|
شوارد الفكر -2-
جميل حسين عبدالله
الحوار المتمدن-العدد: 5571 - 2017 / 7 / 4 - 02:40
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
شوارد الفكر -2- وإذا كانت آلة الطباعة قد أغرقت الإنسان في لجة الطبيعة، وأوجدت عنده رغبة في الحرية، فإن ما فتقه عقل الصناعة من اكتشاف سِحْر الفتوغراف، وسر الكهرباء، قد أخرج العيون من ظلمات الأكوار إلى نور الأكوان، لكي يسوق الأثيرُ إلى الإنسان ما يؤكد وجوده، ويخصب حياته، لأنه بالنور تنقل بين المحيطات بلا نصب، ولغوب، وبالنور ترحل بين الشعوب بلا خوف، وعنف، وكأنه مبهور بما انفتح له من آفاق في بحر الحقيقة، فصار ما يشهده عظيما في عقله، وجسيما في عينه، لأن ما وضَّح الرؤية بين سواد أفقه، لم يكن مما قتل فيه الإنسان باسم الإله، لكي يجد الراهب خشوعه في تمائمه، وبكائه في تراتيله، بل كان خيط نور يواصل بين الثقافات، ويعانق تعارف الحضارات. ولهذا ارتبكت الآراء في عودة الميتافيزيقا، أو في موتها، لأنها في تمحورها مع الإنسان، قد شكلت العقل الجمعي الذي لم يخلص للحقيقة الحسية، إذ ما هو غيبي، وخفي، لا يجوز نفيه، ونبذه، لأن عدم إدراكنا للحظة النسيان في الأعماق، والأذواق، يجعلنا نوقن بأن فينا ذاكرة أخرى لا ندركها بالإحساس، ولا بالحواس. وما دام استشعار ذلك غير مقدور لنا حصره، ولا موفور لنا قصره، وإن علمنا كثيرا من أسبابه، وجليلا من علله، وجهلنا فيه كيفية بنائه لذاته، وكمية إنتاجه لأثره، فإن عجزنا عن وضع حد له، هو الذي نطبعه على العقل بمقتضى الإيمان، لأنه انطباع في الوجدان، وأثر في القلب المرفرف حول سماء المعاني الجميلة. فلا غرابة إذا اختلفت الأنظار باختلاف الأماكن التي تشرح درس الغيب، والشهادة، لأنها تعبر عن موجة الوعي التي تغزو الإنسان، وتجتاح الطبيعة، إذ بما يبديه الزمن من إدراك، ومعرفة، تتحول الكائنات العاقلة إلى أمم متقدمة، أو إلى شعوب متخلفة، ليس لها إلا عضلات مفتولة، تعبد ما انكشف عنه جب الطبيعة من منة، ونعمة. ولذا كانت الأنساق الكبرى مرتبكة، ومتحيرة، تمشي أحيانا مقيدة، وأحيانا متحررة، إذ ابتدأت بنفي اليقين السابق مع ديكارت، واعتبار أوليته في الأحكام الكانطية، لكي يكون ما انطوى عليه الشك المنهجي من مخاض موردا لبناء المعرفة المطلقة بالكون الهيجلية، ثم انتهت بإثبات اليقين الراغب في الوصول إلى الشك مع العدمية، لأنه يعلِّم الإنسان كيف تكون الأشياء نسبية، لا تحتمل الخضوع في ذاتها، بل يعتريها ما يستفز حقيقتها، فتتيه مع الفرسان المتبخترة بريش الوجودية، لكي تتكون الأحلام الهاربة في قوالب تحمل أنين الإنسان، وسعار حزنه المكتوم بين غمرات غربته، ورعشات اغترابه. لكن ما يعاب على الفلسفة الغربية، أنها تحولت إلى جمود الآلة بما يضمره عقل التسلط الذي التوى على الصناعة، فكان إنتاجها فارغا من معنى الإنسانية، وإن انتظمت قوانينها بمقتضاها، وانتحلت مظاهرَها بصفاتها. وهنا كانت الفلسفة جهدا حقيقيا لإثبات الطبيعة الحقيقية للإنسان، لكي يعيش في سربه حرا، وفي سبيله مأمونا. وتلك خصوصيته التي لا تحتاج إلى جهد ينفعل معه، أو يؤثر به، لأنها طبيعته التي وجدت فيه، وحقيقته التي خلق لها، إذ بدون أن يبتغيها ملتفٌّ عليها بالقوة، لن تكون إلا سارية بين نسيم الأماكن الهادئة. لكن ما تعاقب على الغرب من مآس، لم تتخلص منه في سيرها نحو الغد المجهول،لأنها لم تطق أن تتخلص من عجزها، وهو ملازم لها بطبيعتها البشرية،وموافٍ لها في كل تقدم، وتطور. وأنى لها أن تقطع حيرة العقل عن طريق العودة إلى الوراء.؟ وإذا كان هذا لازما في الذات، وأولية قائمة في كيانها، لأنها تعيش الزمن بأبعاده الثلاثة، وتحيى في المكان المتغير، والمتبدد، فإن كل محاولة في النسيان، لن تثمر إلا الوجع، والألم، إذ الفصل لا يعني القطع، لأن الفصل لا يأتي إلا بعد الالتفاف على الوصل، وهو في حقيقته يعطي كل فص نصا في الوجود، والحقيقة، لكن القطع، يعني بتر الصلة بين الأزمنة، وإحداث خندق بين أجزاء الحقيقة. لعل ذلك مما يخلقنا بدون تاريخ، ولا هوية، لأنه يمنع الوصل بين مركبنا الجمعي الذي نازلنا الدهر من أجله وحدانا، وزرافات، ويحصر معنى الجماعية في دائرة الفردانية المتوحشة، والذاتية المتغولة، إذ ما ننشأ عليه من استقلال عن الجماعة، هو الذي يقطع كل وشيجة تربطنا بالتاريخ، وأحيانا يفصل بيننا وبين كل المهاد التي أنتجت ظاهرتنا البشرية، لأننا نغدو إلى زمن متخيل غير زمننا، ومكان متوهم غير مكاننا، وإذ ذاك، نتحدد بهوية لا معنى لها في التصور، ولا صورة لها الافتراض، إذ هي الكونية التي تأسست على الربط بين الأزمنة ببريق الصناعة، وعرق الجباة المقهورة، والنظام الذي يحمي الأقوياء، ويحرق الفقراء. وأنى لمن لم يصل بين أطوار زمنه أن تكون له هوية.؟ فهل سينسى الغرب تاريخه، وفيه ظلمات الفكر التي شنقت الإنسان بحبال الدير.؟ أم سينسى أمجاده التي كتبت من كوبرينك وإلى نيوتن أعذب ألحانها الندية.؟ إذ لم نر شعبا قدم أرواحه ضحية للدين أكثر منه، ولم نعلم حقيقة طال حولها أمد النقاش أجلى من اتحاد الأقانيم في معنى الإله، لكنه وعلى رغم ما أوجده صراعُه من مهاد للتجربة، والخبرة،وحياض للمعرفة الحقة، ما زال يحن إلى ما خلفه ظهريا، ويئن لما بدده من تصالح الدين، والعلم، إذ فيه شيء من أنفاس تاريخه، وسر من أسرار تفوقه، لأنه لا يمكن له أن يقرأ حاضره إلا متصلا بماضيه، وإلا كان ناسكا في محراب المادة، يعبد صلادتها، ويقدس سكوتها، وهو في غب اغتراره بما لبسه من ريش، ينكر كيف نبعت من سؤال الذات عن السعادة، وكيف التحمت بالروح حين تآلفت الإرادة على التساكن مع فواجع الطبيعة. فلا غرابة إذا ضحر من سرعة الأماكن، وضيق المدارات، وغبن الموارد، لأنها تحمل زفير صناعته، لا لحن حضارته، إذ لو كان ما أنتجه عُشا لسعادته، لما انزوى إلى فك ألغاز اللغة، ورموز التعبير، عساه أن يكتشف الصوت الأول المردد في الكون، والمجلل بالطراوة، والعذوبة. ومن هنا توقف الغرب عند ماهية الإنسان، ولم يتجاوز رسمه، لكي يكتشف أبعاد هويته في تمازج المادة، والروح، إذ لو درى أن ما يفوح بين الديار من عطر، وما يشمه الإنسان من فيح، ليس إلا رغبة في كسب بهجة الأماكن المقرورة بأعياد السرور، وأيام الحبور، لأيقن بأن الكون هو الإنسان الذي تهطل عليه امطار الهموم، وتهب في سوحه رياح الفهوم، وإذا جعله متحركا بحركته، كان ما يفضي إليه كل شيء في الوجود متعة له، لا شقاء، وتعاسة. إذ لو قام العقل الجبار بتخليق صناعته، لما أنتجت في المستضعفين خرابا، ولا في المنكوبين دمارا، لكن ما يتراءى وهجه في عالمه الصغير، لم يدل على رغبة الإنسان في حصر حدود ربعه، ومظاهر عرفه،إذ لم يألف الأرض إلا فسيحة، ولا السماء إلا رحيبة، لأن ما يربطنا بمهد المولد من صيغة التآلف، هو ما صنعناه من أخلاق، وأعراف، تحمي الدائرة، وتسقي الزروع، وتفجر الضروع، وتنشئ بين سبل الأماكن سلما، وبين قصود العقلاء سلاما، إذ هي التي آلفت بيننا في كل صفاء، وجمعت بيننا في كل عناء. وحين تعاندنا على أصلها، ونسينا فروعها، ظهرت فينا أخلاق مختنقة بزفير الأنانية، وسعير الذاتية، إذ هي التي تبني قيما غير التي تعودنا على أمرها، ونهيها، وتهدم أنساقا دأبنا على رعايتها بأرواحنا، وأنفاسنا. وإذا كانت هذه العودة إلى مطلق الزمن من قدر الإنسان، لأنها هي التي تصبغه بطابع الوجود، وتكسوه ببزة الحياة، فإن العودة المجردة إلى زمن معين في تاريخ البشرية، لا يكون نفَسا في الذات العاقلة، إلا إذا اتصل فيه المعنى بين الماضي، والحاضر، واتسع النظر فيه إلى ما يضمن وحدة الماهية، واشتراك الهوية، لأن الفصل بين المركبات الُمحدِث تآلفُها للموضوع المحكوم عليه، لا يصير برهانا على صياغة القضية من كليات، وجزئيات، إلا إذا كان كل فرد متمتعا بحده، ومصاحبا لغيره، إذ دراسة كل فرد في مادته، قد يمنحنا إدراكا بماهيته، لأنه الأقدر على جعله صورة، وعلى تصييره ظلالا. لكن ذلك لا ينتج فعلا محددا بغاية، ومتجها إلى نتيجة، إلا إذا اتصلت روحه بسياقها الكلي في الكون، وكان الحاضر فيه موصولا بذيل الماضي، وحواشي المستقبل، لكي تنصهر النار من فتيل الشمعة، وعود الثقاب، ويخرج من الماء النار، ومن الحديد الصوت، ومن العدد الفضاء الرقمي. فالعناصر المركبة، وهي الآحاد، أو الأفراد، لا تتحقق المعرفة فيها إلا بالجمع بين الجزئيات، والمزج بين المتآلفات. وإلا، غزتنا الفردانية، واستوحشتنا الأنانية، وهي في محل الجماعية تهمة، وإدانة، لأنها تنسج فينا اختلافا، وترسخ فينا تنافرا، إذ هي الضد الذي يكون إثباته نفيا له، والصوت الذي يسوِّغ العيش للنوع، لا لجنس الإنسان، وذاته الحرة، والكريمة. لكن ما يمنع ذلك عن القول به، هو غياب المعنى في الأخلاق المدبرة للغنى، والفقر، لأنهما في حدة هوج الاقتصاد الذي يحقق صون الكيان في المجتمعات البشرية، لا تكون إلا تابعة، ومنفعلة، إذ هي ما يسود العلاقات عند استعلاء الأنانية، واستهجان الجماعية. ومن هنا، كان العقل الصناعي نافرا عن طبيعة السؤال الذي أنتج التنوير، وأبدع الحداثة، لأن تدبير الكون في كل الأفعال البشرية، لا ينشأ من فراغ اللحظة عن الأحكام الجارية، لأنها هي ناموسه الذي يدبر الوجود في العدم، إذ ما يتقوم به الشيء في تصور الذات، ونظام الإنسان، ليس هو ما يقوم به في كلية الوجود، وغاية الكون، وحقيقة الطبيعة، لأن ما ندركه في الشيء، هو ما يبني تصورنا، وينفي الجهل عنا، إذ ما نحكم به عليه،لا يصير تكليفا إلا في جهودنا، لأنه لا يدل على تمام المعرفة بماهيته، ولا الإمعان في درك حقيقته، إذ ما يظهر منه في زمن، أو ما يغيب منه في حال، قد يكذِّب حقيقة مطلقه فينا، ويصدق وصفنا بالجهالة، والغرور، لأنه ينجلي في كل زمن بحقيقة، فينصهر معنا في الإرادة، والإلزام. ولذا استبطن الفعل الصناعي فلسفته، ودينه،وعقله، إذ بدون وجود خلفياته المركبة لجهاز معرفته، لن يكون نتاجه إلا فوضى تسوق الإنسان بلا جدوى. فهو وإن مال إلى العدمية في الدرس اللاهوتي، فإنه ينحرف إلى العبث المسكونة أخلاقُه بمنطق أذواقه المتعددة، وأغراضه المختلفة، لأن ما سماه عند احتدام نوازع الأثرة بالفوضى الخلاقة، ما هو إلا تسويغ لما هدمه من رسم الماضي، لكي يضع زمام الكون بين الآلات الصماء، والإرادات العمياء. ولذا لا يحبط وزن عقلي أن أرى هذه المادية المتوحشة رغبة في المطلق، وإمعانا في حماية الذات من الفناء، لأنها بمقدار ما يتوارى الإنسان في حمئتها بما تضيفه إليه بهجة الصناعة، فإنها تحتوي على الفرس المجنح الذي صنعه الخيال في أفق الوجدان، ثم صار مع شرود الحلم تمثالا للحرية الطازجة بين الساحات العمومية، والواحات التي يسبل فيها الخلي أنظاره بلا مدود، ولا حدود، لأن التمثال، وإن على دل على عقل المأساة التي أبدعت الفنان، وهي الألم الذي يزفر به الإنسان، وفحيحه في سواد الآفاق، وصديده في موارد النكد، والسآمة، فإنه يؤكد على وجود فضاء فسيح في الذات، وموطن عميق في الكيان، يمكن له أن يحتوي على لحظات الفرح، ومساحات المرح. وهي تلك الساعات التي تعج بالمتخففين من وعثاء سفر المادة في بحر الزمان، والمكان، لكي يزيحوا غلالة الهم النكد، فيتأمل الحكيم غموض البحر الساكن الأمداء، ويرقص الشاعر مع الطيور المغردة على الأفنان الونانة، ويمرح الفنان بعناق الفراشات لأثداء الزهور الفواحة، ويترنح الكاتب برصيف المدن المزدحمة الأبواب المرتجة، لعله يتذكر كيف كتبت ملاحم الشهامة في غموض فارس دون كيخوت النبيل، ويتأمل بأي معنى قادت الخيول سر الشوق بين جوليو، وروميت، ولأي حقيقة ينتمي السوبرمان في روح نيتشه، وعشق زراديشت. هنا يكون التمثال دالا على الخيال، وهو من عالم الروح، لأنه يفصح عن مكنون الإنسان الذي احتواه التاريخ، وانطوى عليه الحرف الرخيم. وهنا كانت حركة البشر دليلا على الحرية التي انزاحت عن صلادة التقنية، وغرور الذكاء الصناعي. وإذا كان الإله هو مظهر الكمال في الصورة التي رسمها الشوق للعالم الفوقي، فإن الحضارة هي أجلى ما جسد فعل الجمال في الكبد الإنساني. لكن كيف انحرفا عن مساريهما، وصارا حروبا شعواء، لم تبق ديارا، ولم تذر أشجارا.؟ ربما قد يقول قائل بأن ما نشهده من مظاهر ثائرة، هو الدين عينه، أو الحضارة نفسها، لأنه رأى فيهما ما يثمر السعادة المقيدة، وينشئ مهد الاستقرار بالأحلام المغردة، إذ هو لم يحس بوادعة الحياة إلاحين تململت بين أحضان النعم الفاتنة، و لم يعتقدها إلا فيما تبنيه الآلهة من جنان الخلد الناعمة، ولم يرقبها إلا في انجرار الإنسان إلى ماخور المتعة الناضجة. ومن هنا، فإن الخلد والمتعة حقيقتتان في الإنسان العاقل، إلا أن الأولى تحولت إلى عقيدة، والثانية استحالت عقدة، لأن ما نخاله خلدا، لم يكن إلا مبرَّئا من عللنا، وأدوائنا، إذ هو اللحظة المتعالية عن ناموس الأرض المتعب الأوصال، والجوانح، والمتسامية بنظام لا تعب فيه، ولا ضجر. وما نراه متعة، لا يتضمن إلا حرصنا على اللحظة التي تمتد فيها أيدينا إلى الأشياء بلا رقيب، ولا حسيب. وهنا تلتقي مادة الفكرتين، لأنهما ومهما أبانتا عن التفاوت بين المقاصد، إذ الأولى تحاكي الروح، والثانية تصوغ المادة، فإن ما يجمعهما هو مدى الإطلاق في الصورة الكاملة لناموس الأرض، وقانون السماء. ولذا، لا نستغرب متدينا يتلفع عقل ملحد، ولا ملحدا يتزين بعقل متدين، لأنهما يعبران عن الإطلاق في فكرة الخلد، ومعنى المتعة، إذ كل واحد منهما لا يتحقق وجوده إلا بالقبض على تلك الصورة الذهنية المتناهية في الجمال، والكمال. وهما لا محالة، يتعاركان في أصل الوجود، ويتصارعان في مساحة الحركة، ومسافات الفعل، لأنهما جناحان يحلق بهما الإنسان إلى عالم السماء، وريش يتباهى به في عالم الأرض. لكن وضوح هذه الصورة يفسدها ما ينشق عن الجاهل بعقل الأشياء من أحكام، إذ قد يكون بعضها رحيما، وبعضها قاسيا، لاسيما إذا دل على صوت الإله، أو احتوى على مطلق حرية جوهر الإنسان، ومجرد حلمه، وأمله، لأنه الأمكن في الاسمية عند تركيب معاني الأسماء، والأظهر حدسا عند تحديد الصفات في صور الأذهان، إذ مقتضى الحقيقة أن نقول: إن الدين بهذا الرسم، لن يتحول إلا إلى غربة بين الديار التي تزينت لأفراحها بأبهج ما يغري العقول، ويثير الأفئدة، لأنه سيمس في المظهر الفتان انحرافا عن مقتضى الخلد، وانعزالا عن خطة الإله الجارية تدابيرها فوق الأرض، إذ المتعة في لازم الدين، ليست مطلوبة لذاتها، بل لما تهبه من أشواق الفرار إلى حصون السماء. وإذا كان الدين في تقابل مع الحضارة، وتعانق معها قبل الانقطاع، ولم ينفخ معنى الخلد في مراحل السير البشري، فإنه سيكون حربا عليها، لأنه سيتحول إلى حاكم مرتاب في فعلها، ومغتاظ من صوتها، إذ سيغدو كلاما في الروح، وصمتا في المادة. وهنا يكون الدين فاقدا لصورة الإنسان، وعلاقتها بعناصره المكونة لجرمه، لأن تمام وصفه بما هو محدود فيه، وموضوع له. وإلا، فهل الحضارة نزفت من عمق غير عقل الإنسان.؟ وهل زفر صوت الإله من غير لسان الإنسان.؟ أجل، كلاهما قد نشآ من جوهره، ومادته، وتفرعا في دائرة انتباهه، واهتمامه. وما يجمع بينهما من روح جامعة لمنبع الكليات، والقواعد، والروابط، هو المطلق الذي غرد به البشر على عروش الآمال اللطيفة، والمجرد الذي رسمه كل طرف بصورة مواتية لسرحان أحلامه الرقيقة. ولذا يعسر الفصل بينهما، ولا المزج المفضي إلى توهان حديهما، لأنهما بدون الإنسان، لن يكون لهما معنى، ولا أثر، ولا حضور. وإذا غابا عنه في صياغة جوهريهما المعنوي، كانا خرابا، وعماء، إذ ما ولجنا غيابات الظلام، وتهنا بين بحار الغموض، إلا حين كان العقل جبروتا، وكان العاقل طاغية، لأنه في صعوده إلى السماء، يتجسد من علامات الذات، وعلاقاتها، وفي هبوطه إلى الأرض، تنطبع قيمته بأمارات الملكية، والتسلط على الموراد المزدحمة. ولذا عبرا عن الذات الإنسانية في مراحل السير إلى قيمتي الخلد، والمتعة، لأنهما ومهما كانا ظاهرين، وبارزين، فهما في خفاء العقل الموجه للسلوك باطنين، وخفيين، لأن ما ينشآنه من ظواهر الأفعال، هو الحقيقة التي تدل على سمو الفكر، أو دنوه، إذ لا يجوز أن تُستوعب الصورة إلا بأبعادها، وظلالها، وما لم يكن قدرنا وافيا بأن نعي ذلك، ونتعرف عليه، أنتجا صراعا مريرا، ونزاعا مديدا. فذا يدبره بالتكليف المكروه للإنسان، والموضوع أثره للاستعداد القابل للتضحية، والفداء، وذاك يصرِّفه في كل ما يزيح القيود، والأغلال، ويرخي لسان الإنسان بنزيفه الذي يروي فيه ربيع الكلمات، وخريف البسمات. فكيف يمكن للدين أن يدل على الإنسان، ما لم ينزل عليه، ويكون صوته في كليات مركبه.؟ وكيف يمكن له أن يظهر وجه الحضارة، وهي قد تخفت وراء كل ما ارتجاه، ولو فيه ضرره، وألمه.؟ لن يكون الدين مسعفا بالسعادة، ولا مفضيا إلى الهناءة، ما لم يكن حضارة ترتقي بإنسانية الإنسان، ولن تصير الحضارة قارب نجاة، إلا إذا جعلت إسعاد البشر دينا مقدسا، وعهدا يصلها بروح العالم، والحقيقة.وإذا كانت طبيعة الاستعلاء المغروسة في الإنسان، لا تستقل بها جماعة دون جماعة، بل هي عامة، وكونية، فلا غرابة إذا كانت محل حرب في الديانات، وعراك في الفلسفات، لأنها هي التي تهدم هرم الفضيلة، لكي يستحوذ على الوجود طالبُه بالقوة، والشراسة. وهذه الطبيعة لم يطق العقل الفلسفي في الغرب أن يتخلص من وضرها، ولا أن يتطهر من عفنها، وإن أبدى إنسايته في مساعدة الفقير، والمحتاج، لا في تعليم المحروم كيف يصطاد سمك الأماني من بركة الذات، وبحر الطبيعة. ولذا صارت الفلسفة التي أنشأت الصناعة، هي التي تناضل اليوم من أجل وخر وحش الإمبريالية، لعله يتذكر العهد القديم، ويستحضر كيف اصطفت الأقدام في حيازة الحضارة، لأن الوعي الذي يتشكل في الدورة التاريخية التي بدأت تفصل بين الغالب، والمغلوب، ولو توطآ على التمثيل في مسرحية الوجود الغامضة، وتآلفا على التصديق بالأماني الخادعة، ما هو إلا نتيجة تراكمات لا نطيق حصر زحفها، ولا توجيه ما يتولد فيها من إدراك، ومعرفة، لأنها تدل على الإنسان الذي فارق بداوته بغربة حضارته، وواصل ظاهره بخراب باطنه.
#جميل_حسين_عبدالله (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
شوارد الفكر -1-
-
سوانح البيان (3-4)
-
سوانح البيان (1-2)
-
موارد العنف -8-
-
موارد العنف -7-
-
موارد العنف -6-
-
موارد العنف -5-
-
موارد العنف -4-
-
عطر الصباح (شهادة في حق والدي رحمه الله)-2-
-
عطر الصباح (شهادة في حق أبي رحمه الله) -2-
-
موارد العنف -3-
-
موارد العنف -2-
-
عطر الصباح (شهادة في حق والدي رحمه الله) -1-
-
موارد العنف -1-
-
عقيدة التسويغ -11-
-
عقيدة التسويغ -10-
-
عقيدة التسويغ -9-
-
عقيدة التسويغ -8-
-
عقيدة التسويغ -7-
-
ابن الفقيه (سيرة ذاتية) -5-
المزيد.....
-
الكنائس المصرية تصدر بيانا بعد حديث السيسي عن تهجير الفلسطين
...
-
وصول المحتجزين الإسرائيليين أربيل يهود وغادي موزيس إلى خان ي
...
-
سرايا القدس تبث فيديو للأسيرة أربيل يهود قبيل إطلاق سراحها
-
سرايا القدس تنشر مشاهد للأسيرين -جادي موزيس- و-أربيل يهود- ق
...
-
قائد الثورة الاسلامية يزور مرقد الإمام الخميني (ره)
-
خطيب المسجد الأقصى يؤكد قوة الأخوة والتلاحم بين الشعبين الجز
...
-
القوى الوطنية والاسلامية في طوباس تعلن غدا الخميس اضرابا شام
...
-
البابا فرنسيس يكتب عن العراق: من المستحيل تخيله بلا مسيحيين
...
-
حركة الجهاد الاسلامي: ندين المجزرة الوحشية التي ارتكبها العد
...
-
البوندستاغ يوافق على طلب المعارضة المسيحية حول تشديد سياسة ا
...
المزيد.....
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
المزيد.....
|