|
الصحافة المستقلة ورهان البقاء مع المَخزن المغربي
عبدالرزاق بنان فلالي
الحوار المتمدن-العدد: 1450 - 2006 / 2 / 3 - 10:32
المحور:
الصحافة والاعلام
خصصت القناة المغربية الثانية (دوزيم كما يسميها أهل المغرب) حلقة الأربعاء 14/12/2005 من برنامجها الحواري النصف شهري "مباشرة معكم" لموضوع أثار وما زال نقاشاً وجدلاً واسعين في الأوساط الإعلامية والحقوقية في المغرب، وهو إشكالية الإعلام بين الحرية والمسؤولية. بداية، أعترف بأنني لست من المتتبعين الأوفياء لهذه القناة ليس تجاهلاً أو استعلاءً، وإنما لأنني أجدها بعيدة عن نبض الشارع المغربي وأبعد عن المهنية والحرية التي ننشدها لإعلامنا الوطني لأسباب لا يسع المقام لذكرها وإن كنا سنعرض لبعضها في مقالنا هذا. عرفت بموضوع الحلقة عن طريق زميل لي، واستبشرت خيراً حين استمعت إلى الشريط الإعلاني للحلقة وللأسئلة التي طرحها مقدم البرنامج على أساس أنها ستشكل محاور النقاش، والتي أورِدُهَا هنا كما جاءت للفائدة "تعود الحرية والمسؤولية في الممارسة الصحافية الوطنية إلى الواجهة على ضوء المحاكمات التي طالت وتطال العديد من المنابر الصحفية الوطنية. أين تنتهي الحرية؟ وأين تنتصب المسؤولية في الممارسة الصحافية؟ ثم كيف الحفاظ على هذا المتسع من الحرية الذي تنعم به الصحافة المغربية اليوم بعد عقود من النضال؟ ثم كيف السبيل إلى ضمان تطبيق أمثل لأخلاقيات المهنة المتفق عليها من طرف المهنيين؟ وما مضمون النقاش الدائر حول التعديلات بخصوص بعض بنود قانون الصحافة، خصوصاً بعض البنود السالبة للحرية؟". الصحافة المستقلة وصراع البقاء مع السلطة قبل أن نخوض في تفاصيل البرنامج وما طرحه من مواضيع وأفكار، حري بنا أن نضع القارئ في سياق الأحداث ونطلعه على متغيراتها ومستجداتها الإعلامية مغربياً. ظل المشهد الصحافي المغربي محكوماً لعقود طويلة بصحافتي المخزن والأحزاب، ومعهما ظل المواطن المغربي يترقب ويحلم بإعلام وصحافة ينطقان بلسانه لا بلسان المخزن والأوليغارشية الحاكمة، خاصة بعد أن انجرت صحافة الأحزاب إلى مستنقع إعلام السلطة وتخلت لأسباب ذاتية وموضوعية عن مهمتها وعجزت عن التكيف مع المتغيرات السوسيوسياسية التي يشهدها المغرب، مما عمّق أزمة مصداقيتها ونفر قراءها. في ظل هذا الفراغ، وبعد تولي الملك محمد السادس العرش وإطلاقه "المفهوم الجديد للسلطة"، أي المزيد من الانفتاح والحريات، وإبعاده وزير الداخلية القوي إدريس البصري وفشل مسرحية التناوب السياسي المصطنع، بدأ يُلاحظ ظهور فاعل جديد ومؤثر داخل المشهد الإعلامي في المغرب، وبالتحديد في حقل الصحافة المكتوبة. فاعل استطاع بفضل جرأته ومهنيته وتحرره من التابوهات والعقليات المحافظة التي حكمت الممارسة الصحافية من أن يُحدِثَ ثورة ليس فقط صحافياً، بل كذلك سياسياً واجتماعياً وحقوقياً. يتعلق الأمر بالصحافة الحرة أو ما درج المغاربة على الاصطلاح عليه بالصحافة المستقلة، إشارة إلى استقلالها عن الدولة وعن الأحزاب السياسية. لم يكن مفاجئاً أن يسطع نجم الصحافة المستقلة في المغرب وأن تتمكن من إعادة الاعتبار إلى العمل الصحافي المهني كسلطة رابعة ووسيلة للرقابة الشعبية بالرغم من كل الإكراهات والمثبطات التي فُرِضَت وتفرض عليها، كما لم يكن غريباً أن تعيد الثقة إلى القارئ المغربي بكل فئاته، بغض النظر عن ميوله السياسية والإيديولوجية وانتماءاته الاجتماعية والثقافية، كيف لا وهي التي رفضت مند البدء الانغماس في إعلام السلطة وأخبار "قولوا العام زين" (تعني في القاموس المغربي أن كل شيء جيد والحصيلة أكثر من مُرضِيَة) على حساب إعلام المجتمع، ورسمت لنفسها خطاً تحريرياً لا تحيد عنه وهدفاً لا تتنازل عنه حتى ولو جرَّ عليها غضب وسخط المحتكرين لخيوط اللعبة السياسية، لذلك فهي لا تعترف بـ "الخطوط الحمراء" أو "التابوهات" ولا تتوانى عن التطرق إلى القضايا المصيرية والحساسة التي تواجه مغرب اليوم بمهنية قوامها الصراحة والتعددية والانفتاح على كل التيارات والأفكار، بما فيها تلك المدرجة في خانة "المغضوب عليهم والضالين" مخزنياً. هكذا إذن لم يعد مستغرباً أن تطالع على صفحاتها ما بات يصطلح على تسميته بالقضايا الجدلية أو الممنوعات، كطبيعة الحكم في المغرب واختصاصات الملك الدستورية وضرورة تقليصها لحساب مؤسسات أخرى (مؤسسة الوزير الأول مثلاً)، وتفاصيل الميزانية المخصصة للقصر الملكي، أو تحقيقات تسلط الضوء على حكومة الظل ومستشاري الملك وتغوص في كيفية عمل جهاز "المَخزِن" وآلياته ورجاله وتنبش في أسرار المؤسسة العسكرية أو في ماضي بعض الشخصيات والمسؤولين، كما لا تتردد في نشر ملفات الفساد التي تورط فيها مسؤولون كبار في مختلف مؤسسات الدولة، إضافة إلى مواضيع عن علاقة الدين بالسياسة في المغرب والحقوق الأمازيغية والجنس. التزام الصحافة المستقلة بطرح كل ما يمس مستقبل وواقع المواطن المغربي، إضافة إلى جرأتها ورغبتها في التحرر من قوقعة النظام ووصايته جرّ عليها نقمة أركان النظام المخزني، وبالتحديد مَن يمكن تسميتهم بـ "الحرس القديم" أو "المحافظين الجدد" داخل هذا النظام والمنتفعين منه، وأدخلها في رهان قوة معه، ظهرت أول نذره بعد نشر بعض الصحف رسالة متبادلة بين فاعلين سياسيين مغاربة، من بينهم الوزير الأول (رئيس الوزراء) السابق عبد الرحمن اليوسفي بخصوص تورط بعض الشخصيات السياسية المعروفة في محاولة انقلاب 1972، حينها سارع المخزن إلى إغلاق المطبوعات التي نشرت المذكرة وإصدار قانون الصحافة الجديد (03/10/2002) للجم كل محاولة للخروج عن "صراطه المستقيم". معركة الصحافة المستقلة مع السلطات لم تتوقف عند هذا الحد، بل عرفت فصولاً أخرى أكدت بالدليل القاطع أن حرية التعبير والصحافة في المغرب ما زالت أضغاث أحلام وأمان لم يُكتَب لها بعد أن تصبح واقعاً متجذراً. نتوقف هنا مع بعض محطات المنع والملاحقات القضائية التي استهدفت بعض المنابر المستقلة، مشيرين إلى أننا سنكتفي بالحالات والقضايا التي أثارت اهتماما كبيراً سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي. • الحملة المسعورة التي أعقبت نشر صحيفة الجريدة الأخرى نتائج استطلاع رأي لاختيار شخصية عام 2005 في المغرب، والذي أعطى المرتبة الأولى لإدريس بنزكري، رئيس هيئة الإنصاف والمصالحة (المكلفة بطي ملف انتهاكات سنوات الجمر والرصاص) بـ 19% من الآراء، متقدماً على العاهل المغربي الملك محمد السادس الذي حصد 14% من الآراء فقط. استطلاع وصفه نبيل بنعبدالله، وزير الاتصال المغربي والناطق باسم الحكومة، بأنه "بمثابة إهانة حقيقية وينم بوضوح عن نيات مبيتة والرغبة في الإساءة"، علماً أن الصحيفة استطلعت آراء بعض أعضاء الحكومة. • متابعة كل من هشام السنوسي، مدير نشر صحيفة La Mañana، ومحمد دومة صحافي بالجريدة بتهمة نشر الصحيفة "أنباء زائفة أخلت بالنظام العام" في عددها 216 (04/01/2006) ، وقد حددت لها جلسة بتاريخ 31/02/2006. • الدعوة "المشبوهة" التي رفعها المركز الأوروبي للبحث والتحليل والاستشارات في المجال الاستراتيجي (ESISC) ضد أسبوعية Le Journal بتهمة السب والقذف إثر نشرها مقالاً في عددها الصادر بتاريخ 03/12/2005 تعرضت فيه بالتحليل لتقرير صدر مؤخراً عن المركز تحت عنوان "جبهة البوليساريو هل هي شريك ذو مصداقية في المفاوضات أم هي من مخلفات الحرب الباردة وعائق أمام حل سياسي لقضية الصحراء الغربية"، واصفة إياه بأنه «موجه» بل وممول من قبل الرباط. • إصدار أحكام جائرة خلال محاكمات شابتها العديد من الخروقات على مجلة Telquel الفرنكوفونية بسبب مقال نشرته عمَّا بات يُعرف بملف البرلمانية حليمة عسالي، أحكام قضت بتغريم المجلة الأسبوعية ما مجموعه مليون و960 ألف درهم (أي ما يعادل 176 ألف يورو). • إخضاع ادريس شحتان، مدير أسبوعية المشعل، للاستنطاق لأكثر من ثلاث ساعات من طرف الشرطة القضائية على خلفية نشر صور للأميرات المغربيات تحت عنوان "الحياة الخاصة لأميرات الشعب" ولنشره غلاف أسبوعية البيضاوي الذي مُنِعَ من الطباعة لتضمنه عبارة "الله يلعنها بلاد". • استدعاء عبد الرحيم اريري، مدير نشر صحيفة البيضاوي للاستماع إليه بخصوص موضوع غلاف العدد 177 من الصحيفة الذي مُنِعَ من الطبع بسبب عبارة "الله يلعنها بلاد"، وتضمنه ملفاً عن شتم وسب المغاربة لبلادهم، وهو ما اعتبره قاضي التحقيق "إساءة للدين الإسلامي وللوطن". • استنطاق كل من نور الدين مفتاح، مدير أسبوعية الأيام، ومريم مكريم، المحررة بالأسبوعية، على خلفية نشر الأسبوعية في 06/11/2005 ملفاً تحت عنوان "أسرار حريم القصر بين ثلاثة ملوك"، مرفقا بصور لزوجة الملك الراحل الحسن الثاني وأمه تنشر لأول مرة. لتتم متابعتهما بجنحة "نشر ونقل أنباء زائفة وادعاءات ووقائع غير صحيحة وكذا عرض صور بعض أفراد الأسرة الملكية دون أخذ إذن مسبق من الديوان الملكي"، علماً أنه لا وجود لنص في قانون الصحافة أو القانون الجنائي المغربيين يفرض الحصول على إذن من القصر الملكي لنشر صور أفراد العائلة المالكة. • توجيه عبد الحق المريني، مدير التشريفات الملكية والأوسمة، رسالة تحذير شديدة اللهجة إلى مدير أسبوعية الجريدة الأخرى لنشره بتاريخ 06/04/2005 تحقيقاً عن الأميرة للا سلمي، عقيلة الملك محمد السادس، وهو إجراء يتنافى مع المشروعية القانونية التي تستدعي اللجوء إلى القضاء للاحتكام في النزاعات عوض ممارسة الاستبداد باسم الأعراف والتقاليد البالية القروسطية. • قيام وزارة الاتصال المغربية، التي يرأسها –للتذكير- السيد نبيل بنعبدالله، بسحب بطاقتي اعتماد كل من مراسلي الجزيرة في الرباط عبد السلام رزاق وإلهام إقبالي، إضافة إلى توقيف صحفيي قناة الجزيرة بمطار العيون ومنعهم من تغطية ميدانية لأحداث العيون. • متابعة عبد العزيز كوكاس، مدير صحيفة الأسبوعية الجديدة، لنشره بتاريخ 02/05/2005 تصريح نادية ياسين، كريمة مؤسس جماعة العدل والإحسان شبه المحظورة والناطقة غير الرسمية باسم الجماعة، أكدت من خلاله أنها شخصياً تفضل النظام الجمهوري على النظام الأوتوقراطي في إشارة إلى النظام الملكي، وتشكيكها في شرعية النظام القائم الذي لا يصلح من وجهة نظرها للمغرب وتنبؤها بقرب نهايته. ملف سيعاود القضاء النظر فيه في 14/03/2006. • منع علي المرابط، مدير الأسبوعيتين الممنوعتين "دومان" و"دومان ماعازين"، من مزاولة مهنة الصحافة لمدة 10 سنوات وتغريمه مبلغ 500 ألف درهم بسبب تصريحات أدلى بها لأسبوعية المستقل، أكد فيها أن مُختَطَفِي تندوف ليسوا بمُختَطَفِين وإنما ذلك كذب وافتراء . وهنا لابد لنا أن نذكِّر أن لمرابط سبق وأن توبع في قضايا مختلفة متعلقة بحرية الرأي والتعبير بتهمة المس بالاحترام الواجب للملك والوحدة الترابية والمؤسسة الملكية، وحُكِم عليه بالحبس أربع سنوات على خلفية نشره خبراً عن بيع أحد القصور الملكية بمدينة الصخيرات ونشره لرسم كاريكاتيري يتعرض فيه بالسخرية لميزانية القصر وإعادة تركيبه لإحدى صور الملك. الملاحظ أن كل المتابعات التي استهدفت المنابر المستقلة تتقاسم المبرر نفسه، وهو المس بـ "الثوابت الوطنية ومقدسات البلاد"، و"نشر رسائل إحباط أو تيئيس وتشكيك في المؤسسات والثوابت الإسلامية والوطنية" بحسب تعبير وزير العدل المغربي محمد بوزبع، الذي لم يجد حرجاً في التعبير "عن نية وزارته في عرض بعض الصحف على القضاء، بعد الانتهاء من التحقيق معها بتهمة المس بالثوابت الوطنية ومقدسات البلاد"، بل الأنكى من ذلك إعلانه عن إنشاء "خلية مكلفة بتتبع كل ما يُنشر"، وهو ما يعني إعطاء الضوء الأخضر لنصب محاكم تفتيش لمعاقبة كل صحافي تسوّل له نفسه "الأمارة بالسوء" استخدام حقه في حرية التعبير لانتقاد من يعتبرون أنفسهم فوق القانون. برنامج "مباشرة معكم" واتهام الصحافة المستقلة باللامسؤولية قبل أن نستهل قراءتنا التقييمية لبرنامج دوزيم، نشير إلى أن اختيار عنوان الحلقة "الصحافة بين الحرية والمسؤولية" كان موفقاً لدرجة كبيرة، ذلك أن استعمال مصطلح الصحافة وليس الإعلام له دلالة كبرى ومغزى أعمق، فهو يحدد بوضوح الفئة المستهدفة ولا يعمم، بمعنى أن المقصود هو الصحافة في شقها المكتوب، وبالتحديد الصحافة المستقلة، خاصة إذا علمنا أن الفضاء السمعي البصري في المغرب ما زال محتكراً عمليا وميدانياً من طرف الدولة ولا وجود لقنوات خاصة، وهو ما يعني افتقار الصحافة المسموعة إلى المعطى الأول من العنوان، أي الحرية. لمناقشة محاور الموضوع، استضاف برنامج "مباشرة معكم" كلاً من: • محمد نبيل بنعبدالله، وزير الاتصال الناطق الرسمي باسم الحكومة، أي ممثل الجهة الوصية على قطاع الإعلام، والذي وعد –للتذكير- مباشرة بعد تسلمه مهامه بعدم دخول أي صحافي إلى السجن. • نعيم كمال، صحافي وعضو المجلس الأعلى للاتصال السمعي البصري (الهيئة المكلفة بمراقبة الفضاء السمعي البصري في المغرب)، وهنا لا بد من لفت نظر القارئ إلى ملاحظة جد مهمة، وهي إشارة المذيع لدى تقديمه لهذا الضيف إلى أنه بعيد عن عالم الصحافة المكتوبة، وهو ما أكده الضيف نفسه باعترافه بأنه ابتعد عن عالم الصحافة لمدة ثلاثين عاماً. • محمد علمي مشيشي، رئيس الهيئة الوطنية المستقلة لأخلاقيات المهنة. • ادريس كسيكس، صحافي بأسبوعية تيل كيل الفرنكوفونية المستقلة، إحدى ضحايا حرية التعبير وحرية الصحافة في "العهد الجديد"، الملاحظ على هذا الضيف هو أنه في كثير من الأحيان كانت تخونه لغته العربية ولم يكن جريئاً في أطروحاته بقدر جرأته في كتاباته ومقالاته. • اعتذار يونس مجاهد، الكاتب العام للنقابة الوطنية للصحافة المغربية، في آخر لحظة، ولا نعلم هل كان اعتذاره لظروف خارجة عن إرادته أم أنه أراد تجنب مواقف هو في غنى عنها وتفادي الوقوع في فخ معدي البرنامج لإدانة الصحافة المستقلة. قائمة الضيوف تدفعنا إلى التساؤل عن الغاية من قَصرِ الدعوة على صحافي وحيد للدفاع عن الصحافة المستقلة وتوجهاتها، في حين تم توجيه الدعوة إلى كل من وزير الاتصال ونعيم كمال بالإضافة إلى مقدم البرنامج الذين تكالبوا للدفاع عن وجهة نظر المخزن وإدانة الصحافة المستقلة؟ وكذا عن سبب تغييب ممثلي الصحافة الحزبية عن مائدة النقاش؟ الشيء نفسه ينسحب على ممثلي المجتمع المدني؟ قبل أن ننتقل إلى الأفكار التي طرحها المشاركون في البرنامج، نعرِّج قليلاً على ما جاء في الروبورتاج الذي ورد ضمن البرنامج وعلى تعليقات مقدمه، وذلك للوقوف على توجهات القناة ورصد نوايا القائمين عليها من وراء طرح هذا الموضوع وتحديد موقفهم من الصحافة المستقلة. تقول مقدمة الروبورتاج: "الفهم الخاطئ لحرية الصحافة وحرية التعبير شجع البعض على الدفع بهما إلى أقصى المستويات دون الوقوف عند أي حدود، فبات الخوض في كل شيء وفي لا شيء بحجة أجواء الانفتاح التي يعرفها المغرب، متناسين أن هذه الحرية كغيرها من الحريات تحكمها ضوابط وأخلاقيات". أما التمهيد لموضوع علاقة الصحافة بالقضاء فيقول: "أثارت ملفات النشر والصحافة المعروضة أمام المحاكم نقاشاً مستفيضاً حول جُنَحِ الصحافة، وطرحت مجموعة من الأسئلة كسؤال الخطأ المهني، هل يمكن التعامل معه كأي جنحة أخرى؟ أي قضاء يجب الاحتكام إليه؟ وهل القوانين ما تزال قادرة على استيعاب وتوجيه التحولات والمعطيات الجديدة؟"، مقدمات تصب كلها في خانة الإدانة المبدئية وإصدار حكم جاهز في حق الصحافة المستقلة لزعزعة ثقة رجل الشارع العادي بهذه الصحافة، وكأنه قاصر غير مؤهل للتمييز بين الصالح والطالح، وهنا نتساءل كيف يعقل أن نحصر الحديث عن علاقة الصحافة بالقضاء في موضوع الخطأ المهني من جانب الصحافة المستقلة؟ وهل كل المحاكمات والملاحقات التي تعرضت لها العديد من المنابر المستقلة كانت بسبب الخطأ المهني، أم حركتها أياد خفية لأسباب سوسيوسياسية؟ وماذا عن علي لمرابط وعبد العزيز كوكاس ونادية ياسين وآخرين؟ نية القناة تتضح أكثر في طريقة إدراة المذيع للحوار ومقاطعته في أكثر من مناسبة لضيفه إدريس كسيكس مُقَارَنَةً بطريقة تعامله مع كل من نبيل بنعبدالله ونعيم كمال، اللذين كان يفسح لهما المجال الأوسع للتدخل، دون أن يعلِّق على كلامهما أو يقيِّمه. فعلى سبيل المثال لا الحصر، بعد أن تحدت كمال نعيم قائلاً "هناك الإيجابي وهناك السلبي (في إشارة إلى الصحافة المستقلة) مع غلبة السلبي على الإيجابي في الإطار المغربي"، سأله إدريس كسيكس عن هذه السلبيات، فما كان من مقدم البرنامج إلا أن قاطع كسيكس مدافعاً عن فكرة كمال نعيم وكأنه مُوجَهٌ أو نَاقِلٌ لخطاب يُملى عليه، في الوقت الذي كان من المفترض أن يتحلى بالموضوعية ويترك للضيف أن يوضح فكرته. ملاحظة أخرى لابد من الإشارة إليها، تتعلق بفحوى أول رسالة SMS أوردتها القناة وتقول: "المغاربة يريدون صحافة مسؤولة ومواطنة"، وهو ما ذكَّرني شخصياً بـ "نداء المواطنة" الشهير الذي أُشيعَ أن ثلة من المجتمع المدني قد أطلقته لتحذير الرأي العام المغربي ممن وصفتهم بـ "أصوات نشاز" تعمل على "تبخيس المكتسبات وتضخيم الأحداث العادية" وتراهن "على الضجيج والمبالغة والكذب والمزايدة كسبل للارتقاء الاجتماعي، والتجرؤ على التلاعب بالوحدة الترابية وبالسِلم الاجتماعي والاستقرار السياسي للبلاد، و"مغازلة" قوى أجنبية". وحتى لا نضيع في تفاصيل ما قيل خلال البرنامج، سنحاول التوقف عند أهم ما قاله الضيوف مع التركيز على النقاط الخلافية التي طرحها كل من الوزير ونعيم كمال: نبيل بنعبدالله، وزير الاتصال والناطق الرسمي باسم الحكومة: • "مهنة الصحافة تخضع للقانون شأنها شأن باقي المهن، وعلى جميع الصحافيين الامتثال لهذا القانون واحترام حرية الآخرين"، أمر نشاطره مع الوزير لا محالة، لكننا نؤكد أن قانون الصحافة المغربي أصبح متجاوزاً لا يواكب المتغيرات التي عرفها مغرب اليوم سياسياً واجتماعياً وحقوقياً بل وحتى فكرياً، لذلك بات من الضروري إعادة صياغته على أساس أن الصحافة هي وسيلة للرقابة الشعبية وسلطة رابعة وليست سلاحاً لمحاربة الأنظمة، كما يجب أن يكون نتاجاً لحوار وطني مفتوح وشفاف وتكون نصوصه ومواده واضحة وصريحة لا فضفاضة ومطاطية تحتمل كل التأويلات والتفسيرات. وهنا نسأل السيد بنعبدالله لماذا التزمت الحكومة الصمت حين وصفت مجلة Jeune Afrique الأمير عبدالله (عم الملك الحالي) بـ "Homme à femme porté sur la bouteille" وحاولت تشويه صورة الأمير هشام (ابن عن الملك الملقب بالأمير الأحمر)، لماذا لم تتحرك لتطبيق القانون، أم أن القانون سيف يُشهر في وجه فئة دون أخرى؟ • "توجه بعض مكونات هذه الصحافة (في إشارة إلى الصحافة المستقلة، أو لنقل الصحافة الحرة كما يحلو للسيد الوزير تسميتها) نحو إثارة القراء ومحاولة إقناعهم بان لا شيء يسير في الطريق السليم وبأن كل ما يجري في هذا البلد لا يعدو أن يكون سوى فضائح وكوارث"، وهو أمر يشاطره الوزير مع العديد من زملائه في الحكومة العلنية وفي حكومة الظل، فوزير العدل المغربي ما فتئ يردد في كل تصريحاته أن هذه الصحافة تنشر "رسائل إحباط أو تيئيس وتشكيك في المؤسسات والثوابت الإسلامية والوطنية". كنا نتمنى من الوزير أن يضرب لنا أمثلة عن هذه المواضيع، كما تمنينا أن يطلب منه مقدم البرنامج الاستدلال بأمثلة حية وهو ما لم يحدث للآسف. وهنا نتساءل ما الذي يريده السيد الوزير من الصحافة الحرة؟ هل يريدها أن تردد أخبار "العام زين" وأنباء الإنجازات والنجاحات الوهمية وتتناسى تقارير الخبراء والمحللين التي تدق جرس الإنذار وتحذر من سوء تدبير الشأن العام على أكثر من مستوى، وما قد يفضي إليه من نتائج مدمرة على مستقبل المغرب الراهن؟ أم لعله يريدها أن تصفق لإنجازات الحكومة وطريقة إدارتها المرتجلة للعديد من الملفات الشائكة والحساسة؟ وهل التذكير بمكامن الخلل في مسيرتنا وتحديد نقاط ضعفنا لتحصيننا من الوقوع في أحلام اليقظة غدا "رسائل إحباط وتيئس"؟ أما آن لمن يقبعون في مكاتبهم الفخمة في مراكز القرار أن يفهموا أن المواطن المغربي – أو لنقل رجل الشارع كما يحلو لهم وصفه- قد بلغ سن الرشد وأصبح قادراً على الاستيعاب وتحليل الأمور والتمييز بين إعلام السلطة وإعلام المجتمع، بين الإعلام المصطنع المنمق وإعلام الواقع الذي يتكلم بلسانه؟ • "كل المواضيع قابلة للتناول" نظرياً نعم، أما عملياً فالتطرق إلى بعض المواضيع قد يقود بصاحبه إلى القضاء الذي بات يتكلم نيابة عن وزارة الداخلية وعن بعض من يحنون إلى سنوات الجمر والرصاص داخل النظام. وهنا نذكِّر السيد الوزير بما جرى لعلي لمرابط ولعبدالعزيز كوكاس ونادية ياسين وآخرين، ونتساءل عن السبب في استمرار منع محاضرات الدكتور المهدي المنجرة وحجب السنوسي وأمثالهما عن المواطن المغربي؟ • "المؤسسة الملكية لها مكانة رمزية وسياسية واضحة في المجتمع ولها توجهات وقرارات تتخذها، ويمكن لأي كان في هذا الاتجاه وفي إطار الديمقراطية المعمول بها في المغرب اليوم أن يناقش ذلك، لكن لهذه المؤسسة الملكية كذلك حياة خاصة وحرمة وكرامة يجب أن تحترم من قبل الجميع"، ويضيف "الحياة الخاصة للملكية لا تحُترم" سنؤجل الحديث عن هذه النقطة إلى ختام ورقتنا هذه. • "الصحافة هي تربية بيداغوجية هي أيضا قيم ومبادئ، هي كذلك توجهات إغناء لمسار الإصلاح في بلادنا"، "يجب مؤاخذة الجسم الصحافي الذي عليه في هذه المرحلة أن يتسم بالنضج، الجسم الصحافي يحتاج إلى نضج في المسار الانتقالي، يجب أن يتخلى عن أمور ويتشبث بأخرى" صراحة لم أفهم أي نضج يعنيه السيد الوزير، وما هي الأمور التي يجب أن يتخلى عنها الصحافي وتلك التي عليه التمسك بها. مرة أخرى كنا نتمنى من مقدم البرنامج أن يتوقف عند هذه النقطة ويطلب من الوزير أن يشرح فكرته ويفصلها، لكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه. • تَهرُبُ السيد الوزير من الجواب صراحة عما إذا كان القضاء في المغرب عادلاً، لكنه في المقابل دافع عن استقلالية القضاء، مبيناً أنه على الصحافيين "وضع الثقة في جهاز القضاء"، وهنا نتساءل كيف للصحافيين أن يثقوا في القضاء المغربي وعدالته وهم الذين خبروه لسنين وعقود واكتووا بناره وسياطه؟ كيف يمكن للقضاء أن يكون الحكم العادل وهناك أياد خفية تمسك بخيوطه وتحركه بما يتواءم ومصالح بعض العقليات المحافظة داخل النظام؟ كيف يمكن للقضاء أن يكون مستقلاً وعادلاً والسيد بوزبع يتوعد بنصب محاكم ولجان تفتيش تتصيد الصحافيين؟ عن أي ديمقراطية يتكلم السيد الوزير ويدافع، وهو من وعد بمجرد تسلم مهامه على رأس وزارة الاتصال بأن عهده لن يسجل دخول أي صحافي للسجن، لنجد أن الصحافة كلها دخلت السجن وباتت مستهدفة لإعادة تدجين الأصوات التي رفضت الدخول في لعبة المخزن؟ أين نحن من الديمقراطية وحرية التعبير وحرية الصحافة، أم لعلنا ما زلنا أقرب إلى الخوفقراطية والذلقراطية كما يسميها الدكتور المهدي المنجرة؟ نعيم كمال، عضو المجلس الأعلى للاتصال السمعي البصري: • "هناك الإيجابي وهناك السلبي، مع غلبة السلبي على الإيجابي في الإطار المغربي"، كنا نتمنى أن يوضح لنا السيد نعيم كمال فكرته ويشرح لنا ما هو الإيجابي الذي جاءت به الصحافة المستقلة وما هو السلبي، وتوقعنا أن يطلب منه ذلك مقدم البرنامج، لكنه لم يفعل، بل الأنكى من ذلك حين طلب إدريس كسيكس من نعيم تحديد ماهية هذه السلبيات، كان من سخرية القضاء أن جاء الجواب من المقدم الذي أكد فكرة نعيم كمال وقاطع إدريس كسيكس ليوجه الحوار إلى محور آخر. • دافع عن منع طباعة غلاف أسبوعية البيضاوي لاحتوائه على عبارة "الله يلعنها بلاد" حول ملف عن شتم وسب المغاربة لبلادهم، لأنه كما ذكر اطلع على الغلاف قبل نشره، وهنا نتساءل بأي صفة أطلعه الناشر على العنوان ومن صوغ له هذا الحق؟ السيد نعيم يرى أن العنوان يخدش الحياء، لكنه لم يوضح أي حياء يعني، خاصة إذا علمنا أن العديد من المطبوعات والمنشورات بل والبرامج تخدش الحياء العام بطريقة أوقح من ذلك؟ • ركز حديثه على موضوع السب والقذف والخطأ المهني في الصحافة المستقلة، كما تطرق إلى خطورة عدم التحري والتأكد من صحة الخبر ونشر أخبار غير صحيحة أو مُجَانِبة للحقيقة من قبل بعض المنابر الإعلامية الحرة، مبرزا التأثيرات السلبية والأضرار الجسيمة التي يخلفها نشر أخبار كاذبة أو معلومات غير مؤكدة، وهو أمر نشاطره إذا سلمنا أن ما قاله السيد نعيم كمال ينسحب على الصحافة المستقلة في المغرب، وكنا نتمنى أن يوثق السيد نعيم حديثه بأمثلة واقعية ويتجنب التعميم والأحكام الجاهزة غير البريئة. علمي مشيشي رئيس الهيئة الوطنية المستقلة لاخلاقيات المهنة: • "صحف الأحزاب السياسية كانت تعيش وتعمل بفضل مناضلين سياسيين بالدرجة الأولي يمارسون الصحافة، بخلاف الصحافة غير التابعة للأحزاب التي يعمل بها صحافيون ليسوا بالضرورة متحزبين ويحاولون الإبلاغ بالخبر الحقيقي الصادق واحترام التنوع المتوفر في هذا البلد"، وهذه حقيقة تجاهلها مقدم البرنامج وضيفيه نبيل بنعبدالله ونعيم كمال. • "الصحافة المستقلة جاءت بأفكار جديدة فيما يتعلق بتدبير وتسيير المقاولة الصحافية، إذ فرضت على الصحف الأخرى العتيقة، خاصة الحزبية، أن تغير خطابها وأخرجتها من كونها بيانات سياسية ونشرات أحزاب، لتصبح جرائد سياسية ذات لون معين في مشهد إعلامي محدد"، حقيقة أخرى لم يركز عليها الحوار الذي اكتفى بالتركيز على الخطأ المهني في الصحافة المستقلة وعلى إشكالية القذف والسب بالرغم من ندرة حدوثها. ادريس كسيكس الصحافي بأسبوعية Telquel: • ضرورة تحديد مفهوم الاستقلالية بالنسبة للصحافة، موضحاً أنها تعني "أن يكون هناك طاقم صحافي مهني يقرر في المواضيع التي يشتغل عليها بشكل مستقل عن المساهمين في المقاولة الصحفية ودون ضغوط أو إملاءات كيفما كان نوعها"، مضيفاً أن هذا هو ما يجعل "المقاولة الصحافية تحترم ذكاء قرائها وقدرتهم على فهم وتحليل بعض الأمور والقضايا المتناولة اليوم والتي كان بسطها في الجرائد أمراً غير ممكن في السابق". • "احترام أخلاقيات المهنة وحرية وخصوصيات الآخرين مسألة ليست موضع خلاف بين الصحافيين المهنيين"، ملاحظا "وجود فرق بين الحياة الخاصة لبعض الشخصيات العامة والحياة الخاصة للأشخاص العاديين". • بخصوص موضوع الملكية والصحافة المستقلة، رأى أن الملكية يشكلها "أشخاص لهم مسؤوليات في المجال العام وفي نطاق يختلط فيه الخاص بالعام"، وهو ما يعني أن الخصوصية غير واردة في هذا المجال. وهنا نعود للإشارة إلى أن موضوع علاقة الملكية بالصحافة المستقلة لم يكن ضمن محاور البرنامج، وتمَّ التطرق إليه بشكل سطحي، كنا نتمنى أن يتوقف عنده مقدم البرنامج أو أحد الضيوف لأنه مربط الفرس في إشكالية حرية الصحافة في المغرب. • أشار إلى سرعة القضاء في إنزال العقاب وإصدار الأحكام الثقيلة في قضايا الصحافة عكس المسطرة المتبعة في قضايا أخرى. • "الصحافة الحزبية: الصحافي يفقد استقلاليته أمام الخط السياسي والإيديولوجي للحزب، وهو ما يعني أن يلتزم بتعليمات الأمين العام للحزب، أما الصحافة المستقلة فقد كرست مبدأ الفردانية في الصحافة"، ملاحظة صائبة إلى أبعد الحدود، خاصة إذا أخذنا في الاعتبار الطبيعة الشخصانية لأحزابنا السياسية. الملكية والصحافة المستقلة تَنَاوُلُ الصحافة المستقلة موضوع المَلَكِية بشكل جرئ ومغاير لما دأبت عليه زميلتها خلال العقود الأخير كانت القطرة التي أفاضت كأس العلاقات المترع أصلاً بين هذا المولود الجديد والنظام المخزني، وبالتحديد الحرس القديم داخل هذا النظام والمنتفعين منه. قانونياً، يعتبر "شخص الملك مقدساً لا تُنتَهَكُ حرمته" بحسب الفصل (المادة) 23 من الدستور المغربي، وبناء عليه يُعاقِبُ الفصل 41 من قانون الصحافة والنشر المغربي "بالحبس لمدة تتراوح بين ثلاث وخمس سنوات وبغرامة يتراوح قدرها بين 10000 و100000 درهم كل من أخل بالاحترام الواجب للملك أو أصحاب السمو الملكي الأمراء والأميرات"، كما تُطبق العقوبة نفسها "إذا كان نشر إحدى الجرائد أو النشرات قد مس بالدين الإسلامي أو بالنظام الملكي أو بالوحدة الترابية". وهنا تطرح علامات استفهام عريضة: ما الذي يقصده المشرع بمفهوم القدسية؟ وأين تنتهي حدود هذه القدسية؟ وهل مفهوم "القدسية" يتماشى مع "المفهوم الجديد للسلطة" ووعود "العهد الجديد" بحرية التعبير والصحافة؟ وكيف يمكن للجسم الصحافي أن يوازن بين ممارسة حقه في حرية التعبير والرأي وعدم المساس بما يُعرَف محلياً بـ "ثوابت الأمة" أو "المقدسات الوطنية"؟ ومَنِ الأَولَى بإضفاء صفة "القدسية" عليه حرية الرأي والتعبير أم الأشخاص؟ الأكيد أن مفاهيم من قبيل "القدسية" و"ثوابت الأمة" و"المقدسات الوطنية" التي ما زالت تلوكها بعض الألسن في المغرب أصبحت متجاوزة في الأنظمة الديمقراطية الحقة، لكونها مفاهيم ملتبسة وغامضة وقروسطية (نسبة إلى القرون الوسطى)، بل أكثر من ذلك فهي فضفاضة ومطاطية تحتمل كل التأويلات والتفسيرات، وهنا مربط الفرس فهي سلاح بيد المخزن يشهره ضد كل من توسوس له نفسه الأمارة بالسوء بالتمرد على القوالب البالية أو تجاوز الخطوط التي رسمت له. وحتى نكون منصفين، لابد لنا أن نذكِّر بأن تطرق الصحافة إلى موضوع الملكية ليس أمراً جديداً، فقد سبق للصحافة الحزبية أن تطرقت له في البدايات الأولى للاستقلال وبدايات الدولة المغربية الحديثة، الجديد هو أنه صادر هذه المرة عن صحافة حرة أكثر مهنية واحترافية، صحافة تسمي الأشياء بأسمائها ولا تنتقد وزارة الداخلية أو الوزارة الأولى (رئاسة الوزراء) حين تريد الحديث عن الملك وأعوانه. ما يجب أن لا يغيب على أذهاننا عن علاقة الملكية بالصحافة هو أنه يستحيل تناول الشأن السياسي المغربي دون الحديث عن المؤسسة الملكية، وذلك لطبيعتها الحاكمة والتحكيمية في المغرب وصلاحياتها الدستورية وسلطها السياسية، فالملك هو المتحكم في زمام الأمور السياسية وصانع القرارات وصاحب الأفكار السياسية المؤطرة للحياة الدستورية والمحدد للخطوط العريضة لسياسة الدولة، سواء الداخلية أو الخارجية، والأهم من كل ذلك هو الرئيس الفعلي للسلطة التنفيذية، مما يجعله مسؤولاً أمام المغاربة. فلا غرو إذن أن يكون الملك في صلب اهتمامات الصحافة والإعلام، وإذا كانت الصحافة الرسمية والحزبية لا تكفان عن الإشادة بكل ما يصدر عن هذه المؤسسة، فمن حق المواطن المغربي أن يكون له منبر يقدم له رؤية مغايرة لإعلام المخزن، منبر مستقل يعكس رأي الشارع في القرارات والمبادرات والمواقف والسياسات الصادرة عن هذه المؤسسة ويحللها بموضوعية ومهنية، ولن نكون مبالغين إذا ما قلنا إن الصحافة المستقلة تعكس بأمانة نبض الشارع المغربي بخصوص الملكية والملك والمحيطين به، وهو ما يحيلنا إلى التساؤل التالي: إذا كان القصر ومستشاروه يريدون حقا معرفة الصورة الحقيقية التي يرسمها المغاربة لملكهم، فلماذا لا يكفون عن ملاحقة أقلام الصحافة المستقلة؟ تتملكنا الدهشة والحيرة كلما تعالت بعض الأصوات منددة بنشر صحيفة أو مجلة مغربية لصور أو لمواضيع عن الملك والمحيطين به، لكن هذه الأصوات تلتزم الصمت إذا ما كانت هذه المجلة أو الصحيفة أجنبية، وهو ما يدفعنا إلى التساؤل عن مبرر كل هذا اللغط، هل يكونوا ملكيين أكثر من الملك نفسه؟ إذا كان الملك قد سمح بتداول صور خاصة له (على دراجته المائية وهو يداعب الأمواج أو بالطاقية المراكشية أو...) وأطلع الشعب على موعد زفافه وعلى هوية قرينته وموعد ختان ولي العهد وعلى كل مناسبات العائلة الملكية، فلماذا يمنع البروتوكول الملكي الصحافة المغربية من التطرق إلى الموضوع، في الوقت الذي يُفتَحُ فيه أبواب القصر الملكي للصحف والمجلات الأجنبية، خاصة المجلة الفرنسية Paris Match؟ أو ليست هذه المجلة بالذات هي التي ساندت بن عرفة حين نُفي الملك محمد الخامس؟ أم لعلهم ينظرون إلى الصحافة الوطنية على أنها ليست في المستوى؟ اعتقدنا واهمين لفترة من الفترات أن شعار حرية التعبير والصحافة أصبح واقعاً في ظل "العهد الجديد"، لكن هيهات هيهات فالحرس القديم وصقور البلاط (كما يحلو للبعض تسميتهم) بل وحتى بعض قوى المعارضة التي ولجت في نهاية الأمر إلى دوائر الحكم أثبتت أنها غير مستعدة للمراهنة بإعلام حر قد يعريها ويكشف بعضاً من ماضيها المخزي. وختاما لا يسعنا إلا أن نعرِّج على إدريس كسيكس الذي لخص علاقة الصحافة المستقلة بالنظام المخزني في التساؤل التالي: هل وعت الدولة بنضج الجسم الصحافي؟ لنضيف عليه أن المخزن عليه أن يدرك بأن التغيير السياسي قادم في المغرب لا محالة، وستساهم في بلورة أفكاره الصحافة المستقلة التي ستعوض الفراغ الذي تركته قوى المعارضة التي سحرها بريق السلطة وأنساها شعاراتها التي طالما رددتها وهي خارج الحكومة.
عبدالرزاق بنـــان فــــلالي كـــاتب مــــغربي الدوحـة – قطــر [email protected]
#عبدالرزاق_بنان_فلالي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مشروع قانون الأحزاب المغربي بين مسعى تأهيل الأحزاب وواقع تدج
...
-
نداء المواطنة أو معايير مواطنة العهد الجديد في المغرب
المزيد.....
-
جلس على كرسي الرئيس.. تيكتوكر سوري يثير الجدل بصورة له في ال
...
-
السيسي يعقد اجتماعا بشأن عبور قناة السويس والوصول إلى سيناء
...
-
ربما كان لشمسنا توأم ذات يوم، ماذا حدث له؟
-
أسعار شوكولاتة عيد الميلاد ترتفع بسبب أزمة الكاكاو
-
38 قتيلا جراء قصف إسرائيلي على قطاع غزة
-
مسرح الشباب الروسي يقدم عرضا في نيابوليس
-
بوتين: ملتزمون بإنهاء الصراع في أوكرانيا
-
شاهد عيان يروي فظائع ارتكبتها قوات كييف في مدينة سيليدوفو بج
...
-
المدعية العامة الإسرائيلية تأمر الشرطة بالتحقيق مع زوجة نتني
...
-
لافروف: الغرب يضغط على الشرع ضد موسكو
المزيد.....
-
السوق المريضة: الصحافة في العصر الرقمي
/ كرم نعمة
-
سلاح غير مرخص: دونالد ترامب قوة إعلامية بلا مسؤولية
/ كرم نعمة
-
مجلة سماء الأمير
/ أسماء محمد مصطفى
-
إنتخابات الكنيست 25
/ محمد السهلي
-
المسؤولية الاجتماعية لوسائل الإعلام التقليدية في المجتمع.
/ غادة محمود عبد الحميد
-
داخل الكليبتوقراطية العراقية
/ يونس الخشاب
-
تقنيات وطرق حديثة في سرد القصص الصحفية
/ حسني رفعت حسني
-
فنّ السخريّة السياسيّة في الوطن العربي: الوظيفة التصحيحيّة ل
...
/ عصام بن الشيخ
-
/ زياد بوزيان
-
الإعلام و الوساطة : أدوار و معايير و فخ تمثيل الجماهير
/ مريم الحسن
المزيد.....
|