احمد الحاج علي
الحوار المتمدن-العدد: 1451 - 2006 / 2 / 4 - 06:40
المحور:
المجتمع المدني
تفتقت عبقرية المستعمر البلجيكي الذي كان يستعمر الكونغو في القرن الماضي . تفتقت عبقريته عن اختراع شيطاني عجيب , ألا وهو قفل حديدي يقفل به الفم لمنعه من الكلام , وقد صنع خصيصاً لنشطاء الحركة الكونغولية للتحرر الوطني , وهذا القفل المعدني يشبه إلى حد بعيد الخزام الفضي الذي تزين به النساء انوفهن في وسط وشمال سوريا.
وكان المستعمر البلجيكي لا يخشى سلاح الحركة الكونغولية الفردي والبسيط , بقدر ما يخشى قدرة هذه الحركة على التواصل مع شعبها عن طريق الحوار .
كانت الحركة الوطنية تفضح أساليب المستعمر , وتعريها , وتفشلها , وترد عليها .
هذا الخبر بقي محفوراً في ذاكرتي من أوائل السبعينيات من القرن الماضي , وكنت ومازلت أردد بيني وبين نفسي كم تملك هذه المفردة ( الحوار ) من قدرة على إخافة الظالم , وإرعابه , وإقلاقه , إلى درجة التفكير بصنع أقفال حديدية ؟
ألا تكفي طوابير العسكر المدججين بالكره والسلاح , المعززين بالسجون وخبراء التعذيب وأدواته حتى يفكروا بصنع أقفال حديدية ؟
ألا تكفي طوابير المخبرين والمتعاونين مع المحتل لشل قدرات المقاومة حتى يفكروا بصنع أقفال يقفلوها متى أرادوا ويفتحوها متى أرادوا ؟
هل تملك هذه المفردة قوة سحرية تحول الكائن البشري إلى إنسان , مدرك , واعٍ , مشارك في الهم الوطني والإنساني و بدونها يبقى جاهلاً مجهلاً ؟
لماذا كل هذا الإصرار على قتل الحوار من قبل أنظمة الاستعباد والاستبداد ؟ ولم كل هذه الأموال المهدورة من اجل إلغاء مفردة واحدة هي ( الحوار ) .
إن قضية الاستعباد والاستبداد واحدة في كل مكان وحيث وجدا فإن هاجسهم هو قتل الحوار , لأنه هو وحده الطاقة الكامنة في الأمة , لا بل هو روح الأمة , وبإلغائه يتم قتل الأمة , والدفاع عن الحوار هو الدفاع عن الأمة والوطن
إن امة بدون حوار , هي امة بدون السنة , وبدون حاضر و وبدون مستقبل , ولا توجد وسيلة لقتل الأمة و الوطن أفضل من قتل الحوار .
ترى ما سر هذه المفردة ( الحوار ) , دعونا نتتبع معانيِ هذه المفردة في القاموس وفي كتب اللغة لنرى معاً , أين يكمن سر قوتها و قدرتها وتألقها , ففي لسان العرب نجد .
حَوَرَ : الحَوْرُ بفتح الحاء وتسكين الواو وضم الراء وتعني : الرجوع عن الشيء والى الشيء وعنه حوراً ومحاراً ومحارة
وحؤوراً : " رجع عنه واليه " . ومع اعتذاري لعلماء اللغة لم افهم مما ورد شيئاً , وهو إن دلّ على أمر ما فإنما يدل على أن كلمة الحوار تعرضت لتغيير معانيها عبر قرون الاستبداد العربي , وتم تجريم هذه المفردة عبر قرون خلت , بإهمال استخدامها ليتم في النهاية تشويش معناها , وإخفاء دلالاتها , وتجاهلها , ومن ثم الغرق في بحر اللغة الواسع , فللأمس القريب كان الحوار نوعا من انتهاك المقدس , وما في داخلك يجب أن يبقى في داخلك . ولتأبيد حالة الاستبداد العربي , تم تجنيد الآلاف المؤلفة من الواشين , وكتبة التقارير الأمنية , والآلاف المؤلفة من المنافقين والمجهلين , مهمتهم إحصاء وتدوين كل كلمة تخص تطوير الشأن العام , فكيف للحوار أن يزدهر وينمو في مثل هذه التربة العطنة العفنة الخامرة ؟ وكيف لا ينزو الحوار , وينكمش , ويتراجع , وهو الأكثر – بمعناه – حركة والأكثر فعلاً و الأكثر مقدرة على صنع التحضر , والانتقال بالناس من الحالة البشرية العادية إلى الحالة الإنسانية الغنية بالحب , القائمة أصلاً على الحوار وحق الاختلاف , والتباين في الرأي والموقف , وللتدليل على الغنى الكامن في الحوار , أحيلكم إلى اللغة ذاتها , فحروف اللغة العربية لهل دلالاتها , وحرف الحاء على حد علمي , يدل في اللغة العربية على الحياة , ومفردة الحوار تبدأ بحرف الحاء ( حَوَرَ ) ولتوضيح دلالات الحوار يمكن الرجوع إلى كتاب الدكتور مشيل اسحق "المعاني الفلسفية في لسان العرب " لنقرأ في الصفحة 41 مايلي :"التحوير يعني التبييض فقط وذلك لان التبييض نتيجة الحور والحوارى بمعنى الدقيق الأبيض , كونه روجع في تنقيته , حتى صار نقيا خالصاً " والحوارى بمعنى الناصع وأصله : الشيء الخالص " وهو من معنى النقاء " وفي وسط وشمال سورية كان حتى الستينات من القرن الماضي , يجري في تلك المناطق طقساً سنوياً يتم فيه التحوير, أي تبيض الجدران الخارجية للدور بالحوارى وجدران البيوت الداخلية بالحوارى النقية , الأكثر بياضاً , أي تجديد ما صار بالياً ولا ينصلح إلا بتحويره .
وقد سمي أصحاب المسيح بالحواريين لأنهم انقياء من العيوب واخلصوا للمسيح , وسميت الحورية بهذا الاسم , لإبداع تكوينها , ولأنها خالية من العيوب , صافية ونقية كالحوارى .
وإذن يمكننا القول أن " الحوار تعبير عن أفكار تدور حول أمر لاكتشاف الخطأ والصواب فيه " .
وبذلك " نكون قد عدنا إلى معنى التنقية ثانية , وهي تنقية عقلية ، ومنها دعي العقل بالاحور . فالاحور من معنى غربلة الأفكار وتنقيتها بالترداد العقلي عليها , والدوران حولها ، لانتزاع الخطأ منها " .
إذن الحوار ينقل الأمة من حال إلى حال آخر , ينقلها من حالة العطالة والتخلف والجهل والجمود – وهي الشوائب قبل التنقية – إلى الحالة الإنسانية القائمة على الحركة والنقاء .
والحوار على المستوى الفردي , يزيل ما علق بالعقل من نفاق , أو أحقاد , أو ضغائن , أو خوف , أو جهل , أو تعصب عبر القرون الفائتة , ويضعنا في قلب التسامح والتحضر , بعيداً عن العقلية العشائرية , أو القبلية , أو المذهبية , أوالعنصرية , وقريباً من التعقل والفعل .
إن الحوار يمحو النفاق والكذب , ويعزز شخصية الفرد .
لقد تم تعطيل الحوار في الأمة , عبر أكثر من عشرة قرون , وتم إحلال الجدال بالقوة بدلاً من الحوار وما نراه الآن في كثير من الندوات على شاشات التلفزة , أو في بعض المنتديات, أو في الحوار بين شخصين , ما هو إلا جدال , تعلو فيه الأصوات ويتعزز الحقد بين المتجادلين , ويتم تجريم الأخر أو تكفيره و تسفيه رأيه و تخوينه أو الدعوة إلى قتله , وهو ما قصده معنى الجدال , ففي المعجم الوسيط نجد .
"جَدَلَ الرجل : صرعه . وجَدَلَهُ . غلبه في الجدل . وجَدَلَ جدلاً : اشتدت خصومته . وجادله مجادلةً , وجدلاً : ناقشه وخاصمه . وتجادلا في الأمر : تخاصما فيه . والمجادلة لا لإظهار الصواب بل لإلزام الخصم "
ولكن لماذا ساد الجدال عبر كل تلك القرون ؟
وما هي الأسباب التي أدت إلى الابتعاد عن الحوار ؟
إن أعدى أعداء الحوار هو الاستبداد , وأول ما يفعله الاستبداد هو
1- تعميم الخوف بقوننته – قانون الطوارئ – الأحكام العرفية – معاقبات جماعية – سجون تعذيب – استدعاءات أمنية – السيطرة الكاملة على الاتحادات والنقابات والروابط عبر تحريكها بالأوامر . وبدون الأوامر يستحيل أن تتحرك من تلقاء ذاتها مهما كانت الأخطار التي تتعرض لها الأوطان , إن الخوف يشل حركة الجميع حتى ازلام السلطة وتوابعها , لذالك فالحوار مع هذه الفئات يكاد يكون مستحيلاً , فالخوف والمكاسب القليلة تبعدهم عن أية حوارات وتقربهم أكثر من حالة الجدال .
2- تعميم الجهل , تلجأ السلطات العربية إلى تصنيع أشخاص على مقاسات رغباتها لا تزيد ولا تنقص , تردد ما يملى عليها , وتنفذ ما تؤمر به , والأمثلة كثيرة طلائع – شبيبة – فتوة – اتحادات , وكما تتم السيطرة على وسائل الإعلام من مرئية . ومسموعة . وصحف . ومجلات . ومسرح . وسينما . وتسيطر على التعليم بجميع مراحله , و تحويل عقول أتباعها إلى نسخة كربونية عن أوامرها تردد ما يملى عليها , وتتبع رقابة إعلامية صارمة على الأفكار وتمنع إصدار الصف والمجلات والمنتديات , إلا ما وافق توجهاتها وما يخدم استمرار نهجها وتسلطها و فسادها , وتراقب وتلاحق وتعاقب كل حراك ثقافي لا ينضو تحت خيمتها .
إن الجدال يزيد النفاق نفاقاً والتملق تملقاً والكذب كذباً .
ونحن اليوم أحوج من أي وقت مضى للحوار , فالأخطار الخارجية , تحيط بنا من كل جانب والأخطار الداخلية المتمثلة في منتجي الاستبداد والفساد تحاول خنق كل حراك وطني , فلا مهرب أمامنا ولا حل لأزماتنا السياسية والاجتماعية والثقافية إلا بالحوار .
إن مراجعة سريعة لتاريخ نهوض الأمم – في العصر الحديث على الأقل – , يدلنا على أن الحوار المقرون بالحرية , هو الخطوة الأولى لبناء الأوطان وتحصينها .
#احمد_الحاج_علي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟