|
طريق اليسار - العدد 97حزيران/يونيو 2017
تجمع اليسار الماركسي في سورية
الحوار المتمدن-العدد: 5567 - 2017 / 6 / 30 - 09:39
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
طريق اليســـــار جريدة سياسية يصدرها تجمع اليسار الماركسي في سورية / تيم / * العدد 97حزيران/يونيو 2017 - [email protected]E-M: *
* الافتتاحية.
«الإخوان المسلمون» و براغماتية التحالفات يوم 4 شباط (فبراير) 1942 اقتحمت دبابات بريطانية باحة قصر عابدين في القاهرة وفرضت زعيم حزب الوفد مصطفى النحاس باشا رئيساً للوزراء ضد إرادة الملك فاروق. دعا النحاس باشا إلى انتخابات جديدة للبرلمان، وترشح لها الشيخ حسن البنا زعيم «جماعة الإخوان المسلمين». وعندما ساومه النحاس على سحب ترشيحه طلب مقابل ذلك غض النظر الحكومي عن نشاط «الإخوان». وهكذا، خلال أربع سنوات لاحقة نمت الجماعة اجتماعياً في شكل جعل محاولات نزع زرعها التنظيمي من التربة المصرية أعوام 1949 و1954 و1965 و2013 تفشل بسبب ما بنته في تلك السنوات الأربع. أعطى هذا صورة عن نموذج التحالفات عند البنا: مقايضة السياسة لمصلحة التنظيم، ولم يتردد في تأييد حكومة كانت منبوذة من الرأي العام المصري بعد صعودها على ظهر الدبابات البريطانية، وهو كان سابقاً لهنري كيسنجر في مبدأ: «لاصداقات دائمة ولاعداوات دائمة. المصالح هي الدائمة». عام 1946 عاد الصدام بين النحاس والبنا. اغتيل البنا في 12 شباط 1949 على الأرجح كما بينت التحقيقات لاحقاً بأوامر من الملك فاروق في رد على اغتيال الجهاز الخاص في «الإخوان» لرئيس الوزراء المصري محمود النقراشي قبل شهر ونصف الشهر رداً على مرسوم حله للجماعة. ويحتمل أن الملك المصري تشجع كثيراً على ذلك بسبب ما أثاره البنا من هلع في القصور الملكية عندما كان «الإخوان» السند الرئيسي لحزب الأحرار اليمني في عملية اغتيال الإمام يحيى آل حميدالدين في صنعاء يوم 17 شباط 1948 وتنصيب إمام جديد آخر أيضاً من الزيدية من أسرة (آل الوزير) قبل أن يستطيع أحمد بن الإمام يحيى القضاء على الانقلابيين بعد أربعة أسابيع. فقد أعطى ما جرى في صنعاء صورة أبعد عن براغماتية البنا: استخدام آخرين، من مذهب غير سني، للوصول إلى تحكم «الإخوان» بسلطة من وراء الستار في إحدى العواصم العربية (تحولت الجماعة إلى تنظيم دولي يتجاوز النطاق المصري عام 1946). عاش»الإخوان» من دون مرشد عام حتى يوم 19 تشرين الأول (أكتوبر) 1951 مع انتخاب حسن الهضيبي: في كانون الثاني (يناير) 1950 اختارت القيادة الموقتة للجماعة تأييد حزب الوفد في انتخابات البرلمان من دون ترشيح أعضاء منها، وهذا ما ساعدها خلال سنتين من حكومة النحاس باشا على ترميم التنظيم في مرحلة ما بعد اغتيال البنا. وبعد خمسة أيام من انقلاب 22-23 تموز (يوليو) 1952 التقى الهضيبي مع البكباشي جمال عبدالناصر الذي كان يرأس «تنظيم الضباط الأحرار» منذ تأسيسه في تموز 1949، وكان يضم ضباطاً من «الإخوان» ومن حركة «حدتو» الشيوعية، بصفتهم الفردية، مع ضباط من دون أي انتماء حزبي. في ذلك اللقاء اكتشف الهضيبي عدم امكان استخدام عبدالناصر، بينما اكتشف الأخير خطر «الإخوان» على سلطته الجديدة. لتفادي هذا، حاول عبدالناصر شق «الإخوان» أو إطاحة الهضيبي، ولما فشل قام بحملة اعتقالات في تشرين الأول 1954. وحاول الهضيبي التحالف مع الشيوعيين والوفديين واللواء محمد نجيب في أزمة آذار (مارس) 1954 من أجل عودة الحكم المدني الحزبي وإطاحة الحكم العسكري. وبعد إزاحة نجيب كان الصدام بين عبدالناصر و»الاخوان» مسألة وقت. الحرب الباردة استغل «الاخوان» أجواء الحرب الباردة الدولية 1947-1989 التي تحولت إلى حرب باردة عربية منذ نيسان (أبريل) 1957 بين محور القاهرة- دمشق والرياض-عمَان- بيروت حتى مجيء فؤاد شهاب في أيلول(سبتمبر) 1958، بينما كانت منذ شباط 1955 مع قيام حلف بغداد أساساً بين عبدالناصر ونوري السعيد في بغداد. عملياً اصطف «الإخوان» إلى جانب الغرب الأميركي في الصراع مع السوفيات، وكان هذا واضحاً في باكستان حيث تحالف أبو الأعلى المودودي مؤسس «الجماعة الاسلامية» مع الجنرال أيوب خان (1958-1969) ضد الهند حليفة موسكو، وصولاً إلى مصر وسورية حيث وقفت الجماعة في البلدين ضد عبد الناصر وحزب البعث منذ وصوله إلى السلطة عقب انقلاب 8 آذار(مارس) 1963. اختار المودودي مقايضة التأييد السياسي لحكم العسكر الباكستانيين (وهذا استمر مع الجنرال ضياء الحق في انقلابه عام1977 على ذوالفقار علي بوتو ومع خلفاء المودودي بعد وفاته عام 1979) بأخذ مراكز مؤثرة للإسلاميين في الحكم والإدارة وفي مجالات التربية والتعليم وفي السيطرة على المساجد. أما في الأردن فقام «الإخوان»، منذ إقالة الملك حسين حكومة سليمان النابلسي وإفشال محاولة انقلاب علي أبو نوار الموالية للقاهرة في نيسان 1957، بتأييد القصر الملكي وأخذوا حرية الحركة في ميادين التربية والمساجد والعمل الخيري، وقد أدى هذا إلى أن يكونوا الاستثناء الوحيد من قرار حل الأحزاب الصادر آنذاك. وفي انتخابات برلمان 1989 عندما سمح بعودة الأحزاب الأردنية للعمل، كان حصاد «الاخوان» ربع مقاعد البرلمان. ولم يحصل الطلاق مع القصر الملكي الأردني إلا بدءاً من عام 1993، وكان هذا على الأرجح انعكاساً للطلاق الذي جرى بين واشنطن والإسلاميين بعد انتفاء حاجة الأميركيين إلى الاسلاميين بعد انتهاء الحرب الباردة عام 1989 بانتصار واشنطن على موسكو. في أفغانستان ما بعد الغزو السوفياتي في 1979 كان التنظيم العالمي للإخوان المسلمين القوة الكبرى لحشد اسلاميي العالم ضد موسكو، وكانت هزيمة السوفيات هناك التي أعلنت رسمياً في انسحاب 1989 هي الإعلان الرسمي العملي لهزيمة موسكو في مجمل الحرب الباردة العالمية أمام واشنطن. تكررت المعادلة الإخوانية مع الملك حسين في مصر أنور السادات منذ اخراجه سجناء الجماعة وسماحه بحرية العمل لها منذ صيف 1971 بحيث أخذت حرية الحركة بعد ضربات عبدالناصر مقابل تأييد السادات ضد اليسار الناصري بعد ضرب كتلة علي صبري في 15 أيار (مايو) 1971 وضد الشيوعيين بعد طلاقه مع موسكو عام 1974. لكن لم يستمر وفاق السادات مع «الاخوان» بل انهار عام 1978 نتيجة معارضة الجماعة اتفاق كمب ديفيد، وتفاقم هذا مع المعارضة الاخوانية لإيواء السادات عام 1980 لشاه ايران. وكانت النتيجة أن السادات وضع قادة الجماعة في السجن مع الوفديين والشيوعيين عقب اعتقالات أيلول 1981 قبل شهر من اغتياله على يد «الجماعة الاسلامية». ساكن الرئيس حسني مبارك «الاخوان» وساكنوه طوال الثمانينات من دون اعطائهم ترخيصاً رسمياً ما اضطرهم في مجلسي الشعب 1984 و1987 للركوب في باصات أحزاب الأحرار والعمل والوفد لايصال نواب من «الاخوان» فاقت أعدادهم أصحاب الباصات. تصادم «الاخوان» مع مبارك منذ عام 1990 لكنه لم يلجأ حتى يوم سقوطه في 11 شباط 2011 إلى أكثر من الضربات الموضعية للجماعة، واضطر تحت الضغط الأميركي للسماح لهم بدخول انتخابات 2005 لمجلس الشعب حيث نالوا خمس المقاعد. الإخوان في سورية في سورية كانت مسارات «الإخوان» مختلفة وخاصة: صدام مع سلطة حزب البعث أعوام 1964 و1965 و1973 وصولاً إلى مجابهة حزيران (يونيو) 1979- شباط 1982. ولم يمنعهم الدم من الدخول في مفاوضات مباشرة مع السلطة السورية في 1984 و1987 و2009 ومن توسيط نجم الدين أرباكان زعيم حزب الرفاه التركي ورئيس الوزراء 1996-1997 ورجب طيب أردوغان (رئيس الوزراء التركي منذ آذار2003) وخالد مشعل كجسور مصالحة. في كانون الثاني 2009 أعلنوا تعليق نشاطهم المعارض. وعندما فشلت جهود أردوغان انتخبوا في اجتماع لمجلس الشورى لجماعة الاخوان المسلمين في سورية في آب (أغسطس) 2010 قيادة جديدة متشددة من تلاميذ مروان حديد وسعيد حوى من رموز مجابهات «الاخوان» مع السلطة في الستينات والسبعينات: استبدل علي البيانوني بثلاثي حموي (رياض الشقفة- فاروق طيفور- حاتم الطبشي) كان عنواناً لمجابهة ما بعد 18 آذار 2011. كان البيانوني عنواناً لانفتاح الجماعة على السلطة في عهد الرئيس السوري الجديد بشار الأسد منذ 10 حزيران 2000 وكان أقل تشدداً من معارضين مثل رياض الترك، وكان أيضاً عنواناً لانفتاح الاسلاميين على أحزاب المعارضة اليسارية والليبرالية الجديدة، وهو ما تجسد في «اعلان دمشق» ( 16 تشرين الأول 2005) الذي كان مقياساً لانتقال «الاخوان» من المرونة إلى التشدد عند لمسهم ضعف السلطة السورية، كما جرى عقب أزمة لبنان في ربيع 2005، كما كان مثالاً لاستعدادهم لإدارة الظهر لحلفائهم في عملية أشبه بالخيانة الزوجية عندما قاموا من دون علم الحلفاء في «اعلان دمشق» بعقد تحالف جديد مع نائب الرئيس السوري المنشق عبدالحليم خدام في شباط 2006. وعندما شعروا باستعادة السلطة قوتها مع فرص للمصالحة معها عبر الطريق التركي علّقوا النشاط المعارض عام 2009، وعندما فشلت المساعي من أجل ذلك تخلوا عن القفازات الناعمة. وفي مرحلة ما بعد 18 آذار 2011 تزعموا «المجلس الوطني السوري» منذ تكوينه في اسطنبول في تشرين الأول 2011 بغطاء أميركي- تركي- قطري، وجعلوا هذا المجلس واجهة يختبئون وراءها مع أكثرية فعلية عددية لهم من خلال منظمات خلّبية وشخصيات إخوانية تقدم كمستقلة. كان تكتيكهم الوصول إلى السلطة في دمشق عبر هذا المركب، كما حصل في ليبيا عام 2011 مع المجلس الليبي بقيادة مصطفى عبدالجليل ومن خلال سيناريو تدخل عسكري يشكل المجلس غطاءً له. وإثر فشل تلك الحسابات انحنوا أمام عاصفة تغير الموقف الأميركي من «الاخوان» وقبلوا بقيام «الائتلاف الوطني السوري» في 11 تشرين الثاني(نوفمبر) 2012 ولكن على أمل أيضاً بأن يقودوه من الخلف وفي شكل أقل علنية من «المجلس». يقال إنه لما قام سليمان الفرنساوي بقراءة كتاب «الأمير» لمكيافللي لمحمد علي باشا، قال له الأخير العبارات التالية بعد صفحات قليلة: «أغلق الكتاب، أنا أعرف أكثر منه». هنا، ألا يمكن لحسن البنا ومن خلفوه أن يقولوا الشيء نفسه؟ دراسة ماركسية: دراسة بعنوان : الماركسية وقوانين الجدل 15 يناير، 2012، https://ar-ar.facebook.com/notes/ الماركسية وقوانين الجدل الماركسية هي ممارسة سياسية ونظرية اجتماعية مبنية على اعمال كارل ماركس الفكرية وهو فيلسوف من اصول المانية من القرن التاسع عشر عالم اقتصاد ، صحفي وثوري ، شاركه رفيقه فريدرك انجلز في وضع الاسس واللبنات الاولى للنظرية ومن بعدهم بدأ المفكرون الماركسيون في الاضافة وتطوير وتطوير النظرية بالاستناد الى الاسس التي ارسى دعائمها ماركس . وجاء من بعد ماركس العديد من المفكرين والمناضلين عاشو حياتهم كاملة وبعضهم مات واستشهد من اجل تطوير وتقديم نظرية قادرة على تطوير العالم نحو الافضل ، وبناء الغد الشيوعي الاشتراكي الذي ينتهي فيه استغلال الانسان للانسان ... انها مرشد عمل بوصلة لتحديد الاتجاه في الممارسة . الماركسية هي القوانين الطبيعية التي تتحكم في حركة المجتمع منذ نشوء اول مجتمع انساني ، وفي مختلف مراحل تطور المجتمعات البشرية وستبقى طالما وجدت مجتمعات بشرية على الارض . ان الماركسية نظرة علمية للعالم ، وهي النظرية العلمية الوحيدة التي تتفق مع العلوم الاخرى التي تخبرنا ان الكون حقيقة مادية ، وان الانسان ليس غريبا على هذه الحقيقة وانه يمكن معرفتها ومن ثم تغييرها . لماذا نحتاج النظرية الماركسية ؟ يمكننا ايجاد ساباب دراستنا للنظرية الماركسية ، في تفسير وتحليل ما يحدث حولنا من ظواهر واحداث وذلك يشمل الاحداث السياسية والاقتصادية التي تطرأ على المجتمعات معتمدين على الاسلوب العلمي والتحليلي . فمثلا يمكننا فهمنا للنظرية في تحليل اسباب الحرب على العراق اليوم ... صمود التيار الاسلامي في معظم الدول العربية ، والعمليات الارهابية التي هزت عالمنا العربي في الشهور والاعوام الماضية .. الاسباب الحقيقية لتخلف المجتمعات العربية وعدم القدرة على الانفلات في هيمنة الدول الكبرى كما تعطينا افقا للتعامل مع القضية الفلسطينية والصراع مع الحركة الصهيونية والموقف الامريكي منها . كما تمكننا من معرفة مدى استغلال اصحاب المصانع والاراضي والشركات للعامل والفلاح والمواطن البسيط الذي لا يجد في اغلب الاحيان في واقعنا العربي غير الاذعان والخضوع للواقع المفروض عليه بحجج مختلفة ، تبدأ بجهله اصلا بالاستغلال الذي يقع فيه ، وتنتهي بعجزه او عدم قدرته على مخالفة ما كتب عليه . 2- مدخل في المادية الجدلية : ترتكز الماركسية كمنظومة فكرية ونظرية ثورية وايديولوجية الطبقة العاملة في صداعها مع البرجوازية الى ثلاثة ركائز اساسية : 1- المادية الجدلية 2- المادية التاريخية 3 - الاقتصاد السياسي بتناولنا للمادية الجدلية ، نستطيع القول انها قوانين ومبادىء ومقولات تعمل في جانبين جانب المعرفة العلمية (العلوم المختلفة) ، والجانب الاخر هو الحركة المجتمعية وتطور المجتمع تبعا لهذه القوانين اي انها تطبق في العلوم المعرفية وعلم الاجتماع الى حد سواء . وربما جرى بنا قبل الخوض في هذه القوانين والمقالات والنتائج ان نسعى الى مقدمة في المنهج العلمي ، تعريفه ،مميزاته ، وهو المنهج المقابل للمنهج المثالي الذي يعتمد على الغيبيات والروحانيات وما وراء الطبيعة ، في تفسير حركة المجتمع وظواهره ، وقوله باسبقية الوعي الوجود ، وهي في صراع دائم مع المنهج المادي منذ بدايات الفكر الانساني . في تعريف المنهج : المنهج هو الدرب ، الطريقة ، الولادة التي تنتج بيضا ، البذرة التي تنتج سنابلا .. سنابل نظرية وابداعية في الحقول المعرفية كافة ، اقتصاد واجتماع وادب وفن ... الخ ، وهي ايضا الوسيلة التي تستخدم لقراءة وتفسير العمليات والظواهر ... وان كانت الفلسفة ومنهجها ثوريان فحينها يسعيان لتغيير التاريخ وحياة المجتمع ايضا ... اذن منهجنا العلمي هو منهج الحقيقة والمعرفة العلمية والمرتكزة على اسس واضحة وصلبة ، وهو طريقنا واداتنا للتغيير والانتصار ... قوانين الديالكتيك الاساسية : ما هو القانون ؟؟؟ القانون : هو علاقة ضرورية اصيلة بين الظواهر والصفات والتناقضات ، وطالما هي موجودة (العلاقة ) فهو موجود ، يحضر في الظواهر والاشياء ، ومكون بنيوي في طبيعتها ، اي انه ليس مختلفا او مسقطا او وهما ، بل هو صميمها ، وادراكه عقليا انما هو انعكاس ذاتي لوجوده الموضوعي بل وعدم ادراكه يحول دون تكوين معرفة صحيحة علمية .. وهناك ثلاث مجموعات من القوانين : 1- نوعي او جزئي : وهي علاقات بين ظواهر محددة او صفات جزئية للمادة 2- علمي : للمجموعات الكبيرة من الظواهر ( مثل قوانين حفظ الطاقة او الشحنة الكهربائية في علم الطبيعة ، ومثل قانون الانتخاب الطبيعي في علم الاحياء ... الخ ) 3- كلي : وتمثل القوانين الجدلية الاساسية للعالم ، والقوانين التي تعبر عن العلاقات بين الصفات والاتجاهات الكلية لتطور المادة ، وهي تقوم بدور المبادىء الكلية لكل وجود ، باعتبارها العناصر المشتركة التي تتبدى في كثير من قوانين المجموعتين الاولى والثانية . الفروق بين هذه القوانين فروق نسبية ومتحركة ... فحركة القوانين العامة تظهر في القوانين الجزئية المحددة ،كما ان القوانين العامة تدرك خلال تعميم الظواهر المتعينة ، بما في ذلك القوانين المحددة ... وهناك فرق اخر بين القوانين هو ان بعضها يعمل بطريقة مغايرة في الزمن ، بحيث يتحقق صدور النتائج في كل منها خلال برهة قصيرة من الوقت ، بينما يعمل بعضها الاخر بطريقة متعاملة ، اي نتائجها لا تتحقق في كل لحظة معينة ، وانما تتحقق فقط على طول فترة زمنية كبيرة او عندما يتغير النسق تغييرا كاملا . قوانين الديالكتيك الاساسية هي ثلاث قوانين : 1- قانون الانتقال من التواكمات الكمية الى التبدلات النوعية 2- قانون وحدة وصراع الاضداد او المتناقضات 3- قانون نفي النفي او سلب السلب 1) قانون وحدة وصراع الاضداد : يخبرنا هذا القانون بان كل ظاهرة تحمل في داخلها " دائما " بذور فنائها او بلغة ابسط " نقيضها " ويعتبر هذا القانون اساس الحركة والتغير . سبق وقلنا تعمل قوانين الديالكتيك في الطبيعة والمجتمع وتطوره ... ولذلك سندلل من الطبيعة وفي المجتمع الادلة التالية : مثال : الذرة كما درسناها في العلوم تتكون من بروتونات ونيوترونات والكترونات ، شحنة البروتونات موجبة دائما وشحنة النيوترونات متعادلا دائما " لا سالبة ولا وموجبة " اما الالكترونات فشحنتها سالبة دائما ... هنا ما يعنيه قانون وحدة وصراع الاضداد .. ان هذه البروتونات الموجبة والالكترونات السالبة تعيش في وحدة واحدة رغم تناقض هذه الشحنات وتنافرها المشبه ب "صراع" بين مكونات الذرة ... الامر الذي يسبب الحركة الدائمة للذرات بفعل التافر ودوران الالكترونات في مجالاتها - كما هو معروف - وبالتالي حركة المادة ... لذلك المادة ليست ساكنة .. مثال اخر من المجتمع:مثال الطبقة العاملة المنظمة ورأس المال(اصحاب الاستثمارات والمصانع والعمل ورؤوس الاموال).كأنظمة الحكم الرأسمالية ونقابات في تضاد وصراع ,يحتويهما المجتمع في وحدة واحدة,لكن هذا التضاد موجود,وهنالك صراع دائم بين رأس المال الذي يريد زيادة ثروتهعلى حساب جهد العامل,وبين هذه الطبقة العملة التي تعرف حقوقها وتناضل من أجلها. ومثال اخر:كل استعمار الشعب يقابله حركة مقاومة وحركة تحرير وطني,فمثلا,فإن حركة التحرير الفلسطيني ودولة المشروع الصهيوني هما تجسيد ساطع لقانون وحدة وصراع الاضداد.. فخصائص واهداف كل منها تناقض الاخرى الى حد التنافر,مثلما أن لدى كل منها تناقضاته الداخلية الطبقية والفكرية والسياسية..إذ يتعذر تصور مشروع صهيوني كولونيالي اجلائي دون حركة تحرر فلسطينية تسعى للعودة والاستقلال. زأيضا :المجتمع اليهودي ذاته يحمل تناقضاته الخاصة به(العلمانيين-المتدينين-الفقراء ورأسالمال-الروس-الخيار الحربي-خيار السلام). كما المجتمع الفلسطيني:(اليمين-اليسار-الاسلاميين-النخب العليا-الطبقات الشعبية-اوسلو-ودعاة الكيان-اللاجئون وسعيهم للعودة-خيار السلام). هذه التناقضات الداخلية في المجتمع يصعب تصورها تعيش في حالة انسجام,اذ انها دائما في حركة صراع وتضاد ما بين اليمين واليسار..الطبقات المسحوقة والاغنياء.وهذه الحركة اساس تطور المجتمعات. إن التطور يأخذ الشكل الحلزوني اللولبي للأعلى,اذ إن حركات التطور تسير دائما للأمام,لكنها في لحظة معينة يكون إتجاهها للاسفل,لكنها تعود وتأخذ موقع اعلى في عجلة التطور وهذا ما يفسر الانعكاسات التي قد تمر بها المجتمعات في لحظات تاريخية معينة,ولكنها تعود وتأخذ حركتها نحو الاعلى ونحو التطور الايجابي,وهذا يفسر الانتكاسة التي تمر على المجتمعات الانسانية التي تتحكم بها الان الرأسمالية,لكننا نؤمن بأن هذه المجتمعات ستتطور وستنتقل للمرحلة الاشتراكية. اشكال التناقض: وعليه فالأضداد يجمعها التناقض كما الوحدة,وللتناقض وتائر متفاوتة,فهو قد يتجلى في: 1-شكل تناحري:الطبقة العاملة المنظمة ورأسالمال..الحركة الصهيونية والمقاومة الفلسطينية..التيارات الرجعية والتيار التقدمي..الصلابة والغازية...التصحر والغابات...الحب والكراهية..البناء والهدم..الفاشية والديموقراطية...الرأسمالية والاشتراكية...إلخ. 2-غير تناحري بدرجاته:مثل البروتون والنيوترون ..البرجوازية الصغيرة والعمال..فصل الصيف وفصل الخريف..تعدد الاراء والاجتهادات في الفكر الواحد..الاباء والابناء..الخ. 3-التراكمات الكمية تؤدي الى تغيرات نوعية(كيفية): هو أحد القوانين الرئيسة للجدل,يشرح كيف وفي أية ظروف تحدث الحركة والتطور,وهذا القانون الموضوعي الكلي للتطور يقرر أن تراكم التغيرات الكمية التدريجية التي لا تدرك يؤدي بالضرورة في لحظة معينة,بالنسبة لكل عملية,الى تغيرات جذرية للكيف,والى تحول على شكل قفزات,من كيف قديم الى كيف جديد. مثال:إن درجة غليان الماء هي 100س ,ومن بعدها يتحول الماء السائل الى الحالة الغازية متمثلة في بخار الماء..بمعنى,أننا عندما نبدأ بتسخين درجة حرارة الماء,ستبدأ الحرارة بالارتفاع تدريجيا من درجة حرارة الماء الطبيعية (23مثلا)الى 100(حرارة الغليان) ولا تصل ل 100 مباشرة بقفزة واحدة... الارتفاع التدريجي بدرجات حرارة الماء هو تغير(كمي)وعندما تصل درجة حرارة الماء 100 مئوية يبدأ الماء بالتبخر والتحول (الكيفي او النوعي)في خصائص الماء,من حالة سائلة الى حالة غازية. في حركة المجتمع:يكون التغيرالنوعي على شكلين اساسيين.. الشكل الاول:هو التطور الطبيعي للمجتمع بدون تدخل عوامل خارجية,بعد ان يكون التراكم الكمي قد وصل ذروته وتبدأ عملية التطور النوعي. اما الشكل الثاني:وهو تدخل عوامل خارجية في عملية التراكم والتطور,وهي عملية تسريع للتراكم الذي سيصل بدوره أيضا لذروته,منشئا الظاهرة الجديدة على القديمة. يظاتي في هذا السياق هنا موضوع استسي يهمنا كماركسيين في موضوعة الثورة والتغير النوعي عندما يص التراكم الكمي في التناقضات التناحرية بين علاقات الانتاج الموجودة والقوى الانتاجية الى حدها الاقصى,وتحولها الثوري النوعي التي تفرضه على المجتمع. مثال؟بالرجوع ال الثورة الفرنسية الكبرى(البرجوازية)التي أقرت فيهما الحريات وخرج الحكم من يد الكمية المطلقة,نجد أن التراكم الكمي للتناقضات التناحرية بين الاقطاعيين من جهة وبين عامة الشعب المستعبدة في اراضي الاقطاعيين,وعوامل القهر والظلم ومحاكم التفتيش الدينية,وصراعات الاقطاعيين وحروبهم,والجوع والبطالة,كلها عوامل ادى تراكمها الى غليان الشعب والدفع بثورته الى حدها الاقصى,قالبة موازين العالم..إذ تعتبر الثورة الفرنسية جزء هام ورئيسي من مفاصل التغيير من مرحلة الاقطاع واكميات المستبدة الى مرحلة الرأس مالية والدولة القومية,ومن ثم الحديثة,وكذلك الحريات الفردية في الفكر الرأسمالي. وهنا,نحن نراهن على هذه التراكمات الكمية في تناقضات علاقات الانتاج التي ستؤدي الى التغير النوعي,من المجتمع الرأسمالي الى المجتمع الاشتراكي. وما الثوري,والحزب الطليعي,ونضاله,الا عامل مهم وضروري في هذا التغير. نأتي بمثال اخر,مر بنا خلال الايام الماضية: وهو ما حدث في العالم الاسلامي من تظاهرات واحتجاجات ضد الرسوم الكاريكاتورية التي نشرتها احدى الصحف الدنماركية..كتحليل أولي-قد يشوبه بعض النقص والدقة لحداثة الظاهرة- -(ظاهرة غليان الشارع العربي)وحملات مقاطعة والاحتجاجات الشعبية الزخمة.. في الحقيقة,لم تكن الظاهرة مفاجأة,أو انه جاء نتيجة للصور بشكل مطلق..بل هي نتاج(تراكم)عدة عوامل(فلسطين العراق,سوريا,غوانتنامو,محور الشر,الحرب على الارهاب-وصورة المسلم الارهابي-)كل ذلك ساهم في تأجيج مشاعر الغضب,ومع الاستفادة من العوامل السياسية التي رافقت الحدث,قلبت هذا التراكم الكمي في عوامل الغضب والشعور بالاضطهاد والظلم من قبل الدول الكبرى(الغربية)الى تغيير (كيفي).(التظاهرات وحرق السفارات وحملات المقاطعة تحديدا,والتي لم تشهد له مثيل بنفس الدرجة من الاصرار والتوحد في موقف واحد). وخاطئ بأن الموقف هما سببه الوحيد هو نشر الصور,هو كان(كالشعرة التي قضمت ظهر البعير)فقط لا غير. ربما الن يأتي دور مثال مهم في القضية الفلسطينية: الانتفاضة,كما هو معروف بدأت زيارة رئيس المعارضة حينها-شارون-للمسجد الاقصى بالقدس,هنا,نجد نجد أن كثيرا من الناس يعتقدون ان هذا هو السبب في انتفاضة الشعب الفلسطيني آنذاك,هذا خطأ أيضا,ومن يقول بذلك يعتمد مرة اخرى على تفسير عاطفي لا معنى له,وفاقد لأي تحليل علمي.. عاشت الاراضي الفلسطينية منذ اندلاع الانتفاضة سنوات الحكم الذاتي لفترة اقتربت من العشر سنوات,اكتشف المواطن الفلسطيني البسيط وهم العملية السلمية التي عقدتها القيادة المنفذة بمنظمة التحرير مع الكيان الصهيوني,تراجع الوضع الاقتصادي,نهب اموال الشعب على أيدي سلطة الحكم الذاتي,اغلاق المعابر لاسابيع وشهور الذي منع مئات الالاف من العمال من مزاولة اعمالهم داخل الخط الاخضر..بإختصار عانى الفلسطينيون من احباط تام بعد أن اكتشفوا أن كل الوعود المريبة بإنتعاش الاقتصاد والدولة الفلسطينية والاستقلال قد بات كذبة. هنا جاءت زيارة شارون للمسجد الاقصى نقطة التحول الكيفي في الصراع,مثلها مثل الدرجة100 عند تحول الماء من سائل الى غاز..ومثلها مثل الثورة الفرنسية الكبرى عام 1789 التي كانت أعقاب حرب فاشلة بين فرنسا وبريطانيا عام 1788,سبقها تراكم كمي كما اسلفنا بموسم حصاد سيء,وبطالة متفاقمة,واسعار عالية,وخاصة اسعرا الخبز,واجور منخفضة,وانفاق باذج من ناحية اخرى في القطاعات في القطاعات العسكرية والبلاط الملكي للويس السادس عشر..وأيضا أمثلة نقاط التحول العيني مع الأخذ بعين الاعتبار اغلتراكمات الكمية في سياقها التاريخي:كوموفة باريس الشهيرة,مترافقة مع إخفاق العسكرية الفرنسية في حربها مع بروسيا عامي1870-1871 ,وصراعات الحركة العمالية مع رأسالمال,الثورة البلشفية عام 1917,واستبداد النظام القيصري مثلها مثل انطلاق اليسار الثوري الفلسطيني وتحوله من حركة القوميين العرب الى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين كنتيجة مباشرة لهزيمة الانظمة القومية في حربها ضد الكيان الصهيوني. المهم تشخيص التناقضات التي تؤدي التي تؤدي الى للتحولات,وقراءة ملموسة ومستوى التحولات..فلا يعني أن يخطئ المرء خطأ صغيرا فيصاد لتشخيصه بأنه مجرم ومرذول,أو أن يفشل طالب مجتهد في إمتحان فيصبح غليظ الدماغ وكسول..أو أن يخسر الحساب الاقتصادي لمشروع كدليل على أنه لا يلائم السوق وأن ادارته فاشلة تماما..او أن حركية ثورية أخفقت في موقف بأنها أصبحت رجعية وقد تجاوزها التاريخ..الخ واكبر تحد هو قراءة ملموسية ودرجة التحول. وأخيرا:علينا فهم أن الثوري والانسان حامل الفكر الماركسي هو مؤمن بهذة الجدلية,ويدرك حركة الواقع على انها تجمع بالضرورة بين التحولات الكمية والتحولات الكيفية فيوجد بينهما في نشاطه العملي النضالي ، وهو الوحيد الذي يدرك انه يجب النضال للحصول على التضوط النوعي ، وانه يجب القيام بهذا النضال لانه يعلم ان الثورة متصلة بالتطور ، وهنا بيت القصيد .. ثالثا : قانون نفي النفي ان جوهر التطور - كما ذكرنا - نابع من قانون وحدة وصراع الاضداد ... ان التطور هو صراع الاضداد بينما مضمون القانون الثاني حيث ان صراع الاضداد وهي في حالة الوحدة يؤدي لتغيرات كمية مع استمرار الحالة المهيمنة طالما الى ان تتراكم هذه التغيرات الكمية لتبلغ حد المعيار اللازم لحدوث التغير النوعي ، وان هذا التغير النوعي الناجم عن بلوغ التغيرات الكمية المتراكمة لحد المعيار يحدث على شكل طفرة مفاجئة ، لكن ما لم يتوضح معنا حتى الان هو كيف يكون شكل النتيجة ؟ اي كيف يكون شكل الظاهرة او المادة بعد حدوث التغير النوعي ... كيف يتحدد هذا الشكل ؟ ان التطور كحركة ليس حركة صاعدة رأسيا بشكل خطي هذا يجعل قراءة النماذج التطورية مسألة معقدة ، وهو تماما ما كان يجعل القدرة على قراءة التطور نفسه مسألة غير ممكنة ، لان هذا التطور لا يأخذ شكل الحتميات المتسلسلة البسيطة بل المعقدة التركيب ... فانجاز كل خطوة نحو الامام يتخلله احيانا كثيرة جزئية معاكسة لا تجعل النمط المدروس قابل للخضوع لرؤية تطورية حتمية ومتسلسلة وبسيطة . ان الاضداد التي هي محتوى الظاهرة تتواجد داخل الظاهرة بشكل معين .. ان الظاهرة هي الشكل الذي تتوضح فيها الاضداد يكيفية معينة .. ما معنى هذا ؟ معناه ان هذه الكيفية التي تتواجد فيها الاضداد معا هي التي تحدد شكل الظاهرة ، لننتبه " الكيفية " التي تتزاجد فيها الاضداد معا ، نظريا نقول اذا ما يلي : الظاهرة : هي مجموعة اضداد تتواجد معا بشكل معين يعطي الظاهرة معناها . المدرسة هي عبارة عن مبان مقسمة لصفوف وادارة ، فيها مواد تعليمية وتلاميذ وكنتين ومدرسين ولها مواعيد عمل ومواقيت للحصص ... الخ هذه العناصر معا تتركب لتكون ظاهرة هي المدرسة . ماذا لو تغير تركيب مضمون الاضداد للظاهرة اي ظاهرة ؟؟ انها اشبه باحجيات تراكيب الجزيئات الكيميائية H2O جزيء ماء لكنه ليس H3O ولا HO وهو ايضا H2+O ولا H+H+O جزيء الماء تماما هو H2O . قد نسأل وهنا يجب ان نسأل كيف ولماذا يتغير ما دام تركيب الظاهرة ثابت ؟ سؤال منطقي وفي مكانه ... هي الظاهرة الجزئية بدورها هي اضداد ايضا في تركيب ظواهر اكبر ، فجزيء الماء مثلا يدخل في كل شيء تقريبا ما من ظاهرة في جسم الانسان للماء ... الخ الا وتجد فيها جزيء الماء . الوجود كله هو اكبر ظاهرة ، ثم نستطيع ان نواصل تتبع سلاسل الظواهر بدون توقف ، لكن ما نلحظه من دراستنا لهذه الظاهرة كليا وجزئيا انها ليست ثابتة ، ليست في حالة سكون ، هذا ما هدا الانسان لتتبع القوانين واشتقاقها لانه يريد فهم حركة وصيرورة المادة . لقد فهم الانسان اذا ان الظواهر الاصل فيها ان لا سكون الحركة الدائمة ثم اكتشف ان هذه الحركة الدائمة ليست اعتباطا بل هي نتاج صراع داخلي لاضداد ، فبدا عملية اكتشاف قوانين هذا الصراع على مستويات المادة المختلفة . النتيجة : تركم المعارف الانسانية، تراكم العلوم بالذات وعلى وجه الخصوص ، الا انه كان لدينا حصيلة علمية ضخمة من القوانين تفسر جزيئات الظواهر وضرورتها . اما في دراستة الظواهر الكلية للمجتمع والتاريخ بقية نظرية المعرفة تخضع لتفاسير الفلسفة او الدينية المنفصلة عن حركة العلوم . من هنا تنبع اهمية المادة الجدلية ، انها علمنة فهم الوجود وبالذات المجتمع وحركة التاريخ .لاحظنا قانون وحدة وصراع الاضداد ، قانون يعمل في كل الظواهر ، ان حركة الظواهر هذه لا تفسر الا بفهمنا لمكونات الظاهرة ، اي الاضداد الداخلية في التركيب ، ومن ثم فهمنا الجيد للكيفية التي تتركب فيها الظواهر لتكون الظاهرة في هذا الشكل وبالتالي نستطيع ان نحدد التغيرات الكمية ومن ملاحظتنا ، لان هذه التغيرات الكمية تتراكم تبعا لقوة الصراع وطبيعة الظاهرة عرفنا بانها تنتج تحول كيفي – نوعي – عند حد معين اي ان الظاهرة كلها تأخذ شكلا جديدا تماما تعود الاضداد لتتركب فيها بكيفيات جديدة ، وبالتالي فالظاهرة تأخذ شكلا جديدا ، فالغاز ليس هو الماء ، الماء ليس هو الجليد . تبقى اذا حركة تطور الظاهرة ،ما المقصود بحركة تطور الظاهرة ؟؟ هذا ما يبين عنه قانون نفي النفي . لنعود الى هذا القانون : قانون نفي النفي . يفيدنا قانون نفي النفي اولا بان حركة التطور ليست حركة خطية بل حركة لولبية وان كانت هذه الحركة اللولبية لها محور رأسي يتجه للامام واعلى دوما في سلم التطور ان تصور حركة التطور الصحيح ليس كحركة خطية وانما كحركة لولبية حيث الظاهرة في حركتها تعود الى النقطة التي انطلقت منها لكن في مستوى اعلى . من اين ياتي القول بالحركة اللولبية للتطور الظاهري ؟؟ انحركة التطور هي عبارة عن سلسلة تناقضات ، حيث يتم تجاوز المراحل الى مراحل جديدة ، لكن المراحل مثل الحلقات تتداخل ، ان فصل كل حلقة على حدا مسألة شبه مستحيلة . ان باستطاعتنا تمييز الحلقة من خلال ذلك التركيب الذي تهيمن عليه تشكيلة معينة ، لكننا لا نستطيع الزعم ان الحلقة مستقلة تماما لا عن الحلقة التي تسبقها في السلسلة ولا عن الحلقة التي تليها ، مع ذلك هذا لا يمنع انها هي حلقة لوحدها . اننا لو ركزنا انتباهنا على احدى الحلقات نجدها متتداخلة مع حلقة سابقة وحلقة لا حقة ، هذا تماما هو شكل الظاهرة وهي تحوي في رحمها نقائضها ، من الصعب ان يتضح هذا امامنا ، اذا لو اردنا القياس على مثال عملي اجتماعي ، اخذنا اي تشكيلة اجتماعية اقتصادية ، كالاقطاع مثلا في الحالة الاقطاعية النموذج السائد في الظاهرة الاجتماعية هو نموذج الانتاج الاقطاعي ، طبقة ارستقراطية صغيرة مالكة للارض الزراعية التي هي عصب عملية الانتاج : مزارعين اقنان ، يمثلون الاغلبية ، لكن هناك ايضا عبيد من مخلفات مرحلة اسبق ، وهناك نشاط تجاري يتبرعم ، وبداية لصناعة المنيفاكتورا ، لكن هذا لا يمنع ان الوصف الذي ينطبق على التشكيلة هو انها (الاقطاع ) لان هذا هو النمط المهيمن على التشكيلة . ان الانتقال الذي يتم من مرحلة الى اخرى هو عملية نفي للمرحلة السابقة ، لكنه نفي ديالكتيكي ( نفي جدلي ) : ان ظاهرة التحول من نمط الانتاج الاقطاعي لنمط الانتاج الرأسمالي هي عملية نفي ديالكتيكي ، لان التغيرات التي راحت تتكرس ببروز النمط التجاري وتراكم الرأسمال التجاري وبداية الصناعة ، راح يحول معه النمط تدريجيا لصالح الانتاج الرأسمالي ضد النمط الانتاجي الاقطاعي : انه وهو يهيمن – اي نمط الرأسمالي – يقوم بعملية نفي للنمط السابق وهو الاقطاعي . وما ان يدخل المجتمع النمط الراسمالي حتى يتحول شكل الظاهرة التي هي التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية هنا ويسود الشكل الانتاجي الرأسمالي ، الا ان هذا لا يمنع ان نجد على ضفافه نمط انتاج اقطاعي هو من مخلفات اسلوب الانتاج السابق ، لكنه لا يمثل ظاهرة مهيمنة . لماذا نقول نفي جدلي ؟؟ نقول نفي جدلي لان الحالة المهيمنة السابقة تتحول تالى ضد سلبي في شكل الظاهرة الجديد ، والضد الايجابي في الظاهرة السابقة ، صار حالة مهيمنة وولد ضد ايجابي جديد من رحم شكل الظاهرة الجديدة . لنحاول تطبيق ذلك على النمط الذي اخترناه . حسب المخطط ( أ-) اقطاع (ب)- رأسمالية (جـ) - شيوعية كل منها يحتوي ( لو اردنا تبسيط الاضداد ) : 1 – ضد سلبي 2- حالة مهيمنة 3- ضد ايجابي الحلقات كما في الترتيب السابق من خلال النقائض التي في داخلها : أ – (1) شكل انتاجي عبودي (2) طبقة ارستقراطية تملك الارض الزراعية المنتجة (3) ولادة الصناعة ب – (1) بقايا طبقة ارستقراطية تملك مساحات ارض واسعة (2) طبقة برجوازية تملك رأس المال الصناعي المنتج الرئيسي (3) خميرة ثورية بروليتاريا ونقابات مناضلة . ج _ (2) الملكية العامة لوسائل الانتاج . لاحظ التحولات التي تحدث بالانتقال من حركة لاخرى ، كلما كان التوجه تطوريا من حلقة لاخرى خرج النقيض السلبي الذي يشد للخلف اي يختفي من الوجود تماما ، الحالة المهيمنة في الحلقة الاولى تصبح ضد سلبي في الثانية ، والضد الايجابي في الحلقة الاولى يصبح حالة مهيمنة في الحلقة الثانية ومن طبيعته هوينتج ضده الايجابي ، وهكذا دواليك . هذا طبعا تبسيط شديد للمسألة لكنه يعطي تصورا اوليا . يركز انجلز على قانون نفي النفي في رده على روهنج من خلال الامثلة الطبيعية ربما من اوضحها ما سرده في عالم الحشرات عن الفراش : ان عملية خروج الشرنقة من البويضة هي عملية نفي لمرحلة البويضة ثم تبدأ مرحلة تراكم كلي جديدة الى ان تنضج الفراشة جنسيا وتصبح مؤهلة للتزاوج فيتم التزاوج لتضع البيض وتموت نافية النفي . وهكذا فعملية التطور هي سلسلة لا متناهية من نفي النفي ، الذي ليس رجوعا للوراء وانما نفي ايجابي ، لان اتجاه المحصلة له دوما للامام واعلى اي اتجاه تطوري.
نص ماركسي: ألف باء الشيوعية بوخارين بريوبراجنسكي
فهرس إهداء 3 الفصل الأول: النظام الرأسمالي 4 الفصل الثاني: تطور النظام الرأسمالي 15 الفصل الثالث: الشيوعية وديكتاتورية البروليتاريا 25 الفصل الرابع: تطور الرأسمالية يؤدي إلى الثورة الشيوعية (الإمبريالية، الحرب، وانهيار الرأسمالية) 34 الفصل الخامس: الأمميتان الأولى والثانية 52 الإهداء إلى التجسيد الأمثل لعظمة وحيوية البروليتاريا، إلى ممثل بطولتها ووعيها الطبقي الحاسم، وحقدها القاتل على الرأسمالية واندفاعها الرائع نحو بناء مجتمع جديد –إلى الحزب الشيوعي العظيم نهدي هذا الكتاب. نهدي الكتاب إلى الحزب الذي يقود جيشا من مليون رجل، الذي يقبع في الخنادق، ويدير المناطق الشاسعة وينقل الحطب في «السبوت الشيوعية» ويمهد ليوم انبعاث البشرية. نهديه أيضا إلى قدماء الحزب الذين تصلبوا في المعارك والانتصارات، وإلى أعضائه الجدد الذين سيواصلون عملنا حتى نهايته. إلى مقاتلي الحزب وشهدائه، إلى الذين قضوا في غياهب السجون، إلى الذين ماتوا تحت التعذيب، والذين شتتهم وأعدمهم أعداؤنا بينما كانوا ينفذون عملهم الحزبي، نهدي هذا الكتاب. بوخارين و بريوبراجنسكي الفصل الأول: النظام الرأسمالي الاقتصاد السلعي إذا درسنا الحياة الاقتصادية في ظل الرأسمالي، نجد أن أول صفة من صفاتها هي إنتاج السلع. قد يسأل القارئ: «حسنا. ولكن ما أهمية ذلك؟». الأهمية في الأمر أن السلعة ليست مجرد منتوج. السلعة شيء جرى إنتاجه من أجل السوق. المنتوج الذي ينتجه المنتج لنفسه، لاستعماله الخاص، ليس سلعة. الفلاح يبذر ويحصد الموسم ويدرسه ثم يطحن الحبوب ويخبز الخبز لنفسه. هذا الخبز ليس سلعة. إنه مجرد خبز. وهو يصبح سلعة فقط عندما يباع ويشترى. أي عندما يجري إنتاجه من أجل المشتري. من أجل السوق. والذي يشتريه يملكه. كل المنتجات في ظل الرأسمالية يجري إنتاجها من أجل السوق. أي أنها جميعا سلع. كل مشغل أو مصنع ينتج في العادة منتوجا واحدا فقط. لذا يسهل علينا أن نفهم لماذا المنتج لا ينتج المنتجات من أجل استعماله الخاص. صاحب معمل التوابيت يصنع التوابيت في معمله. وطبيعي أنه لا يصنعها لنفسه أو لأسرته وإنما للسوق. ومثله صاحب معمل زيت الخروع. فحتى لو كان هذا الرجل يعاني باستمرار من اضطرابات في المعدة، فإنه لن يستعمل لسد حاجته الخاصة أكثر من كمية تافهة من زيت الخروع الذي ينتجه معمله. وما نقوله هنا يصح –في ظل الرأسمالية- على أية سلعة تخطر بالبال. معمل الأزرار يصنع الأزرار. لكن ملايين الأزرار لا تصنع لكي تخيَّط على بذلة صاحب المعمل. إنها تصنع برسم البيع. وكل ما يصنع في ظل النظام الرأسمالي يصنع من أجل السوق. ويصب في هذه السوق النقانق والقفازات والكتب ودهان الأحذية والآلات والويسكي والخبز والأحذية والأسلحة الخفيفة –باختصار، تصب في هذه السوق كل المصنوعات. الاقتصاد السوقي يفترض بالضرورة وجود الملكية الفردية. الحرفي المستقل الذي ينتج السلع، يملك محترفه وأدواته. صاحب المعمل أو المشغل يملك المعمل أو المشغل ببنائه وآلاته. وحيث تسود الملكية الفردية والإنتاج السلعي، يسود النزاع على المشترين أو المنافسة بين الباعة. وحتى قبل ظهور أصحاب المعامل والمحترفات والرأسماليين الكبار، عندما لم يكن يوجد غير الحرفيين المستقلين، كان هؤلاء الحرفيون يتنازعون فيما بينهم على كسب المشترين. وكان الأقوى والأذكى والأكثر طمعا والذي يملك أفضل الأدوات، وخاصة الذي ينجح في تخزين المال، هو دائما الذي يبلغ هدفه ويجتذب الزبائن ويدفع منافسيه نحو الإفلاس. لهذا نقول أن نظام الملكية الصغيرة، والاقتصاد السلعي القائم على هذه الملكية الصغيرة، كان يشتمل على بذور الملكية الكبيرة وينبئ بانهيار العديد من المنتجين الصغار. الصفة الرئيسية للنظام الرأسمالي هي الاقتصاد السلعي. والاقتصاد السلعي هو اقتصاد ينتج من أجل السوق. احتكار الطبقة الرأسمالية لوسائل الإنتاج إن الاقتصاد السلعي لا يكفي لوحده لوجود النظام الرأسمالي. فقد يوجد الاقتصاد السلعي دون أن يوجد الرأسماليون. ومثال على ذلك الاقتصاد الحرفي حيث المنتجون الوحيدون هم الحرفيون المستقلون. هؤلاء ينتجون من أجل السوق ويبيعون منتجاتهم. ومنتجاتهم –بلا شك- سلع، وإنتاجهم إنتاج سلعي. ولكن هذا الإنتاج ليس إنتاجا رأسماليا. إنه ليس أكثر من إنتاج سلعي بسيط. ولكي يتحول الاقتصاد السلعي البسيط إلى إنتاج رأسمالي، يجب أن يتوفران شرطان: 1- يجب أن تصبح وسائل الإنتاج (الأدوات، الآلات، الأبنية، الأراضي، الخ.) ملكا فرديا بيد طبقة محدودة نسبيا من الرأسماليين الأغنياء، 2- يجب أن يؤدي ذلك إلى انهيار وإفلاس معظم الحرفين المستقلين والفلاحين وتحولهم إلى عمال مأجورين. قلنا أن الاقتصاد السلعي يؤدي إلى إفقار البعض كما يسمح بإغناء البعض الآخر. وهذا ما حصل فعلا. لقد انهار معظم الحرفيين المستقلين والمعلمين الصغار في كل البلدان على حد سواء، واضطر أفقرهم حالا إلى بيع أدواتهم وتحولوا من «معلمين» إلى مجرد «بشر» لا يملكون غير قوة سواعدهم. أما الأغنياء، فازدادت ثرواتهم، فأعادوا بناء مشاغلهم ووسعوها وادخلوا الآلات الجديدة إليها وبدأوا يستخدمون المزيد من العاملين. أي أنهم تحولوا إلى أصحاب معامل إلى أرباب عمل. ومع مرور الزمن، انتقل إلى أيدي الأغنياء كل ما هو ضروري للإنتاج: أبنية المصانع، الآلات، المواد الأولية، المستودعات، المساكن، المشاغل، المناجم، سكك الحديدية، السفن التجارية، الأراضي –باختصار، كل وسائل الإنتاج. وصارت وسائل الإنتاج هذه كلها ملكية خاصة للطبقة الرأسمالية، صارت «احتكارا» للطبقة الرأسمالية، كما يقال. عدد قليل من الأغنياء يملكون كل شيء. وجماهير الفقراء الواسعة لا تملك شيئا سوى سواعدها. الصفة الرئيسية الثانية من صفات النظام الرأسمالي، إذن، هي احتكار الطبقة الرأسمالية لوسائل الإنتاج. العمل المأجور الأعداد الكبيرة من البشر الذين حرموا من كل ملكية، تحولوا إلى عمال مأجورين لرأس المال. هل كان الفلاح أو الحرفي المفقر يملك مخرجا آخر؟ لا. فإما أن يخدم كعامل زراعي عند مالك الأرض الرأسمالي وإما أن ينزل إلى المدينة ويبحث عن عمل في مشغل أو مصنع. لم يكن له من مخرج آخر. هذا هو أصل العمل المأجور. والعمل المأجور هو الصفة الثالثة من صفات النظام الرأسمالي. ما هو العمل المأجور؟ في الماضي البعيد، كان يوجد العبيد والأقنان. وكان يمكن شراء وبيع أي قن أو عبد. وكان الأسياد يملكون، كملكية شخصية، بشرا لهم جلد وشعر وسواعد وأرجل. والسيد يجلد أقنانه حتى الموت في الاصطبل بكل بساطة، تماما كما يحطم كرسيا وهو تحت تأثير الشراب. وكان القن أو العبد يعتبر من الأملاك المنقولة. عند الرومان، كانت ملكية السيد –أي كل الأشياء الضرورية للإنتاج- تقسم إلى ثلاثة أقسام: «الأدوات البكماء» (الأشياء) و«الأدوات شبه الناطقة» (أي الدواب والماشية من غنم وبقر وثيران، الخ). باختصار الحيوانات غير الناطقة) و«الأدوات الناطقة» (أي العبيد، البشر). المجرفة والثور والعبد، عند السيد، كلها أدوات متساوية، يبيعها ويشتريها ويسيء استعمالها أو يحطمها حسبما يشاء. العامل المأجور لا يمكن شراؤه أو بيعه. يمكن شراء وبيع قوة عمل العامل المأجور. ولكن لا يمكن شراء وبيع الرجل نفسه أو المرأة. يمكن شراء وبيع قدرة هذا وتلك على العمل. العامل المأجور حر بشخصه. ولا يستطيع صاحب المعمل أن يجلده في الاصطبل أو بيعه لجاره أو يبادله لقاء جرو وكلب، وهذه أمور كانت تحدث كلها أيام القنانة. العامل المأجور يمكن استئجاره فقط. وهو، من حيث الشكل، متساو مع الرأسمالي. ويقول له صاحب المعمل: «لا تعمل إذا كنت لا تريد العمل. لا أحد يجبرك على العمل». هذا يعني أن رب العمل يمنن العامل بأنه يطعمه وبأنه يجد له عملا. الحقيقة أن العامل المأجور والرأسمالي ليسا متساويين على الإطلاق. العمال عبيد للجوع. الجوع يجبرهم على أن يؤجروا أنفسهم. والجوع يجبرهم على أن يبيعوا قوة عملهم. ولا يوجد حل آخر بالنسبة لهم. لا يوجد خيار آخر. العامل لا يستطيع إنتاج «منتوحه» اعتمادا على قوة ساعديه وحدها. وهل يوجد من يستطيع أن يصهر الحديد وأن يغزل ويحيك ويبني القاطرات دون الاستعانة بالأدوات والآلات؟ وبعد، فالأرض ذاتها مملوكة فرديا. ولا توجد قطعة أرض واحدة لا يملكها أحد، ما دامت صالحة لأن يقام عليها مشروع ما. حرية العامل في بيع قوة عمله، حرية الرأسمالي في شرائها، والمساواة بين الرأسمالي والعامل المأجور. لا هذه حرية ولا تلك مساواة. إنها سلاسل الجوع التي تجبر العامل على العمل من أجل الرأسمالي. جوهر العمل المأجور هو بيع قوة العمل، أي تحويل قوة العمل إلى سلعة. أيام الاقتصاد السلعي البسيط، كنت تجد في السوق الحليب والخبز والنسيج والأحذية وغيرها. لكنك ما كنت تجد قوة العمل. قوة العمل ما كانت برسم البيع. كان مالك قوة العمل، الحرفي المستقل، يملك بيته الصغير وأدواته بالإضافة لقوة عمله. وكان يعمل لحسابه الخاص، ويدير مؤسسته بنفسه، ويبذل قوة عمله لأجل هذا الغرض. الأمر يختلف كليا في ظل الرأسمالية. العامل ما عاد يملك وسائل الإنتاج. وهو لا يستطيع استخدام قوة عمله لإدارة مؤسسته الخاصة. مفروض عليه أن يبيع قوة عمله للرأسمالي إذا أراد أن لا يموت من الجوع. لهذا السبب، تجد إلى جانب الأسواق التي تبيع القطن والجبنة والآلات أسواق العمل حيث البروليتاريون –أي العمال المأجورون- يبيعون قوة عملهم. الفارق بين الاقتصاد الرأسمالي والاقتصاد السوقي البسيط هو أن قوة العمل نفسها تتحول إلى سلعة في الاقتصاد الرأسمالي. والصفة الثالثة للنظام الرأسمالي هي وجود العمل المأجور. ظروف الإنتاج في ظل الرأسمالية النظام الرأسمالي له ثلاث صفات: الإنتاج الموجه للسوق (الإنتاج السلعي)، احتكار الطبقة الرأسمالية لوسائل الإنتاج، والعمل المأجور، أي العمل القائم على بيع قوة العمل. هذه الصفات تثير السؤال التالي: ما هي العلاقات بين الأفراد العاملين في الإنتاج والتوزيع؟ عندما نقول «إنتاج سلعي» و«إنتاج من أجل السوق»، ماذا نعني؟ نعني أن الأفراد يعملون بعضهم لبعض، ولكن كل واحد منهم ينتج للسوق في مؤسسته دون أن يعلم سلفا من هو الذي سيشتري سلعه. لنفترض انه يوجد حرفي يدعى عباس وفلاح يدعى يوسف. عباس الحرفي صانع أحذية. يحمل الأحذية إلى السوق ويبيعها ليوسف. وبواسطة المال الذي يتقاضاه من يوسف، يشتري عباس من يوسف نفسه كمية من الخبز. عندما ذهب عباس إلى السوق لم يكن يعمل أنه سيلتقي بيوسف. فكل منهما ذهب بكل بساطة إلى السوق. وعندما اشترى عباس الخبز، واشترى يوسف الحذاء، كانت النتيجة أن عباس يعمل من أجل يوسف ويوسف يعمل من أجل عباس. ولكن دون أن يتضح الأمر لهذا أو ذاك فورا. فالضجة في السوق تنسى البشر أنهم في الواقع يعملون واحدهم للآخر وأنه لا يستطيع أن يعيش بدونه. في ظل الاقتصاد السلعي، يعمل البشر واحدهم للآخر، ولكن بطريقة فوضوية، ويبقى كل منهم معزولا عن أخيه لا يدري مبلغ حاجته إليه. الأفراد –في ظل الإنتاج السلعي- تربطهم بعضهم ببعض علاقات متبادلة هي التي تهمنا الآن. الواقع أنه عندما نتحدث عن «احتكار وسائل الإنتاج» أو عن «العمل المأجور»، فإننا نتحدث عن العلاقات بين الأفراد. ما معنى «احتكار»؟ الاحتكار يعني أن أشخاصا يعملون ويستخدمون في عملهم وسائل إنتاج تعود ملكيتها لغيرهم. الاحتكار يعني أن العمال خاضعون للذين يملكون وسائل الإنتاج، أي أنهم خاضعون للرأسماليين. بعبارة أخرى، ما زلنا هنا نعالج السؤال التالي: ما هي العلاقات المتبادلة بين الأفراد عندما ينتجون السلع؟ والعلاقات المتبادلة بين الأفراد خلال عملية الإنتاج تسمى علاقات الإنتاج. علاقات الإنتاج تغيرت مع الزمن. في الماضي البعيد، عندما كان البشر يعيشون في تجمعات صغيرة، كانت العلاقات الرفاقية الودية سائدة بينهم (صيد، قنص، قطف، ثمار أو تقليع جذور) وكانوا يتقاسمون كل ما يجنوه. هذا نمط واحد من علاقات الإنتاج. أيام العبودية، كانت علاقات الإنتاج من نمط آخر. وفي ظل الرأسمالية، يسود نمط ثالث من علاقات الإنتاج. يوجد إذن عدة أنماط من علاقات الإنتاج. وتسمى أنماط علاقات الإنتاج هذه الأنظمة الاقتصادية في المجتمع أو أنماط الإنتاج. «علاقات الإنتاج الرأسمالي» أو «مجتمع من النمط الرأسمالي» أو «نمط الإنتاج الرأسمالي- كل هذه التسميات تعبر عن العلاقات بين الأفراد في اقتصاد سلعي يتصف باحتكار حفنة صغيرة من الرأسماليين لملكية وسائل الإنتاج كما يتصف باضطرار الطبقة العاملة إلى بيع قوة عملها. استغلال قوة العمل لماذا تحتاج الطبقة الرأسمالية إلى استئجار العمال؟ كلنا يعلم أن السبب ليس على الإطلاق لان أصحاب المعامل يريدون إطعام العمال الجياع، وإنما لأنهم يريدون جني الأرباح بواسطتهم. من أجل الربح، يبني صاحب المعمل معمله. من أجل الربح، يشغل العمال عنده. من أجل الربح، يبحث عن الأسواق التي تدفع لسلعه أعلى الأسعار. الربح هو محرك كل أعماله. هنا نكتشف صفة مثيرة من صفات المجتمع الرأسمالي. فهذا المجتمع لا ينتج الأشياء المفيدة والضرورية له، بل أن الطبقة الرأسمالية تجبر العمال على إنتاج السلع التي تأتي بأغلى الأسعار، السلع التي يجني الرأسماليون منها أكبر قدر من ممكن من الأرباح. المشروبات الروحية، مثلا، مادة مضرّة جدا بالصحة، يجب إنتاجها فقط لأغراض تقنية أو لاستخدامها في صنع الأدوية. لكن الرأسماليين ينتجون المشروبات الكحولية في طول العالم وعرضه بكل ما أوتوا من حماس وزخم. لماذا؟ لان إغراق الناس بالشرب تجارة رابحة. يجب أن نوضح الآن كيف يتكوّن الربح. ولهذا السبب، يجب أن ننظر إلى المسألة بالتفصيل. الرأسمالي يحصّل الربح على شكل مبلغ مالي عندما يبيع السلع التي أنتجها معمله. ما هو مبلغ المال الذي يحصل عليه من بيع سلعه؟ يتوقف هذا المبلغ على السعر. كيف يتحدد السعر؟ ولماذا تباع سلعة بسعر منخفض بينما تباع أخرى بسعر مرتفع؟ الجواب ليس صعبا. إذا دخلت الآلة إلى أحد فروع الإنتاج واستخدام العمل بطريقة مجدية (أي إذا كان العمل منتجا، كما يقال) ينخفض سعر السلعة. أما إذا كان الإنتاج صعبا وكمية السلع المصنوعة قليلة وإذا فشل صاحب العمل في استخدام العمل بنجاح، أي إذا لم يكن العمل منتجا بالدرجة المطلوبة، يرتفع سعر السلعة. إذا اضطر المجتمع إلى بذل ما يزيد عن المعدل من العمل لإنتاج سلعة معينة، يرتفع سعر هذه السلعة. أما إذا انخفض هذا المعدل، ينخفض سعر السلعة. لنفترض أن فاعلية الصناعة متوسطة، أي أن الآلات والأدوات ليست أفضل الآلات والأدوات الموجودة، ولا هي أسواها. هنا نسمي كمية العمل الاجتماعي الضرورية لإنتاج سلعة معينة قيمة تلك السلعة. إذن، السعر يتوقف على القيمة. والواقع أن السعر قد يزيد أو ينقص عن القيمة. ولكن يمكننا –توخيا للبساطة- أن نعتبره مساويا للقيمة. لنتذكر الآن ما قلناه سابقا عن العمال المأجورين. أن استخدام عامل يعني بيع سلعة معينة. وهذه السلعة اسمها «قوة العمل». عندما تصبح قوة العمل سلعة، ينطبق عليها ما ينطبق على السلع الأخرى. وعندما يستخدم الرأسمالي العامل، يدفع له سعر قوة عمله (أو فلنقل أنه يدفع له قيمة قوة عمله، توخيا البساطة هنا أيضا). ولكن كيف تتحدد هذه القيمة؟ قلنا أن الذي يحدد قيمة السلع –كل السلع- هو كمية العمل المبذولة لإنتاجها. هذا القول ذاته ينطبق على قوة العمل. ما الذي نعنيه بإنتاج قوة العمل؟ قطعا، لا يجري إنتاج قوة العمل في المصنع، مثلما يجري إنتاج دهان الأحذية والنسيج والآلات. كيف نفسِّر إذن إنتاج قوة العمل؟ لكي نفسرها، يكفي أن نلقي نظرة إلى الحياة اليومية في ظل الرأسمالية. ها هم العمال قد انتهوا من عملهم. إنهم منهكون. لقد استنفذوا كل نشاطهم، وهم لا يستطيعون بذل المزيد من العمل. قوة عملهم مستنفذة تقريبا. ماذا يحتاجون لكي يجددوا قوة عملهم؟ إنهم يحتاجون إلى الطعام والراحة والنوم، فتعود إليهم قوتهم. هكذا تتجدد قوة عملهم. وهذا يعني أن الطعام والكساء والسكن –باختصار، الحاجيات الضرورية التي يحتاجها العامل –تؤثر على إنتاج قوة عمله. ولكن لا يجوز أن ننسى العوامل الإضافية التي تدخل في إنتاج قوة العمل، كنفقات تدريب العمال عندما يكون المصنع بحاجة لعمال مهرة، على سبيل المثال. كل ما تستهلكه الطبقة العاملة لتستعيد قوة عملها له قيمة. ولهذا السبب، فقيمة قوة العمل = قيمة الحاجيات الاستهلاكية + نفقات التدريب والتأجيل. السلع المختلفة لها قيمة عمل مختلفة. وكل نوع من أنواع قوة العمل له قيمته الخاصة به. قيمة قوة عمل عامل الصف في المطبعة مختلفة عن قيمة قوة عمل العامل غير الماهر. ونعود إلى المصنع. الرأسمالي يشتري المواد الأولية والمحروقات والآلات والزيوت والضروريات الأخرى. ثم يشتري قوة العمل، أي يستخدم «اليد العاملة». وهو يدفع ثمن كل هذه المشتريات نقدا. ويبدأ الإنتاج. العمال يعملون. الدواليب تدور. المحروقات تحترق. الشحم يستهلك. أبنية المصنع تبلى. قوة العمل تستنفذ. نتيجة ذلك، ينتج المصنع سلعة جديدة. ولهذه السلعة قيمة كما لغيرها من السلع. فما هي قيمتها؟ أولا، امتصت هذه السلعة قيمة وسائل الإنتاج المستهلكة –المواد الأولية، المحروقات المستهلكة، الآلات البالية، وغيرها. قيمة كل هذه تحولت إلى قيمة السلعة نفسها. ثانيا، أضيف على قيمة السلعة قيمة أخرى هي عمل العمال. إذا كان عدد العمال 30 عاملا، وإذا صرفوا 30 ساعة عمل لإنتاج هذه السلعة، يكونون قد بذلوا ما مجموعه 900 ساعة عمل. ويكون مجمل قيمة المنتوج هو قيمة المواد المستخدمة في إنتاجه (ولنفترض أن قيمتها تساوي 600 ساعة عمل) بالإضافة إلى القيمة الجديدة التي أضافها العمال للمنتوج بواسطة عملهم، وهي 900 ساعة. مجموع قيمة هذه السلعة إذن هو 600 + 900 = 1500 ساعة عمل. لكن، ما هو المبلغ الفعلي الذي دفعه الرأسمالي كثمن لهذه السلعة؟ لقد دفع كامل ثمن المواد الأولية، أي أنه دفع مبلغا من المال يساوي قيمة 600 ساعة عمل. ما الذي دفعه كثمن لقوة العمل؟ هل دفع قيمة الـ 900 ساعة كاملة؟ هنا مفتاح السر. لقد افترضنا أن الرأسمالي دفع كامل قيمة قوة العمل. إذا عمل 30 عاملا خلال 30 ساعة –أو خلال ثلاثة أيام على أساس 10 ساعات في اليوم- يكون صاحب المعمل قد دفع لهم المبلغ المطلوب لاستعادة قوة عملهم خلال تلك الأيام الثلاثة. ما هو هذا المبلغ؟ الجواب واضح: إنه أقل من 900. لماذا؟ لأن كمية العمل المطلوبة لتجديد قوة عمل العامل شيء، وكمية العمل التي يستطيع هذا العامل أن يبذلها شيء آخر. أستطيع أن أعمل 10 ساعات في اليوم. ولكن، لكي أحصل على حاجتي اليومية من الطعام والكساء وسواهما، فإن كل ما احتاجه من حاجيات تساوي قيمته الإجمالية 5 ساعات عمل. هذا يعني أنني أستطيع أن أقدم من العمل ما يزيد عما هو ضروري لتجديد قوة عملي. لنعد إلى المثال لذي انطلقنا منه. العمال يستهلكون من الطعام والكساء، وما شابه خلال ثلاثة أيام ما قيمته 450 ساعة عمل من الحاجيات. لكنهم يقدمون 900 ساعة عمل في المقابل. هكذا يبقى للرأسمالي 450 ساعة تشكل مصدر ربحه. والواقع أن السلعة كلفت الرأسمالي 600 + 450 = 1050 ساعة عمل. لكنه يبيعها لقاء قيمة قدرها 600+ 900 = 1500 ساعة عمل. الفارق بين الاثنين –أي 450 ساعة- هو فضل القيمة الذي أنتجته قوة العمل. هذا يعني أن يوم العمل ينقسم إلى نصفين، كل منهما من خمس ساعات. في النصف الأول، يعمل العمال للتعويض عما تلقوه من أجر. وفي النصف الآخر، يعملون للرأسمالي مجانا. لننظر الآن إلى المجتمع ككل. أن ما يفعله صاحب المصنع الفرد أو العامل الرفد لا يهمن كثيرا. الذي يهمنا هو كيف تعمل الآلة الضخمة المسماة المجتمع الرأسمالي. الطبقة الرأسمالية تستخدم الطبقة العاملة، الأكبر منها بكثير من حيث العدد. وفي ملايين المصانع والمناجم والمقالع وفي الغابات والحقول مئات الملايين من العمال يكدحون كالنمل. رأس المال يدفع لهم أجورهم، أي قيمة قوة عملهم التي يستعينون بها دائما لتجديد قوة عملهم من أجل الاستمرار في خدمة رأس المال. الطبقة العاملة تنتح أجورها من عملها. وبالإضافة لذلك فهي تخلق مدخول الطبقات العليا، تخلق فضل القيمة. ويتدفق فضل القيمة إلى جيوب طبقة الأسياد عبر ألف وسيلة ووسيلة. قسم يذهب للرأسمالي نفسه على شكل أرباح معملية، وقسم يذهب لمالك الأرض على شكل ريع عقاري. وقسم آخر يدخل خزائن الدولة الرأسمالية. أما الأقسام الأخرى، فتذهب للتجار والباعة وأصحاب الحوانيت، أو تنفق على الكنائس وفي المواخير ولإعالة الممثلين والفنانين والكتاب البرجوازيين. وعلى فضل القيمة الذي ينتجه العمال تعيش كل الحشرات الطفيلية التي يولدها النظام الرأسمالي. غير أن قسما من فضل القيمة يعاد توظيفه من قبل الرأسماليين، إذ يضيفونه إلى رأسمالهم، فينمو هذا ويتكاثر. وهكذا يوسعون مؤسساتهم ويستخدمون أعدادا إضافية من العمال، ويستجلبون آلات أفضل. والواقع أن زيادة عدد العمال تسمح بإنتاج كمية إضافية من فضل القيمة. وهكذا تتسع المؤسسات الرأسمالية وتتكاثر. ومع كل طلعة شمس، يتقدم رأس المال خطوة جديدة إلى أمام، ويراكم المزيد من فضل القيمة. ويتضخم رأس المال مع امتصاصه لفضل القيمة الذي تنتجه الطبقة العاملة –وهذا ما نسميه استغلال رأس المال للعمال. رأس المال نستطيع الآن أن نفهم بوضوح ما هو رأس المال. رأس المال قيمة قبل أن يكون أي شيء آخر. قد يكون مالا أو آلة أو موادا أولية أو أبنية صناعية أو سلعا مصنوعة. غير أن رأس المال قيمة تسمح بإنتاج قيمة جديدة، أي تسمح بإنتاج فضل القيمة. رأس المال قيمة تنتج فضل القيمة. والإنتاج الرأسمالي هو إنتاج فضل القيمة. في المجتمع الرأسمالي، تكون الآلات والأبنية الصناعة على شكل رأسمال. ولكن هل تكتسي الآلات والأبنية دائما شكل رأسمال؟ لا، بالتأكيد. إذا كان المجتمع بأسره مجتمعا تعاوليا ينتج كل شيء لنفسه، فلا تكون الآلات ولا المواد الأولية رأسمالا، نظرا لأنها ليست مستخدمة كوسائل لمراكمة الأرباح عند قبضة من الأغنياء. هذا يعني أن الآلات مثلا تصبح رأسمالا عندما تملكها الطبقة الرأسمالية كملكية فردية، عندما تستخدم لاستغلال العمل المأجور ولإنتاج فضل قيمة. أما الشكل الذي تتخذه القيمة هنا فليس مهما. فقد تتخذ القيمة شكل السبائك الذهبية أو العملة الورقية التي يشتري بواسطتها الرأسمالي وسائل الإنتاج وقوة العمل. أو قد تكون على شكل آلات يعمل عليها العمال، أو على شكل سلع انتهى صنعها وباتت برسم البيع. المهم أن هذه القيمة تتحول إلى رأسمال عندما تستخدم لإنتاج فضل قيمة. إن رأس المال تتحول مظاهره باستمرار. فلندرس كيف تتم هذه التحولات. الرأسمالي لم يشتر بعد قوة العمل ولا وسائل الإنتاج. لكنه متحفز لاستخدام العمال وشراء الآلات والحصول على أجود المواد الأولية وعلى كمية كافية من الفحم، إلى آخره. إنه لا يملك إلا المال. وهنا نجد رأس المال بشكله الحالي. يتجه الرأسمالي إلى السوق ومعه هذا المال (طبعا، إنه لا يذهب بنفسه إلى السوق لأنه يملك بتصرفه الهاتف والبرق ومئات الخدم). ويشتري في السوق وسائل الإنتاج وقوة العمل. ثم يعود الرأسمالي إلى المصنع وقد استبدل المال بالعمال والآلات والمواد الأولية والمحروقات. هذه الحاجيات لم تعد سلعا، لأنها لم تعد برسم البيع. فالمال قد تحول إلى وسائل إنتاج وإلى قوة عمل. وها أن رأس المال قد تخلى عن مظهره الحالي، واكتسى شكل رأس المال الصناعي. ثم يبدأ العمل. الآلات تتحرك. الدواليب تدور. الرافعات تطلع وتنزل. العمال يرشحون عرقا. الآلات تهتلك. المواد الأولية تنضب. قوة العمل تتعب. كل المواد الأولية بالإضافة إلى ما اهتلك من الآلات وإلى قوة العمل المبذولة تتحول تدريجيا إلى كمية من السلع. وبذلك يكتسي رأس المال شكلا جديدا. فينزع عن جسده قشرته المعملية ليرتدي شكله السلعي. وها نحن أمام رأس المال في شكله السلعي. ولكن مع اكتمال دورة الإنتاج، نجد أن رأس المال لم يغير قشرته وحسب: فقد ارتفعت قيمته أيضا. لأن عملية الإنتاج أضافت إليه فضل القيمة. الرأسمالي ينتج السلع ليس لاستهلاكه الخاص، وإنما السوق، للبيع. السلع التي تتكدس في مستودعاته يجب أن تباع. في البدء، ذهب الرأسمالي إلى السوق ليشتري. وها هو الآن يذهب إلى السوق ليبيع. في البدء، كان يحمل مالا وكان يريد شراء السلع (وسائل الإنتاج). وها هو الآن يملك سلعا ويريد تحويلها إلى مال. عندما تباع السلع، يتحول رأس المال مرة ثانية من شكله السلعي إلى شكله المالي. لكن كمية المال التي حصل عليها الرأسمالي تختلف عن كمية المال التي دفعها أصلا. الزيادة على المبلغ الأصلي تساوي مقدار فضل القيمة الذي تحتوي عليه السلع. إلا أن هذا لا ينهي دورة رأس المال. فرأس المال المتضخم هذا يبدأ دورة جديدة ويستحصل على كمية متزايدة من فضل القيمة. ثم يضاف قسم من فضل القيمة هذه إلى رأس المال ليبدأ دورة جديدة أخرى. إن رأس المال يتدحرج ككرة الثلج. ومع كل انقلاب، تضاف إليه كمية أكبر من فضل القيمة. ونتيجة ذلك فإن الإنتاج الرأسمالي يتسع باستمرار. وهكذا فإن رأس المال يمتص فضل القيمة من الطبقة العاملة ويبسط سيطرته أينما كان. وهذا النمو المتسارع يجد تفسيره في خصوصيات رأس المال. إن استغلال طبقة لأخرى أمر يحصل منذ أقدم العصور. لنأخذ على سبيل المثال الإقطاعي في ظل علاقات القنانة أو مالك العبيد في العصور الغابرة. كان الإقطاعيون والأسياد يعيشون على ظهر العبيد والأقنان. ولكن كل ما كان ينتجه العاملون كان يستهلكه الإقطاعيون والأسياد أنفسهم على شكل مأكول ومشروب ولباس أو يستهلكه خدمهم وحاشيتهم الكبيرة. في ذلك الحين، لم يكن يوجد إنتاج سلعي واسع. لم يكن يوجد سوق. ولو أن مالك الأرض أو مالك العبيد أجبر أقنانه وعبيده على إنتاج كميات واسعة من الخبز واللحم والسمك وما شابه، لكانت هذه فسدت وتعفنت. لذا كان الإنتاج يقتصر في ذلك الزمن على سد الحاجات الحيوانية لمالك الأرض وأفراد أسرته. الأمر مختلف كليا في ظل الرأسمالية. هنا الإنتاج لا يهدف إلى سد الحاجات المباشرة، وإنما يهدف إلى تحقيق الأرباح. تنتج السلعة، في ظل الرأسمالية، لبيعها، للكسب، لمراكمة الأرباح. وكلما ازدادت الأرباح، كلما كان ذلك أفضل. من هنا تجري الطبقة الرأسمالية كالمجنون وراء الربح. وجشعها لا حد له. الربح هو محور الإنتاج الرأسمالي. والربح هو الحافز الأول للإنتاج الرأسمالي. الدولة الرأسمالية المجتمع الرأسمالي مبني على استغلال العمل. الأقلية تملك كل شيء والجماهير الكادحة لا تملك شيئا. الرأسماليون يأمرون والعمال يطيعون. الرأسماليون يمارسون الاستغلال. العمال هم ضحية الاستغلال. وجوهر المجتمع الرأسمالي هو الاستغلال المتفاقم الذي لا يرحم. الإنتاج الرأسمالي أداة عملية لابتزاز فضل القيمة. لماذا استطاعت هذه الأداة أن تستمر في العمل طوال هذه المدة؟ لماذا يطيق العمال هذه الحالة؟ يبدو الجواب صعبا للوهلة الأولى. ولكن يوجد سببان لذلك بشكل عام. الأول لأن الطبقة الرأسمالية قوية ومتينة التنظيم. والثاني، لأن البرجوازية تسيطر عادة على عقول الطبقة العاملة. لتحقيق هذا الغرض فإن أفضل وسيلة تملكها البرجوازية هو كونها منظمة في الدولة. الدولة هي اتحاد الطبقة المسيطرة في كافة الأقطار الرأسمالية. خذوا أي بلد: بريطانيا، الولايات المتحدة، فرنسا، اليابان... تجدون أن الوزراء والموظفين الكبار وأعضاء المجالس النيابية هم رأسماليون وملاك أراضي وأصحاب مصانع، ومتمولون كبار أو أنهم الخدم الأوفياء لهؤلاء يتقاضون الأجور العالية على خدماتهم. وهؤلاء هم المحامون ومدراء المصارف والأساتذة وضباط الجيش والبطاركة والمطارنة ممن يخدم الرأسمالية ليس عن خوف وإنما عن اقتناع. الدولة هي اتحاد جميع هؤلاء الأفراد البرجوازيين الشامل للبلد ككل والمسيطر على كافة مرافقه. ولهذه المؤسسة البرجوازية هدفان رئيسيان. الهدف الأول والأهم هو قمع الاضطرابات والانتفاضات التي يقوم بها العمال. وذلك لتأمين نهب فضل القيمة من الطبقة العاملة وتعزيز قوة وسائل الإنتاج الرأسمالية دونما إزعاج. والهدف الثاني هو المنافسة مع اتحادات أخرى من نفس النوع، أي مع الدول البرجوازية الأخرى، من أجل السيطرة على حصة أكبر من فضل القيمة. الدولة الرأسمالية، إذن، هي اتحاد الطبقة المسيطرة الذي جرى تأسيسه لحماية الاستغلال. «مصالح رأس المال ولا شيء غير مصالح رأس المال» -ذلك هو الهدف الذي تسعى إليه كل نشاطات هذه الزمرة من اللصوص. الدولة الرأسمالية هي أكبر وأقوى المؤسسات البرجوازية. ولكنها في الوقت ذاته أكثر المؤسسات تعقيدا. إنها تضم عددا كبيرا من الفروع، ولهذه الفروع أذرع تتحرك في جميع الاتجاهات. وأول هدف لهذه المؤسسة هو حماية وتعزيز وتوسيع استغلال الطبقة العاملة. والدولة تستخدم ضد الطبقة العاملة نوعين من الإجراءات: العنف الخالص والقمع الفكري. وهذان هما أهم الوسائل بيد الطبقة الرأسمالية. أجهزة العنف الخالص: الجيش والشرطة والسجون والمحاكم، بالإضافة إلى الأجهزة الملحقة كالجواسيس والمخربين ومنظمي كسر الاضرابات العمالية والمجرمين المأجورين وما شابه. الجيش في الدولة الرأسمالية منظم بطريقة خاصة. يقبع على رأسها الضباط. وهم في الغالب من صفوف أرستقراطية الأرض أو البرجوازية الكبرى وبعضهم من المثقفين (الطبقات المهيمنة). هؤلاء الضباط هم ألد أعداء البروليتاريا. إنهم يدخلون منذ نعومة أظافرهم إلى مدارس خاصة حيث يتعلمون احتقار البشر و«الحفاظ على شرف بزاتهم»، وهذا يعني إخضاع المجندين إخضاعا كاملا لسلطتهم وتحويلهم إلى مجرد أدوات. وأبرز الأرستقراطيين والبرجوازيين هم الذين تجري ترقيتهم إلى الرتب العالية كالعقداء والأميرالات ويرتدون النياشين والأشرطة. الضباط ليسوا من أبناء الفقراء. وهو يسيطرون على الجنود العاديين سيطرة كاملة. والجنود العاديون غارقون في بيئتهم إلى درجة أنهم لا يتساءلون أبدا عن السبب الذي من أجله يقاتلون. وإنما ينتظرون الأوامر، لا أكثر ولا أقل. والجيش الذي يؤلفه هؤلاء معدّ بالدرجة الأولى لقمع العمال. الشرطة والدرك. بالإضافة إلى الجيش النظامي، تملك الدولة الرأسمالية جيشا من الرعاع ومن الوحدات المتخصصة بقمع العمال. طبعا، تعمل هذه المؤسسات على مكافحة السرقة و«حماية أشخاص وأملاك المواطنين». لكن الشرطة تعمل أيضا على اعتقال وتعذيب العمال المتذمرين ومعاقبتهم.. وأشرس فئة على الإطلاق، في كل البلدان الرأسمالية، هم أفراد الشرطة السرية والدرك. وبتعاون مع أجهزة الشرطة الرسمية أعداد كبيرة من أفراد التحري والمحرضين والجواسيس وكاسري الاضرابات، الخ. القضاء في الدولة الرأسمالية أداة تدافع البرجوازية بها من نفسها. وهي تستخدم بالدرجة الأولى لمعاقبة الذين يعتدون على حقوق الملكية الرأسمالية أو يتدخلون في شؤون النظام الرأسمالي. إن جهز السجون يصفي الحسابات بفاعلية لا تقل عن فاعلية الجلاد في الدولة الرأسمالية. وأبوابه مشرعة أمام الفقراء لا أمام الأغنياء. تلك هي مؤسسات الدولة الرأسمالية. وهي مؤسسات تمارس القمع الوحشي المباشر على الطبقة العاملة. ومن بين وسائل القمع الفكري التي تملكها الدولة الرأسمالية، ثلاث تستحق الذكر: المدارس الرسمية والكنيسة الرسمية والصحافة الرسمية أو شبه الرسمية. البرجوازية تدرك تماما أنها لا تستطيع السيطرة على الجماهير الكادحة بواسطة العنف الخالص. يجب السيطرة على عقل العمال، حتى كأنه في شباك العنكبوت. الدولة البرجوازية تنظر إلى العمال وكأنهم دواب تكدح. ويجب على هذه البهائم أن تعمل ولكن بشرط أن لا تعض. لهذا السبب، لا يمكن الاكتفاء بضرب هذه البهائم أو قتلها إذا حاولت أن تعض، وإنما تدريبها وترويضها أيضا، تماما كما تروّض الحيوانات المفترسة على يد المدربين. بنفس الطريقة، تملك الدولة الرأسمالية مدربين وظيفتهم أن يخدروا ويدجنوا البروليتاريا. وهؤلاء هم الأساتذة والمعلمون والاكليروس والكتاب والصحفيون البرجوازيون. في مدارس الدولة، يتولى هؤلاء الاختصاصيون تعليم الأطفال منذ الصغر إطاعة رأس المال والنفور من «المتمردين». وهكذا تحشى أدمغة الأطفال بالخرافات عن الثورة والحركة الثورية. ويمجدون الأباطرة والملوك وكبار الصناعيين. وفي الكنائس، يبشر القساوسة الذين يتلقون مرتباتهم من الدولة بأن الله هو مصدر كل السلطات. ويوما بعد يوم، تردد الصحف البرجوازية هذه الأكاذيب بينما تعمد الدولة الرأسمالية إلى منع الصحافة العمالية في معظم الحالات... الدولة البرجوازية، باختصار، ترمي إلى تثقيف العمال بحيث يشبهون الحيوانات الداجنة التي تعمل كالأحصنة وترتضي بأقل قدر ممكن من الغذاء. بهذه الطريقة يضمن النظام الرأسمالي استمراره. وهكذا تعمل آلة الاستغلال الضخمة. ويجري ابتزاز فضل القيمة باستمرار من العمال، بينما تقف الدولة الرأسمالية متأهبة لصد أية انتفاضة يقوم بها عبيد الأجور. التناقضات الأساسية في النظام الرأسمالي لننظر الآن إلى المجتمع الرأسمالي أو البرجوازي من منظار تماسك أو تفكك بنيانه. أي شيء يكون صلبا وجيدا إذا كانت أجزاؤه متلائمة فيما بينها. خذوا ساعة الحائط مثلا. إنها تعمل بدقة وانتظام وسهولة إذا كانت دواليبها المسننة متراكبة فيما بينها. لننظر إلى المجتمع الرأسمالي الآن. نرى بدون صعوبة أن المجتمع الرأسمالي أقل تماسكا مما يبدو للوهلة الأولى. بل بالعكس، إنه منخور بالتناقضات الخطيرة والثغرات الضخمة. في ظل الرأسمالية، يفتقد إنتاج السلع وتوزيعها إلى الحد الأدنى من التنظيم. «فوضى الإنتاج» تسود. ما معنى ذلك؟ معناه أن جميع أرباب العمل الرأسماليين (أو الشركات الرأسمالية) ينتجون السلع باستقلال كامل واحدهم عن الآخر. وبدل أن ينتج المجتمع ما يحتاجه من سلع، ينتج أصحاب المصانع بناء على حساب السلعة التي تستجلب أكبر مقدار من الربح وتسمح لهم بالانتصار على منافسيهم في السوق. وغالبا ما ينتج عن ذلك تدفق كميات فائضة من السلع إلى السوق لا تجد مجالا لتصريفها. العمال لا يستطيعون شراءها، لأنهم لا يملكون المال الكافي لذلك. فتظهر الأزمات. تُغلق المصانع ويسرح العمال. وبالإضافة لذلك، فإن فوضى الإنتاج تؤدي إلى النزاع على الأسواق. كل منتج يريد استمالة زبائن المنتج الآخر، يريد السيطرة على السوق. ويتخذ هذا النزاع عدة أشكال. فيبدأ بالمنافسة بين صناعيين اثنين وينتهي باندلاع حرب عالمية حيث تتعارك الدولة الرأسمالية فيما بينها للسيطرة على السوق العالمية. هذا يعني ليس فقط أن الأجزاء التي تتكون منها آلة المجتمع الرأسمالي تعرقل عمل بعضها البعض وإنما يعني أيضا انه يوجد تضارب مباشر بين العناصر التي يتكون منها المجتمع الرأسمالي. إن أول سبب للخلخلة في المجتمع الرأسمالي هو فوضى الإنتاج التي تؤدي إلى الأزمات والمنافسة الشرسة والحروب. أما السبب الثاني للخلخلة فهو يكمن في التركيب الطبقي لهذا المجتمع. فالواقع أن المجتمع الرأسمالي، في جوهره، ليس مجتمعا واحدا بل مجتمعين: الرأسماليون من جهة والعمال والفلاحون من جهة ثانية. وتوجد حالة من العداء الدائم الذي لا هوادة فيه بين هاتين الطبقتين، وهذا ما نسميه الصراع الطبقي. وهنا أيضا نرى أن الأجزاء التي تتكون منها آلة المجتمع الرأسمالي ليست متنافرة مع بعضها البعض وحسب، بل هي في حالة نزاع دائم فيما بينها أيضا. هل أن الرأسمالية مرشحة للانهيار أم البقاء؟ الجواب على السؤال يتوقف على الاعتبارات التالية. إذا درسنا تطور الرأسمالية وتفحصنا التحولات التي عرفتها على مر الزمن، وتبين لنا أن عوامل التنافر فيها آخذة بالاضمحلال، نستطيع أن تمنى لنا حياة طويلة. وعلى العكس من ذلك، فإذا لاحظنا، على مر الزمن، أن أجزاء الآلة الرأسمالية آخذة بالتنافر والتنازع أكثر فأكثر فيما بينها، وإذا تبين لنا أن الثغرات في تركيبها آخذة بالاتساع – فهذا يعني أن الوقت قد حان لنقول لها: «ارقدي في سلام!». لذا يجب علينا الآن أن ندرس الرأسمالية في نشأتها وتطورها. هوامش [1] الأحصنة في روسيا كانت تستخدم للحراثة و«الذي لا حصان له» تعبير يطلق على الفلاح الفقير. –المترجم- [2] «بوتيلوف» احتكار للسلاح في روسيا، و«كروب» في ألمانيا، و«أرمسترونغ» و«فايكرز» في إنكلترا... [3] أي الذين يتمتعون ب«حرية» بيع قوة عملهم لرب العمل الذي يختارونه. –المترجم- [4] الشرح هنا يتناول الوقف من الدفاع عن الوطن في ظل الرأسمالية الاحتكارية التي تحولت إلى قوة استعمارية. ولا يتناول بالطبع مهام الطبقة العاملة في حروب الدفاع عن الوطن، أو في الحروب الوطنية التحررية، ضد الغزو الاستعماري. -المترجم- الفصل الثاني: تطور النظام الرأسمالي النزاع بين الإنتاج الصغير والإنتاج الكبير النزاع بين رأس المال الكبير ورأس المال الصغير في الصناعة. المصانع الكبيرة، التي تشغل أحيانا أكثر من عشرة آلاف عامل وتملك الآلات الضخمة، لم تكن موجودة دائما. لقد برزت تدريجيا ونمت على أنقاض الإنتاج الحرفي والصناعة الصغيرة. ولكي نفهم لماذا حصل هذا الشيء، يجب أن ندرك أن المنافسة –أي النزاع لاجتذاب المشترين- أمر حتمي في ظل الملكية الصغيرة والإنتاج السوقي. من يربح في هذا النزاع؟ الرابح هو الذي يعرف كيف يجتذب المشترين إليه وينتزعهم من منافسيه. وأهم وسيلة لاجتذاب المشترين إليه هي بيع السلع بسعر رخيص. من هو الذي يستطيع بيع السلع بأرخص الأسعار؟ هذا هو أول سؤال يجب أن نجيب عليه. بديهي أن المنتج الكبير يستطيع أن يبيع سلعه بسعر أرخص مما يستطيعه المنتج الصغير أو الحرفي المستقل. لأن المنتج الكبير يستطيع أن يشتري مواده بسعر أرخص. وللإنتاج الكبير عدة امتيازات على هذا الصعيد. وأول هذه الامتيازات أن الصناعي الذي يملك كمية وافرة من رأس المال يستطيع شراء أفضل الآلات والتجهيزات. أما وضع الحرفي المستقل أو الصناعي الصغير فيكون صعبا في العادة. فهو لا يستطيع شراء مولدا للكهرباء، ولا يجرؤ على التفكير بشراء آلات جيدة وكبيرة لأنه لا يملك المال الكافي لذلك. ثم إن الصناعي الصغير لا يستطيع شراء أحدث الآلات. المؤسسة الكبيرة إذن تسمح بتقنية أفضل ويد عاملة أكثر توفيرا وكلفة إنتاج أدنى. الإنتاج الكبير يسمح بالتوفير في شتى المجالات: في الأبنية والآلات والمواد الأولية والإنارة والتدفئة وكلفة اليد العاملة واستخدام النفايات، إلى آخره. لنفترض أنه يوجد ألف مشغل صغير، وأنه يوجد أيضا مصنع كبير ينتج نفس كمية السلع التي تنتجها هذه المشاغل مجتمعة. في هذه الحالة، نجد أن بناء مصنع كبير هو أسهل من بناء ألف مشغل صغير. فنسبة هدر المواد الأولية مرتفعة في المشاغل أكثر منها في المصنع. والإنارة والتدفئة أسهل في المصنع الكبير مما هي في المشاغل الصغيرة. ثم إن المصنع يفيد أكثر من المشاغل الصغيرة من شؤون التموين والتنظيف والصيانة، الخ. باختصار، إدارة مصنع كبير أكثر توفيرا في كل جوانبها من إدارة المشاغل الصغيرة. في شراء المواد الأولية وكل ما هو ضروري للإنتاج، بتمتع رأس المال الكبير بأفضلية على غيره. الذي يشتري بالجملة يدفع أقل ويحصل على نوعية أفضل. ثم أن صاحب المصنع الكبير أكثر إلماما بالسوق، ويعرف الأمكنة التي تبيع أرخص السلع. وفي المقابل، فإن المشغل الصغير في موقع دوني عندما يدخل السوق لبيع منتجاته. إن الأفضلية التي يتمتع بها الإنتاج الكبير لا تقتصر على كونه يعرف أين تباع ارخص السلع –وهو لهذا الغرض يملك من يسافر للبحث عنها، كما يمارس عمله في البورصة حيث تصل الأخبار المتعلقة بأسعار السلع باستمرار، ويملك العلاقات التجارية التي تشمل شتى أرجاء العالم. إن الإنتاج الكبير يستطيع أن ينتظر. فلو كان سعر منتوجه بالغ الانخفاض مثلا، يستطيع الاحتفاظ في المستودعات، ريثما يرتفع. وهذا ما لا يستطيعه المنتج الصغير. فهو يعيش ليومه. حالما يبيع سلعه، يصرف المال لسد حاجاته المباشرة. المنتج الصغير لا يملك إمكانية الانتظار. فما أن ينتج سلعته، حتى يضطر إلى بيعها كيفما كان، وإلا مات من الجوع. ومن الواضح أن هذا يضعه في موقع دوني بالمقارنة مع المنتج الكبير. ثم أن الإنتاج الكبير يتمتع بأفضلية أخرى تتعلق بالتسليف. إن الرأسمالي الكبير يستطيع الحصول على المال عندما يحتاجه. المصارف تسلف دائما للشركات «القوية» بنسبة منخفضة من الفائدة. ولكن بالكاد تجد من هو مستعد لإقراض المنتج الصغير. وعندما ينجح في الحصول على قرض، تكون فائدته مرتفعة جدا. وهكذا يقع المنتج الصغير تحت رحمة المرابي. كل هذه الأفضليات المرتبطة بالإنتاج الكبير تفسر لماذا لا يد للإنتاج الصغير من الانهيار في المجتمع الرأسمالي. إن رأس المال الكبير يسحق المنتج الصغير ويسلبه زبائنه، ويدفع به إلى الإفلاس بحيث يتساقط إلى مصاف البروليتاريا أو يتحول إلى مجرد متشرد متسكع. وفي حالات عديدة، يتشبث المنتج الصغير بالحياة. يصارع صراعا يائسا. يمارس العمل اليدوي بنفسه، ويجبر عماله وأفراد عائلته على بذل أقصى طاقتهم. لكنه يضطر في آخر المطاف إلى الانسحاب أمام الرأسمالي الكبير. وفي حالات عديدة تجد أن رب العمل الذي يبدو مستقلا هو في الواقع تابع كليا لرأس المال الكبير، يعمل لصالحه، ولا يجرؤ على أن يخطو خطوة واحدة بدون موافقته. والمنتج الصغير غالبا ما يكون واقعا في شباك المرابي. وبسبب تبعيته له، تجد أن يعمل لصالحه. أو تجده يعتمد عليه لبيع سلعه. وفي حالة أخرى، تجده تابعا للمتجر الذي يعمل من أجله. هنا يتحول المنتج الصغير إلى عامل مأجور في خدمة الرأسمالي الذي يملك المتجر الكبير، رغم احتفاظه باستقلاله الشكلي. وقد يمده هذا الرأسمالي بالمواد الخام وحتى بأدوات العمل... هنا يتضح أن العامل المنزلي بات يدور في فلك رأس المال. وهناك شكل آخر من أشكال الخضوع لرأس المال: تجمع ورشات التصليح الصغيرة حول مشروع كبير. فتتحول هذه إلى مجرد لبنات صغيرة في هذا البناء الضخم.. ويصبح استقلال هذه الورشات استقلالا شكليا ليس إلا. ونجد أحيانا أن أرباب العمل الصغار، والحرفيين المستقلين، والعاملين المنزليين، والباعة، أو الرأسماليين الصغار، عندما يطردون من أحد فروع الإنتاج أو التجارة، يلتجئون إلى فرع آخر لم يتمكن رأس المال الكبير من بسط سيطرته الكاملة عليه. وفي حالات عديدة، يتحول الذين أصابهم الانهيار إلى تجار صغار وباعة متجولين وما شابه. وهكذا، فإن الاتجاه العام لرأس المال الكبير، هو الحلول محل الإنتاج الصغير في كل مكان. فتولد المشروعات الضخمة التي تشغل واحدة منها الألوف بل عشرات الألوف من العمال. إن رأس المال الكبير قد بات سيد العالم. وهو يحل محل المنتج الصغير الآخذ بالانقراض. النزاع بين رأس المال الصغير ورأس المال الكبير في الزراعة. إن الصراع بين الإنتاج الصغير والإنتاج الكبير الدائر في الصناعة يتكرر في الزراعة، في ظل النظام الرأسمالي. مالك الأرض، الذي يدير أملاكه مثلما الرأسمالي يدير مصنعه. الفلاح الغني، الشره والمقتر. الفلاح المتوسط. الفلاح الفقير، الذي يعمل أحيانا عند مالك الأرض أو الفلاح الغني. والعامل الزراعي –هذه السلسلة الزراعية يمكن مقارنتها بالسلسلة الصناعية المكونة من الرأسمالي الكبير، الرأسمالي الصغير، الحرفي المستقل، العامل المنزلي، العامل المأجور. وكما في المدن، كذلك في الريف تقدم الملكية الكبيرة عددا من الأفضليات على الملكية الصغيرة. يسهل إدخال الوسائل الزراعية الحديثة إلى مزرعة كبيرة. وفي المقابل فالفلاح الصغير لا يستطيع أن يتزود بالآلات الزراعية... الحرفي المستقل لا يفكر بالاستعانة بالآلات الباهضة الثمن في مشغله الصغير. لا مال لديه لشرائها. ثم إنه لا يستطيع استخدامها بحد أقصى من الفاعلية حتى ولو حصل على المال اللازم لشرائها. كذلك فالفلاح لا يستطيع شراء جرارا مثلا. ذلك أن الجرار لا يفيده، ولو أمتلك المال اللازم لشرائه، لأنه يتطلب مساحة كبيرة من الأرض لكي يقدم كامل مردوده، وهو عديم الفائدة على قطعة أرض صغيرة. وفي العادة، نجد أن زراعة مساحات واسعة من الأراضي هي وحدها التي تسمح بمشاريع الري وتجفيف المستنقعات ومد الأنابيب في الحقول لجر المياه الإضافية وبناء سكك الحديد الخفيفة وغيرها. ففي الزراعة، كما في الصناعة، يسمح الإنتاج الكبير بتوفير الكثير من أكلاف الإنتاج في مجال الأدوات والآلات والتجهيزات وقوة العمل والمحروقات والإنارة، إلى آخره. وبالإضافة لذلك، فإن صاحب مزرعة كبيرة يجد جدوى في الاستعانة بخبراء زراعيين، وهذا ما يمكنه من فلاحة أرضه حسب الوسائل العلمية. وما انطبق على الصناعة في مجالي التسويق والتسليف، ينطبق أيضا على الزراعة. المزارع الكبير أكثر إلماما بوضع السوق، وهو قادر على الانتظار ريثما تحين الفرص المناسبة لبيع محصوله، وهو يستطيع سد كل احتياجيه بثمن أرخص كما يستطيع بيع منتجاته بأغلى سعر. أما المنتج الصغير، فلا يبقى أمامه إلا الصراع بأقصى ما يمكن من قوة. فالإنتاج الصغير قادر على الاستمرار فقط عبر العمل المضني والتقتير على النفس والبقاء دائما وأبدا على شفير الجماعة. فهذه وحدها هي الشروط التي تضمن له البقاء في ظل النظام الرأسمالي. ثم أن الإنتاج الصغير يعاني الكثير من جراء الضرائب المرتفعة. ذلك أن الدولة الرأسمالية تلقي بكل ثقلها على المالك الصغير. ويكفي أن نتذكر هنا ما الذي كان يعنيه النظام الضريبي القيصري بالنسبة للفلاحين -«بيعوا كل ممتلكاتكم، إذا كان هذا يؤمن دفع الضرائب التي عليكم». ويمكن القول أن الإنتاج الصغير في الزراعة قادر على مقاومة الفناء والاندثار أكثر منه في الصناعة. في المدن، نلاحظ اندثار معظم الحرفيين المستقلين وغيرهم من المنتجين الصغار مع أن الزراعة الفلاحية، في كافة أنحاء الريف، لا تزال قادرة على الصمود والحياة. ورغم ذلك، فان الإفقار المتزايد لأكثرية سكان الريف يسير قدما إلى الأمام، مع إنتاجه ليست بوضوح نتائجه في المدن. قد يبدو أحيانا أن مشروعا زراعيا معينا هو مشروع صغير، بالقياس إلى مساحة الأرض التي يحتلها، لكنه يكون في الواقع مشروعا ضخما نظرا لحجم رأس المال الموظف فيه ولكونه يشغل عددا لا بأس به من العمال. هذا هو الحال مثلا بالنسبة إلى البساتين المجاورة للمدن التي تنتج للسوق. ومن جهة ثانية قد تجد أحيانا أن الذين يبدون وكأنهم مجرد ملاك صغار هم في معظمهم عمال مأجورين يعملون في المزارع المجاورة أو في الأعمال الموسمية أو حتى في المدن نفسها. أن المصير الذي يلاقيه الفلاحون هو نفس المصير الذي لاقاه الحرفيون المستقلون والعاملون المنزليون. فالبعض منهم يتحول إلى «كولاك» (أي تجار خمر ومرابين وفلاحين أغنياء يوسعون ممتلكاتهم تدريجيا). والبعض الآخر يناضل للحفاظ على مركزه. أما الباقي فينهار، يبيعون الأبقار والأحصنة [5]، وأخيرا يضطرون لبيع قطعة الأرض نفسها. ويستقرون في المدن أو يعملون كعمال زراعيين. هكذا فـ«الذي لا حصان له» يتحول إلى عامل مأجور، بينما «الكولاك» -أي الفلاح الذي يستخدم الأجراء، يتحول إلى مالك أرض كبير أو إلى رأسمالي. وهكذا ففي الزراعة أيضا تنتقل كميات واسعة من الأراضي والأدوات والآلات والماشية والأحصنة وغيرها إلى يد حفنة من ملاك الأرض الرأسماليين يعمل عندهم ملايين العمال الزراعيين ويتبع لهم ملايين من الفلاحين. تبعية البروليتاريا. «جيش العمل الاحتياطي». عمل النساء والأحداث. في ظل الرأسمالية، تنمو عملية تحول جماهير الشعب إلى عمال مأجورين. ويسقط إلى مصاف البروليتاريا جميع الذين انهاروا تحت ضغط رأس المال الكبير، من حرفيين، وعمال منزليين، وفلاحين، وتجار ورأسماليين صغار، ومع تزايد تمركز الثروة وانحصارها بين أيدي حفنة من الرأسماليين، تتزايد عملية تحول جماهير الشعب إلى عبيد مأجورين للرأسماليين. وبسبب التفسخ الدائم للطبقات والفئات الوسطى، يزيد عدد العمال دائما عن حاجات رأس المال. لذا يجد العمال أنفسهم مقيدين للرأسمالية. لا بد للعامل من أن يعمل لحساب الرأسمالي. وإذا ما رفض، يستطيع رب العمل إيجاد المئات من أمثاله للحلول محله. وهناك سبب آخر يفسر هذه التبعية غير انهيار فئات متجددة من السكان. فالذي يعزز من سيطرة رأس المال على العمال هو عملية قذف العمال «الفائضين» إلى الشارع وتحويلهم إلى قوة عمل احتياطية. كيف يتم ذلك؟ إنه يتم على الشكل التالي: رأينا منذ قليل كيف يسعى صاحب المصنع باستمرار إلى خفض كلفة الإنتاج. وهذا هو السبب الذي يدفعه باستمرار إلى الاستعانة بالآلات الجديدة. لكن الآلة تحل محل اليد العاملة، وتحول قسما من العمال إلى «عمال فائضين». وإدخال الآلات الجديدة يعني صرف قسم من العمال. وهكذا يصبح قسما من عمال المصنع عاطلين عن العمل. وبما أن الآلات الجديدة تدخل باستمرار إلى هذا الفرع من الإنتاج أو ذاك، فمن الواضح إذن أن البطالة موجودة باستمرار في ظل الرأسمالية. ذلك أن الرأسمالي ليس معنيا بإيجاد العمل للجميع، أو توفير السلع لهم؟ فهدفه هو مضاعفة أرباحه. لذا، فإنه يسعى إلى صرف العمال غير القادرين على إنتاج الأرباح التي كانوا ينتجونها له من قبل. والواقع أن كل مدينة كبرى من مدن الأقطار الرأسمالية تضم عددا كبيرا من العاطلين عن العمل ويشمل هؤلاء عمالا صينيين ويابانيين، وهم فلاحون منهارون توافدوا من أقاصي المعمورة بحثا عن العمل. كما نجد الشبان الوافدين لتوهم من الريف وأصحاب الحوانيت والحرفيين السابقين. كذلك نجد عمال الصناعات المعدنية والطباعة والنسيج، ممن عمل في المصانع طوال سنوات ثم قذفت به الرأسمالية إلى الشارع بعد إدخال الآلات الجديدة. ويشكل هؤلاء جميعا مخزونا احتياطا من قوة العمل تحت تصرف رأس المال، أو ما أسماه ماركس «جيش العمل الاحتياطي». وبسبب وجود جيش العمل الاحتياطي هذا، واستمرار البطالة، تتزايد تبعية الطبقة العاملة باستمرار. ويعمل رأس المال، بمساعدة الآلات الجديدة، على استخراج المزيد من الذهب من كد بعض العمال، بينما يقذف بالباقي، بالعمال «الفائضين»، إلى الشارع. ولكن المقذوفين إلى الشارع يتحولون إلى سوط بيد الرأسمالي، يستخدمه للسيطرة على العمال الذين لا زالوا يعملون. (إن جيش العمل الاحتياطي تربة تنمو فيها الوحشية والأدقاع والمجاعة والموت والجريمة. فالذين ينقطعون عن العمل لسنوات يبدأو بالإدمان على الشراب ويتحولون إلى متسولين متسكعين. وتوجد في المدن الكبيرة –كلندن ونيويورك وهمبرغ وبرلين وباريس- أحياء بأكملها يقطنها العاطلون عن العمل... ويفقد ساكنو هذه الأحياء الصفة البروليتارية، ليتحولوا إلى فئة جديدة نسي أفرادها كافة مهارات العمل. إن هذه الفئة التي ينتجها المجتمع الرأسمالي تسمى «البروليتاريا الرثة»). كذلك يؤدي دخول الآلات إلى الاعتماد على عمل النساء والأحداث. وهو أرخص من عمل الرجال وبالتالي أكثر إدرارا للربح بالنسبة للرأسمالي. في السابق، أي قبل دخول الآلات، كان الإنتاج يتطلب مهارات معينة. وفي بعض الأحيان، كان لا بد من فترة تدريب طويلة لاكتساب هذه المهارات. الآن يستطيع حتى الأطفال تشغيل الآلة. وكل ما هو مطلوب منهم تحريك الذراع أو القدم إلى أن يمتلكهم التعب. وهذا هو السبب الذي أدى إلى انتشار عمل النساء والأحداث بعد اختراع الآلة. والواقع أن النساء والأطفال، على العموم، يقاومون الاضطهاد الرأسمالي بنسبة أقل مما يقاومه الرجال. إنهم أكثر استعداد للطاعة والخضوع، ولتصديق كلام الكاهن أو قبول كل ما يقوله لهم الممسكون بزمام السلطة. من هنا يلجأ أصحاب المصانع في الكثير من الأحيان إلى استبدال العمال الذكور بالنساء، ويجبرون الأطفال على تحويل دمائهم إلى أرباح. (في عام 1913، بلغ مجموع عدد النساء العاملات (وليس فقط العاملات اليدويات) الأرقام التالية: فرنسا 6800000، ألمانيا 9400000، النمسا- المجر 8200000، إيطاليا 5700000، بلجيكا 930000، الولايات المتحدة 8000000، إنكلترا 6000000. أما في روسيا، فإن عدد العاملات في تصاعد مستمر. كانت النسبة 25 بالمئة من مجموع عمال المصانع عام 1900. وارتفعت إلى 21 بالمئة عام 1908. وإلى 45 بالمئة عام 1912. ويزيد عدد النساء عن عدد الرجال في بعض فروع الإنتاج. ففي صناعة النسيج مثلا، بلغ عدد العاملات عام 1912: 453000 عاملة (بالنسبة إلى مجموع قدره 870000 أي ما يزيد عن النصف(25 بالمئة). كذلك، ارتفع عدد العاملات بشكل ملحوظ خلال الحرب). إن عمل النساء يؤدي إلى تفكك الأسرة العمالية. فماذا يحل بالحياة العائلية عندما تضطر الأمهات، وغالبا الأطفال، للذهاب إلى العمل؟ عندما تدخل المرأة المعمل، عندما تتحول إلى عامل مأجور، تتعرض، مثلها كمثل الرجل، لكل مصاعب البطالة. يقذفها الرأسمالي إلى الشارع، فتضطر للانضمام إلى الجيش الاحتياطي الصناعي. ينتج عن ذلك البغاء، عندما تبيع المرأة جسدها لأي عابر سبيل. المرأة العاملة بلا طعام ولا عمل ولا مأوى. وحتى لو وجدت عملا، فالأجور لا تكفي لسد الجوع... كل هذه العوامل تدفعها إلى زيادة مدخولها ببيع جسدها. وبعد وقت، تصبح هذه مهنة اعتيادية. وهكذا تولد فئة من المومسات المحترفات. مع تحسين الآلات المخترعة، وبناء مصانع أكبر من المصانع الموجودة، وزيادة كمية السلع في المجتمع الرأسمالي يتزايد القهر الرأسمالي ويتفاقم انحطاط وإدقاع جيش الصناعة الاحتياطي وتتعمق تبعية البروليتاريا لمستغليها. ولو أن نمط الملكية السائد هو الملكية الجماعية، بدل الملكية الفردية، لكانت الأوضاع مختلفة كل الاختلاف. ولكان البشر يخفضون ساعات العمل اليومية، ويوفرون قوتهم، ويقتصدون في الجهد المبذول، ويتمتعون بالتالي بالمزيد من الرفاه. عندما يدخل الرأسمالي الآلة، يكون شاغله الشاغل هو الربح. وهو لا يفكر بتخفيض ساعات العمل اليومية، لأن ذلك يجر عليه الخسارة. ذلك أن الرأسمالي لا يستخدم الآلة لتحرير البشر، بل للامعان في استبعادهم. ومع نمو الرأسمالية، ينفق الرأسماليون كميات إضافية من رأس المال على الآلات، والأبنية الضخمة، والأفران الكبيرة وما شابه. ومن جهة ثانية، تتضاءل باستمرار كمية رؤوس الأموال المدفوعة على شكل أجور. في السابق، عندما كان العمل اليدوي هو الطاغي، كان الرأسماليون ينفقون جزءا قليلا من مالهم على الأنوال وغيرها من الآلات. وكانت معظم نفقات رأس المال تتخذ شكل الأجور المدفوعة للعمال. العكس هو الصحيح الآن، حيث ينفق القسم الأكبر من رأس المال على الأبنية والآلات. والنتيجة أن الطلب على الأيدي العاملة لا يتماشى مع تزايد عدد العمال، أي أنه لا يكفي لاستيعاب جميع الذي يحولهم نمو الرأسمالية إلى عمال مأجورين. ومع تسارع وتيرة التقدم التقني في ظل الرأسمالية، تتزايد وحشية قهر رأس المال للطبقة العاملة، وتزداد صعوبة إيجاد العمل، لا بل أن الاستمرار في الحياة بحد ذاته يزداد صعوبة. فوضى الإنتاج. المنافسة. الأزمات إن مآسي الطبقة العاملة تتكاثر باستمرار بنسبة التقدم في التقنية الإنتاجية. وفي ظل الرأسمالية يؤدي هذا التقدم إلى زيادة أرباح الرأسماليين. وبدل أن يعمم المنافع على الجميع، يجلب البطالة والخراب للعديد من العمال. إلا أنه توجد أسباب أخرى لهذا البؤس المتزايد. لاحظنا سابقا أن المجتمع الرأسمالي مخلخل البنيان. الملكية الفردية تسيطر عليه. والخطة معدومة فيه. فكل صاحب مصنع ينظم عمله بالاستقلال عن الآخرين. وهو يصارع خصومه، و«ينافسهم» على كسب الزبائن. والسؤال الآن: هل يضعف هذا الصراع أم يتصاعد مع نمو الرأسمالية؟ للوهلة الأولى يبدو أن الصراع يضعف. ولكن الحقيقة أن عدد الرأسماليين يتقلص باستمرار. والسمك الكبير يلتهم السمك الصغير. في السابق، كان هنالك عشرات الألوف من أصحاب المشاريع يصارع بعضهم البعض، وكان الصراع حادا ومريرا. وبما أن عدد المتنافسين قد انخفض، يخيل للمرء أن المنافسة فقدت الكثير من حدتها. الواقع أن العكس هو الصحيح. صحيح أن عدد المتنافسين قد انخفض، لكن كل واحد منهم بات أقوى بكثير مما كانه المتنافسون في السابق. من هنا فالصراع يتفاقم بدل أن يضعف، ويصبح أكثر شراسة بدل أن يخفت. وحتى لو أمكن لحفنة من الرأسماليين السيطرة على العالم، فإن الحكومات الرأسمالية ستبقى في حالة تناحر فيما بينها. وهذا ما انتهى إليه الأمر بالفعل. فالصراع يدور حاليا بين تكتلات من الرأسماليين، وبين الدول الممثلة لهم. وبالإضافة لذلك، فالرأسماليون يتناحرون الآن ليس عبر تنافس الأسعار وحسب وإنما بواسطة القوة المسلحة أيضا. من هنا، عندما نقول أن المنافسة تخفت مع نمو الرأسمالية، فإن ذلك يصح فقط بالنسبة لعدد المتنافسين. أما المنافسة نفسها فتزداد شراسة وتخريبا في كافة المجالات. يبقى علينا أن نعالج ظاهرة إضافية، هي تعاقب ما يسمى «الأزمات». ما هي الأزمات؟ وما طبيعتها؟ يمكن الإجابة على هذين السؤالين بالشكل التالي: يحدث أن ينتج النظام الرأسمالي كميات إضافية من السلع. فتنخفض الأسعار. ولكن يتعذر، مع ذلك، تصريف كل السلع. وتمتلئ المستودعات بشتى أصناف المنتجات التي لا تجد من يشتريها. ولا حاجة للقول أن ثمة العديد من العمال الجائعين. لكنهم لا يحصلون على أي من هذه المنتجات، لأنهم لا يستطيعون شراء ما يزيد عن مشترياتهم العادية. هنا تقع الكارثة. في أحد فروع الإنتاج تنهار المؤسسات الصغيرة والمتوسطة ويقفلها أصحابها. ثم تنهار المؤسسات الكبيرة. لكن هذا الفرع من الإنتاج كان أصلا يشتري السلع من فرع آخر، وهذا الثاني كان يشتري سلعه من فرع ثالث. فالخياطون مثلا يشترون الأقمشة من منتجي الأقمشة، وهؤلاء يشترون الصوف بدورهم من مصانع الغزل، وهكذا دواليك. وعندما تضيق الأحوال بالخياطين، يفقد صانعو الأقمشة زبائنهم. ينهار صانعو الأقمشة، وينعكس انهيارهم على المصانع التي تمدهم بالصوف. وهكذا فإن المصانع والمشاغل لا تلبث أن تقفل أبوابها، وتقذف بعشرات الألوف من العمال إلى الشارع. تكتسب البطالة حجما لم يكن لها من قبل. ويتدهور مستوى معيشة العمال. ومع ذلك. فثمة فائض من السلع في البلاد، والمستودعات تضيق بها. هكذا كانت الحال باستمرار قبل الحرب. تزدهر الصناعة. وتعمل الصناعات بوتيرة سريعة. وفجأة تقع النكسة. يعقبها البؤس والبطالة وشلل الإنتاج. وتعود الأمور إلى مجراها الطبيعي بعد فترة. وتأتي مرحلة من النشاط المكثف لا تلبث أن يعقبها نكسة جديدة. وتتجدد هذه الدورة إلى ما لا نهاية. كيف نفسر هذه الحالة العجيبة حيث البشر ينحدرون على أدنى دركات الإدقاع وسط نعيم الثروات؟ الجواب ليس باليسير. ولكن لا بد من مجاولة. قلنا سابقا أن المجتمع الرأسمالي يتسم بفوضى الإنتاج. كل صاحب مصنع ومشروع ينتج لنفسه، على مسؤوليته الخاصة. والنتيجة الطبيعية لذلك هي أن تزيد السلع المنتجة عما هو مطلوب، أي أن تتولد حالة من فائض الإنتاج. عندما كان الإنتاج معدا للاستهلاك المباشر وليس للسوق، لم يكن هنالك خطر الفائض في الإنتاج. العكس صحيح بالنسبة إلى الإنتاج السلعي. ففي ظله، ينبغي على كل صاحب مصنع أن يبيع منتجاته أولا بأول، لكي يستطيع شراء ما يحتاجه لمواصلة الإنتاج. وإذا حدث أن توقفت الآلات في فرع من الفروع، بسبب الفوضى في الإنتاج، لا يلبث هذا الخلل أن ينتقل من فرع إنتاجي إلى آخر، فتتولد أزمة شاملة. ولهذه الأزمات مفعول كاسح. كميات كبيرة من السلع تصاب بالتلف. وينهار بقية المنتجين الصغار، كأن يفعل مكنسة حديدية لا ترحم. وقد يتفاقم الوضع إلى حد انهيار المؤسسات الكبيرة. بالطبع، تتحمل الطبقة العاملة العبء الأكبر الناتج عن هذه الأزمات. بعض المصانع تقفل أبوابها نهائيا، وبعضها يخفض الإنتاج، والبعض الآخر يقفل أبوابه مؤقتا. وبذلك يتكاثر عدد العاطلين عن العمل. وينمو جيش الاحتياط الصناعي، يرافقه تفاقم الفقر في أوساط الطبقة العاملة. ففي ظل الأزمات نجد أن أوضاع الطبقة العاملة، السيئة أصلا، تصبح أسوا مما كانت عليه من قبل. نمو الرأسمالية وتبلور الطبقات. احتدام الصراع الطبقي. قلنا إن المجتمع الرأسمالي يحكمه تناقضان أساسيان ويعاني من علتين أساسيتين. فهو أولا «فوضوي» أي ينعدم فيه التنظيم. وهو مكوّن، ثانيا، من مجتمعين متناحرين (من طبقتين اجتماعيتين متناحرتين). كذلك لاحظنا أنه مع تطور الرأسمالية تؤدي فوضى الإنتاج، التي تعبر عن نفسها بالمنافسة، إلى المزيد من النزاع والاضطراب والفوضى. ويزداد تفكك المجتمع بدلا من أن يتضاءل. هذا كله وليد انشطار المجتمع إلى شطرين وقسمته إلى طبقات. فمع تطور الرأسمالية، يستمر هذا الانشطار الطبقي. تتكدس ثروات العالم في جهة، أي معسكر الرأسماليين، أما في الجهة الثانية، أي معسكر في المقهورين، فيتراكم البؤس والمرارة والدموع. ويولد جيش العمل الاحتياطي فئة من الأفراد المنحطين، ضحايا الفقر الذي يسحقهم. ولكن حتى الذين يعملون في مهن ثابتة، يتميزون بوضوح، في نمط حياتهم، عن الرأسماليين. والواقع أن تمايز البروليتاريا عن البرجوازية ينمو باستمرار. في السابق، كانت هنالك فئة من الرأسماليين الصغار تربطها صلات وثيقة بالبروليتاريا، تعيش في مستوى معيشة أحسن بقليل من مستوى معيشة البروليتاريين. الأمر مختلف الآن. فأسياد رأس المال يعيشون بطريقة لم يكن ليحلم بها إنسان من قبل. صحيح أن مستوى معيشة العمال قد تحسن مع تطور الرأسمالية. منذ نشأة الرأسمالية حتى مطلع القرن العشرين، عرف العالم ارتفاعا عاما في الأجور. لكنه شهد خلال الفترة ذاتها نموا أسرع لأرباح الرأسماليين. وها أن بونا شاسعا بات يفصل بين الجماهير الكادحة والطبقة الرأسمالية. فالرأسمالي بات يعيش حياة مختلفة كل الاختلاف عما قبل. وهو لا ينتج شيئا بنفسه. ومع تطور الرأسمالية، يرتفع المركز الاجتماعي لحفنة من الرأسماليين البالغي الثراء، وتتسع الهوة بين هؤلاء الملوك غير المتوجين وبين ملايين البروليتاريين المستعبدين. قلنا أن أجور العمال ارتفعت بشكل عام. لكن الأرباح تزايدت بنسبة أكبر. ولهذا السبب فإن الهوة بين الاثنين اتسعت بدل أن تتقلص. والحقيقة أن الأجور آخذة بالانخفاض منذ مطلع القرن العشرين، بينما الأرباح أخذت تتزايد بوتيرة مرتفعة. هذا يعني أن السنوات الأخيرة شهدت نموا سريعا في التفاوت الاجتماعي. ومن الواضح أن هذا التفاوت الاجتماعي، النامي باستمرار، سيؤدي عاجلا أو آجلا إلى الصدام بين العمال والرأسماليين. فلو كان التمايز بين الطبقتين يسير باتجاه التقلص، ولو كان مستوى معيشة العمال يقترب باطراد من مستوى معيشة الرأسماليين، لأمكننا التطلع إلى نظام يسوده «السلام على الأرض والخير لبني البشر». لكن الحقيقية أن العامل، في ظل الرأسمالية، يزداد ابتعادا، يوم بعد يوم، عن الرأسمالي بدلا من أن يقترب من مستواه. والنتيجة الحتمية لذلك هي احتدام الحرب الطبقية بين البروليتاريا والبرجوازية. وتنشأ الحرب الطبقية من تضارب المصالح بين البرجوازية والبروليتاريا. فهذه المصالح يستحيل التوفيق بينها، مثلما يستحيل التوفيق بين مصالح الذئب والحمَل. فمن الواضح أن مصلحة الرأسمالي تكمن في بذل أكبر عدد ممكن من ساعات العمل وبأقل الأجور. لذا، فبديهي أن تناضل الطبقة العاملة، منذ وجدت، من أجل زيادة الأجور وتخفيض ساعات العمل. إن هذا النضال لم ينقطع ولم يخمد في وقت من الأوقات. وهو لا يقتصر، على كل حال، على النضال من أجل زودات أجور تافهة. فحيثما تطور النظام الرأسمالي، ازداد الاقتناع لدى الجماهير الكادحة بضرورة القضاء على الرأسمالية. وبدأ العمال يتباحثون في كيفية استبدال هذا النظام البغيض بنظام عادل ورفاقي يرتكز إلى العمل. ذلك هو أصل الحركة الشيوعية للطبقة العاملة. عرف العمال هزائم عديدة خلال مسيرتهم النضالية. غير أن النظام الرأسمالي يحمل في أحشائه بذور انتصار البروليتاريا النهائي. لماذا؟ لأن تطور الرأسمالية يؤدي إلى تحول أوسع جماهير الشعب إلى بروليتاريين. وانتصار الرأسمالية الكبيرة يؤدي إلى خراب الحرفيين المستقلين والتجار الصغار والفلاحين، ويضخم صفوف العمال المأجورين. ومع كل خطوة من تقدم الرأسمالية، يتكاثر عدد البروليتاريين. فهي مثل وحش الأسطورة المتعدد الرؤوس: كلما قطعت له رأسا نبت له عشرة رؤوس جديدة. عندما تقمع البرجوازية انتفاضة عمالية، تدعم بذلك النظام الرأسمالي. لكن تطور الرأسمالية اللاحق يحمل خراب الملاك والفلاحين الصغار بالملايين، ويقذف بهم تحت أقدام الرأسماليين. وهو بذلك يزيد عدد البروليتاريين، أعداء الطبقة الرأسمالية. والواقع أن تزايد قوة الطبقة العاملة ليس محوريا وحسب. فالطبقة العاملة تزداد تماسكا أيضا. لماذا يحصل ذلك؟ لأن تطور الرأسمالية يزيد عدد المصانع الكبيرة. وكل مصنع كبير يضم ألف عامل، وأحيانا عشرة آلاف. يعمل هؤلاء العمال جنبا إلى جنب، ويتعرفون على أشكال الاستغلال التي يمارسها رب العمل الرأسمالي عليهم. ويتعرف كل عامل على زملائه العمال كأصدقاء ورفاق له. وخلال عملهم الموحد في المصنع، يتعلم العمال كيف يوحدون جهودهم وقواهم. وهذا ما يسهل الاتفاق فيما بينهم. لذلك نقول أنه مع تطور الرأسمالية لا يتكاثر العمال وحسب، وإنما يتعزز تضامن الطبقة العاملة أيضا. مع تسارع انتشار المصانع الكبيرة، يتسارع نمو الرأسمالية، كما يتسارع انهيار الحرفيين المستقلين والعمال المنزليين والفلاحين. وبالتالي يتسارع نحو المدن الكبيرة التي تضم ملايين السكان. وأخيرا، فالمدن الكبيرة تكدس كميات هائلة من البشر على رقعة ضيقة نسبيا، وأكثرية هؤلاء تنتمي إلى البروليتاريا الصناعية. تعيش هذه الجماهير في الأحياء البائسة من المدينة، بينما حفنة الأسياد، المالكة لكل شيء، تعيش في القصور الفخمة. كذلك يتقلص عدد أفراد هذه الحفنة باستمرار، بينما العمال يتكاثرون ويتعزز التضامن فيما بينهم. في ظل ظروف كهذه، لا بد لاحتدام الصراع من أن يؤدي على انتصار الطبقة العاملة في نهاية المطاف. فلا بد للعمال من أن يصطدموا بطبقة الأسياد عاجلا أم آجلا، غير آبهين بتضرعات وبأضاليل البرجوازية، فيقضون عليها، ويدمرون حكومة اللصوص التي تحميها، ويتبنون نظاما جديدا، نظاما شيوعيا قائما على العمل. وهكذا فالرأسمالية، في سياق تطورها نفسه، تؤدي حتما إلى ثورة البروليتاريا الشيوعية. (إن صراع البروليتاريا الطبقي ضد البرجوازية يتخذ عدة أشكال. وقد برزت، خلال هذا الصراع، ثلاثة أشكال رئيسية. أول شكل هو النقابات التي تضم العمال حسب مهنهم. والثاني هو التعاونيات المعنية بالتوزيع بالدرجة الأولى، ذلك أن هدفها هو تحرير العمال من قبضة الوسطاء والتجار. وأخيرا هناك الأحزاب السياسية للطبقة العاملة (الاشتراكية، والاشتراكية-الديموقراطية، والشيوعية) التي يقوم برنامجها على قيادة الطبقة العاملة في نضالها من أجل استلام الحكم. ومع احتدام الصراع بين الطبقتين، تزداد أهمية تركيز كافة قطاعات حركة الطبقة العاملة على هدف واحد –الإطاحة بالدولة البرجوازية. وأن قادة الحركة العمالية الذين أدركوا هذه الضرورة على نحو أفضل، شددوا دائما على ضرورة التعاون الوثيق بين كافة تنظيمات الطبقة العاملة. فأشاروا، مثلا، إلى أهمية وحدة العمل بين النقابات والأحزاب البروليتارية السياسية، وأعلنوا أن النقابات لا يمكن أن تبقى «حيادية» (أي غير مبالية بالشؤون السياسية). وقالوا أنه على النقابات أن تسير جنبا إلى جنب مع الأحزاب السياسية للطبقة العاملة. مؤخرا اتخذت الحركة العمالية أشكالا جديدة، أهمها مجالس مندوبي العمال (السوفييت)، التي سوف نتحدث عنها تكرارا في هذا الكتاب). وهكذا، فمن خلال دراستنا لتطور النظام الرأسمالي، نستخلص النتائج التالية: 1. مع تطور الرأسمالية يتقلص عدد الرأسماليين لكنهم يزدادون ثراء وقوة. 2. يتكاثر العمال باستمرار ويتوثق التضامن العمالي، ولكن ليس بالنسبة نفسها لتكاثر عددهم، الأمر الذي يؤدي إلى اتساع الهوة بين العمال والرأسماليين. 3. لذا يؤدي تطور الرأسمالية بالضرورة إلى الصدام بين الطبقتين، أي يؤدي إلى قيام الثورة الشيوعية. تراكم وتمركز رأس المال من مسببات الشيوعية رأينا كيف أن الرأسمالية تحفر قبرها بيدها. ذلك أنها تولد حفاري –البروليتاريين. ومع نموها يتكاثر أعداؤها اللدودون ويتوحدون ضدها. لكن الرأسمالية لا تكتفي بإنجاب أعدائها. إنها تمهد أيضا لولادة تنظيم جديد للإنتاج الاجتماعي، تمهد لقيام نظام اقتصادي جديد رفاقي وشيوعي. كيف تفعل ذلك؟ سوف نجيب على هذا السؤال بسرعة. قلنا سابقا أن رأس المال يتكاثر باستمرار (المادة بعنوان «رأس المال»). يضيف الرأسمالي إلى رأسماله قسما من فضل القيمة الذي يستخرجه من الطبقة العاملة. وبذلك يتكاثر رأس المال. ولكن إذا تكاثر رأس المال، فهذا يعني أن الإنتاج يجب أن ينمو كذلك. إن تكاثر رأس المال، وتجمعه في أيدي الرأسماليين هو ما نسميه تراكم أو تمركز رأس المال. قلنا أيضا (في المادة بعنوان «النزاع بين الإنتاج الكبير والإنتاج الصغيرة») إن تطور الرأسمالية يؤدي إلى انهيار الإنتاج الصغير والمتوسط، إلى خراب المنتجين والتجار الصغار والمتوسطين، ناهيك بالحرفيين المستقلين. الذين يبتلعهم الرأسمالي الكبير جميعا. وهكذا الذي كان بحوزة الرأسماليين الصغار والمتوسطيين يفلت من أيديهم ويجد طريقه، بأشكال مختلفة، إلى جيوب الرأسماليين الكبار. وهكذا ينمو رأس مال كبار الرأسماليين باستمرار بفضل الكميات التي يحصلون عليها من الرأسماليين الأقل منهم شأنا. وتتراكم رؤوس الأموال الآن في يد فرد واحد بينما كانت في السابق تتراكم في أيدي عدة أفراد. وبعد خراب الرأسماليين الصغار، ينهب المنتصرون رؤوس أموالهم. إن هذا التراكم لرؤوس أموال كانت موزعة سابقا هو ما نسميه تمركز رأس المال. إن تمركز رأس المال –أي تراكمه في يد قلة من الرأسماليين –لا يعني فورا تمركز الإنتاج. لنفترض أن أحد الرأسماليين استخدم ما راكمه من فضل قيمة لشراء مصنع صغير من جاره، وأنه سيَّر هذا المصنع بالطرق التقليدية القديمة. لقد حصل التراكم هنا لكن الإنتاج لم يطرأ عليه أي تغير. في العادة، تسير الأمور بطريقة مختلفة. فالرأسمالي يعيد النظر بأساليب الإنتاج لجهة تطويرها كما يزيد الإنتاج (لأن ذلك أكثر إدرارا للربح بالنسبة إليه)، أي أنه بوسع مصنعه. ولا ينتج عن ذلك توسع رأس المال وحسب وإنما ارتفاع الإنتاج نفسه. هكذا يجري الإنتاج على نطلق واسع، مستخدما كميات كبيرة من الآلات، جامعا عدة آلاف من العمال. وقد يكفي دزينة من مثل هذه المصانع لسد حاجات بلد بأكمله لسلعة معينة. العمال هنا ينتجون من أجل المجتمع كله. وبتعبير آخر نقول أن العمل صار عملا اجتماعيا. ومع ذلك فالسيطرة والربح لا يزالان بيد حفنة من الرأسماليين. إن هذا التمركز في الإنتاج يمهد الطريق للإنتاج التعاوني والجماعي بعد انتصار الثورة البروليتارية. ولو لم يتحقق تمركز الإنتاج، لو أن البروليتاريا تسلمت الحكم في زمن يتم الإنتاج فيه داخل مئة ألف مشغل صغير لا يستخدم الواحد أكثر من عاملين أو ثلاثة عمال، لاستحال عليها تنظيم هذه المشاغل على نحو فعال، وتجميع الإنتاج. فكلما قطع تطور الرأسمالية أشواطا جديدة، كلما ارتفعت نسبة تمركز الإنتاج، كلما بات أيسر على البروليتاريا أن تدير الإنتاج بعد انتصارها. لذا نقول أن الرأسمالية لا تخلق أعداءها اللدودين وتمهد الطريق إلى الثورة الشيوعية وحسب، لكنها تبني الأساس الاقتصادي لتحقيق المجتمع الشيوعي أيضا. الفصل الثالث: الشيوعية وديكتاتورية البروليتاريا مميزات النظام الشيوعي. الإنتاج في ظل الشيوعية. رأينا كيف أن انهيار النظام الرأسمالي أمر حتمي. وها هو يتفكك أمام أعيننا. إنه يتفكك لأنه يعاني من تناقضين أساسين: فوضى الإنتاج وما تؤدي إليه من منافسة وأزمات وحروب، من جهة، والطابع الطبقي للمجتمع الذي يدفع حتما بقسم من المجتمع إلى العداء المميت للقسم الآخر (الحرب الطبقية) من جهة ثانية. إن المجتمع الرأسمالي أشبه ما يكون بآلة لم يحسن صنعها، يتدخل جزء منها باستمرار بحركة الأجزاء الأخرى. (انظر المادة بعنوان «تناقضان أساسيان في النظام الرأسمالي»). لذا كان حتميا أن تخرب هذه الآلة وتتفكك عاجلا أم آجلا. وبديهي أن يكون المجتمع الجديد مبنيا على أسس أرسخ من الأسس التي قامت عليها الرأسمالية. وما أن يؤدي هذان التناقضان الأساسيان إلى تدمير النظام الرأسمالي، حتى يتوجب قيام مجتمع جديد على أنقاض هذا النظام يكون متحررا من تناقضاته. هذا يعني أن نمط الإنتاج الشيوعي يجب أن يتميز أولا بأول بأنه مجتمع منظم، أي مجتمع متحرر من فوضى الإنتاج والمنافسة بين الرأسماليين الأفراد، كما هو متحرر من الأزمات. ثانيا. يجب على المجتمع الشيوعي أن يكون مجتمعا بدون طبقات، أي أنه مجتمع ليس منقسما إلى شقين متناحرين حيث تقوم طبقة باستغلال الطبقة الأخرى. وأن مجتمعا تزول فيه الطبقات ويسوده تنظيم الإنتاج هو مجتمع رفاقي، مجتمع شيوعي يرتكز إلى العمل. لننظر بمزيد من الدقة إلى هذا المجتمع. إن أساس المجتمع الشيوعي هو الملكية الاجتماعية لأدوات الإنتاج والتوزيع. الآلات، قاطرات سكة الحديد، السفن التجارية، أبنية المصانع، المستودعات، أهراءات الحبوب، المناجم، البرق والهاتف، الأرض، الماشية، الأحصنة يجب أن تكون كلها بتصرف المجتمع. المجتمع ككل يجب أن يسيطر على كل وسائل الإنتاج هذه، بدلا من أن تكون تحت سيطرة رأسماليين أفراد أو «تروستات» رأسمالية. ما الذي نعنيه ب«المجتمع ككل»؟ نعني أن الملكية والسيطرة لن تعودا امتيازا لطبقة واحدة، وإنما تصبحا بتصرف جميع أفراد المجتمع. وفي ظروف كهذه، يتحول المجتمع إلى ورشة عمل كبيرة للإنتاج المشترك. ولا يجوز للإنتاج أن يصاب بالتفكك أو بالفوضى. ففي نظام اجتماعي كهذا، يكون الإنتاج منظما. فالمشروع الاقتصادي لن ينافس المشروع الاقتصادي، وإنما تتحول المصانع والمشاغل والمناجم ومؤسسات الإنتاج الأخرى إلى فروع في ورشة شعبية واسعة تشمل اقتصاد الإنتاج الوطني بمجمله. ومن البديهي أن مثل هذا التنظيم الشامل يفترض وجود خطة عامة للإنتاج. فإذا ما تجمعت كل المصانع والمشاغل بالإضافة للإنتاج الزراعي برمته لتكوين مشروع تعاوني جبار، فبديهي أن يكون كل شيء محسوب له الحسبان في مثل هذا المشروع. يجب أن نعلم سلفا كمية العمل المطلوب تعيينها لمختلف فروع الصناعة، وما هي المنتجات المطلوبة وما هي الكمية الواجب إنتاجها من كل منها، ومن أين وكيف نحصل على الآلات. إن هذه التفاصيل، وسواها، يجب التفكير بها سلفا بأكبر قدر ممكن من الدقة على أقل تقدير. ويجب توجيه العمل بمقتضى حساباتنا هذه. هكذا يتم تنظيم الإنتاج الشيوعي. فبدون خطة شاملة، وبدون نظام توجيه عام، وبدون محاسبة ورصد دقيقين، لا يكون هناك تنظيم. هذا هو نوع الخطة الذي يحتاجها النظام الشيوعي. على أن مجرد التنظيم لا يكفي بحد ذاته. فجوهر المسألة هو في أن يكون التنظيم تنظيما تعاونيا لجميع أفراد المجتمع. وبالإضافة لمسألة التنظيم هذه، يتميز النظام الشيوعي بكونه يقضي على الاستغلال ويلغي قسمة المجتمع إلى طبقات. يمكن تصور تنظيم الإنتاج على النحو التالي: مجموعة من الرأسماليين تسيطر على كل شيء، وهكذا يكون الإنتاج منظما بحيث الرأسمالي لا ينافس الرأسمالي، وإنما يتعاونان على استخراج فضل القيمة من العمال بعد تحويلهم عمليا إلى عبيد أرقاء. هذا التنظيم متوافر، لكنه مترافق مع استغلال طبقة لأخرى.وهنا نجد أن وسائل الإنتاج مملوكة جماعيا، لكنها ملكية جماعية لطبقة واحدة فقط هي الطبقة المستغِلة. وهذا أمر مختلف كل الاختلاف عن الشيوعية، مع أنه يتسم بتنظيم الإنتاج. إن مثل هذا التنظيم للمجتمع يزيل واحدا من التناقضين الأساسين: فوضى الإنتاج. لكنه يعزز، في المقابل، التناقض الأساسي الآخر في المجتمع الرأسمالي –قسمة المجتمع إلى معسكرين متناحرين. أي أنه يزيد من حدة الحرب الطبقية. ينجح مثل هذا المجتمع في تنظيم جانب واحد من جانبيه الاثنين. أما جانبه الآخر، جانب بنيته الطبقية، فإنه مهدد دوما بالانفجار. إن المجتمع الشيوعي لا يكتفي بتنظيم الإنتاج. إنه يحرر الإنسان من اضطهاد الإنسان أيضا. أي أنه مجتمع يسود التنظيم كل مرافقه. كذلك فإن الطابع التعاوني للإنتاج الشيوعي يظهر في أدق تفاصيل التنظيم. في المجتمع الشيوعي، مثلا، لن نلقى مديرين يتولون إدارة المصانع باستمرار، ولن نلقى أناسا يؤدون العمل ذاته طوال حياتهم. في ظل الرأسمالية، إذا كان المرء صانع أحذية، فإنه يقضي حياته كلها في صنع الأحذية. وإذا كان طباخا، يقضي كل حياته في مصنع قوالب الحلوى. وإذا كان مديرا لمصنع، يصرف أيامه في إصدار الأوامر وفي العمل الإداري. أما إذا كان عاملا، فإنه يقضي العمر كله يطيع الأوامر. المجتمع الشيوعي لا يعرف أيا من هذه الأمور. ففي ظل الشيوعية، يتلقى البشر ثقافة شاملة ومتعددة الجوانب، بحيث يسهل عليهم العمل في مختلف فروع الإنتاج: اليوم أعمل كمدير، وأحسب كم يجب إنتاجه من الأحذية وقوالب الحلوى خلال الشهر القادم، وغدا سأعمل في مصنع للصابون، وربما عملت الشهر القادم في تنظيف الثياب، والشهر الذي يليه في محطة توليد الكهرباء. هذا ما يمكن تحقيقه عندما يتوافر لأفراد المجتمع التعليم اللائق. التوزيع في المجتمع الشيوعي إن نمط الإنتاج الشيوعي يفترض تسخير الإنتاج لسد الحاجات المباشرة لا تسخيره لمتطلبات السوق. في ظل الشيوعية، لا يتم الإنتاج على يد صانع واحد أو فلاح واحد، وإنما يتولى الإنتاج تعاونية ضخمة. وبنتيجة هذا التغير، ينتج المجتمع منتجات لا سلعا. هنا تزول مبادلة المنتجات بعضها ببعض، كما تزول عملية البيع والشراء. بكل بساطة، تخزن هذه المنتجات في المستودعات الجماعية يجري تسليمها للذين يحتاجونها. وفي ظروف كهذه، تزول الحاجة إلى النقود. وقد يسأل البعض: كيف يمكن أن يتم ذلك؟ وماذا لو أدى ذلك إلى حصول البعض على ما هو دون حاجته والبعض الآخر على ما هو فائض عنها؟ وماذا تكون الجدوى من اعتماد هذه الطريق في التوزيع؟» الجواب هو كالآتي: في البدء، سوف تضطر لوضع تشريعات خاصة لن تلغي قبل عشرين أو ثلاثين سنة. وبعض المنتجات لن تعطي إلا للذين يملكون إشارات خاصة على بطاقات عملهم. ثم نتخلى عن كل هذه التشريعات عندما يترسخ المجتمع الشيوعي ويكتمل نموه. فتصبح كل المنتجات متوافرة بكميات إضافية، ونكون قد شفينا من جراحنا الحالية، فيمسي بامكان كل منا أن يحصل على ما يريد حسب حاجته إليه. «ولكن، ألن يسعى الناس إلى الحصول على ما يفيض عن حاجاتهم؟» لا، بالتأكيد. في الوقت الحاضر، لا يفكر أي منا، إذا أراد احتلال مقعد في القطار، أن يشتري ثلاث بطاقات سفر، ويبقى مقعدين خاليين إلى جانب. هكذا سيكون الحال بالنسبة لجميع المنتجات. فالمرء يستحصل من المستودع الجماعي على حاجته، لا أكثر ولا أقل. ولن يكون هنالك مصلحة لأحد بأن يأخذ ما يزيد عن حاجته لبيع الفائض لآخر، لأن المجتمع يكون قد سد حاجات هذا الآخر على كل حال. إذ ذاك تفقد العملة قيمتها. نعني بذلك كله أن المنتجات سوف توزع، في المراحل الأولى من المجتمع الشيوعي، حسب كمية العمل المبذولة. ثم توزع، في المراحل اللاحقة، حسب حاجة الرفاق إليها. الإدارة في النظام الشيوعي المجتمع الشيوعي مجتمع بلا طبقات. وهذا يعني أن المجتمع الشيوعي هو أيضا مجتمع بلا دولة. لقد بينا سابقا أن الدولة أن الدولة هي التنظيم الطبقي للحكام. والدولة دائما موجهة من قبل طبقة ضد طبقة أخرى. الدولة البرجوازية موجهة ضد البروليتاريا، بينما الدولة البروليتارية موجهة ضد البرجوازية. في المجتمع الشيوعي لا يوجد ملاك أرض ورأسماليون ولا عمال مأجورون –يوجد بشر فقط، يوجد رفاق. وإذا زالت الطبقات، يزول معها الصراع الطبقي، كما تزول التنظيمات الطبقية. وبالتالي، فهذا يعني أن الدولة قد زالت هي أيضا. فلم يعد ثمة من حاجة لقمع أحد، كما لم يعد يوجد من يحتاج إلى ممارسة القمع. وقد يسأل سائل: ولكن كيف يمكن تسيير هذا التنظيم الاجتماعي الضخم بدون إدارة؟ من هو الذي سيضع خطط الإنتاج الاجتماعي؟ من هو الذي سيوزع قوة العمل؟ من سيمسك حسابات الدخل والإنفاق الاجتماعيين؟ بكلمة: من الذي سيشرف على الوضع كله؟ الجواب على كل هذه الأسئلة ليس صعبا. المهام الإدارية المباشرة ستوكل طبعا لمكاتب المحاسبة والإحصاء، التي سوف تتولى يوميا حساب الإنتاج بكامل متطلباته، وتقرر أين يرسل العمال، ومن يؤتي بهم، كما تقرر كمية العمل المطلوبة. وسوف يعمل الجميع وفق إرشادات هذه المكاتب الإحصائية بالقدر الذي تعلموا فيه العمل الجماعي منذ نعومة أظافرهم، وطالما أنهم جميعا يدركون أن هذا العمل ضروري وأن الحياة تصبح أيسر عندما يتم كل شيء وفق خطة موضوعة سلفا وعندما يكون النظام المجتمعي مثل آلة أحسن تزييت أجزائها. ولا حاجة هنا لوزراء دولة وللشرطة والسجون، للقوانين والمراسيم، وما شابه. وكما في الفرقة الموسيقية يراقب العازفون عصا القائد ويعملون حسب حركاتها، كذلك هنا، فالجميع يطّلع على التقارير الإحصائية ويوجه جهده بناء عليها. هذا يعني أن الدولة قد تلاشت. لا انقسام إلى مجموعات ولا طبقة تهيمن على باقي الطبقات. ثم أن الناس يتناوبون على العمل في مكاتب الإحصاء. وهكذا تزول البيرقراطية، أي تزول فئة الموظفين المحترفين الدائمين، فتتلاشى الدولة. على أنها لن يتم إلا في ظل نظام شيوعي راسخ البنيان ومكتمل النمو، ولن يتحقق فورا بعد إحراز النصر. إن الطبقة العاملة مضطرة للنضال ضد أعدائها لفترة طويلة، وخاصة ضد ترسبات الماضي كالكسل والجريمة والعجرفة. هذه أمراض يجب القضاء عليها. ولا بد من تعاقب جيلين أو ثلاثة من البشر في ظل الظروف الجديدة قبل زوال الحاجة إلى القوانين والعقوبات وإلى استخدام الأساليب القمعية من قبل الدولة العمالية. لا بد من انقضاء جيلين أو ثلاثة قبل أن تزول كل مخلفات الماضي الرأسمالي. ومع أن الدولة العمالية تبقى ضرورية طوال هذه المرحلة الانتقالية فلا بد أن تتلاشى سلطة الدولة البروليتارية في النظام الشيوعي المكتمل النمو عند زوال مخلفات المجتمع الرأسمالي. وتندمج البروليتاريا بفئات الشعب الأخرى، لأن الجميع سوف يساهم تدريجيا في العمل المشترك. وفي غضون عقود من الزمن يولد عالم جديد وشعوب جديدة لها عادات جديدة. تطور قوى الإنتاج في النظام الشيوعي (فوائد الشيوعية) ما أن يحرز النصر وتلتئم الجراح، حتى يبدأ النظام الشيوعي بالتنمية السريعة لقوى الإنتاج. وتعود هذه التنمية السريعة للأسباب التالية: أولا، إن قيام الشيوعية يحرر كمية ضخمة من الطاقة البشرية كانت سابقا مهدورة في الصراع الطبقي. لنفكر بعض الشيء بضخامة الهدر للطاقة العصبية والجهد والعمل الناتج عن الصراعات السياسية، والاضرابات والتمردات وقمعها والمحاكمات ونشاط البوليس وسلطة الدولة والجهود اليومية التي تبذلها الطبقات المتناحرة. إن الصراع الطبقي يبتلع الآن كميات من النشاط والامكانات المادية. في النظام الجديد، سوف تتحرر كل هذه الطاقات، لأن النزاع بين البشر سوف يزول. ويجري تكريس هذه الطاقات المحررة لتنمية الإنتاج. ثانيا، ينقذ النظام الشيوعي الطاقات والامكانات المادية التي تفني أو تهدر حاليا في المنافسة والأزمات والحروب. يكفي أن نفكر بما يهدر أيام الحروب، لندرك مدى ضخامة هذه الطاقات والامكانات. كم يخسر المجتمع من صراع البائعين فيما بينهم وصراعهم مع المشترين. وكم من الخراب السخيف ينجم عن الأزمات التجارية. وكم من الهدر تؤدي إليه الفوضى المسيطرة على الإنتاج. إن المجتمع الشيوعي سوف يوفر كل هذه الطاقات التي تهدر حاليا. ثالثا، إن تنظيم الصناعة وفق خطة هادفة سوف يوفر علينا الهدر غير المبرر، لأن الإنتاج الكبير هو دائما أكثر توفيرا من الإنتاج الصغير. وليس هذا وحسب، بل أن تنظيم الصناعة على هذا النحو يسمح أيضا بتحسين الإنتاج من الناحية التقنية، فيتم العمل في مصانع كبيرة تستخدم أكثر الآلات تطورا. هناك قيود على استخدام الآلات الجديدة في ظل الرأسمالية. قرب العمل الرأسمالي لا يلجأ إلى الآلات الجديدة إلا عندما يعجز عن الحصول على قدر كاف من الأيدي العاملة الرخيصة. وعندما ينجح في الحصول على ما يحتاجه من أيد عاملة رخيصة، يمتنع عن إدخال الآلات الجديدة، لأنه يستطيع تحقيق الأرباح الطائلة بدونها. فالرأسمالي يلجأ إلى الآلات فقط عندما تؤدي الآلات إلى تخفيض نفقاته بالنسبة للعمل المرتفع الأجور. على أن العمل رخيص عادة في ظل الرأسمالية. ومن هنا فإن الظروف السيئة التي تسود أوساط الطبقة العاملة تشكل عائقا أمام تحسين التقنية الإنتاجية. وتبرز هذه الصلة السببية بأوضح ما تبرز في الزراعة. هنا كانت قوة العمل دائما رخيصة، ولهذا السبب كان إدخال الآلات في الزراعة بطيئا جدا. المجتمع الشيوعي ليس معنيا بالربح، وإنما هو معني بالعمال. لذا فهو يتبنى فورا كل تقدم تقني. ويكسر القيود التي فرضتها الرأسمالية عليه. وبالطبع يستمر التقدم التقني في المجتمع الشيوعي، لأن الجميع سوف يتلقون أفضل تعليم ممكن، والعمال الأكفاء –الذين كانوا يتلقون أفضل تعليم ممكن، والعمال الأكفاء- الذين كانوا يقضون كضحايا للعوز في ظل الرأسمالية- سوف يتمكنون من توظيف كفاءاتهم إلى أقصى حد. وسوف يقضي المجتمع الشيوعي على الطفيلية أيضا. فلا مجال فيه للذين لا يبذلون أي جهد ويعيشون على حساب الآخرين. والذي كان المجتمع الرأسمالي يهدره على الشراهة والعربدة والحياة الصاخبة سوف يكرس لمقتضيات الإنتاج. وسوف يختفي الرأسماليون مع بطانتهم والمتعيشين عليهم (من رجال دين ومومسات وغيرهم)، ويوظف جميع أفراد المجتمع جهودهم في العمل المنتج. ثم أن نمط الإنتاج الشيوعي سوف يؤدي إلى تنمية القوى الإنتاجية. وكنتيجة لذلك، لن يضطر العمل إلى بذل كمية العمل التي كان يبذلها في السابق. وهكذا تتقلص ساعات العمل اليومية باستمرار ويتحرر البشر باطراد من القيود التي تفرضها عليهم الطبيعة. وعندما يصرف الإنسان عددا متناقضا من الساعات على غذائه وكسائه، يستطيع تخصيص المزيد من الوقت لتنمية ملكاته الذهنية. بذلك تصل الثقافة الإنسانية إلى قمم لم تعرفها من قبل. وتنتفي عنها صيغة الثقافة الطبقية، لتتحول إلى ثقافة إنسانية أصيلة. ومع زوال اضطهاد الإنسان للإنسان، تزول هيمنة الطبيعة على البشر، ويصبح بمقدور النساء والرجال أن يعيشوا حياة جديرة ببشر يملكون القدرة على التفكير بدلا من حياة البهائم التي كانوا يعيشونها في السابق. دكتاتورية البروليتاريا إن البروليتاريا يجب أن تمركز كل السلطات بيدها لكي تتمكن من تحقيق النظام الشيوعي. وهي لا تستطيع نسف العالم القديم إلا إذا كانت السلطة بيدها، إلا إذا تحولت إلى طبقة حاكمة لفترة من الزمن. ومن الواضح أن البرجوازية لن تتخلى عن موقعها دون صراع. فالشيوعية بالنسبة إليها تعني خسارتها لسلطتها، وفقدان «حريتها» في امتصاص دم العمال وعرقهم، وحرمانها من تحصيل الإيجارات وجني الفوائد والأرباح. وبالتالي، فلا بد للمستغِلين من أن يقاوموا بضراوة ثورة البروليتاريا الشيوعية والتحويل الشيوعي للمجتمع. من هنا، فإن أول مهمة تقع على عاتق الحكومة هي مهمة سحق هذه المعارضة دون هوادة. ولأن هذه المعارضة سوف تكون ضارية جدا وشرسة للغاية، فلا بد للسلطة العمالية، لا بد للحكم البروليتاري من أن يتخذ شكل الدكتاتورية. «الديكتاتورية» تعني أساليب حكم صارمة جدا، وتعني سحق الأعداء دون هوادة. ومن الواضح أنه لا يمكن الحديث عن «الحرية» للجميع في ظل أوضاع كهذه. إن ديكتاتورية البروليتاريا متعارضة مع منح الحرية للبرجوازية. والواقع أن هذا هو بالتحديد بسبب الحاجة إلى دكتاتورية البروليتاريا: لحرمان البرجوازية من الحرية، لتقييدها وشل نشاطها، لمنعها من مواصلة النضال ضد البروليتريا الثورية. وبالقدر الذي تكون فيه مقاومة البرجوازية ضارية، وحشدها لقواها مستميتا، وموقفها خطرا، بذاك القدر يجب أن تكون دكتاتورية البروليتاريا قاسية وحازمة. وفي الحالات القصوى، لا يجوز للحكومة العمالية أن تتردد في اللجوء إلى الإرهاب. ولن تبدأ دكتاتورية البروليتاريا بإرخاء قبضتها تدرجيا إلا بعد انتهاء عملية سحق المستغِلين، وشل مقاومتهم، وعندما يفقدون القدرة على الإساءة للطبقة العاملة. في تلك الأثناء تكون البرجوازية قد أخذت تندمج بالبروليتاريا شيئا فشيئا، وتتلاشى الدولة العمالية تدريجيا، ويتحول المجتمع كله إلى مجتمع شيوعي بلا طبقات. في ظل المؤسسة المؤقتة التي نسميها بدكتاتورية البروليتاريا لن تكون وسائل الإنتاج، بحكم طبيعة هذه الدكتاتورية نفسها، ملكا للمجتمع ككل، وإنما فقط للبروليتاريا، ولجهاز الدولة التابع لها. وتحتكر البروليتاريا، أي أكثرية السكان، ملكية وسائل الإنتاج مؤقتا. هذا يعني أن دكتاتورية البروليتاريا لا تشتمل على الإنتاج الشيوعي الشامل. فقسمة المجتمع إلى طبقات لا زالت قائمة، كما لا يزال يوجد طبقة حاكمة (هي البروليتاريا) تحتكر ملكية كافة وسائل الإنتاج، وسلطة حكومية (السلطة البروليتارية) تتولى سحق أعدائها. ولكن مع شل مقاومة الرأسماليين وملاك الأرض وأصحاب المصارف والجنرالات والأساقفة السابقين، يبدأ نظام دكتاتورية البروليتارية بالتحول إلى نظام شيوعي، دونما حاجة لثورة تكون واسطة هذا التحول. ودكتاتورية البروليتاريا ليست فقط أداة لسحق أعدائها، إنما هي أيضا وسيلة للتحويل الاقتصادي. يجب استبدال الملكية الفردية لوسائل الإنتاج بالملكية الجماعية. ويجب حرمان البرجوازية من وسائل الإنتاج والتبادل، أي تجب «مصادرة أملاكها». من يستطيع القيام بهذه المهمة؟ بالتأكيد، ما من فرد معزول يستطيع الاضطلاع بهذه المهمة بمفرده حتى ولو كان ينتمي إلى أصل بروليتاري. فلو قيض لفرد معزول، أو حتى لمجموعات معزولة من الأفراد، الاضطلاع بهذه المهمة، لتحول الأمر إلى اقتسام المغانم، في أحسن الأحوال، أو لاعتبرناه مجرد عملية سرقة، في أسوأ الأحوال. لذا نفهم لماذا يجب أن تتولى قوة البرولتاريا المنظمة مصادرة أملاك البرجوازية. إن هذه القوة المنظمة هي التي تتخذ شكل دكتاتورية الدولة العمالية. الاستيلاء على السلطة السياسية تحقق البروليتاريا دكتاتوريتها بالاستيلاء على السلطة السياسية. ولكن ما الذي نعنيه بالاستيلاء على السلطة؟ يتصور الكثيرون أن انتزاع السلطة من يد البرجوازية أمر يسير، يتم بالسهولة التي تنقل فيها كرة من جيب إلى آخر. في البدء تكون السلطة بيد البرجوازية، ثم تطرد البروليتاريا البرجوازية من السلطة وتمسك بزمام الأمور بأيديها. القضية، بالنسبة إلى أصحاب هذه النظرة، ليست قضية بناء سلطة جديدة وإنما هي قضية الاستيلاء على سلطة قائمة. إن مثل هذه الأفكار مغلوطة كليا، والقليل من التأمل يسمح لنا بتبيان مكمن الخطأ. إن سلطة الدولة جهاز منظم. وسلطة الدولة البرجوازية جهاز برجوازي يتم فيه توزيع أدوار البشر بطريقة معينة. فعلى رأس الجيش يتربع الجنرالات (العقداء)، أبناء الطبقة الغنية. وعلى رأس الإدارة يتربع الوزراء، وهم أيضا أبناء الطبقة الغنية، وما إلى هنالك. عندما تناضل البروليتاريا من أجل استلام السلطة، ضد من يكون نضالها موجها؟ إنه موجه ضد هذا الجهاز البرجوازي بالدرجة الأولى. وفي معرض مفاضلتها لهذا الجهاز، يترب على البروليتاريا تسديد ضربات كفيلة بتحطيمه. ولكن طالما أن مكمن القوة الأساسي للحكومة هو الجيش، فإن تفتيت وتدمير الجيش البرجوازي هو الشرط الأول للانتصار على البرجوازية... إذا ظل الجيش المعادي سليما ومتماسكا، يصبح انتصار الثورة مستحيلا. ولكي يتحقق هذا الانتصار، لا بد من تفكك وانهيار جيش البرجوازية. لهذا السبب مثلا لم يكن الانتصار على النظام القيصري يعني أكثر من التدمير الجزئي للدولة القيصرية والتفكك النسبي للجيش. لكن انتصار ثورة أكتوبر كان المؤشر للإطاحة الكاملة والنهائية بجهاز الدولة التابع لـ«الحكومة المؤقتة» وحل جيش كرنسكي نهائيا. وهكذا، فإن الثورة تدمر السلطة القديمة وتبني سلطة جديدة، سلطة مختلفة عن سابقاتها. ولا بد للسلطة الجديدة من استخدام بعض عناصر السلطة القديمة، لكنها تستخدم هذه العناصر بطريقة مختلفة عن ذي قبل. ينجم عن ذلك أن الاستيلاء على السلطة ليس استيلاء على الجهاز القائم سلفا. وإنما يتطلب بناء جهاز جديد، جهاز أتت به الطبقة التي خرجت منتصرة من الصراع. الحزب الشيوعي وطبقات المجتمع الرأسمالي لكي تنتصر البروليتاريا في أي بلد من البلدان، لا بد لها من أي أن تكون متماسكة ومنظمة جيدا، ولا بد من أن يكون لها حزبها الشيوعي الذي رصد بدقة اتجاه تطور الرأسمالية، وفي الظرف الراهن وأحسن تفسيره واستوعب المصالح الحقيقية للطبقة العاملة إضافة إلى امتلاكه للقدرات اللازمة لرصّ الصفوف وقيادة النضال. إن الحزب لا يستطيع أن يجند جميع أفراد الطبقة التي يمثلها. لم يحصل ذلك في أي من زمان أو مكان، ولا بلغت طبقة من الطبقات المستوى الكامل من الوعي. إن الذين ينتظمون في حزب هم، على العموم، الأكثر تقدما من أبناء الطبقة، والأكثر إدراكا لمصالحهم الطبقية. إنهم الأكثر حيوية وجرأة وصلابة في القتال. لهذا السبب تجد أن عدد أعضاء الحزب هم أقل بكثير من مجموع أفراد الطبقة التي يمثل هذا الحزب مصالحها. ولما كان الحزب يمثل مصالح الطبقة، وقد جرى استنباطها بأسلوب صائب، تلعب الأحزاب عادة الدور القيادي بالنسبة لطبقاتها. الحزب يقود الطبقة كلها، والصراع بين الطبقات من أجل السلطة يعبر عن نفسه على شكل صراع الأحزاب السياسية على السلطة. والذي يريد فهم طبيعة الأحزاب السياسية يجب أن يدرس العلاقات المتبادلة بين مختلف طبقات المجتمع الرأسمالي. تبرز المصالح الطبقية المحددة من هذه العلاقات المتبادلة. وكما قلنا سابقا، فإن الهدف الرئيسي للأحزاب السياسية هو الدفاع عن المصالح الطبقية. ملاك الأراضي: في الطور الأول لنمو الرأسمالية، كان الاقتصاد الزراعي يرتكز إلى عمل الفلاحين شبه الأرقاء. مالك الأرض يؤجر الأرض للفلاحين ويحصل على الريع نقدا أو عينيا. ومن أساليب الدفع التي كانت متبعة أن يبذل الفلاح نصف وقته في فلاحة أراضي المالك. وكان من مصلحة ملاك الأراضي كطبقة أن يحولوا دون هجرة الفلاحين إلى المدن. لذا كانوا يقاومون أي تجديد، ويتمسكون بعلاقات العبودية السائدة في القرى، ويعاندون تطور الصناعة الإنتاجية. كان ملاك الأراضي يملكون اقطاعات واسعة، وكان معظمهم لا يقوم بأي عمل على الإطلاق، وإنما يعيش كالحشرات الطفيلية على حساب الفلاحين. وكنتيجة لذلك، كانت الأحزاب الممثلة لملاك الأراضي، ولا تزال، الركائز الأساسية للرجعية. إنها الأحزاب الساعية، في كل مكان، للعودة إلى العهد القديم، إلى حكم ملاك الأرض، إلى إعادة مالك الأرض –القيصر (الملك) وتأمين سيطرة «النبلاء ذوي الدم الأزرق»، واستعباد الفلاحين والعمال استعبادا كاملا. وهم يشكلون الأحزاب المسماة «محافظة»، والأصح أن نسميهم «الأحزاب الرجعية». ومنذ غابر الزمان، يستمد الجيش والبحرية ضباطها من بين صفوف النبلاء ملاك الأراضي، فمن الطبيعي إذن أن تكون أحزاب ملاك الأرض على وفاق تام مع الجنرالات وأميرالات البحر. وهذا ما نجده في كل بلدان العالم. البرجوازية الرأسمالية: تكمن مصلحة هذه الطبقة في تأمين أكبر قدر ممكن من الأرباح من خلال تطوير «الصناعة الوطنية»، أي في استخراج فضل القيمة من الطبقة العاملة. وبالطبع فإن هذه المصلحة لا تتوافق كليا مع مصالح ملاك الأرض. ذلك أن ظروف الحياة التقليدية تضطرب عندما يبدأ رأس المال بالتسلل إلى حياة القرى. ينجذب الفلاحون نحو المدينة، ويولد رأس المال طبقة بروليتارية كبيرة، ويثير حاجات جديدة لدى أهالي القرى ، وإذا بالفلاحين يسلكون طريق التململ والتمرد بعد أن كانوا مستكينين خانعين. إن ملاك الأرض يرفضون كل هذه البدع، بينما البرجوازية الرأسمالية تجدها حبلى بالوعود. فبقدر ما ينجذب الفلاحون نحو المدن، يتسع نطاق العمل المأجور المسخر لخدمة الرأسماليين وتنخفض الأجور. وبقدر ما تنهار حياة الريف ويكف المنتجون الصغار عن إنتاج السلع المختلفة لاستهلاكهم الخاص، تزداد حاجتهم لشراء هذه السلع من الصناعيين الكبار. هذا يعني أنه كلما تسارعت عملية اضمحلال الظروف القديمة حيث كانت القرية تنتج فيها كل ما تحتاجه لاستهلاكها الخاص، يزداد اتساع سوق المنتجات المصنوعة وترتفع أرباح الرأسماليين. لهذا السبب يهاجم الرأسماليون ملاك الأراضي ذوي العقلية القديمة (ولا يجوز أن ننسى هنا ملاك الأرض الرأسماليين الذين يستثمرون الأراضي بمساعدة الآلات والعمل المأجور. إن مصالح هؤلاء قريبة جدا من مصالح البرجوازية، وغالبا ما ينضمون إلى أحزاب الرأسماليين الكبار). ولكن الصراع الرئيسي بالنسبة للرأسماليين هو صراعهم مع الطبقة العاملة. وعندما تخوض الطبقة العاملة معظم معاركها ضد ملاك الأراضي، ولا تولي إلا أهمية ثانوية للصراع ضد البرجوازية، تنظر البرجوازية بعين الرضى إلى نضال الطبقة العاملة. هكذا كان الحال في روسيا عام 1904 وحتى أكتوبر عام 1905. ولكن عندما يبدأ العمال باكتشاف مصالحهم الشيوعية ويشنون النضال ضد البرجوازية، إذ ذاك تتحالف البرجوازية مع ملاك الأراضي ضد العمال. لذا نجد أن أحزاب البرجوازية الرأسمالية (المسماة أحزابا «ليبرالية») تخوض الآن، وفي كل مكان، معركة ضارية ضد البروليتاريا الثورية، وتشكل هذه الأحزاب القيادية السياسية للردة المضادة للثورة. البرجوازية الصغيرة في المدن. ينتمي إلى هذه الفئة الحرفيون المستقلون وأصحاب الحوانيت الصغيرة، والفئات الدنيا من الانتلجنسيا والموظفين. وهم لا يشكلون في الواقع طبقة قائمة بذاتها وإنما كتلة هلامية من البشر. كل هذه العناصر تعاني من الاستغلال الرأسمالي، إلى هذا الحد أو ذاك، وغالبا ما تبذل ساعات عمل طويلة. والعديد منهم ينهار اقتصاديا خلال التطور الرأسمالي. على أن شروط عملهم تمنع العديد منهم من إدراك مدى مأساوية وضعهم في ظل الرأسمالية. لنأخذ الحرفي المستقل كمثال. إنه نشيط قدر نشاط النملة. يتعرض للاستغلال الرأسمالي بأشكال مختلفة. المرابي يستغله. صاحب المشغل الذي يعمل فيه يستغله... على أن الحرفي يعتبر نفسه «سيدا»، إنه يعمل بالأدوات التي يملكها، وهكذا يبدو «مستقلا» مع أنه في الحقيقة واقع في شباك العنكبوت الرأسمالي. وهو يعيش على أمل دائم بأن يرتقي اجتماعيا. يقول لنفسه: «سوف أوسع مهنتي قريبا ثم ابدأ بشراء المواد الأولية لحسابي الخاص». وهو، إلى ذلك كله، حريص على عدم الاختلاط بالعمال، ويسعى في نسق حياته، إلى تقليد النبلاء، لأنه يطمح إلى أن يكون هو نفسه «خواجه» ذات يوم. لذا تجد أنه يشعر بصلة قربى تشده إلى الرأسمالي الذي يستغله أكثر من شعوره بالقربى من العمال، مع أنه ليس أحسن حالا من العمال الفقراء. وترفع أحزاب البرجوازية الصغيرة في الغالب راية «الراديكالية» أو «الجمهورية»، لكنها قد تكون أيضا أحزابا «اشتراكية». يصعب إخراج البرجوازيين الصغار من هذا الإطار الذهني الخاطئ الذي يعيشون ضمنه. ذلك قدرهم البائي، مع أنهم ليسوا شخصيا مسؤولين عنه. الفلاحون. يحتل الفلاحون في الريف موقعا قريبا جدا من الموقع الذي تحتله البرجوازية الصغيرة في المدن. وهم أيضا لا يشكلون طبقة، بالمعنى الدقيق للكلمة، لأنهم ينشقون إلى فئات طبقية متعددة في ظل الرأسمالية. وفي كل قرية، نجد الفلاحين يهاجرون إلى المدن بحثا عن عمل، وسرعان ما يتحولون إلى بروليتاريين. بينما الفلاحون الآخرون يتحولون إلى فلاحين أغنياء أو مرابين. الفلاحون «المتوسطون» يشكلون فئة عديمة الاستقرار. العديد منهم ينهار مع الزمن، ويتحول إلى «رجل بدون أحصنة» ويضطر بالتالي إلى العمل كعامل زراعي أو عامل صناعي. ويحالف الحظ البعض الآخر و«يحتل مكانه تحت الشمس»، فيراكم الثروات، ويتحول إلى «فلاح سيد» يستخدم العمال الزراعيين والآلات الزراعية –أي أن أفراد هذه الفئة يتحولون إلى أصحاب مشاريع رأسمالية. لهذا كله نقول أن الفلاحين لا يشكلون طبقة واحدة، بالمعنى الدقيق للكلمة. ولا بد لنا من أن نميز ثلاث فئات فلاحية. الفئة الأولى هي فئة الفلاحين الأغنياء، الفلاحين الأسياد، الذين تتشكل منهم البرجوازية الريفية، ذلك أنهم يستغلون العمل المأجور. والفئة الثانية هي فئة الفلاحين المتوسطين، الذين يعملون في مزارعهم الصغيرة ولا يستغلون العمل المأجور. أما الفئة الثالثة والأخيرة، فهي فئة الفلاحين الفقراء الذين تتكون مهم شبه البروليتاريا الريفية والبروليتاريا الريفية. يسهل إذن أنة ندرك أن أفراد هذه الفئات الفلاحية المختلفة يتخذون مواقف متباينة من الصراع الطبقي بين البروليتاريا والبرجوازية، نظرا لاختلاف مواقعهم هم. فالفلاحون الأغنياء هم في العادة حلفاء البرجوازية، وغالبا ما يكونون حلفاء ملاك الأراضي أيضا. ومن جهة ثانية، فمن الطبيعي للفئة شبه البروليتارية في الريف أن تدعم العمال في نضالهم ضد البرجوازية والفلاحين الأغنياء. أما بالنسبة للفلاحين المتوسطين، فإن وضعهم أكثر تعقيدا. لو أن الفلاحين المتوسطين يدركون أن لا حل لقضايا الكثرة الساحقة منهم في ظل الرأسمالية، وأن قلة قليلة منهم فقط هي التي ستتمكن من بلوغ مستوى فلاحين أغنياء، بينما الكثرة الساحقة ستضطر إلى العيش في البؤس المدقع. لو أنهم يدركون كل ذلك، لكانوا دعموا العمال بدون تحفظ، لكن مأساتهم تكمن هنا بالضبط. فالذي ينطبق على الحرفيين المستقلين والبرجوازيين الصغار في المدن ينطبق عليهم هم أيضا. فكل واحد منهم من يعلل نفسه بحلم الارتقاء الاجتماعي، بحلم جمع الثروات، مع أن الفلاح المتوسط يعاني من اضطهاد الرأسمالي والمرابي ومالك الأرض والفلاح الغني. فتكون النتيجة أن الفلاحين المتوسطين غالبا ما يتأرجحون بين البروليتاريا والبرجوازية. وهم عاجزون عن تبني برنامج البروليتاريا كليا، مع أنهم يخافون ملاك الأرض في الوقت ذاته. الطبقة العاملة (البروليتاريا) تتكون هذه الطبقة من الذين «لا يملكون أن يخسروا سوى قيودهم». إنهم ضحايا الاستغلال الرأسمالي الذين يؤدي التطور الرأسمالي إلى زيادة التحامهم في كتلة متماسكة ومنسجمة مكونة من أناس اعتادوا العمل والنضال جنبا إلى جنب. لهذا السبب نعتبر أن الطبقة العاملة هي الطبقة الأكثر تقدما في المجتمع الرأسمالي. ولهذا السبب أيضا، نعتبر أن حزب الطبقة العاملة، هو الحزب الأكثر تقدما والأكثر ثورية الذي أنتجه التاريخ. فمن الطبيعي إذن أن يكون هدف ذلك الحزب هو الثورة الشيوعية. ويجب على الحزب البروليتاري التمسك بهذا الهدف دون مساومة. ذلك أن دوره ليس المساومة مع البرجوازية وإنما الإطاحة بسلطتها وسحق مقاومة الرأسماليين. أي أنه يجب على هذا الحزب أن «يكشف التناقض المطلق في المصالح بين المستغِلين والمستغَلين» (العبارة من البرنامج القديم لحزب العمال الاشتراكي الديموقراطي الروسي). ما هو الموقف الذي يجب أن يتخذه حزبنا من البرجوازية الصغيرة، من الفئات المفقرة غير البروليتارية في المدن، ومن الفلاحين المتوسطين؟ الموقف واضح نظرا لما قلناه أعلاه. يجب إلا نكلّ أو نملّ من ترداد براهيننا وشروحنا لإقناع هؤلاء بأن أوهامهم حول تحسين أحوالهم في ظل الرأسمالية أما أن تكون نتيجة تضليل الآخرين وأما أن تكون نتيجة خداع الذات. يجب أن نشرح للفلاحين المتوسطين، بوضوح وصبر، أنه ينبغي عليهم الانضمام إلى المعسكر البروليتاري بدون تردد، وان يقاتلوا جنبا إلى جنب مع العمال، رغم كافة الصعاب. والواجب يدفعنا إلى أن نبين لهم أن الفئة الفلاحية الوحيدة الني تفيد من انتصار البرجوازية هي فئة الفلاحين الأغنياء الذين سوف يتحولون إلى طبقة جديدة من ملاك الأرض. باختصار، علينا أن ندعو جميع المنتجين إلى التحالف مع البروليتاريا، إلى النظر إلى الأمور من زاوية نظر البروليتاريا. والواقع أن أفراد البرجوازية الصغيرة والفلاحين المتوسطين مليئون بالترسبات الناجمة عن ظروف معيشتهم. ومن واجبنا أن نكشف لهم حقيقة الأوضاع السائدة. يجب أن نبين لهم أن موقع الحرفي والفلاح المنتج في ظل الرأسمالية هو موقع بائس، وأنه لا بد له من التخلي عن الأوهام التي يلهو بها. يجب أن نقول للفلاح المتوسط أن بقاء الرأسمالية يعني استمرار ملاك الأرض في «جرش الملح على ظهره»، وسيان هنا أكان مالك الأرض نبيلا من الطراز القديم من ملاك الأرض أم فلاحا غنيا، أي مالك أرض من طراز جديد.إن إمكانية إعادة بناء الحياة على أسس جديدة لا تقوم إلا عبر انتصار وتدعيم البروليتاريا. ولكن بما أن انتصار البروليتاريا مرهون بتنظيم العمال وبوجود حزب قوي متماسك وحازم، يجب علينا أن نضم إلى صفوفنا جميع الكادحين، جميع الذين يعز عليهم بناء حياة جديدة، جميع الذين تعلموا الفكر والنضال كبروليتاريين. الفصل الرابع: تطور الرأسمالية يؤدي إلى الثورة الشيوعية (الإمبريالية، الحرب، وانهيار الرأسمالية) الرأسمالية المالية قلنا سابقا أن الرأسماليين يعيشون في حالة نزاع حاد ودائم فيما بينهم خلال تنافسهم على الأسواق، وأن النتيجة الحتمية لهذا النزاع هي انتصار الرأسماليين الكبار. هكذا ينهار الرأسماليون الصغار، ويتراكم رأس المال ووسائل الإنتاج في يد كبار الرأسماليين (ظاهرة تكثف وتمركز رأس المال). في الثمانينات من القرن التاسع عشر كانت عملية تمركز رأس المال قد قطعت شوطا كبيرا. وحل عدد كبير من الشركات المساهمة، والمشاريع التعاونية، محل أرباب العمل الأفراد (فلنذكر أن هذه «التعاونيات» كانت شركات يساهم فيها الرأسماليون). ما مغزى هذا التطور؟ لماذا ظهرت الشركات المساهمة؟ الجواب بسيط. جاء وقت أصبح فيه إنشاء مشروع رأسمالي جديد يتطلب كمية كبيرة من رؤوس الأموال. فالمشاريع الضعيفة من حيث رؤوس أموالها كانت تملك حظا قليلا في الحياة. ذلك أنها كانت مطوقة بالمنافسين الأقوياء من كل الجهات، أي بالمشاريع التي تنتج على نطاق واسع. لذا، فلكي لا يقضي على مشروع رأسمالي في المهد، كان لا بد من بنائه على أسس راسخة. ولكن الذين يستطيعون بناء مثل هذه الأسس الراسخة هم الذين يملكون وفرة من رؤوس الأموال. هكذا كانت الشركات المساهمة وليدة تلك الحاجة إلى كميات كبيرة من رؤوس الأموال. وتتلخص قضية الشركات المساهمة باستغلال حفنة من كبار الرأسماليين لرؤوس الأموال المجمعة لدى الرأسماليين الصغار أو للمدخرات المتراكمة بين أيدي الفئات غير الرأسمالية (الموظفون، الفلاحون، المستخدمون،الخ). ويتم ترتيب الأمور على النحو التالي. الكل يقدم حصته من رأس المال. والكل يحصل على «سهم» أو عدة «أسهم». وفي مقابل المال المدفوع، يحصل كل من المساهمين على «شهادة حيازة سهم» من أسهم الشركة، تتيح له حق الحصول على نسبة معينة من أرباحها. وبهذه الطريقة، يؤدي تراكم الكميات الصغيرة من رؤوس الأموال إلى ولادة شركات رأسمالية مساهمة كبيرة. عندما ظهرت الشركات المساهمة لأول مرة، بدأ بعض المفكرين البرجوازيين، وأيضا بعض الاشتراكيين من دعاة التعاون الطبقي، التبشير بأن عهدا جديدا قد بدأ. فأعلنوا أن الرأسمالية لن تؤدي إلى سيطرة حفنة من الرأسمالية. بل بالعكس تماما. فالعامل يستطيع الآن أن يوفر بعضا من دخله لشراء الأسهم، وهكذا يتحول كل عامل إلى رأسمالي. واعتبر هؤلاء المفكرون أن رأس المال يصبح «ديموقراطيا» على نحو متزايد، بحيث تزول الفوارق بين الرأسماليين والعمال دون حاجة إلى ثورة. طبعا هذا كله هراء وكلام سخيف. فقد سارت الأمور بطريقة مختلفة كليا. وكل ما في الأمر أن الرأسماليين الكبار استعانوا بالرأسماليين الصغار خدمة لمصالحهم. وإذا بتمركز رأس المال يسير بوتيرة متسارعة لم يعرفها من قبل، بعد أن باتت المنافسة محصورة بالنزاع بين شركات مساهمة جبارة. والحقيقة أن تمركز رأس المال خطا خطوة جديدة على أمام. فخلال العقود الأخيرة، حلت تجمعات رأسمالية كبيرة –عرفت باسم «النقابات الاحتكارية» و«التروستات»- محل المشاريع الرأسمالية الفردية والشركات المساهمة الفردية. لماذا نشأت هذه التجمعات؟ وما مغزى قيامها؟ لنفترض أن الرأسماليين الصغار اضمحلوا كليا في أحد فروع الإنتاج، كالنسيج أو الصناعات الهندسية مثلا. ولم يبق إلا خمس أو ست شركات مساهمة كبيرة، تحتكر إنتاج النسبة الأعلى من سلع هذين الفرعين الصناعيين. هذه الشركات تعيش حالة منافسة شرسة وحادة، الأمر الذي يؤدي إلى انخفاض أسعار سلعها، وبالتالي إلى انخفاض أرباحها جميعا. ولنفترض الآن أن شركتين هي الأكبر والأقوى بالمقارنة مع الشركات الباقية. فنجد أنهما قادرتان على الاستمرار في النزاع إلى حين انهيار الخصوم الآخرين. ولنفترض أن قوة هاتين الشركتين متعادلة: كمية الإنتاج واحدة، وأنواع الآلات واحدة، وعدد العمال واحد، وأخيرا ليس ثمة من فوارق كبيرة في كلفة إنتاج السلع بينهما. فما النتيجة؟ لا يستطيع أي منهما الانتصار في المعركة، وكلاهما قد أصابه الإنهاك وانخفضت أرباحه. هنا تصل الشركتان إلى نتيجة واحدة: لماذا نبقى نخفض الأسعار في المضاربة بيننا؟ أليس من الأفضل أن نتحد معا لمص دماء جمهور المستهلكين؟ إن اتحادنا يزيل المنافسة، ويسمح لنا بالسيطرة على السوق، فنستطيع رفع الأسعار قدر ما يحلو لنا. هكذا تولد المجموعات، والتكتلات الرأسمالية، التي نسميها «النقابات الاحتكارية» أو «التروستات». والذي يميز «النقابات الاحتكارية» عن «التروست» أن الأولى تقوم على اتفاق بين الرأسماليين على عدم بيع سلعهم من دون حد معين، أو على المشاركة في تلبية الطلبيات، أو على الانقسام الجغرافي للسوق (أنت تحصر مبيعك في هذه المقاطعة، وأنا، من جهتي، أحصره في مقاطعة ثانية)، إلى ما هنالك. وفق هذا الترتيب، لا يحق لإدارة «النقابة الاحتكارية» إغلاق أي مصنع، ويبقى كل طرف من أطراف العصبة متمتعا بشيء من الاستقلال. أما بالنسبة لـ«التروست»، فإن الاندماج بين الأطراف وثيق إلى درجة أن كل شركة تخسر استقلالها. ويحق لإدارة «التروست» إغلاق مصنع معين، أو إعادة بنائه، أو نقله إلى مكان آخر، أو التصرف به حسبما تمليه مصلحة «التروست» العامة. طبعا، في ظل هذا التدبير يظل صاحب الشركة (أو أصحابها) يحصل الأرباح التي تدرها شركته، وقد ترتفع هذه الأرباح عما كانت عليه من قبل، إلا أن إدارة المصانع والشركات المنضوية في «التروست» تكون بيد إدارة «التروست» نفسه. تمارس «النقابات الاحتكارية» و«التروستات» سيطرة شبه مطلقة على السوق. وهي لا تخاف المزاحمة، لأنها قضت عليها كليا. وحل محل المزاحمة، الاحتكار الرأسمالي، أي سيطرة تروست واحد على السوق. وهكذا نجد أن تمركز رأس المال يؤدي تدريجيا إلى القضاء على المزاحمة. وهكذا تحفر المزاحمة قبرها بيدها. وكلما تسارع نمو الرأسمالية، تتسارع عملية التمركز، وتتسارع عملية انهيار الرأسماليين الصغار. وهكذا، يظهر أن تمركز رأس المال، يشكل، في نهاية المطاف، الضربة القاضية للمزاحمة. فقد حلت هيمنة التجمعات الرأسمالية، أي حل حكم «النقابات الاحتكارية» و«التروستات الرأسمالية» محل «المنافسة الحرة». والواقع أن «النقابات الاحتكارية» و«التروستات» لا تقتصر على تجميع الشركات المنتمية إلى فرع صناعي واحد. فمع الوقت، تبدأ بشمول عدة فروع إنتاجية. كيف يتم ذلك؟ إن فروع الإنتاج ترتبط بعضها ببعض بالدرجة الأولى من خلال البيع والشراء. لننظر مثلا إلى إنتاج خام الحديد والفحم. إننا نتعاطى هنا مع منتجات تستخدم كمواد خام لمعامل صب الحديد والمشاغل الهندسية، وهذه المصانع تنتج بدورها الآلات، والآلات تشكل وسائل الإنتاج في سلسلة من الفروع الأخرى، إلى ما هنالك. لنفترض أننا نملك مصنعا لصب الحديد. إنه يشتري خام الحديد والفحم. إن مصلحة هذه الشركة هي بالطبع أن تشتري خام الحديد والفحم بأرخص سعر ممكن. ولكن ماذا لو كان خام الحديد والفحم تحت سيطرة «نقابة احتكارية» ثانية؟ إذ ذاك يبدأ نزاع بين «النقابيين الاحتكاريين» الذي ينتهي إلى انهيار إحداهما أو الاندماج بينهما. وفي كلا الحالين، تولد نقابة احتكارية جديدة تضم فرعي الإنتاج. ومن البديهي أن مثل هذا الاندماج قد يحصل ليس فقط بين فرعين إنتاجين، وإنما أيضا بين ثلاثة أو حتى عشرة فروع. وهذا ما نسميه بالشركات «المجمعة». وهكذا فإن النقابات الاحتكارية والتروستات لا تقتصر على تنظيم فروع إنتاجية مفردة، وإنما تصهر في تنظيم واحد أنواعا مختلفة من الفروع الإنتاجية. فتوحد فرعا مع آخر، مع ثالث ورابع، إلى آخره. في السابق كان أرباب الأعمال مستقلين كل في فرعه، وكان الإنتاج موزعا على عشرات الألوف من المصانع الصغيرة. ولكن، في مطلع القرن العشرين، كان الإنتاج قد أصبح متمركزا بيد تروستات جبارة تهيمن كل منها على عدة فروع إنتاجية. على أن إتحاد فروع الإنتاج الانفرادية تم بطريقة أخرى غير طريقة أخرى طريقة تشكيل «المجمعات» الصناعة. وعلى القارئ أن يركز اهتمامه الآن على ظاهرة أهم من المشاريع الرأسمالية «المجمّعة»، نعني بها سيطرة المصارف. لا بد، بادئ بدء، من كلمة عن المصارف بشكل عام. قلنا سابقا أنه مع نمو التمركز الرأسمالي، برزت الحاجة إلى رؤوس أموال قالبة للتوظيف المباشر في إنشاء المشاريع الرأسمالية الكبيرة. وكانت هذه الحاجة هي أحد أسباب ظهور الشركات المساهمة. ذلك أن إنشاء مثل هذه المشاريع أخذ يتطلب كميات متزايدة من رؤوس الأموال. لننظر الآن إلى ما يفعله الرأسمالي بالأرباح التي يجنيها. نعرف أنه ينفق البعض منها على سد حاجاته المباشرة:الطعام، الكساء، وغيرها. أما الأرباح الباقية فإنه «يدخرها». والسؤال هنا: كيف يفعل ذلك؟ وهل باستطاعته، في أية لحظة يشاء، أن يوسع عمله، وأن يكرس أرباحه «المدخرة» لهذا الغرض؟ لا، أنه لا يستطيع ذلك. وذلك للسبب التالي: يتدفق المال إلى خزائن الرأسمالي باستمرار، هذا صحيح. لكنه يتدفق بكميات قليلة. فالسلع التي ينتجها تباع بالتدريج، ويصله ثمنها تدريجيا. إنه طبعا يتطلب تراكم كميات كبيرة من هذه الأموال إذا كان يريد استخدامها لتوسيع مصانعه. لذا يضطر إلى انتظار الوقت الذي يتأمن له فيه الكمية المطلوبة لشراء آلات جديدة مثلا. ولكن ما العمل، إلى حين توافر هذه الكمية؟ إنه لا يستطيع استخدام أمواله التي تبقى مجمدة. ثم أن هذا لا يحصل لرب عمل واحد أو اثنين، لكنه يحصل لجميع الرأسماليين. إن «رأس المال الحر» متوافر دائما. لكننا أشرنا أن ثمة طلبا على رؤوس الأموال. وهكذا توجد رؤوس أموال مجمدة من جهة، وتوجد، من جهة ثانية، حاجة لمثل رؤوس الأموال هذه. ومع تسارع عملية تمركز رأس المال، يتصاعد الطلب على كميات كبيرة من الأموال كما تتزايد كمية رؤوس الأموال «الحرة» المتوافرة. إن مثل هذه الظروف هي التي تمنح المصارف كل أهميتها، فالرأسمالي، الذي لا يرغب في تجميد أمواله، يودعها في المصرف. والمصرف بدوره يقرضها إلى الذين يحتاجون إليها من أجل تطوير مشاريعهم الاقتصادية القديمة أو من أجل تأسيس المشاريع الجديدة. بعض الصناعيين يودعون أموالهم في المصرف، والمصرف بدوره يسلفها لصناعيين آخرين. وهؤلاء يستعينون برأس المال المقترض لاستخراج فضل القيمة. ثم يدفعون قسما من مداخيلهم للمصرف تسديدا للفوائد. ويدفع المصرف بدوره، قسما من هذه الفوائد للمودعين، ويستقي القسم المتبقي الذي يشكل الأرباح المصرفية. هكذا تتم الصورة. ولذا نفهم لماذا تزايدت أهمية المصارف واتسع دورها ومجال نشاطها بطريقة مذهلة خلال الطور الأخير من نمو النظام الرأسمالي. إن رؤوس الأموال التي تمتصها المصارف تتزايد باستمرار. ويترافق ذلك مع ارتفاع توظيف رؤوس الأموال المصرفية في الصناعة. إن رأس المال المصرفي «متحرك» دائما في الصناعة، أي أنه يتحول إلى رأس مال صناعي. وهكذا تصبح الصناعة تابعة للمصارف التي تدعمها وتمدها برؤوس الأموال. هكذا يندمج رأس المال المصرفي برأس المال الصناعي. فيتولد نمط من رأس المال يعرف باسم «رأس المال المالي». تلخيصا نقول: إن رأس المال المالي هو رأس المال الصناعي وقد جرى تطعيمه برأس المال المصرفي. يقوم رأس المال المالي، من خلال المصارف، بتوثيق أواصر الصلة بين كافة فروع الصناعة، بنسبة تزيد عن عما حققه أصلا تجميع المشروعات الصناعية. لماذا؟ لنفترض أن لدينا مصرفا كبيرا، يمد بالمال عددا كبيرا من المشروعات الصناعية، أو عددا من النقابات الاحتكارية. طبيعي، إذن، أن تكون مصلحة هذا المصرف في إحلال الوفاق بين هذه المشروعات التابعة له. ذلك أنه يوحدها جميعا. من هنا، فإن سياسته الثابتة ترمي إلى تحقيق اندماج كافة هذه المشروعات في هيئة واحدة يتولى هو إدارتها. وهكذا، يبدأ المصرف بالإمساك بزمام الأمور في سلسلة من الفروع الصناعية. ويتولى موظفوه المناصب الإدارية الرفيعة في التروستات والشركات الافرادية. وفي نهاية المطاف، نصل إلى الصورة التالية: صناعة البلد ككل منخرطة في نقابات احتكارية وتروستات ومشروعات مجمعة. وكل هذه توحدها المصارف. وعلى رأس الحياة الاقتصادية للبلد تتربع حفنة من أصحاب المصارف يديرون الصناعة بأسرها. أما سلطة الدولة، فإنها تنفذ مشيئة أصحاب المصارف وأصحاب التروستات. الإمبريالية تؤدي هيمنة رأس المال المالي، في الأقطار الافرادية، إلى وضع حد نسبي لفوضى الإنتاج الرأسمالي. وإذا بمختلف المنتجين، الذين كانوا يزاحمون بعضهم البعض، يرصون صفوفهم في رأسمالية الدولة الاحتكارية. ولكن ما الذي يحصل، والحالة هذه، لأحد التناقضين الأساسين في المجتمع الرأسمالي؟ فقد قلنا سابقا أن الرأسمالية ستنهار حتما بسبب فوضى الإنتاج وبسبب الصراع الطبقي. وإذا كان أحد هذين التناقضين (انظر المادة بعنوان «التناقضان الأساسيان في النظام الرأسمالي» لم يعد فاعلا، ألا يعني ذلك أن توقعنا انهيار الرأسمالية لا يرتكز إلى أساس متين؟ النقطة الرئيسية التي يجب مناقشتها هي التالية: الحقيقة أن المزاحمة وفوضى الإنتاج لا زالا قائمين وفاعلين. أو لعله من الأصح أن نقول أن المزاحمة تخفت في مكان لتعود إلى الظهور في مكان آخر. وسنحاول شرح هذا القول بشيء من التفصيل. إن الرأسمالية المعاصرة رأسمالية عالمية. فكل الأقطار مترابطة بعضها ببعض، يشتري بعضها من بعض ويبيع. وما من بلد إلا ويرزح تحت وطأة الرأسمالية، ما من بلد يكفي نفسه بنفسه. السؤال الآن هو التالي: هل أن الرأسمالية المالية تقضي على المزاحمة في السوق العالمية؟ هل تصل إلى حد تكوين جهاز عالمي موحد لكونها توحد الرأسماليين في الأقطار الافرادية؟ لا، بالطبع. إن فوضى الإنتاج والمزاحمة يزولان كليا تقريبا في كل بلد بمفرده لأن أرباب العمل الأفراد قد اتحدوا لتشكيل رأسمالية دولة احتكارية. لكن النزاع بين رأسماليات الدولة الاحتكارية يزداد حدة وشراسة. وهذا ما يحصل دائما عندما يتمركز رأس المال. عندما تموت السمكات الصغيرة، ينخفض عدد المنافسين بالضرورة، ولا يبقى إلا السمك الكبير. تتم المنافسة بين كبار الرأسماليين على نطاق واسع، وبدلا من النزاع بين أرباب عمل أفراد، تتم المنافسة بين التروستات. وعدد التروستات هو بالطبع أقل من عدد الرأسماليين الأفراد. هكذا يكون النزاع أشرس وأشد تدميرا. وبعدما ينجح الرأسماليون في احد البلدان من إسداء هزيمة لمنافسيهم الأقل شأنا، وينتظمون في رأسمالية دولة احتكارية، ينخفض عدد المنافسين مجددا. ذلك أن المنافسة باتت محصورة بين القوى الرأسمالية الجبارة. ومثل هذه المنافسة تتطلب إنفاقا وهدرا نادري المثيل. إن النزاع بين رأسماليات الدولة الاحتكارية يعبر عن نفسه في أيام «السلم» بسباق التسلح، وسرعان ما يؤدي هذا السباق إلى الحرب. وهكذا، فبينما تقضي الرأسمالية المالية على المنافسة داخل كل البلد، فإنها مع الوقت تؤدي إلى نشوب منافسة حادة ومريرة بين الدول المختلفة. كيف يحصل ذلك؟ لماذا تؤدي المنافسة بين البلدان الرأسمالية، في نهاية المطاف، إلى اعتماد سياسة توسعية، كما تؤدي إلى اندلاع الحروب؟ لماذا لا تكون هذه المنافسة سلمية؟ عندما يتنافس اثنان من أصحاب المصانع، فإن واحدا منهما لا يهجم على الثاني وبيده خنجر، وإنما يسعى إلى سلبه زبائنه بالوسائل السلمية. فلماذا ترتدي المنافسة على صعيد السوق العالمية هذا الشكل المتوحش؟ لماذا يضطر المتنافسون إلى اللجوء لقوة السلاح؟ كل هذه الأسئلة تتطلب إجابات مفصلة. لننظر إلى سبب التغيير الذي طرأ على سياسة البرجوازية عند الانتقال من الرأسمالية القديمة حيث تسود المنافسة الحرة إلى الرأسمالية الجديدة حيث تهيمن الرأسمالية المالية. ولنبدأ بما يسمى السياسة الجمركية. تسعى الحكومات البرجوازية إلى حماية رأسمالييها في النزاع الدولي، لذا فقد اعتمدت التعرفات الجمركية كسلاح في هذا النزاع. عندما كان أصحاب مصانع الغزل والنسيج الروس، مثلا، يخافون من أن يدخل منافسوهم البريطانيون والألمان سلعهم إلى روسيا ويخفضون الأسعار، أقدمت الحكومة الروسية على فرض رسم على استيراد المنسوجات البريطانية والألمانية. وطبيعي أن يؤدي ذلك إلى إعاقة استيراد روسيا للمنتجات الأجنبية. عادة يعلن الصناعيون أن الرسوم الجمركية ضرورية لتشجيع الصناعة المحلية. ولكننا، إذا درسنا السياسيات الجمركية للدول المختلفة، نجد أن فرض مثل هذه الرسوم جاء تلبية لغرض آخر. فخلال العقود الأخيرة من الزمن، كان أكبر البلدان وأقواها هي التي أثار رأسماليوها أكبر قدر من الضجة مطالبين برفع الرسوم الجمركية على الاستيراد ونجحوا في فرض مثل هذه الرسوم. وكانت الولايات المتحدة السباقة في هذه المضمار. فهل أن منافسة السلع الأجنبية تسيء إلى مثل هذا البلد؟ «لماذا كل هذا الضجيج، يا جون؟ من هو الذي يسيء إليك. أنت هو المعتدي!». ما معنى ذلك كله؟ لنفترض أن الاحتكارات تسيطر على صناعة النسيج في بلد معين. ما ذا يجري عندما يفرض رسم على استيراد النسيج؟ الرأسماليون الاحتكاريون يصيبون عصفورين بحجر واحد. أولا يتحررون من المزاحمة الأجنبية. وثانيا، يرفعون الأسعار، بالنسبة للمستهلكين في بلدهم، بنسبة تعادل تقريبا نسبة الرسم الجمركي المفروض. لنفترض أن الرسم على استيراد الأنسجة هو ليرة لكل متر. في مثل الحالة، لن يتردد احتكاريو مصانع النسيج عن إضافة 57 -100 على سعر سلعهم. لو لم تكن الصناعة احتكارية، لادت المنافسة الداخلية بين الرأسماليين فورا إلى خفض الأسعار. أما والنقابات الاحتكارية تهيمن على هذه الصناعة، فإنها لن تجد صعوبة في رفع الأسعار، لأن الحواجز الجمركية تحول دون دخول المزاحم الأجنبي، والسيطرة الاحتكارية تقضي على المزاحمة داخليا. وبالقدر الذي يظل البلد يستورد الأقمشة، ترتفع عائدات الدولة، بينما الصناعيون الاحتكاريون يجنون الأرباح الإضافية بسبب ارتفاع الأسعار. ولكن هذا كله لا يحصل إلا إذا كانت الاحتكارات والتروستات متحكمة بصناعة النسيج. ثم أن هذا ليس كل ما في الأمر. بفضل الأرباح الإضافية، يستطيع الصناعيون الاحتكاريون إدخال سلعهم إلى بلدان أخرى وبيعها بأسعار منخفضة بهدف القضاء على المزاحمين في أسواق تلك البلدان. وهذا ما يتم فعلا. فاحتكار السكر الروسي مثلا حافظ على سعر السكر مرتفعا نسبيا في روسيا، بينما باعوه في إنكلترا بأسعار منخفضة إلى درجة لا تصدق على أمل القضاء على مزاحميهم في ذلك البلد. وقد شاع القول أن الخنازير الإنكليزية تعيش على السكر الروسي. وهكذا، فإن التعرفة الجمركية تساعد الاحتكارات الصناعية على نهب مواطنيهم من جهة وعلى القضاء على المزاحمين الأجانب من جهة ثانية. أما نتائج هذه السياسية فإنها بالغة الأهمية. بديهي أن أرباح الاحتكارات ترتفع بنسبة زيادة عدد المستهلكين، أي بزيادة عدد الذين تشملهم الحواجز الجمركية. فإذا كان المجال ضيقا، كانت فرص جني الأرباح قليلة. أما إذا كانت المساحات التي تشملها الرسوم الجمركية واسعة ومكتظة بالسكان، تزداد بالتالي فرص جني الأرباح. هنا تكون الأرباح الإضافية طائلة، تسمح بالتصرف بجرأة في السوق العالمية، مع ثقة أكيدة بالنجاح. ولكن مجالات انطباق الرسوم الجمركية تكون بالعادة حدود الدولة نفسها. فكيف يمكن توسيع هذه الحدود؟ بالسيطرة على بلدان أخرى، بضمها إلى حدود البلد الأم، وإلى مجال حكم دولة هذا البلد. لكن هذا يعني اندلاع الحروب. هذا يعني أن هيمنة الاحتكارات ملازمة حتما لحروب الغزو. كل دولة رأسمالية تسعى إلى توسيع حدودها، وهذا ما تمليه مصالح التروستات، مصالح الرأسمالية المالية. والذي يتحدث عن توسيع الحدود يتحدث عن شن الحرب. بهذه الطريقة تؤدي السياسة الجمركية للتروستات والاحتكارات، وسياساتها في السوق العالمية، إلى المجابهات العنيفة. لكن ثمة عوامل إضافية تساعد على نشوب الحرب. قلنا أن تطور الإنتاج يؤدي إلى التراكم المستمر لفضل القيمة. وفي كل بلد عرف التطور الرأسمالي المتقدم، توجد كتلة متنامية من رأس المال الإضافي يدر أرباحا أقل من تلك التي يدرها لو وظف في البلدان المتخلفة. وكلما ازداد حجم رأس المال الإضافي المتراكم في بلد معين، ازدادت المساعي لتصدير رأس المال، أي لتوظيفه في الخارج. وهذا هدف تشجع عليه الرسوم الجمركية. فالواقع أن الرسوم على الاستيراد تعرقل استيراد السلع إلى حد بعيد. فعندما فرض الصناعيون الروس رسوما جمركية مرتفعة على السلع الألمانية المستوردة، بات من الصعب على الصناعيين الألمان إدخال منتجاتهم إلى روسيا. ولكن، عندما اصطدم الرأسماليون الألمان بالعقبات الواقفة في وجه إدخال منتجاتهم لروسيا، وجدوا لأنفسهم مخرجا آخر. فبدأوا يصدرون رؤوس الأموال إليها. بنوا المصانع في روسيا، واشتروا الأسهم في المشاريع الرأسمالية الروسية أو أسسوا مشاريع جديدة ووفروا رؤوس الأموال لانطلاقتها. فهل وقفت الرسوم الجمركية عقبة أمام عملية التصدير هذه؟ كلا. بل العكس، فإن الرسوم الجمركية ساهمت إيجابيا في تدفق رؤوس الأموال على روسيا. والسبب بسيط. عندما يملك الرأسمالي الألماني مصنعا في روسيا، وينضم بالتالي إلى النقابة الاحتكارية «الروسية»، تصبح الرسوم الجمركية الروسية وسيلة تمكنه من جني المزيد من الأرباح. وهكذا فالرسوم على الاستيراد تساعده على نهب الجماهير الروسية مثلما تساعد زملاءه الرأسماليين الروس. على أن رأس المال ينتقل من بلد لآخر ليس فقط لتأسيس المشاريع الجديدة أو لتدعيم المشاريع القائمة أصلا. ففي العديد من الحالات يتخذ شكل رأس المال شكل قرض لحكومة البلد المعني بالأمر، قرض بفائدة محددة. هذا يعني أن الحكومة التي تتلقى القرض تزيد الدين الأهلي، وتصبح مدينة للحكومة التي قدمت القرض. في حالات كهذه، تعمد الحكومة المدينة إلى تقديم كل القروض (وبخاصة القروض الحربية) بين صناعيي الدولة الدائنة. وهكذا تنتقل كميات هائلة من رؤوس الأموال من دولة إلى أخرى، بعضها على شكل توظيفات مباشرة في البناء والصناعة وبعضها الآخر يتخذ شكل القروض الحكومية. وتصل عمليات تصدير رؤوس الأموال إلى أحجام خيالية في ظل سيطرة الرأسمالية المالية. بالإضافة لذلك، تترتب على تصدير رؤوس الأموال نتائج هامة. تتنافس الدولة القوية على السيطرة على الأراضي أو الدولة التي تريد تصدير رؤوس الأموال إليها. ولكننا نريد لفت الأنظار هنا إلى نقطة إضافية. عندما يصدّر الرأسماليون رؤوس الأموال إلى بلد «أجنبي»، فإنهم يجازفون ليس بكمية من السلع، وإنما بمبالغ ضخمة من المال، تبلغ الملايين أو حتى المليارات. فمن البديهي أن يرغبوا في السيطرة الكاملة على هذه البلدان وان يرسلوا الجيوش لحماية رؤوس الأموال المصدرة. وهكذا يتولد في الأقطار المصدرة طموح لإخضاع تلك البلدان لسلطة حكوماتهم، بحيث تزول كافة المجازفات –أي يتولد طموح لغزوها وضمها إلى البلد «الأم». ينجم عن ذلك منافسة بين مختلف الدول القوية والمستغِلة على غزو البلدان المستضعفة. وطبيعي أن تؤدي هذه المنافسة، في نهاية المطاف، إلى الصدام بين اللصوص المتنافسين. من هنا، أدى تصدير رؤوس الأموال إلى نشوب الحرب. يبقى علينا معالجة بعض النقاط الإضافية. يحتدم النزاع على الأسواق مع نشوء الاحتكارات وبناء الحواجز الجمركية. ففي نهاية القرن التاسع عشر لم يكن هناك بلد واحد يتمتع بحرية تصدير السلع، ولا منطقة واحدة لم تطأها قدم الرأسماليين. وشهدت تلك الفترة ارتفاعا كبيرا في أسعار المواد الأولية. المعادن والأصواف والخشب والفحم والقطن –كلها ارتفعت أسعارها. وفي السنوات التي سبقت الحرب مباشرة شهد العالم نزاعا حادا للسيطرة على الأسواق، وصراعا جديدا للبحث عن موارد جديدة للمواد الأولية. كان الرأسماليون يجوبون العالم بحثا عن مناجم فحم جديدة، عن مستودعات جديدة لخامات المعادن، كانوا يتصيدون الأسواق الجديدة ليصدروا إليها منتجات صناعتهم المعدنية، كانوا يفتشون عن جمهور «جديد» من المستهلكين لينهبوه. في السابق، كان المتنافسون في بلد معين يكتفون بالمنافسة «السلمية»، ويحافظون على علاقات معقولة فيما بينهم. لكن تغيرات كبيرة حدثت مع هيمنة المصارف والتروستات. لنفترض أنه قد جرى اكتشاف مستودعات جديدة للنحاس. فورا يسيطر عليها مصرف أو تروست، ويضعها كليا تحت سيطرته، أي يحتكرها. ولا يبقى أمام الرأسماليين الآخرين إلا ندب حظهم العاثر. إن الاعتبارات ذاتها تنطبق على النزاع من أجل السيطرة على الأسواق. لنفترض أن كمية من رؤوس الأموال تسللت إلى إحدى المستعمرات. وجرى تنظيم بيع السلع على نطاق واسع، تحت سيطرة شركة كبيرة. تفتح هذه الشركة فروعا لها في المستعمرة، وتمارس نفوذها على السلطات المحلية ساعية بذلك، عبر ألف حيلة ومناورة، للهيمنة على السوق، لتأمين موقع احتكاري لها وطرد المزاحمين. ومن البديهي أن يتصرف الرأسماليون الاحتكاريون وكبار أصحاب التروستات حسب طبيعتهم. إن «الأيام الحلوة القديمة» قد انقضت. وها أننا نعيش في زمن اللصوص الاحتكاريين. لذا فلا بد من أن يترافق نمو رأس المال مع احتدام النزاع على الأسواق والمواد الأولية، وهذا أمر يفضي حتما إلى المجابهات العنيفة. خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر سيطر «اللصوص الكبار» على مناطق عديدة تابعة لأمم مستضعفة. فبين 1876 و1914، ضمت «الدول الكبرى» ما يقارب 10 ملايين ميل مربع من الأراضي إليها. بكلمة أخرى، سيطرت هذه الدول على مساحات تشكل ضعفي مساحة أوربا نفسها. واقتسم اللصوص الكبار العالم بأسره فيما بينهم، وتحولت باقي الأقطار إلى مستعمرات تابعة ومستعبَدة. وغني عن القول أن البلدان الضعيفة وغير المحمية هي أول من سقط تحت هيمنة اللصوص. كانت أول من تعرض للدمار. تماما، مثلما يكون الحرفيون أول من يتعرض للانهيار نتيجة صراعهم مع الصناعيين. بدأت احتكارات الدولة –أي الرأسماليون الكبار المنظمون لأغراض النهب- بتدمير الحكومات الضعيفة ومصادرة أملاكها. وتطورت عملية تمركز رؤوس الأموال، على الصعيد الاقتصادي العالمي، بالطريقة المعهودة: أصيبت الدولة الثانوية بالإفلاس والانهيار، بينما تراكمت الأموال لدى الدول الكبرى وتضاعفت ثرواتها وقواها. وما أن استكملت الدول الكبرى عملية السيطرة على العالم، حتى بدأت تتنازع فيما بينها. فكان لا بد للقراصنة من أن يتنازعوا فيما بينهم على الغنائم وعلى اقتسام العالم. لم يبق في الساحة إلا الدول اللصة الكبيرة، ونشب فيما بينها صراع حياة أو موت. الإمبريالية هي بالتحديد سياسة الغزو التي تتبعها الرأسمالية المالية في النزاع على الأسواق والمواد الأولية ومجالات استثمار رؤوس الأموال. الإمبريالية وليدة الرأسمالية المالية. وتماما مثل النمر لا يستطيع أن يعيش على أكل الأعشاب، كذلك فإن الرأسمالية المالية لا تستطيع أن تعيش بدون انتهاج سياسة غزو ونهب وعنف ودمار. والرغبة الجامحة لكل من دول الرأسمالية المالية الاحتكارية هي السيطرة على العالم، وبناء إمبراطورية عالمية يسيطر عليها حفنة من الرأسماليين المتعددي الجنسيات. من هنا فإن سيطرة الرأسمالية المالية تؤدي حتما إلى زج البشرية جمعاء في أتون الحرب لمصلحة أصحاب المصارف والاحتكارات، حرب لا تخاض حماية للوطن وإنما في سبيل نهب أوطان الآخرين، في سبيل إخضاع العالم للرأسمالية المالية في البلدان المنتصرة. هكذا كانت طبيعة الحرب العالمية الأولى (1914-1918). النزعة العسكرية إن حكم راس المال المالي، حكم ملوك المصارف والتروستات، يعبر عن نفسه في ظاهرة أخرى بالغة الأهمية هي ظاهرة النمو الذي لا مثيل له في الإنفاق على التسلح –على الجيش والبحرية والطيران. والسبب بديهي. في الأزمنة الغابرة، لم يحلم أي لص بالسيطرة على العالم. أما الآن، فإن أفكار الإمبرياليين متجهة نحو هذا الهدف. ولم يعرف التاريخ مثل هذا السباق بين التروستات الجبارة. وبنتيجة ذلك، يتعزز تسليح الدول. والدول الكبرى، أي اللصوص المحترفون الكبار، تراقب بعضها بعضا، لأن كلا منها يخاف أن يقدم جاره على طعنه من الخلف. من هنا تضطر كل دولة كبيرة على بناء جيش، ليس فقط للسيطرة على المستعمرات وقمع العمال داخليا، وإنما أيضا لمحاربة اللصوص الآخرين. وعندما تدخل إحدى الدول سلاحا جديدا، لا بد للدول الأخرى من أن تحذو حذوها، أو حتى أن تسبقها في هذا المجال، مخافة أن تخسر السباق. هكذا يولد سباق محموم على التسلح، تحاول كل دولة فيه أن تنتصر على الأخرى. وتولد الشركات الضخمة، تروستات «ملوك المدافع» من أمثال «بوتيلوف» و«كروب» و«أرمسترونغ» و«فايكرز» [5] وغيرهم. وتجني احتكارات السلاح هذه أرباحا خيالية. فهي على صلة وثيقة بقادة الجيوش، كما تسعى إلى صب الزيت على النيران المشتعلة، وزيادة فرص النزاع، ذلك أن أرباحها تعتمد على اندلاع الحروب. تلك كانت اللوحة المجنونة للمجتمع الرأسمالي عشية الحرب العالمية. رأسماليات الدولة الاحتكارية تعج بالحراب، وكل الترتيبات جاهزة –برا وبحرا وجوا- للنزاع الدولي، وتقتطع النفقات العسكرية والبحرية حصة متزايدة من موازنات الدول... ملوك السلاح يملأون خزائنهم بالذهب. والعالم بأسره يهرع بخطى متسارعة نحو أشد الحروب هولا، نحو الحرب الإمبريالية العالمية. الحرب الإمبريالية 1914-1918 كان لا بد لسياسة «الدول الكبرى» الإمبريالية من أن تفضي إلى مجابهة عاجلا أم آجلا. وما من شك في أن لعبة النهب التي ساهمت فيها كل «الدول الكبرى» هي السبب الحقيقي لاندلاع الحرب. إن الأبله هو وحده الذي يتمسك بالاعتقاد أن الحرب قد نشبت لأن «الصربيين» قتلوا ولي العهد النمساوي، أو لأن الألمان اجتاحوا بلجيكا. في البدء، دار سجال طويل من أجل تحديد المسؤول الفعلي عن الكارثة. الرأسماليون الألمان زعموا أن روسيا كانت المعتدية، بينما الروس يعلنون أن الألمان هم المبتدئون. في بريطانيا، ساد الاعتقاد أن الإنكليز دخلوا الحرب دفاعا عن «بلجيكا النبيلة الصغيرة». وفي فرنسا كذلك، كان الجميع يكتبون ويزعقون وينشدون إثبات الدور النبيل الذي تلعبه فرنسا في الدفاع عن الأمة البلجيكية الباسلة. أما في النمسا وألمانيا، فقد شاع الاعتقاد أن هذين البلدين يخوضان حربا دفاعية لصد هجوم «الكوزاك». هذا كله هراء. من ألف إلى يائه. كله خداع للعمال. وكان الخداع ضروريا لكي تتمكن البرجوازية من دفع جنودها إلى الحرب. ولم تكن تلك المرة الأولى التي تلجأ فيها البرجوازية إلى مثل هذه الأساليب. فقد رأينا سابقا كيف ادخل الاحتكاريون التعرفات الجمركية العالية من أجل تسهيل عملية غزو الأسواق الخارجية في الوقت نفسه الذي يواصلون فيه نهب مواطنيهم. كانت الرسوم الجمركية أسلحة هجومية بالنسبة إليهم. لكن البرجوازية تصر على أن الهدف من فرض الرسوم الجمركية هو حماية الأسواق المحلية. وهذه هي الحجة نفسها التي استخدمت لتبرير الحرب. إن النقطة الجوهرية في الحرب الإمبريالية الرامية إلى إخضاع العالم لنير الرأسمالية المالية هي أن جميع المساهمين فيها كانوا غزاة ومعتدين. وهذا أمر بات واضحا كل الوضوح حاليا. زعم عملاء النظام القيصري أنهم يدافعون عن أنفسهم. ولكن عندما فتحت ثورة أكتوبر الوثائق الحكومية ونشرت المعاهدات السرية، ظهرت الأدلة الوثائقية على أن كلا من القيصر وكرنسكي كان قد اتفق مع الإنكليز والفرنسيين على خوض حرب لاقتسام المغانم، للاستيلاء على القسطنطينية، ونهب تركيا وإيران، ولاقتطاع «غاليسيا» من النمسا. هذه أمور باتت واضحة الآن وضوح الشمس. كذلك تساقطت الأقنعة عن وجه الإمبرياليين الألمان. فكروا في صلح «بريست-ليتوفسك»، فكروا في نهب بولونيا وليتوانيا وأوكرانيا وفنلندا. لقد كشفت الثورة الألمانية العديد من الحقائق. وتبين لنا، من الأدلة الوثائقية، أن ألمانيا مستعدة للغزو من أجل المغانم، وأنها كانت تخطط للاستيلاء على مساحات واسعة من الأراضي الأجنبية والمستعمرات. ولكن ماذا بشأن قوى الحلفاء «النبيلة»؟ تساقطت الأقنعة عن وجوههم هم أيضا. فلم يعد أحد مقتنعا بـ«نبلهم» بعد صلح «فرساي». لقد نهبوا ألمانيا حتى العظم، وطالبوها بدفع 12.500.000.000 فرنك كتعويضات حرب. استولوا على البحرية الألمانية كلها، وعلى كافة المستعمرات الألمانية. صادروا قاطرات سكك الحديد والمواشي ريثما تدفع ألمانيا تعويضات الحرب. واجتاحوا روسيا من الشمال والجنوب. الحلفاء «النبلاء» كانوا يخوضون الحرب أيضا بقصد النهب. كشف البلاشفة كل ذلك منذ أول أيام الحرب. لكن القليلين صدقوهم آنذاك. أما اليوم، فكل إنسان صحيح العقل يرى أنهم كانوا على حق. إن الرأسمالية المالية لص جشع ومتعطش للدم، مهما تكن قومية الرأسماليين، فسيان أكانوا روسا أم ألمان، فرنسيين أم إنكليز، يابانيين أم أمريكيين. وهكذا نرى أنه من السخف القول، في معرض الحديث عن الحرب الإمبريالية، أن هذا الطرف الإمبريالي كان المعتدي، بينما الطرف الآخر كان يدافع عن نفسه ليس إلا. إن مثل هذه الأقوال تطلق بهدف واحد –خداع العمال. الحقيقة أن الدول الكبرى بدأت بالاعتداء على الشعوب المستضعفة بقصد استعمار أراضيها، وكانت كافة هذه الدول تملك المخططات لنهب العالم بأسره، وفي كل بلد رأسمالي، كان الرأسماليون يحلمون بإخضاع العالم للرأسمالية المالية الوطنية. وما أن نشبت الحرب، حتى كان محتما عليها أن تتحول إلى حرب عالمية. والسبب واضح كل الوضوح. فالعالم كله تقريبا كان مقسما بين «الدول الكبرى» التي كانت مشدودة بعضها إلى بعض بروابط النظام الاقتصادي العالمي. فلا عجب، إذن، أن تشمل الحرب جميع البلدان، في نصفَي الكرة الأرضية. وسرعان ما زج في الأتون الدامي كل من بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وبلجيكا وروسيا وألمانيا والنمسا والمجر وبلاد الصرب وبلغاريا ورومانيا ومونتي نيغرو واليابان والولايات المتحدة والصين وعدد من الدول الصغرى. وكان تعداد سكان العالم آنذاك حوالي 1.500.000.000 نسمة عانوا من مآسي الحرب التي فرضتها عليهم حفنة من المجرمين الرأسماليين بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. ولم يكن العالم قد عرف من قبل ذلك الحشد من الجيوش الجرارة، ولا آلات الموت والدمار الجبارة التي زجت في الحرب الإمبريالية العالمية. وسخرت بريطانيا وفرنسا لخدمة رأسمالييها ليس الإنكليز والفرنسيين وحسب وإنما أيضا الآلاف المؤلفة من سكان المستعمرات، أبناء الشعوب السوداء والصفراء. لم يتردد اللصوص المتمدنون من تجنيد آكلة اللحوم في جيشوهم عندما حان أوان أكل لحم البشر. وقد تم كل ذلك باسم أنبل المثل. رأسمالية الدولة والطبقات تميزت الحرب الإمبريالية عما سبقها من الحروب ليس فقط بالنسبة لاتساع رقعة الصراع وآثاره المدمرة، وإنما أيضا بسبب إخضاع كل الحياة الاقتصادية للأقطار المساهمة في تلك الحرب للأغراض الحربية. في السابق، كانت البرجوازية تشن حروبها وتكتفي بتمويلها. غير أن الحرب العالمية شملت بلدانا رفيعة التطور وبلغت من الاتساع حجما لم يعد إنفاق المال وحده يكفي لاستمرارها. فبات من الضروري تكريس كل إنتاج مصانع صب الفولاذ لصنع المدافع الثقيلة، التي كان عيارها يرتفع باستمرار، واستخراج الفحم للأغراض العسكرية فقط، وتسخير المعادن والأنسجة والجلود، وسواها خدمة للمجهود الحربي فقط. فكان من الطبيعي أن تكون رأسماليات الدولة الاحتكارية الأوفر قدرة على تسخير الإنتاج والنقل لأغراض الحرب هي الأوفر حظا في الانتصار. كيف يتحقق ذلك، الواضح أن الوسيلة الوحيدة لتحقيقه هي المركزة الكاملة للإنتاج. فمن الضروري ترتيب الأمور ليتم الإنتاج على نحو منسجم، ويخضع كليا لسيطرة قيادة الأركان، بحيث يمكن تنفيذ أوامر الجنرالات والماريشالات بدقة تامة. كيف حققت البرجوازية ذلك؟ لم يكلفها الأمر جهد كبير. لبلوغ هذا الهدف، كان لا بد للبرجوازية من أن تضع الإنتاج الفردي، والتروستات والاحتكارات المملوكة فرديا تحت تصرف دولة النهب الرأسمالية. وهذا ما قامت به فعلا طوال فترة الحرب، إذ «عبأت» الصناعة و«عسكرتها»، أي وضعتها تحت أوامر الدولة والسلطات العسكرية. ولكن كيف تم ذلك؟ قد يسأل بعض القراء: «هذا يعني تخلي البرجوازية عن أرباحهم. هذا يعني تأميم الصناعة! عندما يسلم كل شيء للدولة، ماذا يتبقي من دور للبرجوازية، وكيف يكيف الرأسماليون أنفسهم مع هذه الظروف المستجدة؟». الحقيقة أن البرجوازية وافقت على هذا الأجراء. ولكن ليس في ذلك ما يثير الدهشة. ذلك أنه لم يجر تسليم الاحتكارات والتروستات المملوكة فرديا إلى الدولة العمالية، وإنما جرى تسليمها إلى الدولة الإمبريالية، إلى الدولة التي تسيطر عليها البرجوازية. فالرأسماليون نقلوا ممتلكاتهم من جيب إلى آخر، دون أن يخسروا شيئا من هذه الممتلكات. لا يجوز أن ننسى الطبيعة الطبقية للدولة. لا يجوز النظر إلى الدولة على أنها «طرف ثالث» يقف فوق الطبقات. فالدولة جهاز طبقي من قمتها حتى قاعدتها. في ظل الدكتاتورية العمالية تكون الدولة جهازا للطبقة العاملة. وفي ظل هيمنة البرجوازية، تكون الدولة جهازا اقتصاديا مثلها كمثل التروست والاحتكار. هكذا نرى أن البرجوازية، عندما سلمت الاحتكارات والتروستات المملوكة فرديا إلى الدولة، إنما كانت تسلمها إلى دولتها هي، إلى دولة النهب الرأسمالية، وليس إلى الدولة البروليتارية. وبالتالي، فإن البرجوازية لم تخسر شيئا في عملية الانتقال هذه... لا بل أن البرجوازية قد ربحت من هذه الصفقة. لأن تمركز الصناعة بيد الدولة يسمح لآلة الحرب بأن تعمل على نحو أفضل، وهذا ما يضاعف إمكانات إحراز النصر في حرب النهب. فلا عجب إذن أن تنمو رأسمالية الدولة خلال الحرب وتحل محل رأسمالية التروستات والاحتكارات المملوكة فرديا في كل الأقطار الرأسمالية تقريبا... وقد جرى الانتقال إلى رأسمالية الدولة بأشكال متعددة. في العديد من الحالات، احتكرت الدولة الإنتاج والتجارة. وقد عنى ذلك وضع كافة فعاليات الإنتاج والتجارة بيد الدولة البرجوازية. وفي أحيان أخرى، لم يتم هذا الانتقال دفعة واحدة وإنما بالتقسيط، إذ أقدمت الدولة على شراء بعض أسهم الاحتكارات والتروستات. هكذا أصبحت المشروعات الاقتصادية مملوكة مناصفة بين القطاع الخاص والدولة، غير أن الدولة البرجوازية كانت الطرف الذي يتولى تسيير شؤونها واتخاذ القرارات الخاصة بها. وحتى المؤسسات التي ظلت بيد القطاع الخاص لم تفلت من الرقابة الحكومية. وكانت التشريعات الخاصة تقضي على هذه المؤسسات أن تشتري المواد الأولية من شركات معينة، وكان على هذه الأخيرة أن تبيعها بكميات وأسعار محددة سلفا. وقد حددت الدولة وسائل العمل، ونوع المواد الواجب استخدامها في الإنتاج. هكذا حلت رأسمالية الدولة محل الرأسمالية الفردية. إن رأسمالية الدولة تعني امتلاك البرجوازية الكبيرة للمزيد من القوة. في الدولة العمالية، أي في ظل دكتاتورية الطبقة العاملة، تكون الطبقة العاملة قوية بقدر ما يكون هناك انسجام بين السلطة السوفييتية والنقابات والحزب الشيوعي وغيرها من أجهزة تلك السلطة. وما ينطبق على دكتاتورية الطبقة العاملة ينطبق أيضا على دكتاتورية البرجوازية حيث تنمو قوة الطبقة الرأسمالية بنسبة النجاح الذي تحققه كافة الأجهزة والمؤسسات البرجوازية في التنسيق المتناغم فيما بينها. وهكذا فإن رأسمالية الدولة، التي تخضع كافة هذه المؤسسات لسلطة مركزية واحدة وتحولها إلى أجزاء من آلة ضخمة واحدة، تقدم مساهمة جبارة لتدعيم قوة رأس المال. إن دكتاتورية البرجوازية تبلغ ذروتها مع قيام رأسمالية الدولة. والواقع أن رأسمالية الدولة –إذا وحدت ونظمت البرجوازية وضاعفت بالتالي من قوة الرأسمالية –تؤدي إلى إضعاف الطبقة العاملة إلى حد كبير. ففي ظل رأسمالية الدولة يتحول العمال إلى رقيق أبيض تستعبده الدولة الرأسمالية. يحرموا من حق الإضراب، ويجندوا ويفرض عليهم الانضباط العسكري. وتصدر الأحكام بالسجن على كل من يرفع صوته منددا بالحرب. وقد حرم العمال في العديد من الأقطار من حق التنقل كما حرموا من حق الانتقال من مصنع إلى آخر. وهكذا سقط العمال المأجورون «الأحرار» [6] إلى مصاف الأقنان. وقضى عليهم بالموت في ساحات القتال ليس دفاعا عن قضيتهم هم، وإنما دفاعا عن قضية أعدائهم. واضطروا إلى العمل المضني حتى الإنهاك والموت، ليس لصالحهم ولصالح رفاقهم وأبنائهم، وإنما لصالح مستغِليهم ومضطهديهم. انهيار الرأسمالية ودور الطبقة العاملة هكذا ساهمت الحرب في مركزة وتنظيم الاقتصاد الرأسمالي. والمهمة التي بدأتها الاحتكارات والمصارف والتروستات والشركات المجمَّعة، دون أن تنجزها، تولت رأسمالية الدولة إنجازها بأسرع وقت. فربطت الأجهزة الضابطة للإنتاج والتوزيع في شبكة واحدة. ومهدت بذلك السبيل، أفضل من أي وقت مضى، لسيطرة البروليتاريا على الإنتاج الكبير وقد بات شديد التمركز. وكان لا بد للحرب، التي ألقت بكل أعبائها على كاهل الطبقة العاملة، من أن تؤدي إلى انتفاض الجماهير البروليتارية. فالسمة المميزة لتلك الحرب كانت طابعها الدموي الإجرامي الذي لا مثيل له من قبل. تقدم بناء الجيوش خطوات شاسعة إلى أمام. وتوزعت البروليتاريا بين ساحات القتال المختلفة. وتبين التقارير أن عدد القتلى والجرحى والمفقودين، بين بداية الحرب وآذار-مارس 1917، بلغ 25مليون نسمة، وأن عدد القتلى وحده بلغ 8 ملايين قتيل في أول كانون الثاني-يناير 1918. وإذا افترضنا أن متوسط وزن الجندي هو 150 رطلا، فهذا يعني أن الرأسماليين حملوا إلى السوق –بين آب-أغسطس 1914و1 كانون الثاني-يناير 1918 -1200 مليون رطلا من اللحم البشري العفن. ولكي نقدر الخسائر البشرية بأدق ما يمكن، يجب أن نضيف إلى هؤلاء بضعة ملايين من الذين أصيبوا بعاهات دائمة. إذا أخذنا مرض «السيفلس» وحده، نجد أنه قد انتشر بفضل الحرب إلى مدى مستبعد التصديق، بحيث باتت الإصابات به شاملة للعالم كله. وبنتيجة الحرب، تدنت قدرات البشر الجسدية. ذلك أن صحيحي البنية، الذين كانوا زهرة شعوبهم قد أبيدوا. وغني عن القول أن العمال والفلاحين هم الذين تحملوا القسط الأوفر من خسائر الحرب. في التجمعات الكبيرة في الدول المتحاربة نجد جاليات بأكملها قد شلت أو شوهت بطريقة بشعة، أناس أصيبوا في وجوههم يرتدون الأقنعة ويجلسون في البؤس كشواهد حية على روعة الحضارة البرجوازية. لم تكن مصيبة البروليتاريا الوحيدة أنها خسرت الملايين في ساحات القتال. بالإضافة لذلك، ألقيت أعباء لا تطاق على كواهل الذين بقوا على قيد الحياة. كانت الحرب تتطلب إنفاق الأموال الطائلة. وفي الوقت الذي كان أصحاب المصانع يراكمون الأرباح الطائلة –المسماة «أرباح الحرب»- كان العمال يدفعون الضرائب الباهضة للمساهمة في المجهود الحربي. وكانت أكلاف الحرب لا تنفك تتصاعد دون حد. في خريف عام 1919، أعلن وزير المالية الفرنسي، أثناء مؤتمر الصلح، أن اكلاف الحرب بلغت «ترليون» فرنك. لا يسهل إدراك مغزى هذه الأرقام. في السابق كانت المسافة بين نجم وآخر تقاس بمثل هذه المقاييس، وها أنها تستخدم الآن لقياس أكلاف سنوات المجازر البشرية. الترليون هو مليون من مليونات الفرنكات (1.000.000×1.000.000)!! تلك كانت مبتكرات الحرب التي خطط لها الرأسماليون. وحسب تقدير آخر، بلغت أكلاف الحرب ما يلي: ملايين الجنيهات الإسترلينية أكلاف العام الأول 9.100 أكلاف العام الثاني 13.650 أكلاف العام الثالث 20.470 النصف الأول من العام الرابع 15.350 المجموع 58570 مليون ثم ارتفعت أكلاف الحرب لتبلغ أرقاما مذهلة. فكان لا بد من إيجاد المبالغ الخيالية لتغطية هذه الأكلاف. وبالطبع كانت البلدان الرأسمالية قد بدأت بإلقاء الأعباء التي لا تطاق على كاهل الطبقة العاملة، بواسطة الضرائب المباشرة أو الرسوم على المواد الاستهلاكية أو برفع متعمد في أسعار السلع لدوافع «وطنية» لدفع البرجوازية نفسها إلى المساهمة في المجهود الحربي. وظلت الأسعار في ارتفاع. غير أن الصناعيين، وبخاصة أصحاب الصناعات الحربية، كانوا قد جنوا أرباحا خيالية. كانت السلع الرئيسية المنتجة خلال الحرب هي القذائف، والمتفجرات والمدافع الثقيلة، والدبابات، والطائرات، والغازات السامة والبارود وغيرها. وقد أنتجت بكميات كبيرة جدا. وفي الولايات المتحدة نبتت المدن الجديدة، كالفطر، حول المصانع الحربية. وبسبب تهافت أصحاب هذه المصانع على جني الأرباح بأسرع وقت، كان الكثير من الإهمال يشوب الإنتاج، الأمر الذي أدى إلى الانفجارات. وبالطبع جنى أصحاب مصانع الذخيرة أرباحا طائلة بحيث ازدهرت صناعاتهم بسرعة مذهلة. أما بالنسبة لعامة الشعب، فكانت أوضاعه المعيشية تتدهور باستمرار. وكانت السلع ذات القيمة الفعلية –أي الأغذية والكساء وما شابهها –تنتج بكميات متضائلة. القذائف والبارود تسمح للناس بأن يقتلوا ويدمروا، ولكنها عديمة الفائدة كطعام أو كساء. ورغم ذلك، فقد وجهت كافة طاقات الدول المتحاربة نحو إنتاج البارود وغيره من أدوات الدمار. بينما انخفض إنتاج السلع الضرورية. استدعى العمال للخدمة في الجيوش، وجرى تحويل الصناعات المنتجة لأغراض الإنتاج الحربي وحده. فكان هناك نقص متزايد في السلع الضرورية، الأمر الذي أدى إلى ندرة المواد الغذائية وإلى ارتفاع الأسعار بطريقة جنونية. نقص في الخبز، نقص في المحروقات، نقص في كافة المواد الضرورية، نقص في المواد الضرورية على الصعيد العالمي يقابله استنزاف البشر عالميا –هذه هي النتائج الأساسية للحرب الإمبريالية المجرمة. وفي نهاية المطاف، بدأ الإنتاج الحربي نفسه يشعر النقص في الفحم والفولاذ والضروريات الأخرى. وعم الفقر كل الأقطار، باستثناء الولايات المتحدة. الجوع والبرد والدمار تزحف على الكرة الأرضية. وغني عن القول أن أكثر الذين عانوا منها هم أبناء الطبقة العاملة الذين أخذوا يتململون ويتذمرون. فأعلنت الحرب عليهم، ودارت رحى حرب جديدة صبت فيها دول النهب البرجوازي كل طاقتها. وتعرضت الطبقة العاملة لأبشع أنواع العنف والاضطهاد في كل الأقطار، سيان أكانت ملكية أم جمهورية. ولم يحرم العمال من حق الإضراب وحسب وإنما قمعت بشراسة أيضا أية مبادرة تحرك عندهم. هكذا أدت هيمنة الرأسمالية إلى اندلاع الحرب بين الطبقات. كان النظام الرأسمالي آخذا في الانهيار. إن فوضى الإنتاج أدت إلى اندلاع الحرب، والحرب أدت بدورها إلى احتدام الصراعات الطبقية. وهكذا أدت الحرب إلى الثورة. أي أن الرأسمالية كانت آخذة بالانهيار تحت وطأة تناقضيها الأساسيين. وافتتحت حقبة انهيار الرأسمالية. فلننظر إلى هذا الانهيار بدقة أكبر. هناك نسق واحد يقوم عليه بناء المجتمع الرأسمالي. فالمصنع منظم داخليا مثل مكتب في الإدارة الحكومية أو مثل فرقة في الجيش الملكي. في القمة يأمر الأغنياء ويحكمون. وفي الأسفل تجد الفقراء والعمال والمأجورين الذين يطيعون الأوامر. وبينهما تجد المهندسين و«ضباط الصف» (الوكلاء) وكبار الموظفين وغيرهم. من هنا، فإن المجتمع الرأسمالي يستطيع المحافظة على نفسه طالما أن الجندي العادي (الذي ينتمي إلى الطبقة العاملة) يطيع أوامر الضابط (المنتمي إلى الأرستقراطية أو ملاك الأرض أو البرجوازية الكبيرة)، وطالما أن الموظفين في الإدارات الحكومية يطيعون رؤساءهم الأغنياء، وطالما أن العمال في المصانع يطيعون أوامر المدراء الكبار أو أصحاب المصانع الذين يعيشون على ابتزاز فضل القيمة. ولكن ما أن تدرك الجماهير الكادحة أنها ليست إلا أدوات بيد أعدائها، تنفصم العرى التي تربط الجندي العادي بالضابط والعامل بصاحب المعمل. فيرفض العمال الانصياع لأوامر أرباب العمل. ويعصي الجنود العاديون أوامر ضباطهم. ويتجاهل المواطنون أوامر رؤسائهم. وتبدأ مرحلة يتراخى فيها الانضباط القديم، هذا الانضباط الذي سمح للأغنياء بأن يحكموا الفقراء، وسمح للبرجوازية بنهب العمال. وتستمر هذه المرحلة إلى أن تتمكن الطبقة الجديدة –البروليتاريا- من إخضاع البرجوازية، وإجبارها على خدمة العمال، أي أنها تستمر إلى حين ولادة انضباط اجتماعي من نمط جديد. إن هذا الوضع –حيث دحر النظام القديم ولكن دون أن ينشأ النظام الجديد –لا يمكن حسمه إلا بانتصار البروليتاريا النهائي عبر الحرب الأهلية. الحرب الأهلية الحرب الأهلية حرب طبقية بالغة الحدة، تحصل عندما يتحول الصراع الطبقي إلى ثورة. إن عبيد رأس المال هم الذين خاضوا الحرب الإمبريالية العالمية بين معسكري الدول البرجوازية، وهي حرب خيضت من أجل اقتسام العالم. وقد ألقت هذه الحرب أعباء جسيمة على العمال إلى درجة أن الصراع الطبقي تحول إلى حرب أهلية يخوضها المضطهَدون ضد مضطهِديهم- والحرب الأهلية هي الحرب العادلة الوحيدة، حسب رأي ماركس. كان طبيعيا جدا أن تنتهي الرأسمالية إلى اندلاع الحرب الأهلية، وأن تنتهي الحرب الإمبريالية بين الدول البرجوازية إلى حرب بين الطبقات. لقد تكهن حزبنا بهذا التطور في مطلع الحرب، عام 1914، عندما لم يكن أحد يحلم بالثورة. لكنه كان واضحا أن أعباء لا تطاق كالتي فرضتها الحرب على الطبقة العاملة لا بد أن تؤدي إلى انتفاضة البروليتاريا. كما كان واضحا أن البرجوازية عاجزة عن تأمين سلم دائم، ذلك أن المصالح التي يدور عليها الصراع بين كتل اللصوص المختلفة مصالح حيوية جدا. ولقد صحت كافة توقعاتنا. اندلعت الحرب الأهلية ضد المضطهِدين، عقب سنوات الحرب والوحشية والدمار الرهيبة. وقد افتتحت هذه الحرب الأهلية مع الثورتين الروسيتين في آذار –مارس وتشرين الثاني- نوفمبر 1917، واستمرت مع الثورات الفنلندية والهنغارية والنمساوية والألمانية وغيرها. إن البرجوازيات عاجزة عن تحقيق سلم دائم. انتصر الحلفاء على ألمانيا في تشرين الثاني –نوفمبر 1918، وجرى التوقيع على صلح اللصوص في «فرساي» بعد عدة أشهر من ذلك، ولكن ما من أحد يدري متى تتم التسوية النهائية. فمن الواضح للجميع أن سلم «فرساي» لن يستمر. فقد نشبت الخلافات بين اليوغسلافيين والإيطاليين، بين البولونيين والتشيكيين، بين اللاتيفيين والألمان. بالإضافة لذلك، التقت كافة الدول البرجوازية في حلف واحد للهجوم على الجمهورية العمالية الروسية المنتصرة. هكذا نجد أن الحرب الإمبريالية انتهت إلى حرب أهلية، التي لا بد وأن تكون حصيلتها انتصار البروليتاريا. إن الحرب الأهلية ليست وليدة مزاج حزب من الأحزاب، ولا هي بالتأكيد وليدة الصدفة. الحرب الأهلية تعبير من تعبيرات الثورة، وقد كانت الثورة حتمية كليا لأن حرب اللصوص الإمبرياليين قد فتحت أعين أوسع الجماهير العمالية. إن الحرب الأهلية مجابهة مسلحة بين طبقتين متعارضتي المصالح كليا في المجتمع الرأسمالي. في الأحوال العادية، تطمس واقعة أساسية من وقائع المجتمع الرأسمالي، وهي كونه منشقا إلى شقين، كونه مكونا من مجتمعين اثنين. لماذا؟ لأن العبيد يطيعون أسيادهم. لكن الحرب الأهلية تضع حدا لهذه الطاعة الخانعة، وتؤدي إلى تمرد المضطهَدين ضد المضطهِدين. ومن الواضح أنه يتعذر «التعايش بسلام وتناغم» بين الطبقات في مثل هذه الحالة. فينقسم الجيش بين «حرس أبيض» يمثل الأرستقراطية والبرجوازية والعناصر الغنية من أصحاب المهن الحرة وغيرها وبين «حرس أحمر» يمثل العمال والفلاحين. كذلك يصبح من المستحيل أن يجلس أصحاب المصانع والعمال تحت سقف برلمان واحد، مهما كان نوعه. فكيف يمكن لهؤلاء وأولئك الالتقاء «سلميا» في البرلمان بينما هم يتبادلون إطلاق الرصاص في الشوارع؟ في زمن الحرب الأهلية، ترفع طبقة السلاح ضد طبقة أخرى. لهذا كان لا بد للصراع من أن يؤدي إلى انتصار هذه الطبقة أو تلك. فلا يمكن للصراع أن ينتهي باتفاق أو بأي شكل كان من أشكال المساومة. هذه حقيقة تثبتها كليا تجربة الحرب الأهلية في روسيا وسواها (كألمانيا والمجر مثلا). فلا بد للحرب الأهلية من أن تفضي إلى دكتاتورية البروليتاريا أو إلى دكتاتورية البرجوازية. فالواقع أن حكم الطبقات الوسطى وأحزابها (كالحزب الاشتراكي الثوري، والحزب المنشفي وغيرهما) ما هو إلا فترة انتقال بين هذه الدكتاتورية أو تلك. فعندما أطيح بالسلطة السوفييتية في المجر، بمساعدة المناشفة، حل محلها «حكم ائتلافي» لفترة وجيزة فقط، ثم قام حكم استبدادي رجعي. بين الحين والآخر ينجح الحزب الاشتراكي الثوري الدستوري من الاستيلاء على الحكم في «أوفا» و«عبر الفولغا» أو سبيريا، لكنه يطاح به على يد الأميرال كولشاك خلال 24 ساعة، يدعم من كبار الرأسماليين وملاك الأرض. وهذا يعني حلول دكتاتورية الرأسماليين وملاك الأرض محل دكتاتورية العمال والفلاحين. أشكال الحرب الأهلية وأكلافها لقد افتتحت الثورة الروسية عصر الحروب الأهلية، غير أنها لم تكن غير الطور الأول من ثورة شاملة على نطاق العالم بأسره. ولقد اندلعت الثورة في روسيا قبل غيرها، لأن تفكك الرأسمالية بدأ في روسيا قبل الأقطار الأخرى. كانت البرجوازية الروسية وملاك الأرض الروس يطمحون في غزو القسطنطينة وغاليسيا. وقد أعدوا طبخة حرب عام 1914 بالتعاون مع حلفائهم. لكنهم انهاروا قبل غيرهم، بسبب ضعفهم والفوضى السائدة في صفوفهم. فظهرت الفوضى والمجاعة في روسيا قبل ظهورهما في أي مكان آخر. لهذا السبب، كان من اليسير على البروليتاريا الروسية أن تقضي على أعدائها الطبقيين. ولهذا كان العمال الروس السباقين إلى إحراز النصر الحاسم وإقامة دكتاتوريتهم. هناك اعتقاد سائد أن شراسة الحرب الأهلية في بلدنا عائدة إلى تخلفنا أو إلى بعض «السمات» الآسيوية المميزة. ومن عادة خصوم الثورة في أوربا الغربية القول أن «الاشتراكية الآسيوية» مزدهرة في روسيا، بينما التغيير الثوري في الأراضي «المتمدنة» سوف يتحقق دون حاجة إلى المجازر. هذا هراء طبعا. إن مقاومة البرجوازية سوف تكون أعنف حيث قطع تطور الرأسمالية شوطا طويلا. هناك تكون الانتلجنسيا (أصحاب المهن الحرة، الفنيون، المهندسون، الضباط، الخ) أكثر تضامنا مع رأس المال، وبالتالي أشد عداء للشيوعية. فلا بد للحرب الأهلية في تلك البلدان من أن تكون أشرس منها في روسيا. والواقع أن مسيرة الثورة الألمانية قد أثبتت أن الحرب تكون أكثر ضراوة في الأقطار التي أحرزت فيها الرأسمالية أكبر قدر من التقدم. وتكتسب الحرب الأهلية أشكالا جديدة كلما قطعت المزيد من الأشواط. حيثما تكون البروليتاريا مضطهدة إلى درجة لا تطاق، تتحول الحرب الأهلية إلى ثورة ضد سلطة البرجوازية. ولكن لنفترض أن البروليتاريا انتصرت في أحد البلدان واستولت على سلطة الدولة. فماذا يحصل؟ تجد البروليتاريا تحت تصرفها قوة الدولة المنظمة، وجيشا بروليتاريا وكافة المؤسسات الرسمية. فيترتب على البروليتاريا إذ ذاك أن تحارب البرجوازية المحلية التي تنظم المؤامرات وحركات التمرد ضد السلطة البروليتارية. ثم أن البروليتاريا المنظمة في دولة سوف تضطر إلى محاربة دول برجوازية. هنا تكتسي الحرب الأهلية شكلا جديدا، ذلك أن الحرب الطبقية تتحول إلى حرب عادية عندما تخوض الدولة البروليتارية الحرب ضد الدول البرجوازية، لأن المسألة لم تعد مجرد محاربة العمال للبرجوازية، وإنما باتت مسألة خوض الدولة العمالية لحرب رسمية ضد دول رأس المال الإمبريالية. أما هدف مثل هذه الحرب فهو انتصار الشيوعية وإقامة دكتاتورية البروليتاريا، وليس هدفها طبعا نهب ثروات الآخرين. وهذا ما حصل فعلا. فبعد قيام الثورة الروسية في نوفمبر 1917، هاجم الرأسماليون الحكومة السوفييتية من كافة الجهات –هاجمها البريطانيون والألمان والفرنسيون والأمريكيون واليابانيون وغيرهم. ومع انتقال عدوى الثورة الروسية إلى عمال القطار الأخرى: تضافرت قوى الرأسمالية العالمية للانقضاض على الثورة وقامت مساع حثيثة لإقامة حلف للصوص الإمبرياليين ضد البروليتاريا. بناء على مبادرة للمخادع ولسن، زعيم الرأسمالية الأمريكية، قامت محاولة لإنشاء مثل هذا الحلف فيما سمي مؤتمر «فرساي» للسلام. وأطلق على تحالف اللصوص هذا اسم «عصبة الأمم»، وكان المقصود بها أن تكون «عصبة للشعوب». لكنها في الحقيقة لم تكن كذلك على الإطلاق، وإنما كانت عصبة للرأسماليين وممثليهم السياسيين في كافة الأقطار. وكان الهدف من إنشاء مثل هذه «العصبة» تأسيس تروست عالمي جبار يبسط قبضة الاستغلال على كل ركن من أركان المعمورة، ويسحق تمردات وثورات الحركة العمالية بأقصى قدر ممكن من الوحشية. أما القول أن «عصبة الأمم» قد تأسست لتدعيم السلام فحديث خرافة ليس إلا. فالواقع أنها قد تأسست خدمة لهدف مزدوج: تكثيف استغلال البروليتاريا وعبيد المستعمرات في العالم أجمع، وسحق الثورة العالمية المتوقعة. وبقدر عنف الهجوم البروليتاري، زاد الرأسماليون من رص الصفوف. كتب ماركس وانغلز عام 1848 في «البيان الشيوعي»: «أن شبحا يجول فوق أوربا، هو شبح الشيوعية. ولقد تجمعت كل قوى أوربا القديمة في حلف مقدس لطرد هذا الشبح: البابا والقيصر، مترينخ وغيزو، الراديكاليون الفرنسيون والشرطة الألمانية». لقد انقضت سنين عديدة منذ ذلك التاريخ. واكتسى شبح الشيوعية لحما ودما. ولا تقتصر الحملة هذه على «أوربا القديمة» وإنما تشمل العالم الرأسمالي بأكمله. ومهما يكن من أمر، فإن «عصبة الأمم» ستعجز عن تحقيق هدفها المزدوج: إعادة تنظيم العالم في تروست واحد جبار وقمع الثورة على نطاق العالم كله. إذ أنه لا يوجد قدر كاف من الوحدة بين القوى الكبرى. فالولايات المتحدة تعادي اليابان، وكلا القوتين يتسلح تمهيدا للصدام. كذلك لا يعقل أن توجد مشاعر ود متبادلة بين ألمانيا المهزومة وبين دول «الحلفاء» اللصوص مدعي «النزاهة». وهذا بالتأكيد يشكل صدعا في الجبهة الرأسمالية. ثم إن الدول الصغرى تتحارب فيما بينها. والأهم من ذلك هو قيام انتفاضات وحروب في المستعمرات –في الهند ومصر وايرلندا وغيرها. البلدان المستعبَدة تباشر النضال ضد الأسياد الأوروبيين «المتمدنين» الذين يسوقونها سوق العبيد.وتضاف إلى الحرب الأهلية، تضاف إلى الحرب الطبقية التي تشنها البروليتاريا ضد البرجوازية الإمبريالية انتفاضات المستعمرات التي تساهم في تدمير أسس الصنمية العالمية للإمبريالية. وهكذا نجد النظام الإمبريالي آخذا بالانهيار تحت وطأة مجموعتين من العوامل. فمن جهة، هناك حركة البروليتاريا الصاعدة، والحروب التي تخوضها الجمهوريات البروليتارية، وانتفاضات وحروب الأمم التي استعبدتها الإمبريالية. وهناك، من جهة أخرى، التعارضات والتناقضات بين الدول الرأسمالية الكبرى. لذا نجد الفوضى الكاملة تحل محل «السلام الدائم»، وبدل القمع الشامل للبروليتاريا، نجد الحروب الأهلية المحتدمة. وفي هذه الحروب، تتضاعف قوى البروليتاريا بينما تتلاشى قوى البرجوازية. وأن النتيجة الحتمية لهذا الصراع لا بد وأن تكون انتصار البروليتاريا. على أن انتصار البروليتاريا لن يتحقق بسهولة. فالحرب الأهلية، مثلها كمثل أية حرب أخرى، تتطلب التضحيات بالبشر وبالامكانات المادية. والواقع أن هذه هي أكلاف أية عملية ثورية. من هنا فإن نسبة الدمار الناتج عن الاعتداءات الإمبريالية ستكون عالية في الأطوار الأولى من الحرب الأهلية. ومن البديهي أن تتأثر حياة المصانع سلبيا عندما يغادرها أفضل العمال إلى الجبهة ليدافعوا عن أنفسهم بالسلاح ضد ملاك الأراضي والعسكريين، بدلا من أن يخصصوا وقتهم للإنتاج أو لتنظيمه. وما من شك في أن الفوضى الناجمة عن الحرب الأهلية مضرّة، وخسارة الرفاق في القتال باهضة الثمن. لكن تلك أمور حتمية في أية ثورة. ولا بد لنا أن ندرك أن ثورة بضخامة الثورة البروليتارية الشاملة، التي تطيح بنظام استغلال تم بناؤه طوال قرون، ستكون باهضة الأكلاف. ولقد باتت الحرب الأهلية تخاض على صعيد العالم كله. وتتخذ في بعض الأحيان شكل حرب تشنها الدول البرجوازية ضد الدول البروليتارية. وأن الدول البروليتارية التي تدافع عن نفسها ضد اللصوص الإمبرياليين تخوض حربا طبقية، التي هي في حقيقتها حرب مقدسة. لكن ضريبة هذه الحرب هي الدم. وكلما اتسعت الحرب، ارتفع عدد الضحايا، واتسع نطاق الدمار. لكن ارتفاع أكلاف الثورة لا يجعلنا نصرف النظر عن الثورة نفسها. فالنظام الرأسمالي، الذي هو وليد عملية نمو استغرقت قرونا بأكملها، جرى تتويجه بحرب إمبريالية وحشية سالت فيها انهار من الدماء. فهل يمكن مقارنة النتائج التدميرية للحرب الأهلية بخسارة ثروة البشرية المتراكمة الناجمة عن الحرب الإمبريالية؟ يجب على البشرية أن تضع حدا نهائيا للرأسمالية. وأن التمسك بهذا الهدف يجعلنا نتحمل فترة الحرب الأهلية، ونمهد الطريق للشيوعية التي تداوي كل جراحنا، وتؤدي مباشرة إلى النمو الكامل للقوى الإنتاجية للإنسانية جمعاء. الفوضى أو الشيوعية مع نمو الثورة، تتحول إلى ثورة عالمية للأسباب نفسها التي أدت بالحرب الإمبريالية إلى التحول إلى حرب عالمية. كل البلدان الهامة مترابطة بعضها ببعض، وتشكل جميعها أجزاء من الاقتصاد العالمي. ولقد خاضت معظمها الحرب، وأكسبتها الحرب فهما مشتركا للأمور. ولقد أدت الحرب في كافة هذه البلدان إلى دمار هائل، والمجاعة واستعباد البروليتاريا. وسادها تفكك بطيء للرأسمالية، الأمر الذي أدى في نهاية المطاف إلى الثورة ضد الانضباط الوحشي في الجيش والمصنع والمشغل... وأن الحتمية نفسها التي تحكمت بهذه الأمور أدت إلى قيام ثورة البروليتاريا الشيوعية. يصعب وقف تدهور الرأسمالية حين يبدأ. وكذلك الأمر بالنسبة لنمو الثورة. والواقع أن انهيار الرأسمالية كان محتما. وكل محاولة لبناء مجتمع إنساني حقا على الأسس الرأسمالية القديمة محكومة سلفا بالفشل الذريع. والواقع أن الجماهير البروليتارية قد بلغت درجة من الوعي الطبقي تدفعها إلى رفض العمل في خدمة رأس المال. كذلك ترفض هذه الجماهير أن تنحر بعضها بعضا من أجل مصالح الرأسمالية أو تنفيذا لسياساتها الاستعمارية... ومثلما يستحيل إعادة فرض الانضباط الإمبراطوري على الجيوش الحديثة، يستحيل أيضا إجبار الجنود ذوي الأصل النبيل على الخضوع لنير الجنرالات ذوي الأصل النبيل، وإعادة فرض الانضباط الرأسمالي على العمل، وإجبار العمال للكدح خدمة للسيد والفلاحين خدمة للمالك العقاري. البروليتاريا هي وحدها القادرة على تحقيق انضباط جديد في العمل. هكذا نجد أمامنا واحدا من خيارين فقط. فإما الفوضى الكاملة، ونار الجحيم، والمزيد من العسف والاضطراب، أي الفوضى المطلقة، وأما الشيوعية... إن الشيوعية هي خلاص البشرية الوحيد. ولما كانت الشيوعية لا تتحقق إلا على يد البرولتاريا، فإن هذه الطبقة هي المخلص الفعلي للبشرية من أهوال الرأسمالية، من وحشية الاستغلال، من السياسات الاستعمارية، من المجاعة والانتكاس إلى العهود البربرية والقهر، من كافة المسوخ التي تمخضت عنها الرأسمالية المالية والإمبريالية. هنا يكمن المغزى التاريخي الرائع للبروليتاريا. قد يعاني العمال من الهزائم في معارك افرادية وحتى في بلدان افرادية. لكن انتصار البروليتاريا النهائي أكيد وانهيار البرجوازية حتمي. الفصل الخامس: الأمميتان الأولى والثانية أممية الحركة العمالية شرط ضروري لانتصار الثورة الشيوعية تنتصر الثورة الشيوعية فقط إذا كانت ثورة عالمية. وإذا ما أنشأت ظروف سمحت للطبقة العاملة بتسلم الحكم في بلد واحد، بينما الطبقة العاملة لا زالت خاضعة لرأس المال في البلدان الأخرى، فإن دول القراصنة الكبيرة ستسحق الدولة العمالية في ذاك البلد في نهاية المطاف. خلال الأعوام 1917، 1918، 1919 حاولت كافة القوى الإمبريالية سحق روسيا السوفييتية، وفي عام 1919، نجحت في سحق هنغاريا السوفييتية. لكنها عجزت عن سحق روسيا السوفييتية لأن الظروف الداخلية في تلك الدول كانت دقيقة، وكانت جميع الحكومات خائفة من أن يطيح العمال بها، هؤلاء العمال الذين كانوا يطالبون بانسحاب الجيوش الغازية من روسيا. وأول دلالة لهذا القول أن تحقيق دكتاتورية البروليتاريا في بلد واحد يتعرض لخطر كبير إذا لم يمدها عمال البلدان الأخرى بالعون والمساعدة. أما الدلالة الثانية، فهي أن التنظيم الحياة الاقتصادية مهمة بالغة الصعوبة عندما ينتصر العمال في بلد واحد فقط. فمثل هذا البلد سيحرم من العون الخارجي، أو أنه سيتلقى النذر اليسير منه، كما سيكون محاصرا من كل الجهات. إذا كان انتصار الشيوعية يفترض قيام ثورة عالمية والتساعد المتبادل بين عمال جميع البلدان، فهذا يعني أن التضامن الأممي للطبقة العاملة شرط حيوي من شروط انتصارها. وأن شروط النضال الشامل للعمال مماثلة لشروط نضال الطبقة العاملة في كل بلد بمفرده. عندما يعجز العمال، في أحد البلدان، عن إنجاح الإضرابات لأنها تبقى معزولة ومجزأة، يلتقي عمال المصانع المتعددة من أجل التساند المتبادل، ويؤسسون تنظيما موحدا، ويشنون حملة مشتركة ضد جميع أصحاب المصانع –وهذه من شروط الانتصار. الوضع ذاته ينطبق على العمال الذين ينتمون إلى دول برجوازية متعددة. إنهم لن يحرزوا النصر إلا إذا مشوا جنبا إلى جنب: وعندما يضربون صفحا عن خلافاتهم، وينمو بينهم الشعور بأنهم طبقة واحدة ذات مصالح مشتركة. الثقة المتبادلة المطلقة، التحالف الأخوي، النضال الثوري الموحد ضد الرأسمالية العالمية - تلك وحدها شروط انتصار الطبقة العاملة. إن الحركة العمالية الشيوعية لا تحقق النصر إلا إذا كانت حركة شيوعية أممية. أسباب انهيار الأممية الثانية عندما اندلعت الحرب العالمية الكبرى في آب-أغسطس 1914 انحازت الأحزاب الاشتراكية والاشتراكية-الديموقراطية لكافة الدول المتحاربة (باستثناء روسيا وبلاد الصرب وبعدها إيطاليا) إلى حكوماتها ودعمت حملة النهب، بدلا من أن تعلن الحرب وتحرض العمال على الثورة. وفي اليوم ذاته، صوّت النواب الاشتراكيون في فرنسا وألمانيا على موازنة الحرب في البرلمان، معلنين تضامنهم مع حكومات اللصوص. بدلا من رص الصفوف في انتفاضة ضد البرجوازية المجرمة، اتخذت الأحزاب الاشتراكية مواقف منفردة، وسار كل منها تحت راية «حكومته» البرجوازية. هكذا بدأت الحرب وهي تحظى بدعم مباشر من الأحزاب الاشتراكية. ذلك أن قادة تلك الأحزاب نقلوا البندقية من كتف إلى كتف وخانوا قضية الاشتراكية. هكذا ماتت الأممية الثانية ميتة مشينة. ولكي نفهم الانهيار المشين للأممية الثانية، لا بد من دراسة تطور حركة الطبقة العاملة في الفترة التي سبقت الحرب. قبل نشوب النزاع العالمي، كان النمو الذي شهدته الرأسمالية في أوربا وأمريكا يعود بالدرجة الأولى إلى النهب المخيف الذي مارسته على المستعمرات. هنا تجلت الوجوه الدموية البشعة للرأسمالية بوضوح لا مثيل له. بواسطة الاستغلال والسرقة والخداع والعنف، نهبت موارد وثروات الأمم المستعمَرة وتحولت إلى أرباح بيد أرباب رأس المال المالي في أوربا وأمريكا. وكان حجم الأرباح المستخرجة من المستعمرات بنسبة القوة التي تتمتع بها هذه الدولة الرأسمالية الاحتكارية أو تلك في السوق العالمية. وبسبب توافر هذه الأرباح الفائضة، أمكن التروستات أن تدفع لعبيد الأجور في بلادها أجورا أكثر ارتفاعا بقليل من الأجور العادية. على أن ذلك لم يشمل جميع العمال بالطبع، وإنما أولئك الذين يعتبرون عمالا مهرة. وهكذا جرت استمالة هذه الفئة من الطبقة العاملة إلى صف رأس المال. ويتلخص منطق أفراد هذه الفئة بما يلي «إذا سيطرت (صناعتنا) على سوق جديدة في المستعمرات الأفريقية، فهذا أمر إيجابي يؤدي إلى ازدهار (صناعتنا)، وهذا ما يضاعف أرباح العمل، فنحصل نحن على بعض فضلات هذه الأرباح». وبذلك يقيد رأس المال عبيده إلى دولته، ويرشو فئة إذ يمنحهم حصة مما ينهبه من المستعمرات. إن الجماهير الكادحة لا تملك تجربة خوض النضال على الصعيد العالمي. فالواقع أن الفرصة لم تسنح لهم لاختيار مثل هذا النضال. ذلك أن معظم نشاط منظماتها كان محصورا ضمن نطاق الدولة التي تديرها البرجوازية المحلية. وقد تمكنت هذه البرجوازية من إثارة اهتمام فئة من الطبقة العاملة، وبخاصة فئة العمال المهرة، في سياستها الاستعمارية. وقد وقع في الفخ أيضا قادة التنظيمات العمالية، أي البيروقراطية العمالية، وممثلو العمال في البرلمان، لأن هؤلاء جميعا حققوا لأنفسهم مكانة ثابتة في النظام الرأسمالي، فأخذوا يبشرون بالوسائل «السلمية» و«الهادئة» و«الشرعية». لقد أشرنا سابقا إلى أن أساليب الرأسمالية الدموية ظهرت بأوضح مظاهرها في المستعمرات. كانت الصناعة قد بلغت درجة رفيعة من التطور في أوربا وأمريكا، فاتخذ نضال الطبقة العاملة فيهما أشكالا سلمية إلى حد ما. الثورة الكبرى الوحيدة التي عرفتها أوربا بعد عام 1871 كانت في روسيا، في حين أن معظم الأقطار الأوربية لم تعرف الثورات منذ عام 1848. كان الناس قد اعتادوا فكرة التطور السلمي للرأسمالية، وحتى الذين توقعوا اندلاع حروب جديدة، بالكاد كانوا مقتنعين بالكلمات التي يتفوهون بها. وكانت فئة من العمال، تضم القادة العماليين، ميالة إلى القبول بالفكرة القائلة أن الطبقة العاملة لها مصلحة في السياسة الاستعمارية وأنه ينبغي على العمال الوقوف صفا واحدا مع برجوازياتهم من أجل «المصلحة القومية المشتركة». وكنتيجة لذلك، تدفقت فئات واسعة من أبناء الطبقة الوسطى الدنيا إلى صفوف الأحزاب الاشتراكية... فلا عجب إذن إذا كان ولاء هذه الأحزاب، في اللحظات الحرجة، نحو دولة اللصوص الاستعماريين يزيد عن ولائها للتضامن الأممي. وهكذا نجد أن السبب الرئيسي لانهيار الأممية الثانية هو أن السياسة الاستعمارية والموقع الاحتكاري لرأسماليات الدولة قد أديا إلى تبعية العمال –وبخاصة «الفئة العليا» من الطبقة العاملة- للدولة البرجوازية الإمبريالية. شعارات «الدفاع الوطني» و«السلم» لقد برر قادة الأحزاب الاشتراكية والأممية الثانية خيانتهم للقضية العمالية ولنضال الطبقة العمالية ولنضال الطبقة العاملة المشترك بالتشديد على ضرورة الدفاع عن الوطن. لقد رأينا كيف أن مثل هذا الشعار لا معنى له في ظروف الحرب الإمبريالية. فلم يكن أي من الدول الكبرى في موقع «دفاعي» في تلك الحرب، بل كانت جميعها معتدية. إن شعار «الدفاع عن الوطن» (أي الدفاع عن الدولة البرجوازية) شعار تافه ومضلل. وقد أطلقه هؤلاء القادة لإخفاء خيانتهم. ولا بد من التصدي لهذه القضية بشيء من التفصيل. ما هو الوطن؟ ما هو المعنى الحقيقي لهذه الكلمة؟ هل تشير إلى بشر يتكلمون لغة واحدة، أي هل أنها مطابقة لكلمة «أمة»؟ لا، ليست مطابقة للأمة. لنأخذ روسيا القيصرية كمثال. عندما كانت البرجوازية الروسية تنادي بالدفاع عن الوطن، لم تكن تفكر بمنطقة يسكنها شعب ينتمي إلى قومية واحدة –كالروس البيض مثلا- بل كانت تفكر بالشعوب المنتمية إلى كافة القوميات في روسيا. ماذا كانت البرجوازية تعني بالفعل؟ كانت تعني بالوطن سلطة الدولة البرجوازية والإقطاعية. هذا هو «الوطن» الذي دعا الرأسماليون العمال للدفاع عنه. والحقيقة أنهم لم يكونوا يفكرون بالدفاع عنه وحسب، وإنما أيضا بتوسيع حدوده لتشمل القسطنطينية وكراكوف. وعندما كانت البرجوازية تغني للدفاع عن الوطن، ماذا كانت تعني؟ كانت تشير أيضا إلى سلطة البرجوازية الألمانية، وإلى توسيع حدود دولة اللصوص التي يحكمها الإمبراطور وليام الثاني. من هنا يجب أن نتساءل ما إذا كان للطبقة العاملة وطن في ظل الرأسمالية. أجاب ماركس على هذا السؤال في «البيان الشيوعي» بقوله: «ليس للعمال وطنا». وما قاله صحيح. لماذا؟ الجواب بسيط. لأن العمال محرومون من أي سلطة في ظل الرأسمالية، بينما البرجوازية تحتكر كل شيء. لأن الدولة، في ظل الرأسمالية، هي مجرد أداة لاضطهاد وقمع الطبقة العاملة. قلنا سابقا أن مهمة البروليتاريا هي تحطيم الدولة البرجوازية، لا الدفاع عنها. ولن يكون للبروليتاريا وطن إلا بعد تدمير الدولة البرجوازية، بعد استيلائها على سلطة الدولة وتحولها إلى طبقة حاكمة للبلد. إذ ذاك فقط، يمسي من واجب البروليتاريا الدفاع عن الوطن، لأنها بذلك تدافع عن سلطتها هي وقضيتها هي، لا عن سلطة أعدائها أو عن سياسة النهب التي ينتهجها مستغلوها [5]. وقد يعترض معترض فيقول: ألا تدرون أن السياسة الإمبريالية قد أسهمت في التطور الصناعي للدول الكبرى وأنه بفضل هذا التطور تساقطت بعض الفضلات عن طاولة الأسياد إلى الطبقة العاملة؟ ألا يعني ذلك أن العامل ملزم بالدفاع عن سيده، وبمساعدته ضد منافسيه؟ لا، بالتأكيد، إنه لا يعني ذلك أبدا. لنفترض أن لدينا صناعيَّين، سوف نسمي الأول «شولتز» والثاني «بتروف». وهما يتنافسان في السوق. يقول شولتز لرجاله: «أيها الأصدقاء. ساعدوني بكل ما أوتيتم من قوة. سبّبوا أكبر قدر من الأذى لمصنع بتروف، لبتروف نفسه ولعماله. إن انهيار بتروف يؤدي إلى انتعاش مصنعي ومضاعفة أرباحي. وبذلك أستطيع أن أمنحكم زودة على الأجور». ويتحدث بتروف بنفس المعنى إلى عماله. ولنفترض الآن أن شولتز هو الذي انتصر –والأرجح أنه، في سكرة الانتصار، سيمنح عماله زودة على أجورهم. لكنه لا يلبث، بعد فترة، أن يعيد الأجور إلى سابق عهدها. فإذا ما قرر عمال مصنع شولتز الإضراب وتوجهوا إلى الذين كانوا في معمل بتروف طالبين تضامنهم ومساندتهم. لا بد لهؤلاء من أن يردوا عليهم بقولهم «عال. عال! بالأمس، سببتم لنا كل الأذى الذي بمستطاعكم. والآن تتضرعون إلينا طلبا للمساعدة! اغربوا عن وجهنا!». وهكذا يستحيل إعلان إضراب عام. عندما يكون العمال منقسمين بعضهم على بعض، يكون الرأسمالي قويا. وبعد نجاحه في ضرب منافسه، يصفي حساباته مع عماله المفككين. وهكذا نجد أن عمال مصنع شولتز تمتعوا لفترة من الزمن بأجور مرتفعة، لكنهم سرعان ما خسروا مكسبهم هذا. الشيء نفسه يحصل على الصعيد العالمي. الدولة البرجوازية ما هي إلا عصبة للأسياد. وعندما تصاب هذه العصبة بالتخمة على حساب عصب أخرى، تقدم بعض الرشوات لعمالها. إن السبب الفعلي لانهيار الأممية الثانية وخيانة قادة الحركة العمالية للاشتراكية هو أن هؤلاء القادة صمموا على «الدفاع» عن «الفضلات» التي كانت تتساقط إليهم من مائدة الأسياد، وكانوا يأملون في زيادة هذه الفضلات. وبسبب هذه الخيانة، كان العمال مفككين، فتمكنت الرأسمالية في جميع أقطارها من تحميلهم أفدح الأعباء. ولقد أدرك العمال خطأهم، وسوء تقديرهم للأمور، وأدركوا أن قادتهم باعوهم بأبخس الأثمان. وهكذا بدأ انبعاث الحركة الاشتراكية. ولا عجب أن تتصاعد الاحتجاجات من الأول من صفوف العمال ذوي الأجور المتدنية، أي العمال غير المهرة. فقد أمعنت «الأرستقراطية العمالية» (كمال المطابع مثلا) ومعها القادة العماليين في لعبة الخيانة. ولا تكفي البرجوازية باستخدام شعار الدفاع عن الوطن (البرجوازي)، وإنما نلجأ أيضا إلى وسائل أخرى لخداع وتضليل الجماهير الكادحة. نشير هنا إلى ما يسمى «النزعة السلمية»، أي إلى وجهة النظر القائلة أنه يمكن تحقيق السلام الشامل في ظل الرأسمالية، دون قيام ثورة عمالية. ويقال أنه يكفي إنشاء محاكم دولية تنظر في خلافات الدول المتنازعة، وإلغاء الدبلوماسية السرية، والاتفاق على نزع السلاح (مع البدء بنزعه جزئيا) لتستتب الأمور ويتوطد السلام. الخطأ الرئيسي عند دعاة «النزعة السلمية» هو أن البرجوازية لن تقبل بتنفيذ أي من هذه الإجراءات، كنزع السلاح مثلا. ومن السخف البالغ التبشير بنزع السلاح في عصر الإمبريالية والحروب الأهلية. إن البرجوازية سوف تحرص على تعزيز تسليحها، وإذا ارتضى العمال بنزع السلاح أو أحجموا عن تسليح أنفسهم، فإنهم يسيرون إلى الهلاك. وهكذا نرى كيف أن الشعارات السلمية البراقة تؤدي إلى تضليل البروليتاريا. إن النزعة السلمية تمنع العمال عن التركيز على الكفاح المسلح من أجل انتصار الشيوعية. الاشتراكيون الشوفينيون تبنّى خونة الاشتراكية الشعارات الزائفة التي كانت البرجوازية تضلل بها الجماهير يوميا، وتملأ بها الصحف وتثير الضجيج حولها. فانشقت الأحزاب الاشتراكية القديمة في كل البلدان تقريبا. وبرزت ثلاثة اتجاهات. الاتجاه الأول كان يضم الخونة المفضوحين، الاشتراكيين الشوفينيين. والاتجاه الثاني –المسمى «الوسط»- كان يضم الخونة المستورين المتذبذبين. أما الاتجاه الثالث فكان يضم الذين بقوا مخلصين للاشتراكية. وقد تأسست الأحزاب الشيوعية فيما بعد على يد أفراد هذا الاتجاه الأخير. وفي كل البلدان تقريبا، أثبت قادة الأحزاب الاشتراكية القديمة أنهم اشتراكيون شوفينيون. فتحت راية الاشتراكية، بشروا بالحقد بين الأمم، وتحت شعار الدفاع عن الوطن الزائف، دعوا إلى تأييد الدول البرجوازية اللصة. ومن الاشتراكيين الشوفينيين في ألمانيا، شايدمان، ونوسكي، وإيبرت ودافيد وهينه وغيرهم، وفي إنكلترا، هندرسون، وفي الولايات المتحدة الامريكة، راسل وغومبرس، وفي فرنسا، رينودل، وألبرت –توماس، وغيد، وجوهو، وفي روسيا، بليخانوف، بوتريسوف ويمين الحزب الاشتراكي الثوري (بريشكو- بريشكوفسكايا، كرنسكي، تشيرنوف) ويمين الحزب المنشفي (ليبر، روزانوف)، وفي النمسا، ريز، سايتز، فكتور أدلر، وفي المجر، غارمي، بوشينفر، وغيرها. وكانوا جميعا مؤيدين ل«الدفاع» عن الوطن البرجوازي. وقد أفصح معظمهم أنه يؤيد سياسة النهب القائمة على الضم وفرض التعويضات كما دعا إلى الاستيلاء على ممتلكات الأمم الأخرى. وكانوا يسمون «الاشتراكيين الإمبرياليين». وقد أيدوا الحرب، طوال الفترة التي استغرقتها، ليس بالتصويت لموازنات الحرب وحسب، وإنما أيضا بالدعاية لها. في روسيا، أقدم هفوستوف، وزير الدولة القيصري، على توزيع بيان بليخانوف على أوسع نطاق. أما الجنرال كورنيلوف، فقد عين بليخانوف عضوا في حكومته. وأخفى كرنسكي (الاشتراكي الثوري) وتسيرتللي (المنشفي) المعاهدات السرية القيصرية عن الشعب، وارتكبا المجازر بحق البروليتاريا في بتروغراد في أيام تموز-يوليو (1917)، كذلك انضم الاشتراكيون الثوريون والمناشفة اليمينيون إلى حكومة كولشاك، كما كان روزانوف من جواسيس يودينيتش. بعبارة أخرى، دعم هؤلاء، مثلهم كمثل البرجوازية، وطن اللصوص البرجوازي وأيدوا تدمير الوطن السوفييتي البروليتاري. أما الاشتراكيون الشوفينيون، من طراز غيد وألبيرت-توماس، فقد شاركوا في وزارات اللصوص، وأيدوا كل مخططات الحلفاء العدوانية، وأيدوا قمع الثورة الروسية وإرسال القوات ضد العمال الروس. انضم الاشتراكيون الشوفينيون الألمان إلى الوزارة بينما كان وليام الثاني لا يزال على العرش (مثلهم كمثل شايديمان) وأيدوا الإمبراطور عندما قمع الثورة الفنلندية واجتياح أوكرانيا وروسيا الكبرى. أما الاشتراكيون الديموقراطيون (من أمثال وينينغ في ريغا) فقد شنوا الحملات العسكرية ضد العمال الروس واللاتيفيين، وأخيرا قدم الاشتراكيون الشوفينيون الألمان على اغتيال روزا لوكسمبورغ وكارل ليبنخت وأغرقوا بالدم انتفاضات العمال الشيوعيين في لايبزيغ وبرلين وهامبرغ وميونيخ وغيرها. أيد الاشتراكيون الشوفينيون الهنغاريون الحكومة الملكية طوال فترة حكمها، ثم خانوا الجمهورية السوفييتية. بكلمة نقول إن الاشتراكيين الشوفينيين في كل البلدان لعبوا دور جلادي الطبقة العاملة. هكذا تحول الاشتراكيون الشوفينيون (الذين يسمون أحيانا «الانتهازيين») إلى أعداء طبقيين سافرين للبروليتاريا. خلال الثورة العالمية الكبرى، يقاتلون في صفوف البيض ضد الحمر، ويسيرون جنبا إلى جنب مع العسكريين، وكبار البرجوازيين وملاك الأراضي. ومن الواضح أنه يجب شن الحرب ضد عملاء البرجوازية هؤلاء بالضراوة نفسها التي نشن فيها الحرب ضد البرجوازية نفسها. وقد حاول أعضاء هذه الأحزاب أحياء بقايا الأممية الثانية، والواقع أنهم باتوا مجرد فرع لـ«عصبة الأمم». إن الأممية الثانية الآن سلاح من الأسلحة التي تستخدمها البرجوازية في حربها ضد البروليتاريا. الوسط «الوسط» يضم مجموعة أخرى من الأحزاب التي كانت تنتسب سابقا للاشتراكية. ويسمى أعضاء هذه الأحزاب «الوسطيين» لأنهم يتذبذبون بين الشيوعيين والاشتراكيين الشوفينيين. ومنهم: المناشفة اليساريون بقيادة مارتوف في روسيا، و«المستقلون» (أعضاء الحزب الاشتراكي الديموقراطي المستقل) بقيادة كاوتسكي وهاس في ألمانيا، والمجموعة التي يرأسها جان لونغي في فرنسا، والحزب الاشتراكي الأمريكي بقيادة هيلكيت في الولايات المتحدة، وقسم من أعضاء الحزب الاشتراكي البريطاني وحزب العمال المستقل في إنكلترا، الخ. عند اندلاع الحرب، دعا الوسطيون للدفاع عن الوطن (فوقفوا في صف واحد مع خونة الاشتراكية) وعارضوا الثورة. وكتب كاوتسكي يقول أن «غزو العدو» هو أبشع ما في العالم، وأنه يجب تعليق الصراع الطبقي إلى ما بعد انتهاء الحرب. واعتبر كاوتسكي أنه ليس من عمل تقوم به الأممية طالما أن الحرب قائمة. ولكن بعد توقيع اتفاقية «السلام»، كتب كاوتسكي يقول أن ثمة حالة من الفوضى العظيمة وأن لا فائدة ترجى من أن نحلم بالاشتراكية. وكان منطقه يتلخص بما يلي: طالما أن الحرب قائمة، يجب تعليق الصراع الطبقي لأنه سيكون عديم الجدوى، ويجب أن ننتظر ريثما تنتهي الحرب. أما عندما يتحقق السلام، فلا جدوى من التفكير بالصراع الطبقي، لأن الحرب الإمبريالية تكون قد أنهكت الجميع. ومن الواضح أن نظرية كاوتسكي تشكل اعترافا صريحا بالعجز المطلق، وأنها تضلل البروليتاريا وتحرفها عن طريقها، وتصل إلى حد الخيانة. والأسوأ من ذلك أنه عندما كنا في خضم الثورة، لم يجد كاوتسكي ما يفعله غير شن الحرب ضد البلاشفة. فتجاهل تعاليم ماركس، وأصر على حملته ضد دكتاتورية البروليتاريا، و«الإرهاب»، الخ، متناسيا أنه يساعد بذلك «الإرهاب الأبيض» الذي تمارسه البرجوازية. وها أن آماله الآن لا تختلف عن آمال داعية سلم ليس إلا. وإذا به يحلم بالمحاكم الدولية وما شابهها. وبات أشبه بأي داعية سلم برجوازي. ومع أن كاوتسكي يقف في الجناح اليميني بين الوسطيين، فقد اخترناه لأن نظريته نموذجية عن وجهة النظر الوسطية. إن الميزة الرئيسية للسياسة الوسطية هي تذبذبها بين البرجوازية والبروليتاريا. «الوسط» ليس مستقرا، هو يسعى إلى مصالحة الأضداد وهو يخون البروليتاريا في اللحظات الحرجة. خلال ثورة أكتوبر الروسية، هاجم «الوسط» الروسي (مارتوف وشركاه) استخدام البلاشفة للعنف، وسعى إلى «مصالحة» الجميع، فكان بذلك يساعد «الحرس الأبيض» ويضعف من قوة البروليتاريا في غمرة نضالها. والواقع أن المناشفة لم يتجرأوا حتى على طرد أعضاء حزبهم الذين كانوا يتجسسون لمصلحة العسكريين ويتآمرون معهم. خلال أزمة النضال البروليتاري، دعا «الوسط» إلى إعلان الإضراب ضد دكتاتورية البروليتاريا باسم «المجلس التأسيسي». وخلال هجوم كولشاك، تضامن بعض المناشفة (من أمثال بليسكوف) مع البرجوازيين المتآمرين ورفعوا شعار «وقف الحرب الأهلية». أما في ألمانيا، فقد لعب «المستقلون» دورا خيانيا خلال انتفاضة عمال برلين، فانتهجوا سياسة «المصالحة» بينما النضال في أوجه، فأسهموا بذلك في هزيمة الانتفاضة... ويبقى أن التهمة الأخطر الموجهة ضد جماعة «الوسط» هي رفضهم الدعوة إلى الانتفاضة الجماهيرية ضد البرجوازية، وتخديرهم البروليتاريا بالأوهام «السلمية». في فرنسا وإنكلترا، «يدين» جماعة الوسط الردة المضادة للثورة، و«يحتجبون» بالكلام ضد سحق الثورة، لكنهم عاجزون كليا عن تنظيم أي نضال جماهيري. إن جماعة «الوسط» يلحقون حاليا الأذى ذاته الذي يلحقه الاشتراكيون الشوفينيون. إن «الوسطيين»- الذين يسمون أحيانا «الكاوتسكيين»- يحاولون، مثلهم كمثل الاشتراكيين الشوفينيين. بعث الحياة في جثة الأممية الثانية وعقد «التسوية» مع الشيوعيين. ومما لا شك فيه أن الانتصار على الردة المضادة للثورة لن يتحقق إلا بإعلان القطيعة مع هؤلاء وبالنضال الحازم ضدهم. جرت محاولات إحياء الأممية الثانية تحت رعاية «عصبة الأمم» اللصة. فالواقع أن الاشتراكيين الشوفينيين هم أخلص مؤيدي النظام الرأسمالي العفن، وآخر منتجاته. إن الحرب الإمبريالية ما كانت لتستمر طوال خمس سنوات لولا خيانة الأحزاب الاشتراكية. وما أن افتتحت فترة الصعود الثورين حتى لجأت البرجوازية إلى الخونة الاشتراكيين لمساعدتها على سحق الحركة البروليتارية. فقد كانت هذه الأحزاب المنسبة سابقا للاشتراكية العقبة الرئيسية في وجه نضال الطبقة العاملة للإطاحة بالرأسمالية. وطوال فترة الحرب، كانت الأحزاب الاشتراكية الخائنة تردد كالببغاوات كل ما تقوله البرجوازية. وبعد صلح فرساي وتأسيس «عصبة الأمم» أخذت بقايا الأممية الثانية (جماعة الوسط والاشتراكيون الشوفينيون على حد سواء) تردد صدى شعارات «عصبة الأمم». اتهمت «العصبة» البلاشفة بالإرهاب واغتصاب الديموقراطية و«بالاستعمار الأحمر». فرددت الأممية الثانية هذه التهم. وأخذت تطلق صيحات الدعوة للحرب الإمبريالية بدلا من خوض النضال الحازم ضد الإمبريالية، ومثلما أيدت أحزاب الخونة الاشتراكيين السلطات البرجوازية، كذلك أيدت الأممية الثانية «عصبة الأمم». الأممية الثالثة خلال الحرب، رفع الاشتراكيون الشوفينيون وجماعة الوسط شعار الدفاع عن الوطن (البرجوازي)، أي الدفاع عن سلطة أعداء البروليتاريا. والنتيجة المنطقية لمثل هذا الشعار هي شعار «الهدنة بين الأحزاب» التي تعني الخضوع الشامل للدولة البرجوازية. المسألة واضحة كل الوضوح. عندما رأى بليخانوف أو شايدمان ضرورة «الدفاع» عن الوطن القيصري الروسي أو الوطن الإمبراطوري الألماني، كان لا بد لهما من الإصرار على أن يمتنع العمال عن أية خطوة من شأنها عرقلة جهد الدفاع عن دولة اللصوص. من هنا، فلا يجوز أن تعلن الإضرابات، وطبعا لا يجوز الحديث عن انتفاضة ضد البرجوازية. وكان خونة الاشتراكية يفكرون على النحو التالي: يجب أولا بأول أن نصفي حساباتنا مع العدو «الأجنبي»، وبعد ذلك ننظر فيما يجب القيام به. فقد أعلن بليخانوف مثلا في بيانه الشهير انه يجب الامتناع عن إعلان الإضرابات العمالية طالما أن روسيا في خطر. وقد تم تقييد العمال للبرجوازية بالطريقة ذاتها في كافة الدول المتحاربة. ولكن منذ الأيام الأولى للحرب، ظهرت مجموعات من الاشتراكيين المخلصين أدركوا أن شعارات «الدفاع عن الوطن» «الهدنة بين الأحزاب» إنما تقيد البروليتاريا كليا، وإن مجرد إطلاق هذه الشعارات هو خيانة للطبقة العاملة. وهذا ما رآه البلاشفة منذ البداية. فقد أعلنوا، عام 1914، أن لا هدنة مع البرجوازية، ودعوا إلى النضال المتواصل ضد الرأسماليين، أي إلى الثورة. إن المهمة الأولى للبروليتريا في أي بلد كانت هي مهمة الإطاحة بالبرجوازية المحلية –ذلك كان رأي حزبنا منذ الأيام الأولى للحرب. وظهرت مجموعة مماثلة بقيادة كارل ليبخنت وروزا لوكسمبورغ. واتخذت هذه المجموعة اسم «الأممية» وأخذت تدعو إلى اعتبار التضامن الأممي أول مهام البروليتاريا. وسرعان ما جاهر كارل ليبنخت بضرورة إعلان الحرب الأهلية وأخذ يحرض العمال على الثورة المسلحة ضد البرجوازية. هكذا نشأ حزب البلاشفة الألمان –عصبة سبارتاكوس. وقد انشقت الأحزاب الاشتراكية القديمة في الأقطار الأخرى. نشأت مجموعة بلشفية في السويد وأسست «الحزب الاشتراكي اليساري »، بينما سيطر «الاشتراكيون اليساريون» في النرويج على الحزب كله، وأمنوا انحيازه إلى خطهم. واتخذ الاشتراكيون الإيطاليون موقفا حازما طوال الحرب. بكلمة أخرى، تكونت تدريجيا الأحزاب الداعية للثورة. وبذلت محاولة للعمل المشترك بينها في سويسرا. وقد أرسيت أسس الأممية الثالثة في مؤتمرين عقدا في «زيمرفالد» و«وكيينثال». ثم تبين أن عناصر مشبوهة من «جماعة الوسط» أخذت تنضم إلى الحركة وتعيق تقدمها. فتأسست ضمن المجموعة الأممية نفسها مجموعة سميت «اليسار الزيمرفالدي» بقيادة الرفيق لينين. وقد دعا هذا اليسار إلى العمل الحاسم، وانتقد بشدة «الوسط الزيمرفالدي» بقيادة كاوتسكي. بعد انتصار ثورة أكتوبر وقيام السلطة السوفييتية في روسيا، أخذت روسيا تحتل أهم موقع ضمن الحركة الأممية. وقد تبنى حزبنا تسمية «الحزب الشيوعي» لكي يميز نفسه عن أحزاب خونة الاشتراكية، ولكي يستعيد الاسم القتالي السابق. وقد تأسست الأحزاب في كل البلدان بتشجيع من الثورة الروسية. غيرت «عصبة سبارتاكوس» اسمها إلى «الحزب الشيوعي الألماني». وتأسس حزب شيوعي في المجر بقيادة «بيلاكون» الذي كان أسير حرب في روسيا. كذلك تشكلت الأحزاب الشيوعية في النمسا وتشيكوسلوفاكيا وفنلدنا وغيرها، ثم في فرنسا. في الولايات المتحدة، أقدمت «جماعة الوسط» على طرد اليساريين من الحزب، فأسس هؤلاء حزبا شيوعيا مناضلا. وفي خريف 1919، بدأت المحادثات لتأسيس حزب شيوعي موحد في بريطانيا. تلخيصا، بدأت عملية تأسيس وتطور أحزاب عمالية ثورية حقيقية في كل البلدان، بعد الانشقاق الحاصل بين «الوسط» و«اليسار». وقد أدى تطور هذه الأحزاب إلى نشوء أممية جديدة هي الأممية الشيوعية. وفي آذار-مارس 1919، عقد في قصر الكرملين بموسكو المؤتمر الشيوعي الأممي الأول الذي أعلن رسميا قيام الأممية الثالثة الشيوعية. وقد حضر المؤتمر مندوبون عن الشيوعيين الألمان والروس والنمساويين والمجريين والسويديين والنرويجيين والفنلنديين والفرنسيين والأمريكيين والإنكليز وغيرهم. وتبنى المؤتمر بالإجماع البرنامج الذي قدمه الشيوعيون الألمان والروس، الأمر الذي اثبت أن البروليتريا باتت تقف راسخة القدم تحت راية دكتاتورية البروليتاريا والسلطة السوفييتية والشيوعية. وقد تبنت الأممية الثالثة اسم «الأممية الشيوعية» استلهاما لـ«الاتحاد الشيوعي» الذي كان يرأسه كارل ماركس. وقد أثبتت الأممية الثالثة في كل ما قامت به من أعمال، أنها تسير على خطى كارل ماركس، أي على الطريق الثوري نحو الإطاحة العنيفة بالنظام الرأسمالي. ولا عجب إذا كان جميع أبناء البروليتاريا العالمية النشيطين والمخلصين والثوريين يحثون الخطى نحو الأممية الجديدة، ويرصون الصفوف لبناء الطليعة العمالية. لقد طبقت الأممية الشيوعية عقيدة ماركس في الممارسة، لأنها حررت هذه العقيدة من الترسبات التي تكلست عليها خلال فترة التطور «السلمي» للرأسمالية. إن التعاليم التي كان معلم الشيوعية الأعظم قد بشر بها منذ سبعين عاما، دخلت طور التطبيق الآن تحت قيادة الأممية الشيوعية.
الموقع الفرعي لتجمع اليسار في الحوار المتمدن: htt://www.ahewar.org/m.asp?i=1715
للاطلاع على صفحة الحزب الشيوعي السوري - المكتب السياسي على الفيسبوك على الرابط التالي: https://www.facebook.com/pages/الحزب-الشيوعي-السوري-المكتب-السياسي/1509678585952833 موقع الحزب الشيوعي السوري- المكتب السياسي على الإنترنت: www.ahewar.org/m.asp?i=9135 5
#تجمع_اليسار_الماركسي_في_سورية (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
طريق اليسار - العدد 96أيار/مايو 2017
-
طريق اليسار العدد 95 نيسان/إبريل 2017
-
طريق اليسار العدد 94
-
طريق اليسار العدد 93 شباط/فبراير 2017
-
طريق اليسار - العدد 92 كانون ثاني/يناير 2017
-
طريق اليسار - العدد 91
-
طريق اليسار 90
-
طريق اليسار 89
-
طريق اليسار 88
-
طريق اليسار - العدد 87 آب / أغسطس 2016
-
طريق اليسار - العدد 86 تموز / يوليو 2016
-
طريق اليسار - العدد 85
-
طريق اليسار - العدد 84
-
طريق اليسار - العدد 83
-
طريق اليسار - العدد 82 آذار / مارس 2016
-
طريق اليسار - العدد 81
-
طريق اليسار - العدد 80
-
طريق اليسار - العدد 79
-
طريق اليسار - العدد 78
-
طريق اليسار - العدد 77
المزيد.....
-
ماذا نعرف عن صاروخ -أوريشنيك- الذي استخدمته روسيا لأول مرة ف
...
-
زنازين في الطريق إلى القصر الرئاسي بالسنغال
-
-خطوة مهمة-.. بايدن يشيد باتفاق كوب29
-
الأمن الأردني يعلن مقتل مطلق النار في منطقة الرابية بعمان
-
ارتفاع ضحايا الغارات الإسرائيلية على لبنان وإطلاق مسيّرة بات
...
-
إغلاق الطرق المؤدية للسفارة الإسرائيلية بعمّان بعد إطلاق نار
...
-
قمة المناخ -كوب29-.. اتفاق بـ 300 مليار دولار وسط انتقادات
-
دوي طلقات قرب سفارة إسرائيل في عمان.. والأمن الأردني يطوق مح
...
-
كوب 29.. التوصل إلى اتفاق بقيمة 300 مليار دولار لمواجهة تداع
...
-
-كوب 29-.. تخصيص 300 مليار دولار سنويا للدول الفقيرة لمواجهة
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|