أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عباس علي العلي - المشروعية ومصدر الإرادة















المزيد.....

المشروعية ومصدر الإرادة


عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)


الحوار المتمدن-العدد: 5579 - 2017 / 7 / 12 - 02:26
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


في كل الدساتير في العالم الحديث وحتى بعض التجارب القديمة يشار إلى مصطلح المشروعية الدستورية، حينما يشار إلى جانب أو جوانب مشتركة على أنها مصادر التشريع لبيان ماهية الأسس التي يستند عليها العقد الأجتماعي للدولة وكيفية التعبير عنها، مثلا في دستور عام 2005 لجمهورية العراق الأتحادية يشير النص إلى جملة مهمة في هذا المجال حينما جعل من الشريعة الإسلامية أو الدين الإسلامي (مصدر أساسي من مصادر التشريع) ولم يجعل منه المصدر الوحيد أو الرئيسي له، هذا يعني فتح الباب أمام الدين ليعكس دوره وروحيته في الفكر الأجتماعي للشعب، وبالتالي عندما تتبلور مفاهيم جمعية وأشتراكية بين الناس على قضايا محددة تتعلق بتكوين الدولة يكون للمشرع القدرة على تجسيدها بأعتبارها جزء حيوي ومهم من الوعي الجمعي الذي هو أساس العقد الأجتماعي في المجتمع والذي تنشأ عنه الدولة ونظامها.
هذا التفريق ضروري ومهم وتأكيد على مبدأ الفصل بين مفاهيم متداخلة تشوش وتشتت الرؤية خاصة لدى الناس البسطاء وهم عامة الشعب، فالإنسان الطبيعي مثلا لا يعارض مبدأ (التاجر فاجر ما لم يتفقه في الدين) كونه مبدأ أخلاقي قبل أن يكون ديني، وكذلك لا يمانع أن يكون السلوك الإنساني العام مراقب ذاتيا من قبل الإنسان قبل أن يراقب من قبل القانون وأجهزة الشرطة بأعتبارها قضية أخلاقية أيضا، عندما يشعر المشرع أن تطبيق روحية فكرة دينية أو نص ديني على صياغة قانون أو قاعدة قانونية، سيكون دافعه أخلاقي وليس ديني فقط سيلاقي الترحيب والقبول حتى ممن لم يؤمن بالدين أو يعارض صيغة حاكمية الدين على المجتمع، لأن البعد الأساسي فيها ذو شقين بشري في الصياغة فهو نتاج تجربة مدنية، وبعد أخلاقي مثالي يؤمن بحاكمية الأخلاق في صياغة الواقع وتسيره ضمن منظومة إنسانية نبيلة.
من الشائع في الكتابات السياسية من ضمن دائرة المعرفة الدينية عامة والإسلامية خاصة ان للدين (وجه سياسي) يمكن ان يكون قاعدة لتكوين نظرية الحاكمية للمجتمع تقوده نحو الكمال النسبي التي تطمح لها أهداف الله في الأرض، وقد كثرت البحوث الخاصة و التنظيرات في الشكلية والماهية لهذه النظرية السياسية وأيضا شكل الحاكمية ومصدريتها (المشروعية الدستورية)، معتمدين مثلا على نص قرآني بشكل أساسي وهو (أن الحكم الا لله)، اما عمليا فهم يرون في التجربة النبوية بذاتها وملامح الحاكمية السياسية التابعة لها في زمن الدولة الراشدية، تطبيق عملي فريد لهذا الزعم وتأكيدا على صلاحية الدين كنظرية سياسية يعتد بها، الملفت للنظر ان جميع هذه النظريات وبجميع توجهاتها القائمة على الخلافة او الامامة لم تتفق على شكل الحاكمية ولا على أساسها التكويني النصي باختلاف هام وجذري بين الطرفين حول القاعدة التكوينية لمفهوم الحاكمية ذاتها.
مثلا الفقهاء الشيعة من جهتهم ومعهم التيار الإسلامي الذي يعتمد الامامة سلطة دينية ودنيوية قائمة على حق منصوص عليه (على ان الامام وفق السياقات التي يؤمنون بها هو الاحق بقيادة الدولة الإسلامية سواء تمكن هذا الامام من العمل ضمن دائرة الممكن او منع منها)، فهي وظيفة أساسية من وظائف الإمامة وحتى تتعدى وظيفة الهداية الأصلية في أصل الفكر الديني، فهو يمارس هذه القيادة فعليا وبالمباشر ان قام بها او من خلال مفهوم بسط السلطة الروحية على المؤمنين تحديدا إن قعد أو أقعدته الظروف، فالإمامة غير كونها سلطة روحية هي سلطة زمنية واجبة وضرورية واساسية للمجتمع بناء على مقولة الإمام علي (لا بد للناس من أمير، بر أو فاجر).
الفقيه العقائدي الشيعي يجعل من الإمامة ركن من أركان الإسلام وبالتالي أي تخلي عن فكرة حاكمية الإمام إنما تعني نقصا أساسيا وجوهريا في الإسلام كدين كامل، وهذا الطرح الخطير يؤشر إلى نتائج خطرة تمس حقيقة كون الدين كامل وتام وإن تخلف الإمام أو منعه من الممارسة بدور الهداية ينقص من الكمال والتمام المعلن، وأن النتيجة هو إخراج الكثير من الناس من دائرة الإيمان إلى دائرة الكفر ومن ثم ترتيب أحكام خارج الإرادة الألهية على أنها جزاء لعدم تيقن المسلم بدور الإمامة كونها الركن الخامس من أركان الدين.
في المدرسة الأخرى التي ترى في الخلافة هي السلطة الزمنية الواجبة والضرورية ولا تشترط ان تقترن هذه الحاكمية برئاسة روحية ترشد المجتمع وتهديه، لكنها ترى فقط أهمية ضرورة أنتظام المجتمع الإسلامي بنظام يكون على رأسه مسلم بر كان أو فاجر كي لا ينفرط عقد المجتمع، هذه الفكرة البرغماتية أرى فيها وجه صحة من جانب مهم، وأيضا فيها خلل من لزوم أن يكون المجتمع منحاز عقليا لمثاليات وأخلاقيات نظرية الدين، الفكرة النظرية التي يؤسسها الفقهاء هنا وهي تخريج ليس له مخرج غير النصوص الروائية والتأريخية المنحازة للصراع ومستجيبة لدوافع السلطة والأستيلاء عليها، وتبقى أجتهادات بشرية من التجربة الخاصة وحسب ظروف المجتمع.
فقد اباح الفقهاء السنة للحاكم ان يستعين بالمؤسسة الدينية رديف للحاكم ومستشار ملتزم بما تراه السلطة الروحية ومتبعا لرأيها، الذي هو أطار لنظرية الحكم والمستند الأساس فيها، لكن هذه النظرية برغم من أبتعادها عن فكرة الإمامة اللزومية وأتجاهها نحو الخلافة التي تعني شكلا طبيعيا وصورة من صور الحكم البشري العادي للمجتمع الديني، إلا أن التفاوت في تأصيل وتأسيس مفهوم الخلافة وبخلافات جذرية داخل هذه النظرية تقوم على كيفية اختيار الحاكم السياسي ومصدرية هذه الشرعية بموجب ما تم تطبيقه من فهم للواقع النظري قبل الواقع العملي، قد أدخلها في مأزق عدة أنتهت إلى أن تتحول نظرية الخلافة إلى نظرية حكم إلهي أستعبادي ملجئ، وأقحم الدين بكل خصوصيات وتفاصيل المجتمع، وتحول الفقيه إلى مؤسسة رديفة وشريكة في الحكم وداعمة لمبدأ القهر والجبر وتم نسف نظرية لا إكراه في الدين .
في كلا المدرستين هناك مرتكز لخطأ أساسي يتعلق بإدراك حدود معنى السلطة وخلط الروحي بالزمني وذلك في نقطتين:
• في موضوع الامامة او الخلافة وخاصة الذين يمزجون بينهما على انهما شكل واحد او كيان واحد يفسرون الامامة على أنها (سلطة دينية او رئاسة دينية تستلزم من طبيعتها ان تتحول الى رئاسة زمنية)، بمعنى ان الامام سواء جاء بطريق النص والتخصيص او بطريق الانتخاب او الشورى هو امام الامة والرئيس الأعلى المدبر لشؤنها والماسك بكل مفاصل القرار السياسي بالكلية، او عن الطريق الأخر المعروف بالغلبة وعليه التعاون مع الأكثر علمية في شؤون الدين لتطبيق النظرية الحاكمية سواء أبى الناس أو قبلوا به تحت حد الإلجاء والقهر وصولا لحق العبودية للحاكم.
لم يلاحظ فقهاء المدرستين وجود قضية مهمة وملحة وذات حساسية خاصة وهي، ان الامامة بالأصل وظيفة هداية وليست وظيفة رئاسة، فالدين كفكرة عقلية وخطاب عاقل لعاقل قد ترك التفصيلات التي لم يتطرق إليها بالذكر إلى العقل وحده، وخير الإنسان بين ما هو طبيعي وملائم وفيه الخير أو الخضوع لمنطق الأشياء طالما أنها لا تتعارض مع أساس الفكرة الدينية كسياق عام، وبالنتيجة النهائية فيما يجتهد الإنسان بهذه التفاصيل الغير محكومة بنص قطعي هو معرفة إنسانية بأمتياز.
فالدين لا يمكن ان له يكون مؤسسة أو يتحول لمؤسسة بحاجة الى هيكلية ونظام ورئاسة وبرتوكول وأشياء تحدده في مظهرية مادية خاصة، كما هي الاخلاق والمعرفة البشرية التي ستتحول مع الممارسة الى ثقافة اعتقادية وسلوكية ليس لها علاقة بالهيكل المؤسساتي، فقد اخطأ الانسان وأجرم بحقه وظلم نفسه حينما حول الدين الى مؤسسة ذات شكلية وبناء هيكلي، واخرجه من دائرة الاعتقاد الروحي الذاتي واليقين الوجداني الى دائرة الترميز و السلطة، وزجه في صراع مع الانسان وضد الإنسان من خلال قولبة وقنونة هذا الدين وهذه المعرفة.
ففقد فيهما الدين هنا قيمته الروحية وخطابه الذاتي وتحول الى ما يشبه قانون العقوبات ومجموعة قوانين أخرى حاكمة ومتحكمة بغير سبب ولا حاجة غير تمتعها بمفهوم السلطة، الكارثة الكبرى ان هذا الزعم او التحول يجد البعض في نصوص القران ما يفسرونه على انه هو رأي الدين او رأي الله .
• النقطة الأخرى التي وقع فيها اللبس موضوع حاكمية الله، وهنا حاكمية الله لا تعني ان ينزل الله للأرض في محاولة لتطبيق احكامه، كما لم يمنح الانسان تحديدا هذه السلطة لا بتخويل نصي و لا من طبيعة الدين ككل، الحاكمية لله تعني ان الامر أولا و أخيرا يعود لله سبحانه وتعالى في تقدير وتقييم الفعل الإنساني ككل، وهو مسبب لكل حركات الوجود ومتحكم في علل الحياة وهو الذي يتصرف بها وفق قوانين خاصة ويسير بها نحو المصلحة الوجودية للوجود، فالحكم لله يعني ان الله هو الأول والأخير في تسيير الوجود وفقا لنظرية الخلافة والاستخلاف الأولى، دون ان تعني ابدا او مطلقا انه يريد ان يبسط احكامه على عباده وينظم لهم شؤون حياتهم خارج التجربة الإنسانية و خصوصياتها .
حتى في موضوع الامامة لو عدنا الى النصوص المحددة له نجد ان مفهوم الامامة تسير نحو محدد واحد هو، ان تتحول الامامة كفكرة الى (نموذج مثالي قيمي كامل يوضح للناس معنى الايمان الكامل والنموذجي الذي يجب أن يكون عليه المؤمن ويتحلى بأخلاقياته)، دون أن يمنح الإمام أي سلطة لا جبرية ولا قهرية ليتصرف بالمجتمع الإيماني بالشكل الذي يراه مناسبا، مع الأعتقاد التام بأن الإمام المؤمن والقادر على فهم الحياة بصورة أفضل هو الأنجح والأكثر قدرة على تجسيد روح الإيمان في المجتمع ونشر ثقافة الدين فيه، (وأجعلني للمتقين إمام)، هذا الطلب يوضح قيمة الإمام لمن يريد أن يكون متقيا والمتقي كما نعرف هو الأعلى درجه في إيمانه عن غيره، كما أن النص لم يأت بصيغة أجعلني للمسلمين إماما أو لمؤمنين إماما تفريقا في درجة القوة الإيمانية.
وحتى في النص الأخر الذي ورد في القرآن الكريم (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا) أتاح لنا هذا المفهوم إدراك وظيفة الدين على أنها الهداية وليست الحكم، والفرق كبير بين الهادي المؤمن وبين الحاكم الذي يستعمل الدين سلطة ليفرض على الناس محددات وخيارات، بل أن أستخدام الدين كسلطة يفسد مبدأ الاختيار الحر ويعطل قانون (من شاء فليؤمن) وبالتالي التخلي عن قاعدة (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي)، الرشد هنا الهداية الطبيعية والغي هي إجبار الناس على الإيمان وإن كان لمصلحتهم، ولو كان إجبار الناس على الإيمان مشروعا بناء على تحقق مصلحتهم، لجعل الله الناس أمة واحدة وأنتهى الأمر دون الخوض في الدين والتدين والإيمان أصلا.
كما لا ننسى وأستنادا للتجربة التاريخية ومن خلال النصوص أن الإمامة الدينية نوعان نوع أولي جعلي من الله (وجعلناهم, وأجعلني)، وهي حالات فردية وزمنية مخصوصة لا يمكن أن تكون دائميه لممارسة دور الإمام كرئاسة دينية روحية وزمنية سياسية، طالما أنها محدودة في النوع الكيفي والمدى الزمني المؤقت، وهنا نرجع إلى النوع الأخر من الإمامة وهي الإمامة الوصلية أو الظرفية التي يكون فيها الإنسان عامة سواء المؤمن أو كعموم المجتمع هو الجاعل وهو المختار لها بموجب محددات وضعية، تختلط فيها مفرزات الواقع مع الفهم البشري للمعنى، ومن خصائص هذه الإمامة الديمومة والأبدية وهي القاعدة التي ستكون لاحقة ودائمة والغالبة بعد الإمامة الجعلية.
بمعنى أن الأمر سيعود بعد الجعلية إلى (أمرهم شورى بينهم) أي أن الإنسان هو الذي سيكون صالحا لخوض وتأسيس التجربة، بعد أن أستنفذت الإمامة الجعلية أهدافها في هداية الناس للثقافة الدينة، وترسخ مفاهيم ورؤى كلية في الواقع الأجتماعي قادرة على قيادة الناس نحو الأصلح والأجدى في حياتهم بناء على مخاضات ونتائج التجربة الإنسانية وفلسفة الخيار الواقعي.
من خلال تعقبنا للفهم البشري للنص الديني سواء المتعلق منه بحاكمية الله ومداها وبين مفهوم الإمامة والخلافة بمعنى الحاكمية البشرية المنفذة لحاكمية الله كما يزعم البعض، نجد أن هناك ما هو غريب في تطبيقه لمفهوم واضح وتخريج غير موفق ولا سليم لفكرة بعيدة تماما بنتائجها عن مقدماتها، وهذا ما يسمى التطبيق الإعتباطي للفهم الشخصي والذاتي للنص القرآني خاصة والديني عامة، لقد حول الفقيه القضية الفكرية الدينية الخطابية الإرشادية إلى عقيدة أيديولوجية مقننة وأحاطها بالقداسة وكللها بأنها حكم الله، مثلا يورد أحدهم أنه صح عن النبي ص (إنَّ الله هو الحَكَمُ، وإليه الحُكْمُ)، وهو أبا الأعلى المودودي أول من صاغ فكرة الحاكمية الإلهية في الإطار السياسي والاجتماعي والقانوني، وقد قام بتوظيف ذلك من أجل بناء نظرية سياسية تقوم على منظومة عقائدية، حيث تتجلى الحاكمية الإلهية في السلطتين السياسية والقانونية.
هذا الرجل ومن خلال ما يؤمن به من “أن الحاكمية في الإسلام خالصة لله وحده"، وبالتالي يجرد الإنسان من حقه الطبيعي في خوض التجربة التاريخية والسياسية لمجتمعه والواردة في نص محكم لا لبس فيه حيث يقول الله تعالى (وأمرهم شورى بينهم)، فهو يؤكد على أن القرآن عندما طرح قضية التوحيد أراد منها أستغراق كل الوجود داخل هذه الدائرة، بمعنى أخراج الإنسان وإرادته وإشاءته من أن تكون حاضرة حتى في التصرف بقضية شخصية تخصه، لا علاقة لها بالدين وضرورته الوجودية كخطاب عقلي إرشادي.
ويمضي أكثر في تطرفه حين يفسر أو يرى في قول أن الله وحده لا شريك له ليس له حدود داخل الأطار الديني، ويذهب به أبعد من ذلك عندما يدخل فيه بالمعنى السياسي والقانوني كذلك، وهو يزعم بدون أن يتردد أن وجهة نظر الإسلام تنص على إن الحق تعالى وحده هو الحاكم بذاته وأصله!!!، وإن حكم سواه أعتباري وتبعي والغاية منه تنفيذ الحاكمية الأولى وبسطها وجودا، وبالتالي تجريد الإنسان من أي شكل أو صورة من الحاكمية إطلاقا…
هذا الفهم المتطرف والمتعدي ليس على حق الإنسان في إدارة وجوده الحر بل تضييق حتى على النص الديني وتعطيل الأحكام العامة والتفصيلية من لو شاء الله لجعلكم أمة واحدة)، والكثير من النصوص التي تركت الحاكمية للبشر في جزئها المختص بهم، ويتعارض أيضا مع التجربة العملية التاريخية التي قادها الأنبياء والرسل من قبل حين كانوا أفرادا في أمم، وفي أفضل الحالات كانوا قادة وليسوا حكاما تنفيذين، حتى مع تجربة النبي محمد في المدينة لم يكن الرجل سياسيا متدخلا في كل شيء وفي كل التفاصيل، بل كان معلما وأنموذجا يتعاطى الشأن العام لأسباب عديدة، أولا لغياب السلطة منظمة القادرة على التحكم بالمجتمع وقيادته وفقا للناموس الطبيعي، وثانيا لإرساء تجربة مجتمع سيتحول نوعيا وكيفية من مرحلة الجهل والجاهلية والفوضى إلى مرحلة الأمة التي تحمل رسالة وعليها مهمة بناء مجتمع قادر بذاته على رسم مستقبله بحرية.
إذن التجربة والنص تؤكدان أن الدين لم يكن متوجها على تطبيق الحاكمية الربانية بشكل هستيري شامل وعام وتفصيلي، كما يزعم مثلا صاحب نظرية سلطة الله وحاكميته الشاملة والتي وصل فيها إلى علة الخلق والجعل، فشوهها وأخرجها من أطار العلة إلى أطار الغاية بقوله، ((وخلافة الإنسان عن الله في الأرض لا تُعطي الحق للخليفة في العمل بما يشير به هواه وما تقضي به مشيئة شخصه، لأن عمله ومهمته تنفيذ مشيئة المالك ورغبته)) ، هذا التطرف هو الذي أولد عبر التاريخ الديني حالة التمرد والإستلاب وظن بعض المتدينين أن وجوده وفهمه الذاتي وإيمانه بالنظرية سيمكنانه من فرضها على الناس ليس من خلال جلب الله ليحكم كما يريد بل من خلال تنصيب نفسه نائبا عن الله في تنفيذ إشاءته المزعومة.
وليس تكليفا فقط بل وجوب ضروري لأعتقاده أن المؤمنين قد تكاسلوا عن نصرة الله فهو ملزم حسب النظرية أن ينفذها عن الله وبالقوة.. ((فليس لأي فرد ذرة من سلطات الحكم… وأي شخص أو جماعة يدَّعي لنفسه أو لغيره حاكمية كلية أو جزئية في ظل هذا النظام الكوني المركزي، الذي تدبر كل السلطات فيه ذات واحدة هو ولا ريب سادر في الإفك والبهتان))..
لقد قادت هذه النظرية إلى نشوء المدرسة التكفيرية المحافظة والمتطرفة في فهمها للدين، وخرجت بذلك الكثير من العقول التي لا ترى للإنسان أي حق في إدارة حتى نفسه، معتمدة على نظرية أن الحكم لله وأن الله خير الحاكمين، فهي تنادي بحكم الله وتنفذه بموجب رغبة وإرادة ومنهج بشري، فقد حلت في نفسها محل الله وزعمت أن تخلي المجتمع الطوعي عن إيمانه بالنظرية هو تخلي عن العقيدة، وبالتالي فالوجوب القهري يمنحها السلطة والحاكمية، فهي تعتقد أن الله ليس مجرد خالق فقط، وإنما هو حاكم كذلك وآمر ومسيطر ومنفذ وقد خلق الخلق بطريقة قهرية وأوجب عليهم الإيمان بحكمه ولم يهب أحدا حق تنفيذ حكمه فيهم عن طريق نبي ولا عن طريق رسل بل أختص لنفسه وحصر إرادته في التنفيذ.
لقد كان هذا المنهج والنظرية عنوان تطرف ومحادة للنص وأخرج كل مفاهيم العقل والتدبر والتفكر من دائرة الوجوب وعطل الكثير من النصوص بلا معطل حقيقي ولا نص مقابل نص ولا حكم مقابل حكم، فقط لأن قراءته الخاصة تذهب نحو أتجاه التشدد الذي يتنافى مع منهجية التيسير والتبسيط والملائمة التي جاءت بها النصوص(إنما يريد بكم اليسر ولا يريد بكم العسر).



#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)       Abbas_Ali_Al_Ali#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سعدي يوسف ومحاولة الظهور على سطح الموت
- قيمة التجربة التأريخية
- جدلية الفرد والجماعة
- إسلام ومسلمون
- محاولة في الأنتصار على الذات
- منهج الأنتصار
- التقليد والأجتهاد
- المسلم والأخر الغيري
- أزمة المسلمين وأفاق المستقبل
- الإسلام المعاصر وتحديات العصر
- الديمقراطية وإشكالية الولاية والتولي
- ضرورة الديمقراطية وتحديات أحترام حقوق الإنسان في رؤية أستشرا ...
- المرأة ودورها في المجتمع ح2
- المرأة ودورها في المجتمع ح1
- إعادة صياغة مفهوم الأمن القومي
- التنمية الأقتصادية ودور المال وراس المال في بناء القاعدة الم ...
- المال ورأس المال في الفكر الديني
- الخيارات الصعبة في قرارات التغيير
- العولمة ما لها وما عليها
- أحلام تمتنع عن الطيران


المزيد.....




- دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه ...
- في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا ...
- المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه ...
- عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
- مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال ...
- الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي ...
- ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات ...
- الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
- نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله ...
- الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية


المزيد.....

- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عباس علي العلي - المشروعية ومصدر الإرادة