافات والشعارات في جميع المناسبات على اختلافها محتفظة بطابعها الاحتفالي والمحتفي بالذات الرسمية (القائد والحزب والثورة والمنجزات والانتصارات ..) حتى حين يفترض أن التظاهرة احتجاجية. وهكذا لم يعد التظاهر فعلا طوعيا احتجاجيا، غير رسمي بالتعريف حتى لو لم يكن احتجاجا على السياسات الرسمية، بل صار أمراً موجها من أعلى يوظف "المناسبات" لمسرحة فعل الخضوع الاجتماعي و"تطهير" نفوس المشاركين من "العواطف والأفكار السيئة". التظاهرة الاحتفالية في جوهرها طقس وظيفته بسط سيطرة السلطة السياسية على كامل المساحة الاجتماعية والتعبير عن قدرتها على تشكيل الصلصال الاجتماعي كما تشاء وإنطاقه بما تشاء.
نخطئ إذا قلنا إن هذا التظاهر لا يحتاج إلى إيمان الناس بما يقولون ويهتفون؛ إنه في الحقيقة يحتاج إلى عدم إيمانهم. فحين تقول المرة تلو المرة ما لا تؤمن به فإنه يتم تفريغك من داخل وتؤمن بالتدريج بلا شيء. وبهذا تخلع ذاتك الفاعلة القابلة للحرية وترتدي ذاتا وكيلة لا تستطيع الاعتراض. وحين تستطيع أية سلطة أن تدفع الناس إلى قول كلام لا معنى له فإنها تقوم بفعل "إخصاء" رمزي وتحتكر لنفسها المعنى والفحولة، بقدر ما تجعل حياتهم العامة أو المرئية ضامرة وبلا معنى. وبموازاة ضمور العضو العام، اللاوظيفي، يتعود المتظاهرون والناس جميعا، شيئا فشيئا، على أن انقطاع الاتصال بين ما يجري على ألسنتهم وبين ما يجري في نفوسهم، أي على فنون التظاهر والمداراة والغش التي تجعل الحياة العامة تكاذبا عاما. هكذا تتم صناعة وحراسة "الظاهرة الصوتية" وإنتاج الناس الفارغين أو "الرجال الجوف". ليست "الظاهرة الصوتية" طبيعة ثقافية عربية بل هي صناعة سياسية.
بيد أن هذا التفريغ ينطبق على الشخصية المرئية، الواقعة تحت أنظار "الأخ الأكبر" الافتراضي لكن الواقعي جدا، في العمل أو الشارع أو الجامعة. أما الإيمان و"الحرية" فينحازان إلى داخل البيت أو داخل النفس المسورة. النتيجة بالطبع رعاية الفصام العام والازدواجية كهوية وطنية.
شارع السلطة .. سلطة الشارع
هذه الممارسة المتكررة والطقسية لا تثير نفور الناس فقط ولكنها تبهدل "القضايا الكبرى" وتغرس ما يشبه المنعكس الشرطي في الأذهان: القضايا والمواقف المبدئية والأمة والعروبة .. هي وسائل السلطة لتجريدهم من السيادة على نفوسهم وحياتهم.
علينا إذاً أن نكف عن البحث عن "الشارع العربي" في شوارع المدن العربية لنستطيع أن نفهمه. الشارع محتجب في البيوت، بعيدا عن الأعين. أما الشارع كظهور وسفور وعلانية فملك للسلطة، وليس للسلطة إلا قضية واحدة هي السلطة ذاتها. فهي النرجسية المطلقة. وهذا ما لم يخطئ أحد من الناس في فهمه، إلا المثقفين.
من نتائج التظاهرات الاحتفالية أو "المسيرات" أيضاً أن هذا الأسلوب للتعبير عن الرأي العام يمسي "محروقا" ومشكوكا فيه سلفا. وهذا ما يفسر عدم استجابة الناس في سورية لدعوات التظاهر المستقلة من أجل فلسطين والعراق رغم هامش الأمان المعقول. فالمنعكس الشرطي يربط فعل التظاهر بـ "التظاهر" وارتداء قناع النفس الوكيلة، الذليلة، المسماة المواطن الصالح. لكن يضاف إلى هذا التفسير هنا أنه في هذه القضايا "القومية" بالذات ينحسر التمايز بين خطاب السلطة وخطاب المعارضين والمستقلين إلى درجة تقارب الصفر. قد يعكس ذلك رغبة المعارضين في الظهور إلى العلن بعد طول احتباس أو حبس، لكنه يجازف باندراجهم في خطط السلطات واستراتيجيتها للتعبئة والتنميط الاجتماعي. بالنتيجة: حيث يكون التظاهر ممكنا فإن أسبابه ضعيفة من وجهة نظر مطالب الجمهور العام، وحيث تكون الأسباب قوية وتستحق الاحتجاج فإنه يصبح مستحيلا ويقع "تحت طائلة المسئولية".
وهكذا نرى أن دوافع الناس لعدم الخروج لدينا ليست أقل تركيبا عن دوافع الغربيين للخروج: الشارع للسلطة، التظاهر طقس مصادر يذكرهم بنفوسهم الوكيلة والذليلة، افتقار التظاهرات المستقلة إلى لغة ورموز مستقلة، ثم إنهم بالطبع لا يستطيعون التظاهر احتجاجا على ما يريدون الاحتجاج عليه.
ما أريد الوصول إليه هو أن الغربيين يحتجون بالظهور والخروج إلى الشارع، شارعهم، بينما يحتج الناس في بلادنا بالنأي عن شارع السلطة والقعود في البيوت. ليس هذا سلبية واستقالة، فحين تحتل السلطات الميدان العام وتحتكره فإن هجر الميدان العام ومقاطعته فعل عام إيجابي. وليس هناك أي شيئ لا عقلاني في رفض الإنسان الدفاع عن ذله، وليس هناك أية سلبية حيال المصير العام حين تكون السلبية هي الشكل الوحيد المتاح للاعتراض السياسي.
والخلاصة أن المنطق الذي يفسر الظهور والخروج هناك، في أوروبا وأمريكا، هو ذاته الذي يفسر القعود والامتناع عن الظهور هنا. ولا نحتاج إلى منطق أو عقل أو منهج مختلف لفهم ذلك. لكن قد نحتاج إلى التذكير أن افتراض لزوم منهج مختلف أو منطق مختلف لفهم الشئون العربية هو العنصرية بالتمام والكمال. وليس من النافل أن نذكر كذلك بنسخة مقلوبة، عنصرية بدورها، عن الثنائية أو التعدد المنهجي، تسند نفسها إلى الإسلام وتستثني العالم كله من "الأمة الإسلامية": أسلمة المعرفة وأشباهها.
نريد من هذا التحليل أن الشعوب العربية مقالة وليست مستقيلة، ومسلوبة وليست سلبية. لكن الدوام المديد لشرط الإقالة هذا سيقود، ويقود منذ الآن، إلى استقالة وسلبية تستمر من ذاتها دون حاجة إلى أسباب؛ ستصبح كطبيعة سبينوزا: علة ذاتها.
__________