غسان المفلح
الحوار المتمدن-العدد: 1451 - 2006 / 2 / 4 - 10:20
المحور:
الصحافة والاعلام
أسمحوا لنا أن نتحدث على السجية :
أشكر دعوتكم لي للكتابة حول هذا الملف [ الإعلام العربي .. إلى أين ؟ ] والذي هو ملف له خصوصيته في وطننا العربي , والتي تتمثل بشكل رئيسي : إن تعرضك للإعلام العربي يعني بالضرورة تعرضك للنظام السياسي العربي , وهذه قضية شائكة ومعقدة وحساسة , ولن أحاول الابتعاد عنها , سأوري عليكم قبل البدء قصة بسيطة حدثت معي من قصص كثيرة :
في موقع لقناة فضائية تتغنى ليل نهار بحرية الإعلام والصحافة وتقدم يوميا نموذجا في هذا التغني , أخطأ المحرر ونشر لي مقالا منشورا في إحدى الصحف العربية يتحدث عن الأمركة وبدايتها في المنطقة , ويتطرق المقال بشكل عابر وعادي وبعبارة واحدة مقتتضبة ودبلوماسية جدا لعلاقة سلطة من السلط العربية بهذا الموضوع , فماكان إلا أن سحب المقال برمته من الموقع ومن قاعدة بياناته حتى , وتعرض المحرر للمساءلة فورا بعد نشر المقال بأقل من ساعة . وعلى هذا الأساس يصبح من المهم السؤال أيضا بخلاف الملف [ الإعلام العربي .إلى أين ؟ ] يصبح الإعلام العربي ..من أين ؟
مثال آخر :
أعلنت صحيفة الحياة اللندنية أنها ستنشر غدا مقابلة مطولة مع نائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام ووضعت مقتطفات قليلة منها , ومر الغد وبعد الغد ..وشهرا من الزمن ولم تنشر نص المقابلة والغريب أنها لم تكلف نفسها الاعتذار للقراء عن عدم النشر فما بالك بتوضيح أسباب عدم النشر .
عن السقف ياسيدي للحرية في بلداننا محدود بتلون السلطة العربية , التي حبانا الله بها بالوراثة والتوريث والنخب المصطفاة لحكمنا كشعوب , فالسلطة عندنا هي من تلون الأرض والسماء معا , وتكاد تخلق من كل شيء حي !! ـ معذرة لهذا الاستخدام ـ منذ زمن بعيد والحديث عن الإعلام الملتزم كان يثير إشكاليات متعددة لأن الإعلام الملتزم هذا كان على مدار العقود الماضية هو إعلام السلطة العربية , وسأعطي مثالا الإعلام الملتزم في سوريا مثلا : ملتزم بقضايا الأمة العربية وثوابتها التي تدور خارج فلك السلطة في سوريا , يمكن لهذا الإعلام أن يتحدث عن العرب الآخرين في عدم التزامهم بقضايا الأمة ولكن لا يتحدث عن مدى التزام السلطة السورية بقضايا الأمة . ولهذا تجده فعلا ملتزما بقضايا السلطة وليس بقضايا الأمة . من هذه الأرضية إنطلق الإعلام العربي برمته مع بعض الاستثناءات القليلة والتي تطورت الآن نسبيا قياسا بالمرحلة السابقة .. ومعرفتنا الآن من أين أتى هذا الإعلام تجعلنا نراقب بدقة مسيرته وإلى أين يمكن له أن يمضي .. وكيف نريده أن يصبح ؟
العرب ليسوا خارج التاريخ بل هم في صلبه وعلى هذا الأساس يكون إعلامهم أيضا جزء من الإعلام العالمي وبكل أمراضه الكثيرة والتي تجعله يبدو وكأنه خارج التاريخ , والتاريخ لدينا هو تاريخ سلطاتنا وليس تاريخ شعوبا حرة , وتعبر عن نفسها بحرية , فمن أين يأتي الإعلام إذن إنه يأتي من لدن اللاحرية : والتناقض القائم في الإعلام العربي بين الضمير المهني والضمير الأخلاقي . لأنه تناقض السلطة العربية نفسها . ومعروفة قصة القاضي الذي انتحر لأنه شعر أن هنالك تناقض لاحل له بين ضميره المهني وضميره الأخلاقي . وهذا التناقض لايمكن حله إلا في ظل الحرية لوسائل الإعلام . وكي نتحدث بصراحة أكثر في الأمبراطورية الإعلامية المتلفزة خصوصا نجد أن التناقض واضحا بين الضمير المهني والضمير الأخلاقي بالحد الأدنى :
كثير من العاملين والعاملات لا يؤمنون إطلاقا بتوجهات الإعلام هذا / وخصوصا العروبية منها !! والأمثلة اللبنانية وغيرها كثيرة !! لهذا تجد نزعة استهلاكية خطيرة تصر على تقديم المشهد في حلة استهلاكية تقليدية , لست ضد تقليد الإعلام الغربي وأعتبر التقليد لنموذج متقدم أمرا مهما في طريق الأبداع ولكن التقليد هنا يصب في خانة الخواء الذي يضع المشهد مكان الحدث الفعلي والمشهد بكل مكياجه وميكأبه .. ورونقه اللوني في شيئية من ابتذال العقل العربي المكبوت جنسيا وحرية . فينتفي في هذه الحالة التناقض بين الضمير المهني والضمير الأخلاقي لأن الطرفين نفاهما مشهدا تقليديا صاخبا وباهتا جدا , فلا تناقض بدون طرفيه . مثال برامج الموضة والأزياء لمن ؟ لإمرأة خليجية أو عربية بالأساس لا تستطيع الخروج إلى الشارع وحدها حتى وقت قريب ولم تحصل على الحد الأدنى من حقوقها بعد !!!؟ وتذهب معدة برنامج إلى أحدث دور الأزياء في العالم ـ التكلفة على حساب من ؟ وهل هذه البرامج لها ربحيتها كما هي الحال في الفضائيات الغربية ؟ الصورة : نتحول إلى مجتمع الصورة على طريقة المهزلة كما يقال التاريخ يكرر نفسه مرتين !! ونحن نكرر تاريخ الآخرين ولكن على طريقة المهزلة !
تضخم الأمبراطورية الإعلامية العربية :
إن أحد أسباب هذا التضخم هو تضخم السلطة العربية نفسها واتجاهها نحو الإعلام [ الحر !! ] والمدروس من زاويتين : الربحية والصوت الذي تريده وفق المتغيرات الحديثة والثورة المعلوماتية
والاتصالات , سلطة تحدث نفسها !! ومع ذلك استفادت الحرية في العالم العربي من هذا الهامش الذي تحرك في الماء الراكد , لأن الربحية تشق لنفسها الطريق من أجل هذا الربح ولنا في النموذج الغربي من الإعلام مثالا . ومع ذلك أموال النفط تغطي هذه الخسائر الإعلامية فتصبح الربحية خاضعة أيضا لكليانية السلطة العربية .
يقول توماس فريدمان في مقالته الأخيرة ـ هل النفط والشمولية توأمان سياميان في الشرق الأوسط ؟ ـ :
[ فالمشكلة أن النفط والشمولية توأمان سياميان ملتصقان، يستحيل الفصل بينهما في العالم العربي• ] النفط هو من يغطي الخسارة للإعلام العربي .
هل كان ممكن للنظم الثورية في العراق سابقا وسوريا حاليا أن تمول الاستبداد والإعلام الملتزم الخاسر ماديا بدون المورد النفطي ؟
وهذا الأمر بات واضحا ولا داعي للحديث عنه كثيرا في تمدد هذه الأمبراطورية الإعلامية ..
ولكنها تتيح شيئا من الحرية من خلال التداخلات السياسية بين النظم العربية والمثال الفاقع هنا : قناة العربية وقناة الجزيرة والخلاف السعودي القطري المتجدد .
فالجزيرة يعتبرها الكثيرين منبرا للفكر المتطرف الإسلامي !! بينما العربية هي منبرا للفكر المعادي للعروبة كما يعتبرها بعضهم أيضا . في تبادلية هي تبادلية النمطية الواحدة للسلط العربية .
بينما فضائيات الأمير الوليد بن طلال هي فضائيات رابحة لأنها تعتمد الربحية أولا وبعيدة عن المجال السياسي المباشر .
وفي هذا الجانب أيضا من المهم المقارنة بين الفضائيات اللبنانية والفضائيات الخليجية : أعتقد أنها نفس الطبعة إلى حد كبير لماذا ..؟
من هذا الفضاء أتى الإعلام العربي عموما , من النفط والالتزام في جدلية السلطة العربية يقول فريدمان أيضا :
[وعلينا أن نثير سؤالاً مهماً هنا: لماذا لا يوجد إلا القليل جداً من الأحزاب العلمانية التقدمية المعارضة في هذه الدول؟ والإجابة أن القادة العرب لا يسمحون لمثل هذه الأحزاب مطلقاً بأن تنمو وتزدهر• والخيار الذي تتيحه هذه الأنظمة لشعوبها ينحصر إما في اختيارها لأحزاب السلطة، أو للأنظمة والأحزاب الدينية المتطرفة• وفي كلتا الحالتين، تضمن هذه القيادات أبدية وسرمدية النظام الشمولي، باعتباره ناموساً من نواميس الحياة، لا سبيل للاستغناء عنه• ] وبغض النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا عن المنطق الذي يحكم توماس فريدمان , ولكن كيف إذن سيكون الإعلام ؟
نستفيد كما قلت من خلافات النظم العربية كي نندس في هذا الهامش المتاح . والآن باتت الأنترنت العدوة رقم واحد لهذه النظم ولا تترك طريقة وتكنولوجيا حديثة من أجل حجب الكثير من المواقع هذه التقنية التي لم تعد تحتاج إلى أموال النفط أو أموال السلطات العربية لتمويلها كالقنوات الفضائية والصحف الكبيرة لأنها أصلا لاتحتاج لكثيرا من الأموال .
الأعلام العربي .. إلى أين ؟
الإلتصاق السياسي الإعلامي :
يتراوح مستقبله الآن بين ما يحدث في العراق من ثورة معلوماتية وإعلامية منفلتة من عقالها تماما , نتيجة لغياب الحرية عقود طويلة وتوق الناس لسماع ما يجري ومتابعة الأوضاع من أكثر من وجهة نظر , وانخراط المواطن العراقي في صياغة مستقبله الذي لازال مجهولا , وبين الإعلام السوري الذي لازال يرواح مكانه نسبيا ـ جرى تكريس الإعلام السوري على مدى عقود من أجل الدعاية للسلطة والحزب الحاكم ، ليتخذ بجميع أشكاله طابع التحشيد الذي يفتقد لأي شكل من أشكال النهوض بوعي الفرد والارتقاء بوجدانه الإنساني وحسه الوطني ، وتقديم المعرفة والتنوع الخلاق والمتعة في آن واحد ، الأمر الذي ساهم في تعميق حالة اللامبالاة وبناء حالة تخارج وقطيعة ما بين المجتمع والدولة .
احتكار وسائل الإعلام ، و تأميم الأفكار والآراء ، وممارسة سياسة التعتيم الإعلامي و حجب الحقائق السياسية والأحداث الواقعية ، جعل المجتمع هزيلاَ ، و ترك أثرا واسعا في أرواح الناس وضمائرهم ، وفي طرق تعبيرهم التي استندت إلى الاصطناع والمجاراة ، و افتقاد العفوية في تقديم البرامج وصياغة الإعلام وإجراء الندوات والمقابلات التلفزيونية ، فكل شيء معد سلفاَ ، السؤال والجواب ، وكل شيء تحت الرصد والسيطرة ، و يكفي متابعة برامج الأطفال ( برنامج طلائع البعث ) وبرامج الشبيبة و الطلبة ، لنعرف إلى أي مدى جرى نزع الحالة العفوية في التعبير . ـ دراسة للصديق د. حازم نهار عن التنشئة الشبابية في سوريا . يكثف فيها الهم الإعلامي في سوريا ومستثبله الذي بات منذ زمن بعيد مرتبط مباشرة بمستقبل السلطة في سوريا .
بين هذين الحدين يتراوح الإعلام العربي برمته , ولم نصل بعد للحديث عن إعلام مستقل عن السلطة السياسية في المنطقة العربية . إعلام هدفه الربح بشكل واضح مما يجعل الخبر الصحفي والسبق الصحفي مهما والحرفية الصحفية لها الأولوية في العمل الإعلامي مضافا إليه شرط الحرية لكافة وجهات النظر كي تعبر عن نفسها في الإعلام . كيف يمكننا فصل الإعلام العربي عن السلطة العربية ؟ على هذا السؤال يتوقف مستقبل الإعلام العربي . بالطبع لم نأخذ كثيرا الفارق النسبي على أهميته في مؤشر الحريات بين بلد عربي وآخر , كما أننا لا ننفي إمكانية نشؤء منابر حرة في هذا الزمن القحط . منابر حرة سرعان ما يصيبها الأفلاس المادي .
الإعلام العربي / المشهد بلا مجتمع المشهد :
من المعروف الآن أن المجتمع الغربي بات مجتمعا مشهديا صاغه المشهد وصاغته الصورة والمعلومة في شيئية وصلت حتى حدود التفاصيل وتفاصيل التفاصيل , في مجتمع المشهد كل شيء مباح للإعلام , وكل مواطن يحاكي هذا المشهد في كل لحظة في البيت في الشارع في المدرسة عبر الشاشات الفضية والنت والصور الإعلانية التي تملأ الشوراع وتعيد أنتاج المشهد على شكل صورة ورقية على الجدران والحافلات ..الخ في صنمية الربحية واللهاث الاستهلاكي / ولم لا طالما القدرة الشرائية موجودة لدى هذا المواطن الغربي .
هذه الصورة المتشيئة نقلناها كما هي بلا تعديلات ولا رتوش مع الأخذ بعين الاعتبار [ تابو السلطة السياسية وخطوطها الحمراء ] وغياب القدرة الشرائية للمواطن العربي عموما جعلته في حالة مما يعرف بحالة [ فاغر الفاه ] مندهشا لطرواة الجسد ونزوع الصورة نحو الكمال اللوني , وليس بلا معنى ولكنه معنى اللهاث خلف الجنون لعدم القدرة على الاستهلاك ولعودة لبرامج الموضة : في الحالة الغربية هذه البرامج ليست غريبة / لأن لها قدرة شرائية ما عند المتفرج يغطيها ويربحها في مجتمع الفرجة هذا بينما عندنا , من أين للمرأة العربية خصوصا هذه القدرة الشرائية ؟؟؟
لمجتمع الفرجة أو المشهد كما وصفه [ جي دوبريه ] في كتابه المهم حول مجتمع الفرجة , نسيجا طبيعيا لشيئية عمرها قرون , المواطن يتفرج على ذاته هنالك بينما المواطن عندنا يتفرج على المواطن الغربي كيف يعيش وكيف يستهلك وماذا يستهلك ..الخ لدينا المشهد هنا بلا مجتمعه , وهذا وجه من وجوه مأساة الإعلام العربي التي تغطيها أموال السلطة / نفطا أو سرقة .
مجتمع المشهد هناك في حريته له رأي عام / ومجتمع المشهد عندنا له رأي السلطة / رأي واحد .
وفي مجتمع المشهد لا يحتاج المواطن لإعلام ملتزم فهو قد ولد ملتزما بقضايا مجتمعه ويعرفها كلها إن أراد وله رأي فيها أما مواطننا فيولد كي يبقى طوال حياته يبحث عن الالتزام .
يجب القطع مع السلطة السياسية ومشروعها الأبدي عندنا من قبل الإعلام وهذا نفسه يحتاج إلى سلطة بديلة كي تساهم في قيام هذه القطيعة , سلطة تعي أنها طرفا اجتماعيا وليست كل المجتمع يتبدل بتبدل الناخب والناخب تعبير اجتماعي يتطلب الالتزام بقضاياه , عندها يمكن لإعلامنا أن يصبح ملتزما بمواطنه وحرية مواطنه وقضاياه الصغيرة والكبيرة . وبعدها ليحقق ربحا هذا حقه الذي يكفله له الدستور المدني .
رأي للحوار ..
#غسان_المفلح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟