|
شوارد الفكر -3-
جميل حسين عبدالله
الحوار المتمدن-العدد: 5573 - 2017 / 7 / 6 - 23:10
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
شوارد الفكر -3- لو اكتفينا بالمثال الأفلاطوني عن ظله، وغصنا في لجته، وتماهينا في حقيقته، فإننا لن نسمع جمال صوت الإله بين الديار الساهمة، ولن نحاكي كمال فعله غير المتناهي في صورة الأحداث الغامضة، لأننا لن نجد طريقا نركبه في بناء حقائقنا، ولا منزلا نرده في حصر هوياتنا، ما دمنا لسنا إلا خيالا في حقيقة غير موجودة، وظلالا لطبيعة غير محدودة. وأنى لنا أن ننفخ فيها روحا تسعفنا بالحرية، وتنجدنا بالسعادة.؟ ربما قد يبدو هذا غريبا لدارس الفلسفة بلا فحص لما يُدهش من تنظيم الكون، وتعقيد الطبيعة، وتعنيف الحياة، لأنه إن لم يختبر أثر الحكيمين على سير البشرية إلى استكناه الحقيقة، لن يدرك أن ما يتركب فينا من وعي، وما ننتجه من فعل، وما يتراكم معنا من خلق، ما هو إلا نتيجةُ صراع المثال لواقعه في الطبيعة الإنسانية، وحقيقة لما ننزع إليه عند تحديد العلامات الدالة على رغباتنا وغاياتنا في الحقيقة الإنسانية، إذ بمقدار ما انتهى المعنى إلى الماهية المتعالية عن الحدود الحسية، لكون ما يتراءى لنا من حوادثنا النازفة بجهدنا، وكبدنا، ليس إلا مظاهر مزيفة لما يختفي وراء العالم المرئي، فإنها بالجدل تنطلق من دالها إلى مدلولها، ومن كلياتها إلى جزئياتها، ومن عمومها إلى خصوصها، لكي تلبس بتذكر ما كمن فيها من علوم ومعارف لبوس النسبية، فتظهر بمظهر يمزج بين الطبيعتين المتنافرتين في برزخ الثبات، والتغير، والمتحدتين في الموضوع على صناعة ما خلق له الإنسان من الخير، والصلاح، وإن كان في بعض لؤم طبعه، وشؤم سربه، لا يميل إلى الوحدة المتعانقة، إلا إذا أيقن بها محفوظة بدافع العنف، والتخويف. ومن هنا كانت العقول المقدسة صورا أفلاطونية مع موجودات الفارابي، لأنها دلت بمفارقتها لمحتوى مضمونها على أقنوم ينفي مطلقُه عن غيره حقَّه في نقش صورة عوالمه المثالية، ويرفض حاجته إلى الحرية في صناعة آثاره الواقعية، إذ يفصل بين الطبيعتين بحدود العالمين، عالم الأزل، وهو الأزلي، الثابت، وعالم الصيرورة، وهو الخاضع للكون، والفساد، ثم يمزج الأولى مع فيضها الفاعل في دورة الوصل، وهي حضور الكل في الكل، لكي تتخلف التي هي أدنى عن التي هي أعلى في محل الفصل، وهو مقام انفصال الجزء عن الكل، ثم تكون وجودا فيما دونها بالقوة، وفعلا في سائر مراتب دوران العقول والنفوس والأجسام حول درجات عالمها الفوقي، والتحتي، لأنها إن لم تتصل في موطن، وتنفصل في منزل، لن تكون قادرة على صياغة الدلالة المعبرة عنها، لئلا يتحد مختلِف المعنى في المبنى، فيغدو الربط بين الهيولي والمادة متعذرا، وبين الفعل والقوة متعسرا، وبين الذات والموضوع متأخرا. ولذا، فإن إدراك هذا الخلط بين مراتب الفصل، والوصل، والمزج بين حقيقة اللغة، ومجازها، هو الذي قاد ابن رشد إلى سكون المعبد، وغبائه، لكي ينحر عقله على مشرحة الإله الهادئ، ويُهدى دمه للعقل الكلي الذي صدرت عنه الأشياء بلا اختيار، ولا إرادة، لأن الاحتكام إلى الغزالي عند انكساف نور العقل الفيزيائي عن قبة السماء، واختياره قاضيا في النازلة، لم يكن إلا حمية في الوفاء للباطن المتوج بتيجان الألوهية، والوفاء لما يرد عليه من موشحات الجمال، أو الجلال، إذ الشيء الذي قدسه خوفُ العقل حين اغتال جهابذة المعرفة، وأساطين الفلسفة، هو تلك الصورة التي نقشها أفلاطون بلا ألوان، وأبعاد، وظلال، ولو لبست لبوس العقل، واللغة، والفكر، لأنها هي المحددة لكل صراع يربط الأرض بالسماء، ويجعل الإنسان مقدسا بعبوديته، لا بحريته، إذ قصارى الجهد فيما يموج بين أكنان المعرفة من تيارات، وإيديولوجيات، هو أن نبني مشتركا بشريا، يمكن له إذا تحددت مفاهيمه، ومضامينه، ودل فيه الشيء على جوهره، وماهيته، أن يخلق نسقا أخلاقيا، وفضاء اجتماعيا، يقوم فيه الإنسان ببناء جهازه الذاتي، والشخصي، وتحديد وظيفته في السياق الكوني، والإنساني. وإذا كان الشمال الأفريقي مرفأ هرع إلى نجعته ما تبقى من العقل المشرقي المغتال صعوده، وهبوطه، فإن إهراق دماء ابن رشد على رفات المحابر التي امتزج مدادها برماد الغزالي، لم يكن إلا ثورة على الطبيعتين اللتين خلفهما الحكيمان في كبد العقل، وحدس الوجدان، لأن ما حدث بين الديار من اعتلال، وما انحدر إليه الخلاف من اقتتال، لم يكن شدةَ حرارة عطف فيمن أنجب أوغطسين، ورعى ابن رشد، وكان بهما حفيا، ولم يكن حدة ثأر يحمي الذات من عجائب النقص، ويمنح الكيان هوية السماء، إذ ميلادهما من طينه، ومنشأهما على أرضه، لم يكن إلا دليلا على تعقل الجغرافيا، وتبصر التاريخ، واعتدال المناخ، واستواء المجال، لأن نبوة العقل التي اختارت مدار المكين، لم تكن إلا أنفاسا عالقة بتضاريس المكان، إذ قصارى الجهد أن يقال: المغرب بلاد الأولياء، والمشرق بلاد الأنبياء. تلك هي المقولة التي لخصت مساحات العقل في الحواضر، ومسافات العاطفة في البوادي. لكن هل استطاع الأنموذج الشمال الأفريقي أن ينتج معرفة بعد حرق التراثين، وإهالة التراب على الرفاتين.؟ إذا كان الموحدون، وهم قد عاشوا أوج الصراع بين الأفلاطونيين، والأرسطيين، قد انتخبوا منهج الاستبداد بالحق الإلهي، فإن ما نشأ عنهما من دروس التاريخ التي أفادت اللغة، والحساب، والطب، والجغرافيا، والعلوم العرفانية، لم يكن إلا دعما للمغتال الذي ردم عقل ابن رشد، وأحرق كتبه، لكي يخلد إلى نفض الغبار عن أوثانه، وصون ما تبقى من أصنامه، ثم يبني قبته المرمية على حواف البوادي، عساه أن يستحوذ على طرق التجارة في المعاني الخالدة، لأنه ومهما حرك أشجان الذات الحرى، ما أثارها بين مجامع الفكر، والمعرفة، فإن ما آل إليه عقل ابن باجة، وابن زهر، وابن طفيل، لم يكن إلا عِلما مسوِّغا لوقاية الأبدان، وحماية الأعيان، إذ الدرس الكلامي الذي يثير العقل للاستدلال على كبرى اليقينيات بالأدلة النظرية، لم يكن مداره إلا محدودا بما يضمن للوحدة قيمتها، ويفرض أحاديتها على غيرها، ولو عطلت الإرادة عن حرية المشي إلى الحروف المنقوشة على جنان الطبيعة، لكي يكتشف الإنسان طرقا أخرى في طي أنفاسه، تحلق به إلى عالم الحقيقة، لأن إغلاق باب الاجتهاد فيما هو قائم من سبل مهيأة للامتداد، والاستيطان، لن يفتح الأفق لتحريك ما هو ثابت، ومخضِ ما هو مستقر، إذ استفتاح ذلك بوافر كمال العقل، وواجب الخضوع للقوانين المكنونة في الأشياء، لا يبيح في السؤال عنه إلا التجديف، والزندقة. ومن هنا، كان أقنوم المثال الأفلاطوني صنما لا يعقل، وجلمودا لا يفكر، لأنه في سكونه، وهموده، يكون قادرا على تدبير ظله بما يتمحض فيه من خوض لبحار الأمل، والألم، إذ صيرورته في حركة واقعه، لا تتجسد في نظامه، بل في قوته التي لا حدود لها في الفكر، ولا في الأثر، لأنها تدل على الصور غير المتناهية، وتفرض أنموذجها الذي لا افتراض لغيره. وهي في حقيقتها موجودة للفعل الدال على القدرة، لا للفهم الدال على العظمة، إذ لو دلت على ذلك، لكان معها اختيار في اجتياز بحر المعرفة، لأنها في غموض الارتباط بحكمها، لا تريد الأشياء إلا كما ترسم صورها، لا كما يريدها مستجلي سر ناموسها بالإرادة، والغاية . ومن هنا، لم يكن الدرس الفلسفي قادرا على تصحيح أخطاء العقل التي فندها ابن رشد، لأن جنوح لغة الخيال في تحديد المسمى الذي نتآلف حوله، وهو المعبر عن الصورة التي وصلها الكد الإنساني في اكتشاف الناموس القائم بالأشياء، هو الذي أوقف حركية التاريخ عند ماهية لا تقبل التغير، ولا التنقل، لأنها ذلك المطلق الذي حكم به القوي الأرض، وواصل به جند السماء، إذ ما أنجزه عقل الراهب حين سافح فتنة الحظوة، وفاجر قينة الزعامة، لم يكن إلا سندا لما هو قائم من حدود العقل التي رسمت الآلهة فاعلة بمقتضى رغبة الرهبان، ودعما لما توطأ عليه الناس من صيرورة لتثبيت مبدأ التلاقي على غاية عامة، ومقاصد مشتركة. فهل كان مطلق الدولة، هو الذي يحدد الدين، والعقيدة، والفكر، والممارسة.؟ أم كان العقل حرا في اختزان أدواته وقواعده بالملاحظة، والتجربة، والحرية.؟ لعل ما قام به الأمر من تناف بين الحقائق، قد استساغ المزج بين الطبيعتين في مركب مقفل على ذاته، لأنه في تحديد الطريق إلى السماء، يحقق عقل البادية المحكوم بالقبيلة، وفي تدبير المورد على الأرض، يميل إلى عقل المدينة، لأنه الأوفر حظا في المتعة، والأكثر نصيبا في الرفاهية. ومن هنا كان المزج مختلا في الحقيقة، لأنه يجمع بين الأعراض بدون ما ظهرت عليه من ذوات، ثم يركبها في مركب مختلف، فتتحول إلى أسماء بدون مسميات، وصفات بدون موصوفات،. وإذ ذاك، يكون منطقها مجافيا لما أقامه أفلاطون من فراديس المثال، ومنابذا لما عبده أرسطو من طرق يسافر عليها العقل إلى مكامن الطبيعة، ومواطن الحياة، إذا ما تركب من فقد المعنى، وعماء الجدوى، لم يكن عقلا في الثبات، ولا وعيا في التغير، لأنه حين ألغى الإنسان، وحفر له قبر عقله، وبنى عليه معبده، لم يصر صمت الإله، ولا صوت الخليقة. ولذا، احتار العقل العربي، هل يحيى مع الغزالي، فيكتشف في المثال ما فقده في واقعه.؟ أم ينظر مع ابن رشد إلى الأرض، لكي يتعرف على محل أوجاع الأرباب بين وهاد الإنسان.؟ قد يبدو لنا طي هذا السؤال ظاهريا مُعينا على اكتشاف منطقه، لأنه محل الخوض منذ أن وخزه الجابري بمبضعه، لكن لم نتجه صوب الأماكن التي نشم فيها رائحة التاريخ، ونستهدي فيها إلى مهيع الذكريات.؟ ربما تكون هذه قابلية أصيلة في استعدادات الإنسان، وقوة مستولية على ملكاته، لأنه حين يريد أن يفهم ناموس الصراع، أو أن يزيله، أو حين يفجر مواهب عبقريته في الفكر، والوعي، لا بد أن يعود إلى تلك الصورة البريئة التي صنعتها طفولته الموءودة في يفوعته المدبرة لآلام حلمه، وفظائع واقعه، وأن يرجع إلى نقطة ابتدأ منها الخير في كونه، وفي وجود حقيقته، إذ هي اللحظة التي تعيد إلى الكون صفاءه، وتسبل عليه سابغ صفته، وجميل كماله. وإلا، كان ما يدبرنا مفضيا إلى سآمتنا، أو إلى انتحارنا، لأننا من شدة الاختناق نحس بأننا نشيخ بسرعة، أو نموت ببطء، إذ ما يفرض علينا السؤال، ويصيره ضرورة في اختيار ألوان الغد، هو ما عن لغيرنا من آلام تخب بين المناكب، والمجالب، وهو الذي صدع به حين رغب في الحرية، وابتغى أن يعيش هذه اللحظة البسيطة على الطبيعة بكرامة، لأن ما يدفع بنا إلى أن نقول: لِمَ لمْ نتقدم.؟ هو الذي يفرض علينا أن نقول: لم تقدم غيرنا.؟ شيء واحد يرد علينا حين نريد أن نشرب كأس الأمنية على مائدة الأحلام، وهو الذي يحركنا إلى الأمام، ويجرنا إلى مجهول غائر في المستقبل، لكي نندمج في ضوء المصباح الذي نستنير به بين الغيل، والغوائل، ونستهدي به إلى تلك العوالم الخفية، وهي محل الإطلاع على أسرار الكون، والطبيعة، لأنه في قصارى جهده، وغاية دركه، هو الشعور بشيء موجود فينا، أو محدود معنا، لكنه محتاج إلى تعديل في صفاته، وتأثيل لمعانيه، لكي تدل على الموصوف بالحقيقة، وتحصر المقصود بالإدراك، والمعرفة، إذ هذا الافتقار إلى اكتساب الشجرة، وظلها، والصخرة، وصوتها، هو الذي يعلمنا كيف نمشي بين منابع السؤال، لعلنا نخاطب الأرض، ونناجي السماء، لأن فقدان الطريق نحو العالميْن المتعارضين في كثير من مطلقاتنا البشرية، يربك سير المتعطش إلى النهاية، والمترنح بالبداية، إذ هو الشعور بفقدان الدليل، والاحتياج إلى المرشد الأصيل، لأنه وإن ظهر لنا بمظهر الخاشع في محراب صوته، أو الباكي على قبور غبنه، فإنه يمور في عمقه بالغربة، ويخور بالوحشة، إذ هو لا يريد إلا أن تنتهي اللحظة المتصارعة، لكي يكون سعيدا في حياته بالألفة، والمحبة، لأنه في مقدار كمية إحساسه بما يلفه الزمان من أمداء، ينطوي على ما يجمع كنهه في المكان، وترتب دوره في الزمان، إذ هو لن يكون حريا بوجود نشوته في متعته، ما لم يكن ملتفا على الأشياء بكليته، وممتلكا لها في هويته. وهل هو إلا مجموعة أعراض، وأغراض، يزف إليها عرائس أنفاسه مناجيا، ومناديا، لعلها تسمع صوته، فتكون صدى في آفاقه، وفضائه.؟ وإذا كانت هذه الرغبة مكنونة في عمقه، ومقرورة في غوره، فإن ما يحاوله من كتمان، أو ما ينشئه من نسيان، لن ينهي حدة السؤال عن مقامه في حياته، وحاله في واقعه، لأنه جزء مما تجره عربة الزمن، وتحركه الهزات، وتزلزله الرجات، وتدنيه الأرواح، وتبعده الأشباح، إذ لم يوجد في ماهيته فاقدا للإحساس بالخلد، والأبد، لكي يكون شلوا ممزعا بين ديار الشتات، والخراب، بل صوته مسموع، ونظره ممدود، فهو ناطق بعقله، وناظر بفكره، لأنه أدرك في ذاته وجودا، فكان به طالبا لما يحميه من نقصه، وزواله. ولذا كان الصراع مجافيا للإنسان، وإن استفزه بالسؤال، واستنهضه بالدهشة، لأن ما قدمه العقل من أرواح الأطهار، وما وهبه إلى القبور من شهداء الأحرار، لم يبق منه على جدران المعاهد رسم، ولا على قباب المعبد وشم. فهل غيبته غزارة الأمطار التي هطلت على الأحبار.؟ أم انمحى الرسم بجدب السنين بين الأكوار.؟ قد يقول قائل بذا، وقائل بذاك، لأن الصنم لا يكون معبودا في صور العقل، ما لم يكن مقدسا في الطبيعة، إذ تقديسه بالاحتباء حوله، هو الذي يمنحنا قوة على معانقته، وقدرة على مجاملته، إذ هو الشيء الذي نجعله بناء للذات، وووقاء للذات، وهو في غوره هدم للمعاني، ونبش للآيات. فهل انزوى العقل عن رداءة الطبع الذي جفت ابن رشد، لكي يخلد إلى ذاته، ثم يحلق منها إلى عليائه.؟ أم ما زلنا نقول: لم يكن ابن رشد إلا قارئا، وشارحا، وأنى له أن يكون نفَسا في الصناعة، وسرا في الحضارة.؟ ربما قد يثير هذا فضولا عند المتسائل، لأنه يريد أن يعرف مصير ابن رشد، ومجثمه بين القبور، لعله أن يزوره بطيفه، ويطوف حوله بظله، فإذا أدركه، قرأ فيه ذكرى اغتيال العقل في جغرافيا الأحلام، وإذا لم يجد له أثرا، ولا عينا، أرخى بين مسام الأرض صراخا، وعويلا. لكن، ألا يجوز لنا أن نقول: إنْ دفن ابن رشد بين فراديس الغزالي، فإنه قد ولد في بساتين الأكويني. لو قلنا بهذا، فإننا نكون قد أنهينا السؤال، وعثرنا على عقل ابن رشد في إحساس أوربا بذاتها، ووعيها بأحلامها. وهنا يمكن لنا أن نقول: إن الغرب لم يرد معينَ حضارته من بيان أوغسطين، لأنه لم يكن إلا لحنا يعزفه قديس بين الحدائق الناعمة، بل شرب منها كان وحي العقل الرشدي شهدا على لسان الأكويني، لأنه ما كان له أن يسير تحت أديم السماء بنظره المختَطَف، ولا أن يتحدث بلسانه المكتنف، لو لم يتحد ابن رشد بأرسطو في قياس غائبه على شاهده، إذ ما عجزت الرهبان عن قبوله في لحظة كادت تبزغ منها شمس الحقيقة على العقل العربي، هو ما استوطنت أوربا ألمه، وتحملت وخزه، ورضيت بعضته، لأنها تذكرت فيه عقل تاريخها المضمخ بالدماء، وأدركت فيه وعيا يهديها إلى نواميس البقاء، وسنن الفناء، فلم تأبه بما رفعته ألسن الكهان من صوت السماء، ولم تعبأ بما تنادي به الديار من صفاء، إذ ما توقى به التاريخُ ضياعَه، لم يكن إلا سببا في فراغه، وما خاله مرقاة إلى السماء، هو ما دفنه بين ركام العناء. ولذا لم تكن حضارة أوربا إلا نتيجة للصراع بين الإله، والإنسان، وحصيلة للحرب التي أبادت الأكنان، والأوطان، إذ صراعها مع غوائل الزوال، قد أوجد لها فجاجا إلى الطبيعة، ومهادا بين الحقيقة، لأن ما تظاهر عليها من بقايا التاريخ العالقة بشعاب الأذهان، قد فجر فيها غب السؤال عن دور الفكر، ومصير الإرادة، لأن معنى الوجود لا يتحقق إلا بهما، وهما في الصوغ حتيمة لا زمة للإنسان، بها يدرك، ويعقل، ويعي. فهل هما كما وصف الرهبان، فيكون الإنسان أثرا لهما، لا صانعا لآثارهما.؟ أم احتاج السؤال إلى فصل لوثر، وكالفن، لكي يصير صوت الإنسان ثورة في عمقه، ونظره.؟ إن انتحاء الإنسان نِحو أرسطو عند طلب الأرض، لم يبعد المسافة عن الإحساس برغبة أفلاطون في جمال السماء، لأنهما لم يموتا في عقل الحضارة، ولن يفنيا في نص التاريخ، ما دام لن يُنظر إلى مملكة العقل إلا بما أبدعاه من مثال، أو ما حدداه من قياس. وأنى لمن جاء بعدهما أن ينظر إلى السماء بدونهما.؟ بل أنى لمن يتقي الحفر أن يسير على جدد الأرض بلا اقتفاء أثرهما.؟ إن الأفكار العظيمة، لا تولد إلا من رحم الألم الإنساني، لأنه هو الذي ينفخ فيها الروح، ثم يرسلها في الفضاء هادئة، لكي تخترق حجب الزمان، وأغلال المكان. ولذا ولدت أوروبا مضمخة الوجوه بدماء العقل الذي أهدته محاكم التفتيش إلى الهيكل المقدس بإذعان، لأنها لم تختر أن تعيش على الفتات الذي يعمِّد به الراهب طلاب نبض الحياة على وجه الطبيعة، إذ لم تر فيه إلا احتقارا لإنسانية الإنسان، وإمعانا في استعباده، وإرغاما له على إذلاله، لأنه ما مدى ما يمكن أن يقدمه الكاهن من متعة، وهو لا يتقن إلا طلاسمه التي يتمتم بها عند رعشة قداسه، إذ لو كان قادرا على ضج الرجاء بين غياهب الصدور، أو كان راغبا في أن يبرئ جراحا دامعة في الأعماق، لكان صوت المعبد لحنا يسري بين العقول، ووميضا يجري بين العيون. لكن هل استشعرت أوروبا في معبدها صوتا لهذا المزمار الذي يتلو المزامير.؟ لو سُمع ذلك فيما تتذوقه من ألحان العذوبة، وأنغام الرطوبة، لكانت موسيقى الراهب نسمة تهب بين الديار، ونفحة تفوح بين الآفاق، لأن اختراقها للصمت الذي يقدس به إلهه المنتفش على جدران معبده الشاحب، لم يفتق في العقول إلا هدوءا يسقي الإنسان خمرة الحرية في الوجدان، والإحساس. لكن أنى للراهب أن يفجر بين خان جفوته موسيقى الكون، وهمس الطبيعة، وهدوء الحياة، لكي يكون الإنسان لحنا في السلم العالمي، والأمن البشري، والحرية الإنسانية.! لو أمكن له ذلك، لكان دليلا على خفق الإنسان في حقيقته، وعنوانا على الهداية إلى طرق السعادة، وسبل السلامة. فلا غرابة إذا فجر الراهب من جؤجؤ ورعه صديد الضغينة، وفحيح الكراهية، ما دام محرابه ينزف بما يتورم في غور جرحه من جبن، وما يتلجلج في صدره من خوف، لأنه في حرصه على بقائه سادنا للهيكل المخضل بين ماخور عهره، وحان دعره، لا يثير في حنان النفوس إلا شفقة، ورحمة، إذ هو بالبكاء على جدث غيره، يحس بنشوة في ذاته، لأنها بدون النوح على المصير، لن يكون لها بين مآتم الأرض مسير. ولذا كانت التضحية تقتضي أن يشنق الإقطاعي بمعي الراهب في لعبة الوجود؛ وهي بما يموج فيها من عقد الخلد، والمتعة، لا تنتمي إلا إلى عقيدة اللذة التي ضحى الإنسان فيها بيتم الأرض، ويبس السماء، لأنهما تواءما على طمس الهوية، واتحدا على وأد القضية، فكان الانتقام للعقل أولى من الحرص على الوفاء للألحان الغامضة، إذ لولا تلك الدماء التي أهريقت على فسيلة الحرية؛ "وهي في شدة صبيبها أقدارٌ سيقت إليها حين عشقت شجرة السعادة، لأن ما نشأ على دوحها من طفيليات غريبة، وكائنات رديئة، لم يكن إلا حجابا يصدها عن رؤية عقلها في ذاتها،" لما كان لأروبا محل فصل، ووصل، لأنها في اختلاطها بالعقل، تغدو صانعة، وفي امتزاجها بالقلب، تصير منتجة لأقدس ميثاق أوجده الإنسان بين الأكوان. فلا غرابة إذا كانت أرسطية فيما يحتاج إلى ناموس، وأفلاطونية فيما يحتاج إلى أخلاق، لأنها بالقانون صنعت الحضارة، وبالأخلاق أنجزت مهادا لحرية الإنسان، وحقه في الوجود، ودوره في الحياة، إذ ما نعتبره في الصورة حين نصوغها من تناقضات الضدية، وسوالب الثنائية، هو ما قامت به الحضارة من قوانين، وما تقومت به المدنية من قيم، لا ما استحدث فيها من فناء، وزوال، لأنها بالخروج عن النص الأول الذي دون حقيقة الائتلاف على المعاني الخالدة، قد أنتجت توحش الإنسان، وتغوله بأفضلية النوع، وأهليته لقيادة الكون، والحماية للطبيعة، والرعاية للحياة البشرية. وهكذا تكون كل الأفكار البشرية بين لغتين متناغمتين في الحدود الكلية، تتسم كل واحدة منهما بالإطلاق في الخصوصية، وبالوحدة في الإدراك. وسواء تلك التي جعلت الفكر عطاء الإله، ومنحته صفة لا تقبل التعديل، ولا ترضى التبديل، أو تلك التي جعلته نبض الإنسان، وحسه الباطني، وحركته الإدراكية في الوجود، وحدسه الجمالي في الطبيعة. لكن كيف تتشكل الأفكار في عالم الأرض، وعالم السماء.؟ لعل ما نهتدي إليه في صيرورة الفكر البشري، وفي توحده مع موضوعه بين بؤر إدراك العقل العاقل، والواعي، هو ما يجعلنا نطمئن إلى أننا قد وجدنا على هذه الأرض أحرارا، لكي نكتب سيرة ذواتنا في تآلفها، وتنافرها، فتقوم الحجة علينا بالبرهان القاطع، والدليل الساطع، فإما أن نكون أوفياء للذمة الذي أرادت الإنسان كائنا خيرا، وصالحا، وإما أن نكون ناكثين للعهد الذي زين الحقائق بصورة الجمال، والكمال. هذه الحجة التي صاغها الإنسان في جريه بين الزمان، والمكان، هي الدليل على الوجود، والطريق إلى الطبيعة التي تفرد كل واحد منا بجهده، وتمتعه بقصده، والغاية التي ترسمنا في لوحة الكون قاصدين، أو قاعدين، لأن ما تقوم به الحجة من براهين، وما تتألف به من عناوين، يؤكد قضية الاحتياج إلى تمام ذواتنا، ويبني حس الافتقار إلى غيرنا، ولو تطاول سيفنا على الرقاب، وحولنا الديار إلى خراب، إذ الشعور بذلك، هو القوة المعنوية التي تدبر سذاجتنا بما يحمي الدائرة، ويفرض الحوزة، ويمرع الكون بالوحدة، ويمتعه بالألفة، لأن لذة القوة في الصفة، لا في الموصوف بها على التبعية، إذ هي في الصفة معان ذاتية، وكل ما أتى من قبيل ذلك في ترتيب المعاني، فهو الأقدس في الوجدان مما تلاحم فيه الجوهر بالمادة، إذ امتزاجهما في الهوية، هو عمل العقل الباقر، وافتراقهما في القضية، صورة للخيال المترع بالحنان إلى الوحدة. ولذا، تكون القوة بهذا المفهوم مرقاة إلى السماء، ومفتاحا لباب الطبيعة، لأننا ومهما أسرفنا في استكناه ما تختزنه من شراسة، فإن أجمل ما نحصل عليه من مداليلها، هو ما يجعلنا نشعر بالأمان في العائلة البشرية. وإذا طاشت عن هذا الحد، وسفه فيها المراد، واغتمت بالقهر، والتحمت بالإجبار، كانت تخويفا، وترهيبا، لأنها لن تجد لها في الذات مكانا قريبا، ولا في الخارج مراحا رحيبا. وإذ ذاك، تبني عروش انتفاخها بالجبر لغيرها، والعسف على مداره، والطيش بين مجازه. وإذا تحولت إلى رعب، وانتهت إلى خوف، كانت لغة الحوار في الكون رديئة، وأصوات الحقيقة قميئة، وصارت معاني الحقائق التي نعيش بها موتا بطيئا، وفوتا هادئا، لأن فقدان نبل الضعف في خشونة القوي، هو الذي ينسج روابط الأواصر من حبال المجانق، وأعواد المشانق، ويرفع من أنين البشر سجونا للعقل، ومعاقل للحرية.
#جميل_حسين_عبدالله (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
شوارد الفكر -2-
-
شوارد الفكر -1-
-
سوانح البيان (3-4)
-
سوانح البيان (1-2)
-
موارد العنف -8-
-
موارد العنف -7-
-
موارد العنف -6-
-
موارد العنف -5-
-
موارد العنف -4-
-
عطر الصباح (شهادة في حق والدي رحمه الله)-2-
-
عطر الصباح (شهادة في حق أبي رحمه الله) -2-
-
موارد العنف -3-
-
موارد العنف -2-
-
عطر الصباح (شهادة في حق والدي رحمه الله) -1-
-
موارد العنف -1-
-
عقيدة التسويغ -11-
-
عقيدة التسويغ -10-
-
عقيدة التسويغ -9-
-
عقيدة التسويغ -8-
-
عقيدة التسويغ -7-
المزيد.....
-
عمال أجانب من مختلف دول العالم شاركوا في إعادة بناء كاتدرائي
...
-
مستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى بحماية شرطة الاحتلال الإسرائي
...
-
أجراس كاتدرائية نوتردام بباريس ستقرع من جديد بحضور نحو 60 زع
...
-
الأوقاف الفلسطينية: الاحتلال الإسرائيلي اقتحم المسجد الأقصى
...
-
الاحتلال اقتحم الأقصى 20 مرة ومنع رفع الأذان في -الإبراهيمي-
...
-
استطلاع رأي إسرائيلي: 32% من الشباب اليهود في الخارج متعاطفو
...
-
في أولى رحلاته الدولية.. ترامب في باريس السبت للمشاركة في حف
...
-
ترامب يعلن حضوره حفل افتتاح كاتدرائية نوتردام -الرائعة والتا
...
-
فرح اولادك مع طيور الجنة.. استقبل تردد قناة طيور الجنة بيبي
...
-
استطلاع: ثلث شباب اليهود بالخارج يتعاطفون مع حماس
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|