( العراق و رياح التغيير)
الشجرة لا تحجب الغابة ... و الشعوب تصنع سعادتها بنفسها
تشهد الساحة الدولية و الإقليمية محاولات لغرض تأهيل النظام العراقي ، بحجج و ذرائع عديدة منها من تقول بان تأهيل النظام سوف يبعد شبح الحرب و الدمار من العراق و المنطقة ، و ادعى البعض في حالة وقوع الحرب لا يتورع النظام و بالمقابل أمريكا من إحراق المنطقة برمتها ، وذهب البعض الآخر إلى القول بلغة موحية من أن تأهيل نظام صدام حسين يؤدي إلى فرض العملية السلمية على إسرائيل ، دون أن يأخذ هؤلاء جميعا رأي الشعب العراقي .
ينطبق على هذه الجهات المثل الفرنسي القائل ( الشجرة تحجب الغابة ) ، لان طرحهم لمثل هذه المبادرة يتجاوزون معاناة الشعب العراقي ، التي تعتبر لب المشكلة في نظر العراقيين و الكثير من المراقبين المنصفين ، هذه المعاناة التي أصبحت مثل كرة الثلج التي بدأت بالتدحرج منذ مجيء النظام البعثي إلى الحكم ، و تسارعت هذه الكرة بعد استيلاء صدام حسين على مقاليد السلطة ، كأن أوضاع العراق الحالية كانت محسوبة سلفا ، حيث صار الاقتصاد العراقي في مرحلة ما قبل النهضة الصناعية ، و تراجع مستوى الدخل العراقي بحيث صار في قائمة الدخول الأدنى في العالم ، و هاجرت تقريبا كل النخب العراقية إلى أرجاء المعمورة ناشدين الخلاص ، و أطفال و شيوخ ونساء العراق ما زالوا يموتون بسبب حجب النظام العراقي عنهم الدواء و الغذاء ، بعد أن قام الجهلة أصحاب سلطة القرية بجعل الدولة العراقية بمواردها البشرية و الطبيعية ارتساما لمزاج ابشع ديكتاتور عرفه التاريخ الحديث و القديم ، وليس لمجمل تطلعات العراقيين و لخط رأيهم العام ، و لأنهم زمرة باغية جاهلة أقاموا بنى للفساد ، و خلقوا المناخات الملائمة و الظروف المتباينة ليستشري هذا الفساد في مفاصل الدولة و المجتمع العراقي ، بعد أن ناموا هم في بحر من العسل ، متصورين بان أمر التغيير في العراق و الخلاص من استبداد و استهتار هذا النظام مجرد أمنيات لحفنة من المعارضين لحكمهم ، ناسين بان معظم الشعب العراقي معارض لحكمهم و لتوجهاتهم و يطالبون برسم خطوط عامة و بلغة معاصرة لمستقبل العراق ، و ما زالت هذه الزمرة مستمرة في بغيها و غيها و قراءتها للأحداث و التطورات ساذجة ، و ما زال صدام حسين يهدد و يتوعد بإطلاق بالونات فارغة و يعبر على انه سوف ينتصر كما انتصر في أم المهالك .
المتباكون اليوم على العراق و العراقيين من عرب و عجم عليهم أن يوفروا دموع التماسيح لأنفسهم ، وان كانوا صادقين في الدفاع عن العراق و ليس النظام الفاشي ، عليهم التعبير علنا عن تفهم نابع من قناعة من أن الشعب العراقي يلاقي الأمرين من نظام صدام حسين ، و يواجه أقسى و اصعب الظروف في حياتهم اليومية من أجهزته القمعية ، و أن يعبروا عن موقفهم الداعم للعراقيين لرفع هذا الكابوس الجاثم على صدورهم و القابع على رؤوسهم منذ عقود ، و من المفروض أن يقفوا وقفة حساب مع الذي غامر باستقلالية العراق بما يتناقض مع المفهوم المبدئي للاستقلال ، و الضغط على حاكم بغداد و زبانيته وقف كل أشكال القهر و الفرض والإرغام ورغبة السيطرة .
إن المهازل و المهالك التي حدثت للعراقيين نتيجة تصرفات النظام العراقي ، جعلتهم يشعرون بالمرارة من كل من يدعو إلى تأهيل هذا النظام ، لذا يريد العراقيون أن يجري التعامل مع الوقائع التاريخية الثابتة ، و أن تتحول دولتهم من دولة مشاغبة و محاربة إلى دولة وئام ، و من دولة شعارات إلى دولة سلام .
قد طفح الكيل لدى العراقيين نتيجة تراكم الأزمات والتي أدت إلى الكثير من الإفرازات السلبية ، لذا يطلب شعبنا بالتغيير ولأنه يؤمن بان هذه السلطة بتركيبتها المعروفة ، عاجزة عن إنقاذ البلاد من هذه التداعيات و التدهورات الاقتصادية و المعيشية و الإنسانية ، التي هي من صنعها قبل وجود عوامل أخرى خارجية ، و التجارب السابقة مع السلطة تقول بأنها لا تستطيع العيش دون وضع العصي في الدواليب .
الوطنيون العراقيون لا يستطيعون أن يكونوا محايدين و البلد في حالة انهيار والدولة العراقية في حالة تمزق ، و لا يجوز للعاقل الحصيف أن يطالبهم بخوض المعركة مع ذاتهم بدلا مع النظام ، لأن الوقوف مع النظام الحالي هو أن تكون الخطيئة هي الهدف في حد ذاته ، و المعروف بأن الخطيئة في الواقع الإنساني لا تقدم شيئا بديعا أو جميلا ، و حينما يقوم النظام العراقي بخلط الشهامة بالنذالة و المبادئ بشعارات زائفة فأنه دليل إضافي بأن جذوره تمتد إلى الخطيئة ، عليه نجد الذين يصطفون حوله من الذين يتناولون فياغرا هذا النظام بشكل من الأشكال ، بأنهم يعملون على قتل كل جميل في العراقيين من أمل و تمني .
إن الأيادي التي تعمل و تتحرك في الظلام ، أثبتت بان لا مشاعر لديها سوى الاضطراب الغريب في السلوك ، خوفا من الديمقراطية و من استقرار الشعب العراقي و التوجس من تطلعاته ، في حين يعلمون هم قبل غيرهم بأنه من غير المسموح لهم اكثر مما يسمح به الواقع الدولي ، لان الوجود الأمريكي في المنطقة متعدد المظاهر و أساسه عسكري ، لذا تصبح أرادتهم و تحركاتهم معطلة إلى حد ما ومرهونة لما يقرره القطب الأعظم في العالم ، و إذا كانت حجتهم بأن المنطقة تجتاز مرحلة حساسة و دقيقة يستلزم قرارا سياسيا حاسما ، فان ذلك متعذر على الأقل في الوقت الحاضر ، وان صدرت فأنها في كل الأحوال لا تكون في صالح النظام العراقي كليا للأسباب التي نوهنا عنها ، و ينسى هؤلاء الساعين من أن تأهيل هذا النظام ، يؤدي إلى افتعال الأزمات بين الدول الإقليمية كما حصل سابقا ، باتباع النظام سياسة المحاور فيتحالف مع دولة ضد أخرى و من ثم العكس ، و بالتالي يخلق الأزمات و الفتن و الحروب التي ستلهب ظهور شعوب المنطقة كما حصل في السابق ، وتأهيله يعني أيضا استمرار معاناة العراقيين وزيادة إرهابه ، بحيث يستمر مسلسل القتل و الهدم و التدمير والبتر و الوشم و عسكرة المجتمع العراقي و هدر طاقاته .
أما تلك الدول الكبرى التي تقف في صف الجلاد ضد الضحية تحت ذرائع واهية ، وبعد أن نهبوا و سرقوا ثروات العراقيين بموافقة النظام العراقي ، الأجدر بهم مراجعة مواقفهم بصورة موضوعية لا أن يضعوا العربة أمام الحصان ، وعليهم قبل كل شئ احترام قرارات الشرعية الدولية و منها قرار 688 ، و لا يقفوا مع من يدوس على هذه القرارات ، و لا تستطيع أية جهة أن تقرر نيابة عن الملايين من العراقيين من ضحايا الجلاد من معوقين و قتلى و مشردين و مهاجرين ، و سوف يلجم العراقيون السياسة المصلحية و النفعية لهذه الدول ، و يرمون عقودهم في مزبلة التاريخ مع النظام الذي يدافعون عنه ، و لا يجوز أن يبقى القديم على قدمه بعد أن ضحى شعبنا هذه التضحيات الجسام ، و التغيير نحو الأفضل هو سنة الحياة ، و رياح حقوق الإنسان التي هبت ، سوف توصل سفينة الشعب العراقي عاجلا أم آجلا إلى بر الأمان ، والشعوب تصنع سعادتها بإرادتها و ليس بمزاج الآخرين ، و الأيام سوف تثبت بأن الأشياء السالبة و المواقف غير السليمة لا تبقى على حالها ، لان حركة التاريخ في تغيير مستمر وان بدت للبعض بأن هذه الحركة بطيئة ، و لكننا نؤمن بان التغيير حاصل ليس رغبة و تمنيا فقط ، بل تفرضه حتمية التاريخ والشواهد كثيرة على مر العصور و الدهور ، وسوف يؤكد شعبنا بان العراق هو مفتاح المنطقة و مهد حضارتها ، و سوف يصنع تاريخا جديدا للمنطقة ، بالتشاور و التنسيق و التعاون مع القوى الحية في شعوبها .
إن الغالبية العظمى من شعبنا العراقي بل نستطيع القول كله ، مترقب رياح التي تحمل بشائر التغيير ، و التي بدأت تلوح في الأفق ، وينتظرون الدخول إلى أعتاب مرحلة جديدة ، لقلع الشجرة الخبيثة من تراب الوطن العراقي ، وزرع بدلا منها شجرة مثمرة باسقة ، و ضخ دماء جديدة في عروق الوطن لتتفتح الورود و الزهور و لتنمو الرياحين ، و لتتفتح أمام أجيالنا كل الأبواب و النوافذ ، التي أغلقتها عصابة باغية و مجرمة في غفلة من الزمن ، لتدخل منها أشعة الشمس إلى بلد النور ، ولتتفتح أبواب الإحساس بالمسوؤلية ، كي يشعر المواطن العراقي بكل أطيافه الزاهية بإنسانيته على أرضه ، بعد أن يرفع عن وطننا يد الفاسدين و المفسدين في الأرض .
العراقيون يؤمنون بان الأزمة العراقية الحالية ، سوف تنتهي بجوانبها المختلفة لصالح شعبنا ، بحيث يعمل الجميع معا للوصول إلى التنمية و التعددية السياسية و الديمقراطية و الفدرالية ، و الذي يبشر بالخير هو هذا الوعي العلني و الصامت لشعبنا برفض الديكتاتورية ، لا سيما و أن شعبنا يشاهد بان رياح الديمقراطية قد هبت في أرجاء المعمورة ، و اصبح احترام قواعد اللعبة الديمقراطية ديدن الشعوب ، و التغيير الحقيقي يأتي بشرعية حقيقية ، و هذه الشرعية تستمد شرعيتها من الديمقراطية و صناديق الاقتراع .
جريدة المؤتمر عدد338 في 21- 27/ شباط/ 2003