|
هل ساهمتْ الفلسفة فى التحررمن الثوابت؟
طلعت رضوان
الحوار المتمدن-العدد: 5565 - 2017 / 6 / 28 - 13:45
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
هل ساهمتْ الفلسفة فى التحررمن الثوابت؟ طلعت رضوان رغم تعدد المذاهب الفلسفية– منذ العصورالقديمة وحتى عصرنا الحديث- ورغم توزعها بين (فلسفة مثالية) تعتقد بوجود قوى خارقة للطبيعة وللكون، وأنّ تلك القوى هى المُـحرك لكل الظواهرالطبيعية، وبين (فلسفة مادية) تربط كل الظواهربالتفسيرالمادى، مثل حركة سقوط الأمطار(نموذجًا) فلاتوجد قوى خفية تتسبّب فى سقوطها، وإنما هذا السقوط له تفسيره المادى من تجمع السحب إلخ، ورغم تباين وجهتىْ النظربين الفلسفتيْن (المثالية والمادية) فإنّ الفلاسفة فى المدرستيْن، مشغولون ب (الإنسان) والبحث عن السبل التى تجعل حياته أكثررقيًا وتحررًا أى البحث عن الوسائل التى تجعل المستقبل أفضل من الماضى وأفضل من الحاضر. كما أنهم اتفقوا على أنّ السبيل إلى ذلك، هوتعظيم واحترام دورالعلم science أى الاهتمام بالعلوم النظرية ثم تطبيقاتها العملية، أوما يُعرف ب التكنولوجيا. ومن خلال تجربة أوروبا فى العصور الوسطى، تبيّن هذا التزاوج بين العلم والفلسفة، خاصة عند مرحلة كوبرنيكوس (1473- 1543) وأبحاثه وتجاربه فى علم الفلك. وإذا كانت العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية، تسعى لتحسين حياة الإنسان، فإنّ الكهنوت الدينى فى الديانة العبرية (اليهودية/ المسيحية/ الإسلام) يقف بالمرصاد ضد هذه العلوم، خاصة عندما يشعرالعاملون بالكهنوت الدينى أنّ تلك العلوم تمس معتقداتهم الراسخة رسوخ الجبال، رغم تناقضها مع الواقع ومع التجارب العملية، ووصل الأمرلدرجة تعرض بعض المُصلحين الدينيين للاضطهاد، بل وأحيانـًا للتصفية الجسدية، كما حدث مع المصلح الدينى سافونارولا، الذى أعدم حرقا فى فلورنسا عام 1498، بتهمة الزندقة لمجرد أنه هاجم البابا اسكندرالسادس، رغم أنّ سافونارولا كان ثيوقراطى النزعة، ولكن الكهنوت الدينى لم يحتمل بعض نصائحه، ومع ملاحظة أنه أول مؤسس للثيوقراطية فى العالم المسيحى ومعناها الحرفى (حكومة الله) ومع ذلك أحرقته الكنيسة مع راهبيْن آخريْن من أتباعه المُخلصن. ولذلك ساءتْ سمعة الكنيسة فى عصرسافونارولا، لدرجة أنّ الناس كانوا يتندرون بقولهم عن القساوسة ((إنّ سمعتهم الطيبة تتنافى مع انتسابهم للكنيسة)) وأصبح اسم رجل الدين مرادفـًا للطفيلية. وكان الناس يُـقلدون صوت أجراس الأديرة فيقولون (داندو.. داندو) أى هات.. هات. وقضى سافونارولاسبع سنوات يجوب قرى توسكانيا ولومبارديا واعظــًا ومُـندّدا بفساد الكنيسة. وفى عام 1484، وعام 1485 كان فى سان جيمنيانو، يقول بأنّ الغضب الإلهى سوف يحيق بالكنيسة قريبًا، وأنّ الكنيسة سوف تتجدّد وتعود إليها نضارتها، وفى عام 1486زار مدينة بريشيا الإيطالية وقال أنّ هذه المدينة ستزول وسوف ينزل القصاص الإلهى على إيطاليا كلها، فلما احتلّ الفرنسيون مدينة بريشيا وخرّبوها آمن الناس بكلام سافونارولا، واعتبروا كلامه ضمن (النبوءات) وهكذا تحوّل إلى زعيم أصولى شعبوى، خاصة عندما كان يخطب وسط الجماهير، ويستشهد بالنصوص الدينية، ويُردّد آية من سِفرالرؤيا، أسّس عليها موعظة كاملة، ملخصها أنّ القصاص سينزل بالكنيسة وأنّ الكنيسة سوف ترد إليها روحها ويتجدّد شبابها، وهذا سيتم فى أجل وشيك. وكان البسطاء من عامة الشعب يلتفون حوله، ويبكون عندما يذكــّـرهم بيوم (الحشر) فتضاعفتْ شعبيته (مثل شعبية أى مُـهيّج دينى) وكما سيطرهوعلى الجماهير، سيطرتْ الجماهيرعليه، فكان لابد من السيرفى نفس الإتجاه: السخط على الكنيسة ولكن من منطلق ميتافيزيقى والاستشهاد بالنصوص الدينية، وإدانة (السكروالقماروالانحلال الجنسى) ولكنه لم يقترب من منظومة الحكم التى تؤبد العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وأنّ الأخيرعليه أنْ يظل خاضعًا لتلك المنظومة الداعمة للأثرياء ضد الفقراء، وأنّ الحرية لرموزالسلطة وليست لجماهيرالشعب. لذلك كان دورسافونارولاشديد السطحية (مثله مثل أى داعيه دينى) بل وشديد الخطورة عندما يمتد دوره إلى الهجوم على الأدب والفن، وتحريمه لتلك الفنون، كما فعل عندما هاجم كتابات أفلاطون وأرسطووفرجيل وبترارك، ونظرًا لشعبيته الكاسحة فقد تأثركثيرون من فنانى عصره بمواعظه التخريبية ضد الأدب والفن، مثل الفنان ديللا بورتا الذى توقف عن الرسم لمدة أربع سنوات حزنـًا على موت سافونارولا، وكذلك مايكل أنجلوالذى قضى شيخوخته الكئيبة فى قراءة مواعظ سافونارولاباحثــًا عن (سلامه النفسى) ولذلك غلب على أعماله الفنية هووأمثاله من الفنانين المُعاصرين لتك الفترة تصوير(عذابات يوم القيامة) وأشهرتلك الأعمال لوحة مايكل أنجلوبعنوان (يوم القيامة) التى دخلتْ الفاتيكان، فكانت نوعـًا من الانتصارللداعية الدينى الشعبوى (سافونارولا) وكان نوركويمادا (1420- 1498) رئيس محاكم التفتيش فى إسبانيا يُبرّرإحراق من أطلق عليهم (زنادقة) ووضعهم على الخازوق بقوله ((نحن نحرقك فى الدنيا رحمة بك حتى نــُـنقذك من النارالأبدية فى الآخرة)) وكان تعريف (الزنديق) عنده ((كل منشق على الكنيسة الكاثوليكية أورافض لها فى العقيدة والسلوك)) كان هذا هوالمناخ السائد فى أوروبا العصورالوسطى، المناخ الذى سيطرعليه ربط مصير الإنسان بسلاسل القيود المملوكة لأخطرمؤسستيْن عبرالتاريخ: مؤسسة الدولة بأجهزتها القمعية. والأخطرمنها المؤسسة الدينية بفتاواها والحكم على البشر: هذا (كافر) مصيره الحرق والخوزقة فى الدنيا وجهنم فى الآخرة، وهذا (مؤمن) له كل المُـتع الدنيوية والأخروية. فكيف تم الانعتاق من هذا المصير؟ لم يكن أمام البشرية إلاّ إعمال العقل وتطليق كل أشكال الميتافيزيقا، وكان السبيل إلى ذلك: الفلسفة خاصة الفلسفة المادية التى ركــّـزتْ على أنّ المجال الحقيقى للعقل البشرى إنما هوالواقع والقوانين الوضعية، أى القوانين التى يتــّـفق البشرعلى وضعها لصياغة علاقتهم بالحكومة من ناحية، وعلاقتهم ببعضهم البعض من ناحية ثانية، أى أنهم رفضوا الامتثال ل (القوانين سابقة التجهيز) الساقطة عليهم من السماء (كما قال الكهنوت الدينى) ولذلك قال فلاسفة الوضعية المنطقية ((إنّ كل معرفة إنسانية لابد وأنْ تكون نسبية)) أى أنهم كانوا ضد (المُطلق) وهذا المُطلق هوآفة من آفات الإيمان بالميتافيزيقا، وهذا المُطلق له (توأم) لايقل خطورة عنه هوما يُسمى (الثوابت) وأنّ الجرائم التى تمّ ارتكابها ضد البشر- عبرالتاريخ– كانت بسلاح هذا التوأم (المُطلق والثوابت) استند فلاسفة (الوضعية المنطقية) إلى تاريخ العلوم وفقــًا لقانون الأطوارالثلاثة الذى وضعه الفيلسوف الفرنسى أوجست كونت (1798- 1857) وخلاصة هذا القانون أنّ العلوم مرّتْ بمرحلتيْن تمهيديتيْن قبل وصولها إلى المرحلة الوضعية: فهى فى الطورالأول، أى الطورالدينى أواللاهوتى، كانت (أى تلك العلوم) تـُـفسّرظواهرالطبيعة بإرجاعها إلى عِلل غيبية، أى نسبتها إلى قوى فائقة للطبيعة تتدخل بإرادتها فى صميم نظام الطبيعة. ثم جاء الطورالثانى– وهوشبيه بالأول– أى الطورالميتافيزيقى الذى كان يُـفسرالظواهربردها إلى قوى مجردة أومبادىء مُطلقة. وأخيرًا وصلتْ العلوم إلى الطورالوضعى، فأصبحتْ تـُـفسّرالظواهربربطها ببعضها وفقــًا لما تقدمه التجربة من وقائع، وأنّ ما يُمّيزالقرن التاسع عشر- من وجهة نظرأوجست كونت– إنما هوهذا الصراع القائم بين العقلية الوضعية والعقلية الميتافيزيقية، وهوصراع لابد وأنْ ينتهى حتمًا بإنتصارالعلم الوضعى وهزيمة الفلسفة الميتافيزيقية. وإذا زعمتْ الميتافيزيقا لنفسها أنها تقوم بمهمة التأليف والربط بين العلوم المختلفة، أى تقوم بدور(العلم الكلى) فإنّ فلاسفة الوضعية ردوا على هذا الزعم بقولهم: أنّ الفلسفة الوضعية وحدها هى التى تستطيع أنْ تسد هذه الحاجة إلى تحقيق وحدة العقل البشرى، ولذلك فإنّ مهمة الفلسفة الحقيقية تنحصرفى الكشف عن العلاقات والروابط التى توحـّـد بين العلوم، مع العمل على الجمع بين ما فى تلك العلوم من مبادىء ونتائج . كما أنّ أوجست كونت وضع الرياضيات فى المرتبة الأولى للعلوم، نظرًا لأنّ كل العلوم الأخرى تتوقف عليها وتستند إليها، ثم أعقبها بعلم الفلك، فعلم الطبيعة، فعلم الكيمياء، فعلم الأحياء. وعن العلوم الإنسانية وضع فى أعلى السلم علم الاجتماع أوعلم المجتمعات البشرية. ولأنّ الفلسفة حركة عقلية فى المقام الأول، لذلك يحدث جدل بين الفلاسفة، وتنهض المدارس الفلسفية المُختلفة بمهمة تصحيح وتصويب بعض المدارس، ولذلك فإنّ كثيرين من الفلاسفة انتقدوا الفلسفة الوضعية. وهكذا تعدّدتْ المدارس الفلسفية، مثل الفلسفة البرجماتية التى حمل لواءها وليم جيمس وجون ديوى، وفلسفة النزعة الحيوية التى عبّرعنها دلتاى وبرجسون، وفلسفة النزعة الفنومنولوجية التى اقترنتْ باسم هوسرل وماكس شيلر، والفلسفة الوجودية التى عبّرعنها فى ألمانيا هيدجروكارل يسبرز، وفى فرنسا كل من جبرييل مارسل وجان بول سارتر إلخ. وبعد أنْ كان الوضعيون فى القرن التاسع عشريظنون أنّ اختلاف الفلاسفة فيما بينهم سوف يؤدى إلى القضاء نهائيًا على الفلسفة والاكتفاء بالعلم، جاء القرن العشرون فأكد أهمية حاجة العقل البشرى للفلسفة، بدليل وفرة الانتاج الفلسفى المعاصروتعدد التيارات الفكرية الراهنة، لدرجة أنّ الفيلسوف الألمانى kant (1724- 1804) قال جملته المهمة ((إنّ سأم العقل البشرى من استنشاق هواء غيرنقى، لن يدفعه يومًا إلى الامتناع كلية عن التنفس)) وتأكدت مقولة هذا الفيلسوف بدليل إقبال البشر(فى أوروبا) على قراءة كتب الفلسفة، من وفرة الانتاج الفكرى فى معظم بلاد العالم المتمدن، حيث ورد فى القائمة السنوية التى أصدرها المعهد العالى للفلسفة سنة 1938 (كمثال) أنّ عدد الكتب الفلسفية التى ظهرتْ فى ذلك العام (وحده) زادت عن سبع عشرة ألف كتاب. وهذا الانتاج الضخم يدل بدوره على المشكلات الفلسفية قد تزايدتْ بما لم يسبق له نظيرمن قبل، كما أنّ الوعى البشرى نفسه أصبح أقدرعلى فهم الفلسفة فى صميم الحضارة الحديثة. وهكذا يمكن القول أنّ غالبية الفلاسفة يسعون إلى الاقتراب من (هموم الإنسان) وأنّ الوظيفة الأساسية للفيلسوف هى أنْ يحل مشكلة المصيرالبشرى، خاصة وأنّ الفلسفة لم تعد تـُحلــّـق فى سماء المُجرّدات، وإنما أصبحتْ تعنى بحل مشكلات الواقع الإنسانية، وبالتالى لاعلاقة لها بكل أشكال الميتافيزيقا. ***
#طلعت_رضوان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مقولة التراجع فى التاريخ العربى/ الإسلامى
-
نماذج من قتل الفلاسفة فى التاريخ العربى/ الإسلامى
-
العلاقة بين الدين والفلسفة: متوازية أم عكسية؟
-
دينامية المجتمع الإسرائيلى
-
هل يمكن إنتاج مسلسل أوفيلم عن ماريه المصريه؟
-
من توابع يوليو1952
-
التفسير المادى والتفسير المثالى لحركة التاريخ
-
جامعة الدول العربية : آن الرحيل
-
كيف نشأت فكرة (التأليف)؟
-
كيف انخدع المتعلمون فى أدعياء الليبرالية؟
-
طه المليجى: الهوس بالناصرية والاتهام بالصهونية
-
لماذا فرح العبرانيون بأحادية أخناتون ؟
-
علم المصريات وأهمية تدريس اللغة المصرية القديمة
-
لماذا ردّد الماركسيون أكاذيب عبد الناصر؟
-
الجذر التاريخى للتمييز بين البشر
-
أثر الواقع على القرآن
-
لماذا دعمت أمريكا ضباط يوليو1952 ؟
-
باب أسباب النزول: الكشاف Focus الذى يخشاه الأصوليون
-
مثقف خارج طابور الثقافة السائدة
-
العلاقة بين الأنبياء والرب فى العهد القديم
المزيد.....
-
الإمارات تعلق رسميا على مقتل -الحاخام اليهودي-.. وتعلن القبض
...
-
من هم المسيحيون الذين يؤيدون ترامب -المخلص-؟
-
المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية: مذكرتا اعتقال نتنياهو وجال
...
-
الأميرة المسلمة الهندية -المتمردة- التي اصطادت النمور وقادت
...
-
تأسست قبل 250 عاماً.. -حباد- اليهودية من النشأة حتى مقتل حاخ
...
-
استقبل تردد قناة طيور الجنة أطفال الجديد 2024 بجودة عالية
-
82 قتيلاً خلال 3 أيام من أعمال العنف الطائفي في باكستان
-
82 قتيلا خلال 3 أيام من أعمال العنف الطائفي في باكستان
-
1 من كل 5 شبان فرنسيين يودون لو يغادر اليهود فرنسا
-
أول رد من الإمارات على اختفاء رجل دين يهودي على أراضيها
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|