|
ردود الفعل الكاريكاتوريّة على الرّسوم الكاريكاتوريّة
رجاء بن سلامة
الحوار المتمدن-العدد: 1451 - 2006 / 2 / 4 - 10:29
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
هل رسول الإسلام والإسلام نفسه مهدّدان إلى هذا الحدّ بالانهيار والتّلاشي جرّاء الرّسوم الكاريكاتوريّة المنشورة في صحيفة دانماركيّة، حتّى تتعالى صيحات الفزع من كلّ مكان، وتبادر الحكومات إلى سحب سفرائها، ويبادر المتفقّهون بالمطالبة بمقاطعة البضائع الدّانماركيّة، وتبادر الهيئات الإسلاميّة الموقّرة إلى الاحتجاجات الرّسميّة؟ الموقف فعلا أكثر كاريكاتوريّة من الرّسوم نفسها، لأنّ الكاريكاتور التي أنتجه الصّحفيّ الدّانماركيّ هو من باب الخيال الفنّيّ، أمّا الكاريكاتور الذي تنتجه الشّعوب الإسلاميّة والعربيّة منها بالخصوص فهو من باب الواقع المرير الذي تتحوّل مرارته إلى فكاهة سوداء مبكية مضحكة : تخيّلوا جيشا من المقاتلين المدجّجين بأحدث الأسلحة ينبرون جميعا لمطاردة بعوضة، مهلّلين مكبّرين، معتقدين أنّ تلك البعوضة ستلحق دمارا شاملا ببلادهم وتنتهك حرماتهم ومعتقداتهم وثوابتهم؟ من يسيء حقّا إلى هذه الدّيانة التي يعتنقها منذ خمسة عشر قرنا آلاف الملايين من البشر : الرّسّام الذي رسم الكاريكاتور، أم ردود الفعل الغوغائيّة التي تطالب بإعادة بوليس الفكر ومحاكم التّفتيش؟ أليست المطالبة بمحاكمة الصّحفيّين من أجل إبداء الرّأي إرهابا فكريّا؟ هل نلوذ بالإرهاب الفكريّ إذا ما أعوزنا السّبيل إلى الإرهاب الفعليّ؟ نريد كلّ يوم أن نثبت إلى العالم أنّ الإسلام بمنأى عن الإرهاب والإرهابيّين، وأنّ الإرهابيّين الذين يروّعون الأبرياء في كلّ مكان ليسوا من الإسلام في شيء، وأنّ الإسلام دين محبّة وتسامح، ونقدّم في كلّ يوم الدّليل على أنّ الإسلام الذي نريده، ونذود عنه يسير في اتّجاه الصّدام مع الآخرين، و في اتّجاه الحرب الصّليبيّة المعكوسة، وفي اتّجاه الأفق الضّيّق، والعبوس اللاّهوتيّ. هل تسيء الرّسوم حقّا إلى الإسلام والمسلمين؟ هل تقلّص عدد المسلمين وخرجوا من دين اللّه أفواجا بعد أن كتب سلمان رشدي "الآيات الشّيطانيّة"؟ وقديما، هل انهار الإسلام جرّاء ما كتبه أهل البدع، وما نظمه أبو نواس وعمر الخيّام والمعرّيّ من أشعار ساخرة مشكّكة؟ ألا ينبغي أن يوجد الباطل لكي يوجد الإيمان، ولكي يمتحن المؤمن نفسه إزاء أهل الباطل؟ ثمّ ماذا يترك المؤمنون للّه حتّى يتحوّلوا إلى قضاة في الدّنيا قبل الآخرة؟ ثمّ إن كان تحريم تمثيل الأنبياء والصّحابة يلتزم به المسلمون المؤمنون، فلماذا يريدون فرضه على الأمم الأخرى، التي واجهت سلطة رجال الدّين طيلة قرون، لكي تصل إلى التّحقيق الفعليّ لحرّيّة الرّأي والمعتقد؟ يحقّ لنا أن نشكّ شكّا معرفيّا لا تفتيشيّا في إيمان هؤلاء المطلقين لصيحات الفزع، فالمؤمن إذا كان راسخ الإيمان لا تهمّه مواقف الآخرين من معتقداته. إنّ الهوس هو الخوف ممّا لا يخيف في الواقع الخارجيّ، وإنّ هؤلاء المطلقين لصيحات الفزع يخافون من ذواتهم التي أصبحت غير قادرة على امتحان إيمانها إزاء اللاّإيمان. إنّهم غير قادرين على مواجهة امتحان الحداثة الفكريّة لمعتقداتهم، ولذلك فإنّهم يلجّون في الاستغاثة، ويريدون لعب دور الضّحيّة لكي يبرّؤوا أنفسهم من شكوكهم المكبوتة. وهناك منسيّ في كتابات هؤلاء الذين انبروا يصيحون : واإسلاماه، ومنهم من صاح بالمناسبة "واحجاباه"، معتقدا أنّ الحجاب هو الفريضة الأولى للإسلام (انظر المقال شبه التّكفيريّ الذي كتبته السيّدة إقبال التّميميّ على صفحات إيلاف يوم 1 فبراير 2006). هذا المنسيّ لدى جنود محاكم التّفتيش العربيّة ممّن يعدّون أنفسهم مثقّفين وكتّابا هو الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان والمادّة 19 منه تحديدا، وقد بحّت أصواتنا ونحن نذكّر بها : "لكل شخص حق التمتع بحرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حريته في اعتناق الآراء دون مضايقة، وفي التماس الأنباء والأفكار وتلقيها ونقلها إلى الآخرين، بأية وسيلة ودونما اعتبار للحدود."
ربّما يكمن المشكل في انتماء الشّعوب الإسلاميّة إلى زمنين في نفس الوقت، زمن العولمة والمكاسب المدنيّة والإعلان العالميّ لحقوق الإنسان، وزمن مصادرة فكر غير المسلمين وتسليط حكم الرّدّة على المسلمين. نريد أن ننتمي إلى الزّمنين معا، ونريد أن نستعمل مبادئ الزّمن الدّيمقراطيّ (المطالبة بالمحاكمة، استعمال القنوات الدّبلوماسيّة، التّوجّه إلى الأمم المتّحدة...) لجرّ البشريّة إلى الزّمن اللاّهوتيّ المظلم (تكميم الأفواه، ومصادرة الآراء والتّعبيرات الفنّيّة)، ولتصدير بؤسنا المدنيّ والفكريّ إلى كلّ العالم. الهيئات الإسلاميّة الموقّرة التي تبادر اليوم إلى الاحتجاج على رسوم صحفيّ من الدّانمارك، أليس من الأولى بها أن تساعد المؤمنين على إبداع أشكال من التّديّن تحترم المكتسبات المدنيّة الحديثة، وأن تعلن تعليق حكم الرّدّة، بناء على أنّ القرآن نفسه لا يقرّه، وتقرّ بمبدإ العدالة والمساواة للجميع، وتقرّ فعليّا بمبدإ التّسامح؟ فما معنى التّسامح إذا كنّا لا نسمح بأيّ هامش للآخرين حتّى يبدوا آراءهم ممّا نعتبره حقائق ثابتة؟ لا حدّ لهذا الهوس الشّعبيّ والرّسميّ الذي ترامت أطرافه : ربّما سنطالب في يوم من الأيّام بمحاكمة فولتير لسخريّته من الأديان، وماركس لاعتقاده بأنّ الدّين أفيون الشّعوب، وفرويد لاعتباره الإله بديلا عن الأب واعتباره الدّين وهما، وسارتر لوجوديّته الملحدة... وأن نطالب الحكومات المسؤولة عن رفاتهم بالاعتذار للمسلمين وبإحراق كتبهم ومنعها من التّداول، لأنّها تسيء إلى الإسلام. وربّما طالبنا الأمم المتّحدة أيضا بسحب المادّة 19 من الإعلان العالميّ عن حقوق الإنسان، وبالاعتذار عن المبادئ التي تجعل أيّ صحفيّ أو كاتب يبدي رأيا أو يرسم كاريكاتورا يسيء من بعيد أو قريب إلى الإسلام.
#رجاء_بن_سلامة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
دور المثقفين والإعلام في مقاومة الإرهاب
-
الثّابت في -الثّوابت- العربيّة
-
حول عبارة -ما يسمّى بالإرهاب- حول قسوة العرب على العراق الجد
...
-
أكثر من مائة مثقّف يوقّعون بيانا ضدّ مصادرة حرّيّة الرّأي وا
...
-
لم نعد في عصر الملّة
-
كره الحبّ عند العرب خواطر بمناسبة عيد الحبّ
-
حجاب المرأة قديما وحديثا محاولة تفكيك وتحويل للأسئلة (4 من 4
...
-
حجاب المرأة قديما وحديثا محاولة تفكيك وتحويل للأسئلة (3 من 4
...
-
حجاب المرأة قديما وحديثا محاولة تفكيك وتحويل للأسئلة (2 من 4
...
-
حجاب المرأة قديما وحديثا محاولة تفكيك وتحويل للأسئلة (1من 4)
...
-
أيّ ديمقراطيّة يريدها لنا الإسلاميّون الدّيمقراطيّون؟
-
العنف ضد المرأة في ثقافتنا التقليدية:هل سنكون برابرة العالم؟
-
تقول له انظر أمامك.. فينظر إلى يدك
-
لا يحرّمون ختان البنات بل يحرّمون نقل الأعضاء : فتاوى تزرع ا
...
-
لماذا وقّعت البيان المجرّم لفتاوى الإرهاب
-
الهذيان الدّينيّ الأصوليّ بعض المداخل النّفسيّة لدراسته
-
قبضة الرّقيب
-
أبنية المواطنة المنقوصة، ثقافة التّمييز
-
الجندر في العالم العربيّ
-
الدّعاة الجدد : من التّحريض إلى التّنويم
المزيد.....
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف تجمعا للاحتلال في مستوطنة
...
-
“فرحة أطفالنا مضمونة” ثبت الآن أحدث تردد لقناة الأطفال طيور
...
-
المقاومة الإسلامية تواصل ضرب تجمعات العدو ومستوطناته
-
القائد العام لحرس الثورة الاسلامية: قطعا سننتقم من -إسرائيل-
...
-
مقتل 42 شخصا في أحد أعنف الاعتداءات الطائفية في باكستان
-
ماما جابت بيبي..استقبل الآن تردد قناة طيور الجنة بيبي وتابعو
...
-
المقاومة الإسلامية في العراق تعلن مهاجتمها جنوب الأراضي المح
...
-
أغاني للأطفال 24 ساعة .. عبر تردد قناة طيور الجنة الجديد 202
...
-
طلع الزين من الحمام… استقبل الآن تردد طيور الجنة اغاني أطفال
...
-
آموس هوكشتاين.. قبعة أميركية تُخفي قلنسوة يهودية
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|