هاشم عبد الرحمن تكروري
الحوار المتمدن-العدد: 5574 - 2017 / 7 / 7 - 12:22
المحور:
التربية والتعليم والبحث العلمي
مبرهنة جودل على وجود إله...
إن الاعتراف بالنقص هو الداعي للكمال؛ ولو كان العلم مكتملاً لما أصبح هناك ضرورة للبحث، وهذا الأمر يدعوننا لعدم إصدار أحكام قطعية مسبقة على كل ما لا علم لنا به ووسمه بالخرافة أو عدم الوجود، فمن الخطل أن يؤخذ النقص أساس لأخذ الحكم بعدم وجود الشيء، والأصل أن يترك الأمر الذي لا يقع تحت سلطان العلم الناقص لحين تطور المعرفة لدينا لدرجة تسمح لنا بالحكم المنطقي المبني على دليل سوي، وعند الوصول إليه، الأصل التسليم بصحته -بحال مالم ينقضه دليل جديد قائم على دعائم أقوى-، وما بين أيدينا من دليل قائم على ما يؤسس به الرافضون لوجود كائن يستلزم التسليم وعدم اتباع الهوى بعد ثبوت الأمر بأدوات نفيهم المُشرعة، ويبدو لي أن أصحاب الاطلاع علموا إلى ما سأذهب إليه من الحديث عن مبرهنة جودل بوجود كائن أسمى برهن عليه ببراهين العلم
المعتادة، وأختاره بعض العلماء للتأكد منه عبر حواسيب عملاقة تستخدم للتحليل المنطقي .
فالجدل حول وجود كيان أعلى ممثلاً في إله، جدل يمتد إلى عمق التاريخ البشري، يستخدم فيه كل طرف عجز الآخر عن إثبات وجود كيان إلهي من عدمه بشكل قاطع، و هو عجز ناتج بالحالتين عن استخدام المنطق الصوري -الأرسطي-، الذي تشوبه مشكلتين رئيسيتين، أولاهما أنه منطق ثنائي القيم، مما يعني أنه لا يستطيع تناول الممكن، إنما يتناول ما هو ضروري؛ و ما هو مستحيل فقط، وثانيهما وجود عدة ثغرات بالقياس فيه، تتيح المجال لجعل القياس استقرائياً، مما يسمح بالتالي بالجدل والإختلاف حولها، لكن رغم تطور المنطق بشكل كبير ، ومع ظهور المنطق الرمزي، مازال الجدل يقوم على ذات المنطق الصوري العاجز عن تقديم استدلال نهائي قاطع.
ويبنى الوجود لكائن اسمى بشكل عام في إطار المنطق الصوري على أساس بسيط، الذي يبدأ من تعريف الإله بأنه: خالق الكون و الوجود؛ ثم يتناول ضرورة وجود سبب أول للكون، فحتى وإن كان الكون يتوالد، يبقى متطلباً لسبب أول لظهوره في صورته التوليدية، مما يعني أن هناك سبباً خارجي عن الكون تسبب في خروجه للوجود، و بالتالي أيٍ كان هذا السبب، يكون هو ذاته الوجود الإلهي خالق الكون، وعند الحديث عن الأسباب المتتالية للوجود، من الانفجار عظيم والافتراضات التي تسبقه ...، لابد أن نصل إلى نقطة لا تتكون من شيء؛ ولم يسببها شيء، كما أنها تفسر بنفسها، بمعنى هي السبب والنتيجة معاً، العلة الأولى، الجوهر الواحد، هذا الجوهر هو الإله كخالق، ونرى أن مثل هذا الجوهر الأول هو ضرورة، فإفتراض عدم وجوده يعني بالتالي إفتراض عدم وجودنا، لكن بما أنه من المُسلم به وجود الوجود، فالجوهر الأولي ضرورة، و هو ما يصطلح على تسميته إله، لكن رغم صحة هذا البرهان منطقياً، إلا أنه يعاني العوار من أمرين، أولاهما أنه لا يشمل من صفات الإله سوى الخلق، فلا يشمل الإدراك أو العلم، و ثانيهما هو إستخدامه للمنطق الصوري، مما يجعله عرضة للإتهام بأنه قائم على مغالطات لفظية أو منطقية، أو مغالطات تصورية، بسبب أن استخدام الكلمات المنطوقة يرتبط في عقولنا بمعاني مجردة؛ قد لا تكون حقيقية؛ وإنما مجرد انطباعات وهمية كانطباع تسطح الأرض، مما ينتج ذلك الجدل، رغم سهولة ضحده بأحد أساسات هذا البرهان و هو مبدأ تميز الإله عن الكون -أي انفصاله عنه- ، وضعف العلم أو عدم اكتماله يدفع للظن بأن العلم الحديث أثبت أن الكون لم يخلقه إله، بل أمر آخر، هذا الأمر الآخر تحدده درجة ضعف العلم، فالدرجة الأضعف تعتبر هذا الأمر هو الإنفجار العظيم، والدرجة الأقل ضعفاً تعتبره التضخم العشوائي، ثم يليهم القائلين بحقول هيجز، فالتقلبات الكمومية، وأغشية النظرية إم، والاهتزازات العدمية لنشأة الكون وما قد يخرج علينا لاحقاً، لكن من المعلوم أن تلك الأمور كلها جزء من الكون، فالتقلبات الكمومية، وحقول هيجز، وأغشية نظرية إم، والاهتزازات العدمية...، كلها أمور أصبحت موجودة عندما أصبح الكون موجود، وقبل ظهور الكون إلى الوجود لم تكن تلك الأمور موجودة كي تخلق الكون، كما لا يمكننا النظر للكون و إختيار أحد مكوناته لنعتبره المتسبب بخلق الكون، هذا ما يميز الإله كخالق، فالإله ليس جزء من الكون، الإله موجود قبل أن يُوجد الكون، لكن رغم هذا لا يتوقف الجدل لقيام البرهان على كلمات لا رموز، أي على منطق صوري لا رمزي، و هو ما لاحظه العالم Kurt Godel، مما دفعه لتقديم برهان أشد قوة بمراحل عن البرهان السابق، تلك القوة التي نقلته من مستوى البرهان إلى مستوى الإثبات، فأصبح يُعرف منذ سبعينات القرن العشرين بإثبات Godel الوجودي، و قد استمد هذه القوة من استعمال المنطق الرمزي الحديث المتعدد القيم، لكن قبل تناول تفاصيل الإثبات، يجب التعرف على بعض مبادئ المنطق الرمزي، هذا المنطق يُميز بين الحقائق الضرورية و الحقائق العرضية عبر استخدام فكرة العوالم الممكنة، حيث يمثل كل عالم ممكن أي عالم موجود أو قادر على الوجود، لذا فحين نتصور حماراً في السماء يطير، فهذا تصور عقلي ممكن، فهي إذن تمثل عالم ممكن، وحين نتخيل أحداث لم تحدث بعالمنا، نقوم بتخيل عوالم ممكنة أخرى، أما عالمنا فهو عالم ضروري، لأنه موجود فعلياً، لذا ففيما كل عالم ضروري هو عالم ممكن، لا يكون كل عالم ممكن عالم ضروري، على هذا الأساس يكون من القيم الموجودة بالمنطق الرمزي قيمة ضروري و قيمة ممكن، حيث يتم منح صفة ضروري لتلك الحقائق التي تكون حقيقية في جميع العوالم الممكنة، كـ 1+صفر=1، أما قيمة ممكن فتمنح للحقائق العرضية التي لا تصح إلا في بعض العوالم الممكنة، كالقول بأن عدد طلاب جامعة هارفارد يتخطى 21 ألف طالب، ويتم التعبير رمزياً عن الصفات بالرمز P، اختصاراً لـ Property، لذا فإن أعطينا عدد طلاب جامعة هارفارد الرمز x، و P هي أن عددهم 21 ألف طالب، فستكون P(x)l صحيحة في بعض العوالم، وكاذبة في البعض الآخر، وستكون بلا معنى في عوالم أخرى لا تتواجد بها الجامعة أساساً فتصبح P(x)l عديمة المعنى، وإن أخذنا صفة أخرى و هي Q مثلاً، فيمكننا القول أن P تستتبع بالضرورة Q في حالة أن وجود P في أي عالم يتطلب بالضرورة أن تكون Q موجودة، لذا فإن قلنا أن Q هي عدد طلاب جامعة هارفارد20 ألف ، وأن P(x)l صحيحة في أحد العوالم، أي أن طلاب الجامعة بذلك العالم 21 ألف ، تكون Q(x)l أيضاً صحيحة في هذا العالم بالضرورة.
ويبدأ إثبات جودل بالبديهة الأولى Ax1، وهي أن: من الممكن تمييز الصفات الحقيقية في الأشياء عن بقية الصفات، حيث تكون الصفات الحقيقية هي أي صفة موجودة في الشيء، بخلاف الصفات السلبية التي تشير لفقدان الشيء لها، ونرمز لكل صفة حقيقية بـ P ، ومن تلك البديهة نبني البديهة الثانية:Ax2 ، إن كانت P حقيقية، وP تستتبع Q، فـ Q تكون حقيقية. ثم البديهة الثالثةAx3 : ، إن كانت الصفات P1, P2, P3, .. , Pn صفات حقيقية، فإن الصفة التالية l(P1 and P2 and P3, .. , Pn)l حقيقية كذلك، والبديهة الرابعة: إن كانت P صفة، فإما P أو نقيضها يكون حقيقي، لا كلاهما.
من بعد البديهيات السابقة، تأتي البديهية الخامسة -وهي الأساسية بهذا الإثبات- و هي: أن الوجود الضروري هو صفة حقيقية، إذ تشير إلى أحد عناصر البرهان المعتاد، وهو هذا العنصر الذي يحدد وجود عالمنا كوجود ضروري لأن عالمنا متحقق، و لهذا يكون وجوده الضروري صفة حقيقية، و من البديهة الخامسة يستنتج Godel التالي: إن قمنا بتحديد صفة G حيث الشيء y ممكن بأحد العوالم، فتكون G(y)l حقيقية؛ إذا و فقط إذا كانت P(y)l حقيقية بذات العالم لكل الصفات الإيجابية P ، و بالتعريف السابق لـ G تكون G صفة إن إمتلكها أي كيان فهذا الكيان يكون الإله، و لما كانت G ممكنة، عبر البديهة الثالثة و البديهية الخامسة نجد أن إمكان G يجعلها ضرورية، لذا إن أردنا أن نضع إثبات Godel في كلمات صورية بدون استخدام المنطق الرمزي فسيكون : "إذا كان من الممكن أن يتواجد كيان كلي العلم -أي إلهي- فإذاً بالضرورة يتواجد كيان كلي العلم ، ولما كان إمكان وجود كيان كلي العلم حقيقي، فوجود كيان كلي العلم حقيقي بالضرورة"، وكما سبق الذكر، ميزة هذا الإثبات أنه رمزي بشكل كامل، فهو يلغي أي جدل قد يقوم حول تعريف الكلمات أو معناها، لذا من بعد شرحه بالكلمات، تكون صورته الرمزية هي:
ونجد أن إمكانية وجود كيان إلهي يمثل قضية أساسية- إن وُجد هذا الإمكان- فإن الكيان الإلهي موجود بالضرورة، مما دفع البعض بعد إصدار Godel لإثباته، محاولة التلاعب بذلك الإمكان، إلا أن أساس هذا الإمكان هو وجودنا ذاته، عبر البرهان الأول، فوجودنا يعني بالضرورة إمكان وجود كيان إلهي، أو بشكل أكثر دقة، وجودنا يستتبع بالضرورة وجود خالق، ووجود خالق يستتبع بالضرورة إمكان كونه كلي العلم.
للمزيد يمكن مراجعة الورقة البحثية: Formalization, Mechanization and Automation of Gödel s Proof of God s Existence, Christoph Benz Müller, Bruno Woltzenlogel Paleo عبر الرابط التالي:
https://arxiv.org/abs/1308.4526
#هاشم_عبد_الرحمن_تكروري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟