أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - محمود الزهيري - التأويلية _ الفصل الثالث _ التأويلية بين العولمة والتاريخانية















المزيد.....



التأويلية _ الفصل الثالث _ التأويلية بين العولمة والتاريخانية


محمود الزهيري

الحوار المتمدن-العدد: 5574 - 2017 / 7 / 7 - 03:55
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


ترتفع مؤشرات الرهاب حينما يتم إستحضار النص لرحاب العالم , ولعل أزمة نصر حامد أبوزيد كانت فارضة لذاتها وللأدوات التي استخدمها حينما أقر بتاريخانية النص الديني ليخرج من فخ العولمة المنصوب علي الدوام له , ولقاريء النص ومستمعه والمتعامل معه بالتفسير أحياناً وبالـتأويل أحياناً أخري , ولعل من تعرض له بالنقد والنقض هو ذاته من وقع في فخ العولمة ليظل أسيراً في الحاضر بعقلية الماضي وأسره الدائم لعقول المتعاملين مع النص الديني تحديداً , ولذلك فإن التأويلية تبدأ من رحاب التاريخانية الباحثة عن النص خلال مناخه ومجتمعه وبيئته وثقافة المجتمع السائدة والعادات والأعراف وسلسلة التقاليد الموروثة في ذاك المجتمع , وتبني لغة تاريخانية تليق بحدود النص ومراده ومعناه والمخاطب بالنص , إلا أن هناك من يصاب الرهاب وضيق الصدر حينما يستمع أو يقرأ كلمة تاريخانية , فإنها بمثابة اذي يصاب به , أو كأنها مرض فيروسي لعين يمكن أن ينتقل عبر السماع او القراءة أو استخدام أدوات التاريخانية بإعتبارها نظرية من جملة نظريات تتعرض لدراسة النصوص الأدبية والنصوص الدينية علي حدٍ سواء , إلا أنهم يرون أن هذا مباح ومحبب للنفس حينما يتم تفسير النص الديني وتفسير مفرداته اللغوية حينما يتم العودة والرجوع للماضي " التاريخانية " في كثير من المواضع , ولكن حينما يستخدمه غيرهم فإن هذا داء خطير ومرض عضال , ولذلك كان من الرأي التعامل مع التاريخانية ومنتجاتها علي أنها نظرية تحمل العديد من الآراء أو التصورات الخاصة بصاحب النظرية أو المتعامل معها والمستخدم لأدواتها , وليس نصر حامد أبوزيد هو من استخدم معاول الهدم والتخريب للنص , بل الجمود علي واقع ثابت هو من يخرب كافة مفاهيم النص , بل ويجعله محصوراً في فترة تاريخية حسب تفسيره وتأويله القديم , وكان من الأهمية أن يتم التنبيه علي ذلك , حتي لايدعي البعض بأن التاريخانية معول هدم للدين , وعامل من عوامل التخريب , فحسب تعريف التاريخانية الجديدة يري البعض أنها بوجازة شديدة أي :"التاريخانية الجديدة " New Historicism" هي مدرسة من مدارس النقد الأدبي والنظرية الأدبية التي ظهرت لأول مرة عام 1980 في الولايات المتحدة الأمريكية مع أعمال الناقد الأدبي ستيفن جرينبلات في كتاب الصدى والأعجوبة عام 1990، والذي امتد تأثيرها قرابة العشر سنوات بعد ذلك . يرى جرينبلات أن التاريخانية الجديدة لا تفترض العمليات التاريخية على أنها غير قابلة للتغيير وعنيدة، ولكنها لا تميل إلى اكتشاف حدود أو قيود مفروضة على التدخل الفردي . جاءت هذه المقاربة النقدية استنادًا إلى فرضية أن العمل الأدبي ينبغي أن يكون نتاج زمان ومكان وظروف ، أكثر من كونه نتاج عمل منفرد في خلقه . وكانت بمثابة ردة فعل ضد النظرية النقدية الحديثة في تحليلها الشكلي للنصوص الأدبية ، والتي كانت محل اهتمام جيل جديد من القراء من منظور آخر. حاول التاريخيون الجدد فهم العمل الأدبي من خلال سياقه التاريخي وفهم التاريخ السياسي والثقافي من خلال الأدب، والذى يقود إلى علم جديد وهو تاريخ الأفكار . شارك التاريخيون الجدد أيضًا في دروس ميشيل فوكو ، والذى تستند نظريته إلى دراسة حدود المعرفة الثقافية الاجتماعية ودراسة مجموعة متنوعة من الوثائق من أجل فهم الإبسمتية لفترة ما.(1)
ولذلك فإن من يحاول وصم هذه النظريات بوصوم الكفر والشرك والإلحاد تكون حيله هزيلة لاتقوي علي مقارعة الواقع ولا مقاومة المستقبل ويظل أسير ماضيه بنصوصه وتفسيراته وتأويلاته التاريخانية , لأنها بالفعل صارت تاريخانية من غير دراية منه أو علم أو بصيص معرفة يخرج بها من أسر الماضي وأسر النصوص الدينية معه أو مع جماعته أو فرقته أو مذهبه , وهذا هو ما أوصل النصوص الدينية لدرجة صارت معها وكأنها للعبادة فقط داخل المساجد والجوامع والمدارس والمعاهد والجامعات الدينية ومثالها الأزهر , لتصير النصوص داخل أسوار دور العلم الديني والذي صار وكأنها كهنوتي ليست له صله بالحياة والمجتمع والطبيعة والكون , وحينما يتم إستحضار النصوص من الماضي ومن داخل اسوار المعاهد الدينية للواقع تجد المفارقات الغريبة والتصادمات الغير مبررة أحياناً أو المتصادمة مع العقل في أحيان اخري كثيرة علي الرغم من مدي التجاهل بما ترمي إليه المدرسة التاريخانية في تعاملها مع النصوص بإعتبار أن هذا التعامل ينتج أراء أو تصورات أو صوغ نظريات ولا أدري لماذا تتعامي التيارات السلفية عما :"تهدف التاريخانية الجديدة إلى فهم العمل أو الأثر الأدبي ضمن سياقه التاريخي مع التركيز على التاريخ الأدبي والثقافي والانفتاح أيضًا على تاريخ الأفكار. وبالمثل يطمح في أن يكون الأدب أكثر حيادية تجاه الأحداث التاريخية، وأن يكون أكثر تفهمًا وإدماجًا لهذه الثقافات المختلفة. ولذلك اتربطت بمفهوم التاريخ والتطور التاريخي والثقافي وقراءة النصوص والخطابات التاريخية في ضوء مقاربة تاريخانية جديدة. وكانت تعني باستكشاف الأنساق الثقافية المضمرة، وانتقاد المؤسسات السياسية المهيمنة، وتقويض المقولات المركزية السائدة.(2)
فمما يؤسف له أن بعض المفكرين من اصحاب الرؤي في هذا المضمار المتعامل مع النصوص الدينية أراد أن يهرب من المواجهة الفكرية / الثقافية والصدام مع من يعبدوا النصوص الدينية وجعلوا منها تابوهات تخضع لنظريات اللامساس من الغير أو الأغيار اللامنتمين لطائفتهم أو مذهبهم أو فرقتهم أوجماعتهم الدينية , ليظل صراع النصوص والتأويلات خاضع لتأثيرهم وحدهم دون غيرهم , وكأن النص الديني مملوك لهم ملكية خاصة , وكأنه منزل عليهم وحدهم , ونزل معه التفسير والتأويل وصاروا هم المفوضين من جانب اله النص وربه ليخاطبوا به الأغيار ويملوا عليهم تعاليمه التي استقوها من تفسيره وتأويله , وهؤلاء الأوصياء , صارت وصاياتهم علي النص لاتمنع التعدي عليه بل والتجروء علي النص ذاته والطعن فيه وفي مصداقيته السماوية الإلهية , وبالفعل هناك العديد من المواقع والصفحات الإلحادية التي تناصب الأديان جميعها العداء والرفض , والأوصياء مازالوا يدافعون عن النص بنصوص دينية اخري , وصاروا يخاطبون الأغيار وأعداء النص ورافضينه بنفس المنطق الذي يتعاملوا به منذ بزوغ فجر النص وحتي الأن , مع أن أعداء النص يكفروا به ويرفضونه , ويروا كذبه ووضعيته البشرية , فكان يتوجب علي هؤلاء الأوصياء أن يكونوا أقوياء الدليل والحجة والبرهان حال الدفاع علي النص , ومصيبتهم أنهم مازالوا يخاطبون الأغيار والأعداء وكأنهم أناس يتوجب عليهم هدايتهم وإعادتهم لحظيرة الأيمان بالنص , ولعل هذه من المآسي المفجعة التي نتجت عن تغييب العقل وتنحيته عن الواقع ومآلاته الإنسانية والثقافية والفكرية والعلمية وكافة مكتسبات الواقع الحديث والمعاش .
ولعل الجهل بالمصطلح والرفض لكل ماهو غير عربي / إسلامي , من جانب الأوصياء علي النص الديني , وأدعياء حماته والدفاع عنه , هو ماجعل التاريخانية كنظرية مرفوضة , ويتم النظر إليها بعين الشك والريبة علي الدوام , مع أن التاريخ الملاصق للنص والموازي له انتج مصطلح الناسخ والمنسوخ وأسباب النزول ..
فما هي الفروق الشكلية والموضوعية بين التاريخانية وأسباب النزول والناسخ والمنسوخ ؟!
فحتي إذا قلت أن الفروق تكاد تتضائل وتنمحي بينهما إلا أن حماة النص من الأوصياء سيدعوا بأن هذا باب من ضمن الأبواب التي يتم الولوج إليها للطعن في النص وهدمه , ليستأثروا وحدهم به ويأسروه عندهم وحدهم , ويستأثروا بتفسيره وتأويله وانزال الأحكام بأوامرها ونواهيها علي الأغيار ممن هم خارج دوائر طوائفهم أو مذاهبهم وجماعاتهم , لتظل الصراعات قائمة بين هذه الطوائف والجماعات والمذاهب للإستئثار بالنص واختطافه والإستحواذ علي التفسير والتأويل وصولاً للمقولات المركزية الشاملة التي تتغيا هدم الواقع ونسفه لإقامة واقع آخر مغاير يتوهم أنه علي هدي النص ومبتغاه وعلي إرادة من الله وتطبيقاً لمشيئته التي يريدها ويتغياها لهم منهجاً وسبيلاً , وهذا بالرغم من أن كافة الطوائف والجماعات والمذاهب تري ذلك وتسعي إليه علي كافة الخلافات والإختلافات القائمة بينهم لدرجة التكفير لبعضهم بعضاً , وأبسط الأمثلة : مثال الصراع التكفيري بين السنة والشيعة !

ولعل محمد عابد الجابري صار يتحرج ويرفض فكرة أو نظرية التاريخانية حال اتصالها بالنصوص الدينية , أياً كانت هذه النصوص من غير نسبتها لدين معين , فهو يري أنه :" "تاريخية النص" تتداولها أقلام بعض الكتاب، وهي تنطوي عندهم على اختيار "استراتيجي" لا بد منه لفهم النص الديني، وبالتحديد القرآن الكريم، فهما "حداثيا". هذا بينما لا يُخفي كتاب آخرون ممن ينتمون إلى الاتجاه المقابل، الذي ينعت بالسلفية أو الماضوية، رفضهم، ليس فقط لاستعمال تلك العبارة، بل أيضا تحرجهم من استعمال عبارة "أسباب النزول"، مع أنها عبارة إسلامية أصيلة، خوفا من أن يفهم لفظ "الأسباب" بالمعنى الفلسفي الذي يجعل السبب علة في وجود المسبب، بينما هو عندهم وعند الأشاعرة عموما مجرد مناسبة. وعندما يستمع المرء إلى هؤلاء وأولئك ويتأمل الهواجس التي تحرك الفريقين يخيل إليه أن كلا منهما يجهل ميدان الآخر وبالتالي لا يتعامل معه على أساس يقوم على الفهم والتفهم. والأدهى من ذلك أن الذي يقف موقفا نقديا مما يقرأ ويسمع يمتلكه شعور قوي بأن كل فريق من هذين الفريقين يجهل ليس فقط ميدان خصمه بل يجهل أيضا ميدانه هو نفسه. وهدفنا من هذا المقال أن نبين أن بين هاتين العبارتين ("تاريخية النص" و"أسباب النزول")، من وشائج القربى ما يسمح باستعمالهما معا في نفس المعنى. وبعبارة أخرى : إن استعمال الواحدة منهما دون الأخرى لا يعني بالضرورة القيام باختيار استراتيجي يخدم قضية الحداثة أو يزكي مقابلها الذي قد نعبر عنه بالأصالة أو بالسلفية أو بما أشبه ... (3)
ورفض التاريخانية ليس مبرراً علي الإطلاق من جانب أصحاب الرؤي السلفية التراثية العتيقة , لأن هذا الرفض لم يتأسس علي قواعد وأدوات أنتجها رواد التيارات السلفية التراثية التاريخانية , ولكنهم يدأبوا علي الطعن في كل من هم خارج دائرة السلفية التراثية ويتم وصفهم بالعلمانيين والماركسيين وممن تربوا علي موائد الغرب ويقتاتوا علي فتاته , وهذه كلمات صارت ممجوجة وسفيهة حد السفه والغلو والتطرف من غير إمعان النظر واستخدام العقل في أي منتج حداثي جديد خارج من رحم واقع مأزوم ومشتت .


ولأن النصوص الدينية معنية وموجهة لخطابها في الأساس إلي العقل الإنساني , والذي يحمل في معناه الأولي البدائي خطاب القبول او الرفض , فقبول الخطاب الديني المتداول عبر النصوص الدينية الآمرة والناهية , يتساوي مع حدود رفضه وعدم القبول به , فهذا أمر يتوجب القبول بواقعه ومدي تقبله العقلي أو الإيماني علي حدٍ سواء , لأن النصوص الدينية تحملها ألسنية بشرية تحمل خطابها وتوجهه إلي الأغيار , فإما أن يتقبلوه إيمانياً علي إطلاقات لانهائيات النص بإعتباره غيباً مقدساً يحمل الصدقية السماوية , وإما لايقبلوا به , وحسب درجة ووعي السنية الحاملين للخطاب الديني وثقافتهم وتعرفهم علي ثقافات ولغات ولهجات الأغيار , ومدي الأعراف والتقاليد السائدة في مجتمعاتهم وبيئاتهم وحياتهم بما تحمله من معتقدات دينية سماوية أو وثنية أرضية , يتوجب عليهم أن ينتبهوا لذلك , سواء كان قبولاً لهم أو رفضاً , لأن طبيعة الخطاب موجهة للعقل الإنساني فإما القبول وإما الرفض , وهذا لايؤذي النص , ولا يستحث غضبه , ولكن ضعفاء العقول ينتقل لهم الرهاب حال رفض النص وعدم التسليم وعدم القبول به .
ومازلت أن غير المخاطبين بالنص لهم الحق الكامل في التعرض له بالنقد والنقض والتفسير والتأويل , وعلي المؤمنين به أن يدحضوا هذا النقض أو ذاك النقض , من غير إدارة معارك وهمية تعود بالضرر علي النص حسب الرسالة التي يوصلها حاملي النص ودعاة حمايته والدفاع عنه والمنافحين عن حياضه .

والرفض التام للتاريخانية حال تعرضها لدراسة النصوص الأدبية أو الدينية صار لازمة حضارية وإنسانية غير غاضعة لقواعد المقدس واللامساسات والتابوهات المقدسة , لأن غير المخاطبين بالنص الديني صاروا يتهجسوا الهواجس , ويتخوفوا علي مصائرهم وحاضرهم ومستقبلهم في العصر الحديث المعاصر بكافة آلياته وأدواته العلمية والمعرفية التي دمجت الزمن بالمسافة لتقترب من الصفر أو ماقبل الصفر العددي , فالزمن تم إختزاله في المسافات المعرفية والتواصل الإنساني الحضاري جعل العالم كله كوحدة سكنية واحدة وليس قرية أو عمارة سكنية , والسرعة والمسافة والزمن صاروا متحدين بدرجة كبيرة , فما يحدث في سوريا وليبيا واليمن والعراق والسعودية ومصر تتأثر به لندن وبرلين وروسيا وباريس وواشنطن وشنغهاي ودلهي وبيونس ايرس وجنوب أفريقيا وأمريكا اللاتينية وكندا , وكل دول العالم, وصارت هذه الشعوب والدول من حقها أن تبحث وتفتش عن النص وتدرسه دراسات اكاديمية معمقة , وتدرس الظواهر الناتجة عن تطبيقات النصوص ومفاهيمها والتعرف علي مقاصد النصوص ومآلاتها الماضوية والآنية والمستقبلية , فكيف يتم تكفير وتلعين العالم كله حينما يتعرض من تأثروا بالنصوص الدينية بالنقد أو النقد أو حتي فرض الوصاية وقتال المؤمنين بالنص , أوليس المؤمنين بالنص يستعدوا لمعارك دموية فاصلة بينهم وبين الأغيار للنص ولهم ؟!
ولذلك من يرفض التاريخانية والوقوف عليها وعلي منهجها في دراسة النصوص الدينية يرفض في الوقت ذاته العالم كله , ويرفض شعوبه ويرفض ثقافاته , ويرفض معطياته العلمية والتكنولوجيا , خاصة وأن حماة النص والأوصياء الدينين يستخدموا كل هذه المعطيات بما فيها الشبكات العنكبونية السيبرانية الكوكبية العلولمانية أو العالمانية , ليروجوا لمفاهيم النصوص حسب معتقداتهم الدينية , بل وتدير جماعات الدم والعنف الدموي المقدس , صراعاتها عبر هذه الوسائط العلمية والشبكات الإجتماعية العنكبوتية , وذلك من غير خجل ولاحرج , بدواع واهية مريضة مؤداها أن الله سخر لهم الغرب الكافر ليكون خادماً لهم ولرسالتهم المقدسة .
وحسبما يري محمد عابد الجابري أن :" مفهوم "التاريخية" أول ما طرح بوصفه يجسم الفرق الأساسي بين الإنسان والطبيعة : الإنسان له تاريخ والطبيعة لا تاريخ لها. وتاريخية الإنسان تعني في هذا المجال أنه وحده بين الكائنات يعي وجوده التاريخي، يعي تاريخيته. هذا من جهة، ومن جهة أخرى اتخذت النسبة إلى التاريخ في الفكر الأوربي في وقت من الأوقات معنى قدحيا، وذلك عندما يراد أن الموصوف به ينتمي إلى الماضي وأنه لم يعد موجودا، وبالتالي لا قيمة له لا في الحاضر ولا في المستقبل. وعلى العكس من هذا تماما أعطي في مرحلة لاحقة لمفهوم "التاريخية" معنى "الأهمية التاريخية" بلغتنا الرائجة، بمعنى أن الشيء الذي يوصف بها إما أنه يشكل حدا فاصلا بين عهدين، عندما يتعلق الأمر بالكلام في الماضي، أو أنه يدشن عهدا جديدا، وأنه لحظة من لحظات التطور نحو الأكمل والأفضل. وحول هذا المعنى الأخير تستعمل "التاريخية" في فلسفات التاريخ، الفلسفات التي ترسم تصورات عن المستقبل بوصفه قمة التطور الذي جرى عبر التاريخ ويجد لحظة اكتماله في الصيرورة التي تربط الماضي بالحاضر بالمستقبل.(4)
ويري البعض حال النظر إلي النص بإعتباره عقد أتي عبر رسالة سماوية بين من أراد الإيمان به والخضوع لشرائطه , وأن هذا النص يحمل العديد من الأمور المتشابهة وكان علي العقل أن يقوم بدراسة وفهم غاية هذا النص المتشابه الغير واضح في دلالته ومرماه , ومايقصد منه وصولاً لإكتمال أركان العقد والإنصياع لإرادة النص في الأمر والنهي , ومن ثم يتوجب مواجهة النص بكافة الظروف المحيطة به من غير عزل لسماويته وقدسيته , وهذا من جانب المؤمنين بالنص وليس من الأغيار الذين لايستطيع احد منعهم من التعرض له باي لون أو شكل من أشكال التعرض أو ألوانه سوي بالأدلة العقلية ذاتها وليس الأدلة النصية الإيمانية الإعتقادية .
وهذا ماذهب إليه البعض من أن :"القرآن رسالة نصية من الله إلى الناس، فمن آمن منهم بالله يكون أرتضى إبرام عقد سيادى معه و أرتضى المراد منه حيث أن عنوان العقد و المراد منه هو "الهدى" {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) البقرة}، و الهدى هنا مبَيَن فى نصوصه، و من آمن بتلك الرسالة (القرآن)، فهنا يكون (القرآن) هو نص العقد، بما فيه من النصوص المحكمة، وهى الكليات العليا البينة التى تفصل بين الحق و الباطل التى لا تتغير و تحكم تنفيذه لكل من أرتضى إبرامه مع الله فى كل زمان و أى مكان، و كذلك بما فيه من النصوص التى تتشابه على المتعاقِد (و إن كانت تخدم مراد العقد) فيكون على المتعاقد واجب البحث فى تلك النصوص المتشابهات فى العقد للوصول إلى معنى لها يغنيه فى التطبيق فى مكانه و زمانه و حدود ما يعلم . .. و كل ما يصل إليه عند إذ يعتبر حقا نسبيا، لتحقق الهدى بشرط عدم التناقض مع كليات النص المحكمة للعقد و مبتغاه(5)
ويري أن :"هذا الحق النسبى الذى يصلح للمكان و الزمان و الذى لا يتناقض مع الكليات و المبتغى، قد يصلح للاستمرار عبر الزمان و خلال المكان، أو قد لا يصلح، و لا يفصل فى ذلك إلا الاختبار الفعلى. .. و العمر الزمنى للأفراد أو الأمم المحدود لا يصلح للحكم بالقطع بالصلاحية، و من هنا كان لزوم ما قاله الله {وَ "مَا" يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ}، فتأويل النص هو الوسيلة الوحيدة المتاحة لمحاولة فهم المتشابه فيه لإمكان تطبيقه عبر الزمان و خلال المكان، بالتالى لا يجوز تثبيت مصطلحات لتلك المتشابهات (الحق النسبى) و بالضرورة كذلك لا نستطيع فرض مصطلح أو فهم معين و لا غيره على الكلمة التى تحكم فهم المتشابه من النصوص عبر الزمان و خلال المكان".(6)
ولذلك حين يعني البعض بتاريخانية النص الديني فإنه يعني :" تلك المشكلة المعقدة المعروفة في تاريخ الفلسفة بمشكلة "علاقة الفكر بالواقع"، وفي علم الاجتماع بمشكلة "علاقة المعرفة بالمجتمع وأطره". ووراء هاتين المشكلتين تثوي مشكلة فلسفية أكثر تعقيدا –على الأقل في زمانها- هي مشكلة الأبدي والزمني، مشكلة المطلق والنسبي. وقد لا نبعد إذا قلنا إن الذين يطرحون مسألة "تاريخية النص" من الكتاب المعاصرين إنما يقصدون بذلك ربط القرآن، كنص معرفي، بكل من الواقع، والمجتمع، والزمني، والنسبي. وهذا موقف تقول به مدارس فكرية عديدة ليس بالنسبة للقرآن وحده بل بالنسبة لكل نص ، مقدساً عند أهله أو غير مقدس . ومع ذلك يبقى أن الدين والفن والفلسفة قطاعات معرفية تخترق الزمنية وتنفصل عن ظروف المكان لتشكل نماذج ملموسة لما هو أبدي مطلق.(7)
وفيما ينقل محمد عابد الجابري عن لوكانش : "إن هذه الأشكال العليا من الوعي (الفن والدين والفلسفة)، على الرغم من علاقتها بمحيطها الطبيعي والاجتماعي وارتباطها به، فإنها إذ تمارس تأثيرها حسب خصائصها الذاتية وقوانينها الخاصة -بجرد ما تتشكل وتتبلور- تحتفظ باستقلال أكبر كثيرا من ذلك الذي تحتفظ به أشكال الفكر السياسي الاجتماعي... إن أشكال "الروح المطلق" (أي الفن والدين والفلسفة) يمكن أن تبقى قائمة ومحتفظة بقيمتها ومعاصرتها (للأجيال المقبلة)، بل محافظة أيضا بقيمتها كنموذج. وما يؤسس هذه "لأشكال العليا من الوعي" أنها هي جملة من الترابطات تحمل في ذاتها، وإزاء التغيرات المتواصلة التي تعتري الأشكال الاجتماعية الخالصة، مظهرا من "الأبدية" مبررا على مستوى الذات، لأنها قادرة على أن تبقى قائمة حية بعد التغيرات العديدة والعميقة أحيانا التي تعتري الأشكال الاجتماعية ، مما يعني أن زعزعتها تتطلب تغيرات اجتماعية أكثر عمقا من تلك، تغيرات تفصل بينها عصور بكاملها" (8) ومما يستدعي الإستشعار بالبؤس العقلي لرافضي نظرية التاريخانية أنهم دائماً مايقرروا عن يقين ثابت لديهم, ومرتقي لدرجة الإعتقاد والإيمان الجازم , بأن النصوص الدينية صالحة للتطبيق في كل الأزمنة والأمكنة , والبعض منهم يرفض هذه المقولة ويزايد عليها تحت مقولة تنفي هذه المقولة السابقة , ليردد بأنه لايجب عليكم أن تقولوا بصلاحية الشريعة للتطبيق في كل زمان ومكان , ولكن قولوا أن كل الأماكن والأزمنة صالحة لتطبيق الشريعة !
فكيف يقرر هؤلاء ذلك من غير أن يكون لديهم علم بطبيعة المجتمعات وتكويناتها العرقية والثقافية وعاداتها وأعرافها ومواريثها الدينية والإعتقادية , وطبيعة اللغة واللسان السائد واللهجات المتفرعة عن لغتهم الأصلية , خاصة وأنه في عالم العرب تحتاج الأقطار العربية في لهجاتها إلي مترجم للعربية الفصحي , لإنتشار اللهجات العامية والشعبية في التداول والممارسات اليومية , فاللهجات الخليجية تحتاج لمترجم حال التحدث مع من يتحدث باللهجات المغاربية والشامية والسودانية والصومالية والموريتانية , بل في القطر الواحد تتعدد اللهجات واللغات العامية الشعبية ففي مصر هناك لهجة الصعايدة واللهجة الشرقاوية والسكندرية , ولذلك توجب التعرف علي اللغات واللهجات بجانب الأعراف والتقاليد المتبعة , أم أن الأمر سيظل كامن في عبارات سردية متداولة ومتوارثة بمزاعم الدفاع عن النص وحمايته من الأعداء ..!؟
لعل الدراسات الغربية تحديداً الخاصة بعلم الإجتماع وعلوم الألسنية والنظريات الخاصة باللغة وعلومها , يفتقدها حماة النص والمدافعين عنه بجهالة , فكل جديد يظهر ويتبدي لهم بمثابة عدو مبين وخطره خطر دفين , وأنه يتغيا هدم الدين وتقويض أركانه , ويزعم البعض بأن العلمانيين والليبراليين واليساريين وحثالة الغرب وأتباعهم من المراكسة والكفار من بني علمان يريدوا بالإسلام الشر وبالمسلمين السوء , ويتباروا في نعت النظريات العلمية بالكفر وتكفير أصحابها بكل سهولة ويسر , لدرجة أنهم لم يتكلفوا عناء القراءة والبحث والدراسة , ولكن كل من هم خارج إطار دوائرهم يصير هو العدو المبين , ويكيلوا لهم الإتهامات الجاهزة .
ومن الأهمية الإنتباه إلي أن :" اللغة في مجال تداولها هي بمثابة عملة متداولة لكن النص يتم تداوله أيضا كدال وكعلامة ومجالات تداوله تختلف وهذا يعدد المعاني فيه . واذا كان أصحاب نظرية النص الخام يتصورون أنهم يستطيعون العودة الى النص في مجال تداوله الأصلي، فان هذا مستحيل لأن اللغة كعملة تداول لا تصاب بالتلف كالاوراق المالية . وتالياً فهي تقوم بتحولات في المعنى وتتجدد".(9)

ومن الأهمية بمكان حال التعامل مع الواقع أو استشراف آفاق المستقبل , من المحتم العودة للتاريخانية والبحث في أغوارها وقراءة ظواهرها والتعرف علي الأساطير المهيمنة علي ثقافتها المجتمعية والسياسية , والظواهر الإقتصادية السادة ونظرياتها المتبعة والمهيمنة علي واقع الناس , وكل ذلك يستلزم حال مطابقة النصوص الدينية بهذه الوقائع لتلك المجتمعات زمانياً ومكانياً :"يجب ان تكون مسلحاً بنظرية في اللغة وبنظرية في النص وبنظرية في علم العلامات . لأن النص يتحول ككتلة الى علامات (.......) أي تحولت المفردة اللغوية من خلال مجال التداول الى مفردة علاماتية .
اذاً، النصوص الدينية هي في عملية تداول مستمرة وهي قادرة على إعادة انتاج معناها، ليس في معنى التكرار، ولكن في معنى التجدد والتطور . والأكيد أنها لا تقوم في ذلك بنفسها ولكن من خلال ما يصنعه المؤمنون بها من خلال التداول" (10)
وإذا كانت القاعدة المتعارف عليها بأن النص لاينطق بذاته , ولكنه يستنطق , وهذا يتم من خلال عقل المتعامل مع النص سواء بالتسليم أو بالنقد والدراسة والنقض من غير المخاطبين بالنص الديني , ولذلك تتأتي أزمة المؤمنين بالنص من خلال الرهاب من إنشاء علاقة جدلية بين النص وبين الواقع وإنشاء جملة من الحوارات المتتابعة حال نشوء أزمة من الأزمات في الواقع المعاش وتتطلب تدخل من النص أو بالأحري المستحوذ علي النص ونطاقه المكاني والزماني , وهنا تزداد الأزمة تأزماً حينما يجد حائز النص وحائز تفسيره ومالك تأويله , حينما يسقط في معترك الجدال بينه وبين الواقع ولايجد تفسيراً له أو تأويلاً منقذاً , ومن ثم يهرع إلي الإرادة والمشيئة السماوية العليا المطلقة هروباً بالنص وبحائزه ليلجم أصحاب الأزمة , وتصير مستمرة إلي أن تشاء الإرادة والمشيئة الإلهية لها حلاً , ومن هنا يتم توظيف القضاء والقدر والمشيئة والقدرة الإلهية توظيفات معطلة للعقل وفهم الواقع والنص والإبتعاد بالعلاقة الجدلية عن الواقع إلي الغيب !
وعلي المنوال وبذلك المنطق الهروبي التغييبي تظل أزمة النص ساكنة بين الحداثة والتاريخانية بلا حراك , لا إلي الماضي تسير , ولا للمستقبل تتحرك , بجانب أنها تتخاصم مع الحاضر والواقع المعاش !

المراجع
(1) https://ar.wikipedia.org
(2) المرجع السابق
(3) محمد عابد الجابري
http://www.aljabriabed.net/pouvoir_usa_islam_10.htm

(4)المرجع السابق
(5) أحمد صبحي منصور
http://www.ahl-
alquran.com/arabic/show_article.php?main_id=8707

(6) المرجع السابق
(7) محمد عابد الجابري _ المرجع السابق
(8) المرجع السابق , نقلاً عن لوكانش
(باختصار عن لوكاتش: التاريخ والوعي الطبقي، الترجمة الفرنسية ص 270-271) .
(9)
القرآن نص تاريخي وثقافي
نصر حامد أبو زيد الحوار المتمدن-
العدد: 3056 _ 7 /7 / 2010
2010/7/7
أجرى الحوار: مـحـمـد عـلـي الأتـاسـي
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=3481
(10) المرجع السابق



#محمود_الزهيري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التأويلية _الفصل الثاني _ التأويلية بين التداولية والعقلانية
- عن التأويلية ..
- التأويلية _ الفصل الأول _ التداولية كأداة للتأويلية
- عن النص ..
- عن الإختلاف ..
- يوميات عبقري : جنون سلفادور دالي المعقول
- جدل السيادة وتنازع المصالح : صنافير وتيران .. وتظل إيلات مصر ...
- عن حصار قطر .. مفتي السعودية وشعبان عبدالرحيم : إرادة أنظمة ...
- قطر ودول الخليج : الإستبداد والإرهاب وبداية التقسيم !!
- الشهقة الأخيرة .. عن مذبحة أقباط المنيا !
- محمد عبدالله نصر : من جدل نقد التراث إلي جدلية محاكمة النقد ...
- أكذوبة توكيلات السماء .. وفكرة الخلاص الجماعي !
- سأخبر الله بكل شيء ..
- إلي العمال : الجنة الآن !!
- علي حين غرة
- لما لا .. !؟ الفصل الأول 4
- لما لا .. !؟* الفصل الأول 3
- لما لا .. !؟ الفصل الأول 2
- لما لا .. !؟* الفصل الأول
- سأكتبك آية


المزيد.....




- غزة.. مستعمرون يقتحمون المقبرة الاسلامية والبلدة القديمة في ...
- بيان للخارجية الإماراتية بشأن الحاخام اليهودي المختفي
- بيان إماراتي بشأن اختفاء الحاخام اليهودي
- قائد الثورة الاسلامية آية الله‌خامنئي يصدر منشورا بالعبرية ع ...
- اختفاء حاخام يهودي في الإمارات.. وإسرائيل تتحرك بعد معلومة ع ...
- إعلام العدو: اختفاء رجل دين اسرائيلي في الامارات والموساد يش ...
- مستوطنون يقتحمون مقبرة إسلامية في الضفة الغربية
- سفير إسرائيل ببرلين: اليهود لا يشعرون بالأمان في ألمانيا
- المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف مستوطنة -أفيفيم- بصلية صا ...
- المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف مستوطنة -ديشون- بصلية صار ...


المزيد.....

- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - محمود الزهيري - التأويلية _ الفصل الثالث _ التأويلية بين العولمة والتاريخانية