أمير أمين
الحوار المتمدن-العدد: 5571 - 2017 / 7 / 4 - 16:58
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
في نيسان عام 1978 كنت جندي مكلف منقول الى محافظة ديالى لمنطقة تسمى الصدور والتي بقيت فيها شهرين ثم تم نقلي لفصيل مقر جلولاء بصفة غير مسلح لأسباب سياسية ترتبط بنشاطي السابق حينما كنت شيوعياً في مدينة الناصرية , كانت هذه المنطقة عبارة عن منتجع جميل جداً فيه الماء والخضراء لكنه يخلوا من الوجه الحسن ما عدا بضعة جنود يرتدون الملابس الخاكية وجميعهم تقريباً من الحزب الشيوعي وعددهم لا يتجاوز الخمسة , وكانت في المكان أشجار نظرة وهواءه عليل ويمتاز بالهدوء وفيه يخت كبير وأماكن للراحة والسمر , يرتاده الضباط وخاصة الكبار منهم بالرتبة لقضاء ليلة ممتعة وخاصة ليلة الخميس على الجمعة حيث تكون عطلتهم فنقوم نحن بحراستهم وتلبية مطالبهم وخاصة حينما ينتهون من شرب الخمر ويرتاحون قليلاً أعمل لهم شاي مهيل يشكروني عليه بعد أن يطلبوا المزيد أحياناً..يوجد أيضاً لدينا عدد من القوارب الصغيرة لكن الضباط لم يستخدموها ويحبذون السهر والسمر وتناول الطعام والشرب على سطح اليخت وهو كبير ويتسع لأكثر من عشرين منهم لكن العدد الذي يأتي في تلك الليالي لا يتجاوز العشرة وهم غالباً من كبار السن والرتب ويتميزون بطيب المعشر والصداقة فيما بينهم ,الحراسة هنا كانت روتينية ولا توجد مخاطر والضباط كثيراً ما يأتي معهم ما يسمى المراسلون وهم الذين يقومون بحراستهم لذلك غالباً ما أكون لوحدي في الواجب , ففي إحدى الليالي وبينما كنت لوحدي وكان زملائي الجنود الآخرين قد نزلوا خميس وجمعة الى ذويهم , جاء عدد كثير من الضباط ومن غير العادة ومعهم جنود يحملون صواني كانت مليئة بالرز وفوق كل منها خروف صغير مشوي ويسمى القوزي المحشى باللوز والتوابل وإنهمك الجنود دون الاستئذان مني طبعاً بترتيب اليخت ونظموا المائدة بحرفية عالية وبسرعة وما هي إلاّ بضعة دقائق حتى جاء عدد من كبار الضباط تجاوز الخمسة عشر وبلمح البصر إختفى هؤلاء الجنود وبقيت أنا وحدي وعلى مقربة منهم أقوم بتنفيذ واجب الحراسة بينما انهمكوا بالأكل وشرب الخمرة والضحك والتنكيت ..! الذي أثار إستغرابي بحيث بدت ملامحهم تتسم بالطيبة والبساطة وذهبت عنهم الجدية والوقار الذي كنت أراهم فيه دائماً ! كنت على مقربة بضعة أمتار منهم ولذلك كانت أذني تصغي لما يتفوهون به من كلام ولما صعدت الخمرة الى رؤوسهم وتغلغلت فيها بقوة صاروا يتكلمون بجرئة عن الوضع العام بالبلد وبنقد حاد وبسخرية وصاروا يتهجمون على السلطة وعلى عدنان خير الله بالإسم وسمعت أحدهم يقول وبصوت وصل الى سمعي بنبرة واضحة وكان مرتفعاً كثيراً وبعصبية ..حينما قال لزميل له ..هل تتذكر أن هذا عدنان كان قبل كم سنة مرافقاً لي ..!! ثم أردف وبألم ..والآن يصير فريق أول ركن..عب كأساً في جوفه بينما أشار البقية بتأييد لمصداقية كلامه ثم صار عدد منهم يسخر من النظام.. وبعد لحظات إنتبه أحدهم لوجودي قريباً منهم وأشار لهم بإلتزام الهدوء والصمت قائلاً ..يا جماعة يمكن الحرس سمع كل ما قلناه ..! لكن المتحدث الأول وكانت رتبته الأعلى بينهم وهو أيضاً ربما الأكبر سناً على ما تبدو عليه ملامحه ..قال لهم بعد أن نظر لي ..أن هذا الجندي شيوعي وما راح يوصل خبر فلا تخافوا ..!..ضحكت بخفوت وإبتعدت عنهم بضعة خطوات ولكني إستمريت بسماع نقدهم للحكم وأزلامه وخاصة حينما يتكلمون بصوت عالي ودون خوف من أحد ,, وبعد حوالي ساعة أو أكثر قليلاً طلب مني أن أعمل لهم شاي مهيل كما عملت لهم في المرة الماضية وقال لي ..لماذا أنت فقط تحرس هذه الليلة وأين جماعتك..أخبرته بنزولهم لأهاليهم ولا توجد عندي مشكلة ومعي هنا عدد من الكلاب تساعدني في ذلك ..ضحك وقال شاهدناها وصارت تعرفنا ولا تنبح علينا ..عملت لهم شاي مهيل لذيذ وأخبرني بأنه ترك لي صينية أكل لم يمسسها أحد وقال هذه لك..كل منها الليلة وغداً حيث بعد الظهر سيأتي الجنود لحمل الصواني وتنظيفها وإعادتها من حيث جلبوها ..تفاجئت صراحة بما تحتويه الصينية وكان الرز لذيذ جداً ولا زال ساخناً وفوقه اللوز والكشمش وعليه قوزي كامل مشوي بطريقة طباخ ماهر حيث كان محمص ولما تذوقته لم أجد ألذ منه في حياتي وكانت الصينية وما تحتويه تكفي لعائلة من عشرين نفر..أكلت حتى الشبع وجلبت صحناً كان عائداً لي وضعت فيه الرز مع اللحم وتركت الباقي أخذه الجنود معهم ومع بقية الصواني للتنظيف . وفي عصر أحد أيام شهر أيار 1978 جاء الينا في ذات المنطقة عدد من الضباط لغرض الاستمتاع بمناظر المنطقة وبجلسة صغيرة على اليخت شربوا فيها المشروبات الغازية فقط وكانت زيارتهم قصيرة لا تتجاوز الثلاثة ساعات , ثم طلب بعضهم أن اعمل لهم شاي ففعلت وبعد مرور بعض الوقت وبينما كنت أثناء واجبي تقدم نحوي الرائد توفيق وهو كردي متين احمر الوجه وقد تجاوز عمره الخمسين عاماً ..أخذت له التحية العسكرية وبعدها بقليل همس لي وبصوت خافت ..الراصد نازلة عليكم ..! ثم أردف كلامه ..هل سمعت بذلك ..! تجاهلت معرفتي بما طرحه من كلام ونفيت معرفتي به ..! إستمر هو يشرح لي من أن جريدة الراصد ردت على بيان اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيوعي المنعقد في آذار 1978 والذي جرى فيه توجيه النقد للحكومة على مجمل الوضع وبمرونة ومبدئية عالية ..إنصرف الرائد بعد أن قال ..ان هذا غير جيد ونذير شؤم ويقصد كلام صحيفة الراصد ولكنه لم يعلم بأنني كنت البارحة قد وجدتها في السوق واشتريتها من إحدى المكتبات وإنزويت في ركن هاديء في المقهى وقرأتها من الصفحة الأولى الى الأخيرة وانا أحتسي الشاي ثم تركتها في المقهى وإنصرفت ..وطلب مني أن لا أتحدث عنها لأحد وخاصة ما سمعته منه ..فقلت له نعم سيدي وأديت له التحية فغادر ملتحقاً بجماعته الذين غادرونا بعد ذلك..وإستمريت في هذه المنطقة الخلابة لشهرين ثم نقلت الى فصيل مقر جلولاء كجندي مكلف غير مسلح بينما كان في فصيلنا نقطة حراسة يقوم عدد من الجنود بالتناوب عليها أما أنا وبقية السياسيين فنقوم بأعمال أخرى كالبناء والتنظيف وغيرها وعند العصر تم إختياري لأكون معلماً لمحو أمية الجنود وضباط الصف من الأميين فكنت أدرس الصف الأول والمرحلة التكميلية للذين يعرفون القراءة والكتابة بشكل قليل ولا أدري لماذا أخترت لهذه المهمة بينما يوجد شيوعيان وآخر من حزب الدعوة معنا وكانوا من الخريجين ثم أرسلوني الى دورة صغيرة لمدة أسبوع الى بغداد في معسكر الرشيد تخص مهنة التعليم وبعدها بمدة جاء ضابط من هناك من دائرة التوجيه السياسي للإشراف على تعليمي للجنود فأثنى عليّ واعطاني درجة ممتاز بعد أن سأل عدد من الجنود عن القراءة وطلب منهم الكتابة وكانوا من العارفين لها بشكل جيد .., كانت في المدينة بيوت قديمة تعود لضباط هجروها فتم نقلي وبعض من أصدقائي الجنود اليها فسكنت مع احد الشيوعيين وآخر من حزب الدعوة كان مهندساً مدنياً وصرنا أصدقاء نقوم بشراء السمك وشييه في حديقة المنزل وأمضيت معهم في هذا البيت عدة شهور ومن خلالها شعرت بأن المراقبة صارت تزداد علينا . وصار تركيز ضابط التوجيه السياسي منصباً عليّ بشكل واضح وصريح وهو كان برتبة نائب ضابط وإنسان بسيط جداً من أهالي بعقوبة ومستواه السياسي محدود ..جاء مرة يريد ان يكسبني لحزب البعث وراح يشرح لي أهدافه وتوجهاته وهو طبعاً كان قليل الالمام بها ..فوعدته بأني أفكر وسوف اعطيك الجواب بعد إسبوعين ..! وكنت خلال هذه المدة أخطط للهروب بعد أن شعرت أكثر بأنني مراقب بشدة من قبل بعض الجنود العاملين بحضيرة الأمن والذين كان بعضهم من تلاميذي في صف محو الأمية وأتذكر أنه جاء للمرة الأخيرة عارضاً عليّ صفقة بقوله ..دزوني عليك تصير ضابط بالتوجيه السياسي !! ثم حينما وجد علامات الاستفهام مرسومة على وجهي صار يوضح لي المهمة بشكل أدق وأكمل كلامه ..نريدك تدخل دورة عسكرية لمدة سنة ونصف وتصير محلي فأنا قد تعبت وأنت شاب مثقف والحزب يحتاجك وتستطيع أن تعطيهم دروس بالتوجيه السياسي وهم ربعك وتعرفهم بشكل جيد..كما قال ثم أردف مختصراً كلامه ..فكّر بمصلحتك , لم أهتم لكلامه وكان جاداً في كل ما قاله وقلت مع نفسي لإحاول أن أجرب النزول خميس وجمعة وأرى ماذا سيحدث لي في نقاط السيطرة وبعدها أغادر ولن أعود ! رحت لغرفة القلم وهم من معارفي وطلبت من أحدهم نموذج إجازة موضحاً له بأني أريدها كعدم تعرض للسيطرات ..اعطاني ورقة منها وقال أنت تعرف أن تملئها بإسمك والتوقيع ..فعلت ذلك وسافرت الى بغداد وعند اول سيطرة وهي للخروج من مدينة جلولاء صعد جندي إنضباط وقال إخوان إبرزوا إجازاتكم ..أعطاه الجميع ومنهم أنا لكنه أعادها لي قائلاً .أستاذ عدم تعرضك غير مختوم ..! أين الختم ..! حيث أنني نسيت ختم الدائرة وإعتذر مني وأنزلني عائداً الى جماعتي وقلت للجندي الذي أعطاني الورقة لماذا لم تقل أنها غير مختومة فقد تم إرجاعي ..قال أن الختم مسؤول عنه رئيس عرفاء الوحدة وليس نحن , إذهب اليه وإطلب منه الإذن ولما ذهبت اليه رفض وقال سوف أمنحك إجازة الأسبوع القادم وأنت تستحقها وفي وقتك فلماذا تنزل اليوم والى أين ستذهب ومدينتك بعيدة ..إقتنعت بالفكرة خاصة مع تأكيده بمنحي الاجازة التي استلمتها في النصف الثاني من آذار عام 1979 وذهبت بعد أن أعطيت بعض مقتنياتي لعدد من الجنود الفقراء وخاصة كانت عندي مخدة ريش كبيرة وحلوة أعتز بها لأن والدتي عملتها خصيصاً لي من الريش الذي كانت تجمعه من الدجاج وسلمتها الى أحد الجنود وحقيبتي وفيها بعض المستلزمات والملابس وسافرت من جلولاء الى بغداد ومنها الى الناصرية ولم أعد اليهم للآن بينما ظلت وحدات من الاستخبارات والانضباطية تبحث عني في بيتنا وفي المدينة لعدة مرات وأنا وقتها كنت قد إتخذت من العاصمة مكاناً لإختفائي لحين هروبي في يوم 31 أيار عام 1979 وبجواز مزور يحمل صورتي وإسم شخص وهمي مغادراً أرض وطني الى سوريا ومنها الى لبنان البلد الجميل الذي عشقته تلك الفترة الشاقة والممتعة من ذلك الزمن . ..
#أمير_أمين (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟