|
الشاعر شيركو بيكه س : وطن واحد لايكفي لرقصته الكونية
كاظم الواسطي
الحوار المتمدن-العدد: 1450 - 2006 / 2 / 3 - 09:47
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
بدت لي الكتابة عن قصائد- ملاحم الشاعر شيركو بيكه س ، بعد قراءة مختاراته الشعرية ( أنتِ سحابة.. فأمطرك )، أشبه بمحاولة الصعود إلى سفوح وقمم كردستان تجول بين غاباتها الكثيفة ، وكهوفها المعلقة على المنحدرات الحادة ، والبحث هناك عن فرسان تجّذر في أرواحهم صوت المعذبين ، فاتخذوا من لون الورد ، وشكل البلوط ، وطيران القبرّات الصغيرات ، فضاء يحجبون عنه غبار خطوات غريبة ، وثقيلة ، بقوة تأصل جذور الحياة في تلك الكائنات ، ورموزها الحيّة في ذاكرة طفولتهم ، وحاضر أبنائهم المهدد بالفناء . وهي ، أيضا ، توليفة عطر يتضوع من حقل زهور متنوع الروائح و الألوان ، كما هي روح الشاعر . حيث لكل زهرة – كلمة..رائحة- معنى ، لا يفهمها المنبوذون من الورد ، وحمقى النفوس المتيّبسة ، بلونهم الواحد . وانك كي تستطيع أن تفهم ، وتستنشق كلمات- أزهار شيركو بيكه س عليك أن تُعيد تركيب حواسك ، لتنظر بإذن الأصم ، وتسمع بعين الأعمى ، وتتذوق شيئا لم يعتده لسانك من قبل . فروح الشاعر مخلوقة لأكثر من عطرٍ ، أو معنى واحد. ولكي تكون قريبا من قصائد- طيور شيركو ، تحتاج إلى أجنحةٍ ملّونة تُطلقك في فضائه الرحب ، وبين غيومه البيضاء ، التي تعكس على صفحاتها ، إشراقات قمم وصخور أرضه الصلبة ، وصوت قبّراته الحزين . إن الشاعر لا يهرب في الهواء من طواحينه ، فأجنحته مقدودة من لحاء الشجر ، وصوت الشلال ، وكركرات الصبايا ، بثيابهن المزركشة ، بين الورود . لذا ظل شيركو باحثا ، بصلابة تلك الأجنحة ، عن الحرية المفقودة ، في أزمنةِ قيّدت كل شيءِ بضراوتها ، وقسوتها..من البلوطة الصغيرة على الأرض ، حتى قمة الجبل في الفضاء . بل الفضاء والأرض نفسهما لم يسلما من غازات تلك الأزمنة السامة ، يوم انتشرت في سماء حلبجة ، وأسقطت الطير من هناك في أحضان أطفال ميتين ، على أرض فقدت خصوبتها، ومات زرعها . ويوم غادرت طيور اهوار الجنوب ، مذعورة من صرير جرافات الموت الفاشي ، تاركة الأرض والفضاء بلا حياة . هي غازات ، وجرافات حرث الماء ، والهواء ، والنسل . من هناك نعرف ما يعنيه شعر بيكه س ، الذي وجد السواد واحدا ، من قطرة الماء الناشفة في أهوار الجنوب ، إلى زهرةٍ ميتة في حلبجة ، مرورا بأصغر بقعةٍ معتمة في كوسوفو . مثلما يجد ضياء الحياة ذاته في ابتسامة فتاة كردستانية ، أو عطر امرأة حسناء من الغرب . ولأن الشاعر ابن للسلام والحب ، ومدافع عن الحياة في أصغر ذرّة تتعرض للهلاك والموت ، فأن قصائده تواصل كسر قرميد الجدران العازلة للحب ، هنا أو هناك . تلك الجدران التي بنتها أناشيد الحماسات الزائفة ، وشعارات القناعات المغلقة ، والمتحجّرة في أذهان من نتاج أسمال التاريخ ، أغرقت حياتنا بالبلادة ، والعزلة ، والتلذذ بموت الآخر . ألم يكسر شيركو ذلك القرميد بشعاع روحه حين سافر بحلبجة إلى بغداد ، جاعلا من أبناء تلك المدينة المنكوبة فراشات ، و من غازات الفاشية غيوما بيضاء ، تحط سلاما على دجلة ، التي هي دجلته ، مثلما العراق ، أو أي مكان في العالم ، هو عراقه ، وعالمه .
ستذهب حلبجة إلى بغداد قريبا عن طريق غزلان سهول ( شيروانه) ........................ تنهض دجلة بوجل تنهض بكامل هيبتها.. وتحتضنها ثم تضع طاقية الجواهري على رأسها بعدها.... تقترب يمامتان من النجف يفجّر حنجرتيهما الهديل تحطان على كتفيها ( من قصيدة حلبجة تذهب إلى بغداد.. من خارج المختارات) . وتظل روح الشاعر تتسع ، وتتسع لكل تنويعات الوجود الإنساني ، التي تتوتر ، وتُختزل بقوة الشعر ، وموحيات ذاكرة الشاعر، ذات الصلة الحميمة بالوجود والحياة، لتصبح روحا لكل الدنيا . أو كما أوضح ذلك ، جليّا ، الكاتب والمسرحي العراقي محي الدين زه نكه نه ، في مقدمته للمختارات ( أية دنى في المساواة والحرية والسعادة تلك التي تحلم بها وتتطلع إليها .. وتأمل خلقها قصائدك ، يا شيركو، يا روح كردستان التي تضم تحت جناحها الامومي الرؤوم روح الدنيا كلها وتحنو عليها .) . ويُنزل شيركو الشاعر أو الإنسان من برجه الوحيد المغلق على ذاتيةٍ مفرطة بالتضخم ، وأل ( أنا ) التي تحاول أن تجعل كل شيء دونها . فأن يكون هو ( الشجرة الجميلة الحيدة ) و ( الخيل الأصيل الذي لا يموت صهيله ) و ( الجبل الشاهق الوحيد ) .. يعني تحويل كل الأشياء من حولها إلى رماد حروب :
هذه الدماء لن تتوقف كما يبدو إلى أن أشعل حقيقة داخل رأسي وهي أنني لست الجمال والألوان كلها . ويبقى المسكن الذي لا تحل الشمس والحرية ضيوفا عليه ، وينأى القمر والحب عن شبابيكه ، وتطرد أسواره الضوء والنسيم والمطر، هو مسكن غارق في الموت :
مسكننا ، أي مسكن عبوس الوجه وحاد المزاج نملك ، مسكننا تابوت هو مسكننا . ( قصيدة مسكننا ) ولان للشاعر قلبا ينبض بكل ما يحدث حوله في هذا العالم ، فأن صور الحياة تتداخل في ذاكرته ، ومخيّلته ، عابرة حدود الجغرافيا إلى حرية ومسؤولية أكثر اتساعا .. حدودها الألم أو الفرح ، أينما وجدا ، وبكل ألوانهما البشرية :
يتلاقى الضحايا ويختلطون ببعضهم وتصبح حلبجة مدينة في كوسوفو، وتصبح كركوك كروزني وأرى رأسي المذبوح يخرج من كم معطف الدنيا ( المرأة والمطر )
وتنعكس صورة المرأة في مرآة المدن ، والأمكنة المحاصرة بالتسلط ، والجهل ، وهضم الحقوق ، على يد قوى جائرة تفرض الحظر والانكفاء على كل شيء يتحرك خارج أسوار طغيانها . فهي ( دربونة في حلبجة ، امتنعت عن الضحك ) .. و ( الزجاج المُحطّم للحرية ) .. و( مكتبة الأحلام الجميلة ، حين تُنهب ) .. بل هي ( الجغرافيا المحظورة ) كلها .. ما دامت حريتها حرام أكثر من لحم الخنزير ، في بلاد الأقفال والعباءات المنسوجة من ظلام التاريخ ، وتكفير الحياة والحب . ويبقى شعراء ، مثل ( مولوي) ، رموزا حيّة في ذاكرة شيركو ، يصدمون ، ببرق أفكارهم ، غيوم حياتنا ، وينشرون في أرواحنا نور مجدهم :
أيا وميض رسالة الروح امنحني بعض تغريداتك واسقي النور في كلماتي ( مولوي )
ولكنه لا يغفر ، أبدا ، للذين سودوا الحياة بطلاء نفاقهم ، وأربكوا الصدق والحقيقة بزيف أفكارهم ، وساوموا على شرطهم الإنساني بأبخس الأثمان ، مثلهم مثل( خنجر بروتوس ) ، وهو ينتقل من يدٍ إلى يد :
كان رفيقي يفرز جلدا جديدا كل ليلة ويرتدي جلدا جديدا وفي الصباح يضع سجادة محمد على كتفه في محاضرات ماركس كان ينادي بأن يهودا برئ والمسيح لم يكن الرأس رأسه ( التلّوي )
ولأن الشاعر مخلص لحقائق الوجود الإنساني ، ولا يريد للعتمة أن تخترق فضاء الإنسان الرحب ، فأنه لا يسمح للشعر بنقل الظلال التي تخفي تلك الحقائق .. بل ويطالب القرّاء بعدم مسامحته أو الغفران له إن فعل ذلك :
اخنقوا سفينة أحرفي إن نقلت هي الظلال إليكم إهدموا سور قصائدي إن ركع هو أمام خزينة الملوك ( أنتِ سحابة.. فأمطركِ ) ويصر الشاعر على البقاء ابنا للطبيعة والحياة ، عاشقا وممجدا لهما أينما حلّ. ولا تفارق قصائده الأشجار ، والجبال ، والطيور ، والأنهار ، والمدن.. بل إن شعره يصمت إجلالا لغياب أصغر المخلوقات على الأرض :
وحين يبلغني في كل مرة نبأ الوفاة المبّكر لبلوطة ما وغرق قبّرة يلبس قلمي قبعته صمتا ثم يبكي ( قبعة ) ومن بين تلك القمم الشواهق ، ومنحدراتها الملوّنة بأجواء الربيع الكردستاني ، تطل علينا ملحمة ( ما مه ياره ) ، حيث قصص عشاق جبل بوتان ، وشاهو ، وكويزه ، يصدحون بأغاني ال ( لاوك ) و ( ( هوره ) و ( قه تا ) ، وفي أعماقهم نشهد حزن فارس الورد ، وصديق القبّرات ( ما مه ياره ) ، الذي يحترق من الأسى والألم على غياب أماكن مواعيده . و ( تجف قطرات الدمع على اخدود ذقنه ) ، يوم يرى الأشجار تبكي ، بحسرات موجعة ، وسط الديار الخالية . ولكن روح الفارس المنذور لعشق المكان ، والدفاع عن الحياة المهددة على أرضه ، تدفعه إلى الصراخ مناديا : إن لم تقتلوا هذا الصمت سيقتلكم إن لم تذبحوا أنثى الغول تلك ستذبحكم إن لم ترفعوا هذا الضباب فستضيّعوا ربكم أيضا ( ملحمة مامه ياره )
وهناك ، أيضا ، قصة الصخرة التي احتضنت بطولات الشيخ محمود الحفيد ، وانعكست على أخاديدها الحجرية ملحمة حبه لوطنه ، وشجاعة موقفه ، وثراء روحه. إنها الصخرة – الملحمة ( به رده قاره مان ) .. هي ملحمة البساتين والقمم والكروم . هي الإصغاء النقيّ لقلب الجبل ، وجروح العشّاق ،وصفاء المروج ، التي لن نجد ، بدونها ، ( لؤلؤة قلب التاريخ في الماء النزر ) .. وهي ملحمة القرى الجائعة بين سياط الغزاة ، وتخمة من يفكرون ببطونهم ، تاركين القليل ، أو العدم لمن حولهم : وجبة واحدة لأفواه عدة ووجبات عدة لفم واحد ( ملحمة به رده قاره مان )
ومن يملك قلبا يتسع لعطر الطبيعة ، وروحا تنشد الخير والحب ، وتنتهك الظلال التي تحجب الحرية ، وحقول البراءة ، تسكنه صورة الطفل ، وتبلل قلبه بطراوتها، وقوة انتمائها للحياة . وبدون هذه الصورة ، لن يكون هناك أحد يخرج الشاعر من عبوس شيخوخته ، وضياع روحه :
هذا الطفل الذي يشبه ابتسامة الأمواج ورعشات اللحن وهديل القصيدة يحرج دائما عبوسي والمزاج المتعكّر لشيخوختي
كما أن قلبا رقيقا ، كقلب الشاعر شيركو ، يأبى غياب الحب ، وذبول الغرام ، الذي يعني ، إذا ما حصل ، ذبول الفصول و المدن والبلدان نفسها . بل أن الأشياء تفقد معناها ، ويطير صدى العالم ، بهذه الفاجعة ، إلى الأعلى ، حيث تتساقط أمطار الكون ، ويجهش الرب ذاته لهذا الفقدان . وبهذا الحب يتلاحم الشاعر مع مخلوقاته حد التداخل والانصهار وتبادل الأدوار : هنا هذه الليلة الجبل شاعر والشجرة قلم والسهل صفحة والنهر سطر والحجر نقطة وأنا علامة تعجب ( هنا )
وتتحول الكتابة ، عند الشاعر ، إلى ( قطرة ضوء على ليلة المعنى ) ، توقد همومه وأشجانه . ويصير الشعر ( هديل عاشق ناصع ) و ( أصابع أطفال ) . ولهذا ينكسر فعل الشعر في غياب صوت الحب ، أو حين يتسع الجحيم حول الطفولة ، كما حدث لأطفال كردستان ورواندا وكل المدن المحاصرة بالقهر والكراهية . ويبقى العالم ، بكل مساحاته الإنسانية ، هو المساحة الحقيقية التي تسع رقصة الشاعر الكونية :
مساحة وطن واحد لهي ضيقة على رقصتي الكونية أنا ، العالم جسدي وبطاقتي طائر يحلق أبدا ويحط على غصن شجرة مختلفة كل يوم ( بيا ) كما يبقى شيركو بيكه س شاعر التنوع والألوان ، كما الأزهار والفراشات ،لا يسع حريته المنظور الواحد ، أو اللون الوحيد . ويجد الجمال ، كل الجمال ، في تعدد لون الكلمات ، وعطر الزهور ، وفي رفقةٍ تُثري ، بتنوعها ، روحه الحرّة :
رفيقي طائر سنونو وشريكة حياتي حديقة تلد لونا مختلفا في كل يوم ............ لا لون سيصبح قائدا أبديا ولا صوت سيصبح عبارة أبدية
وعلى تخوم تلك القصائد ، ستكون العواصف مضطرة للانحناء أمام ( أكثر الأزهار نعومة ) .
#كاظم_الواسطي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عندما يكون الموت مقدّرا في ذاكرة اللغة/قراءة في رواية( الاره
...
-
متى يصل مغني القيثارة إلى مسرحه؟.
-
ثقافة الإعلامي العربي: بين واقع الصورة وسلطة الفكرة
-
إشكاليات المثقف النخبوي
المزيد.....
-
الملكة رانيا والأمير الحسين يهنئان ملك الأردن بعيد ميلاده
-
بعد سجنه في -معسكر بوكا-.. ماذا نعلم عن أحمد الشرع الذي أصبح
...
-
الجولة الثالثة.. بدء إطلاق سراح الرهائن في غزة و110 أسرى فلس
...
-
من هي أغام بيرغر الرهينة التي أطلقت سراحها حماس الخميس؟
-
هواية رونالدو وشركائه.. هذه مضار الاستحمام في الماء المثلج
-
سقطتا في النهر.. قتلى في اصطدام طائرة ركاب بمروحية عسكرية قر
...
-
مراسم تسليم الرهينة الإسرائيلية آغام بيرغر للصليب الأحمر في
...
-
-كلاب و100 ضابط من أوروبا على حدود مصر-.. الإعلام العبري يكش
...
-
أمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني يصل إلى دمشق في أول
...
-
دقائق قبل الكارثة.. رجل يكشف آخر رسالة من زوجته قبل حادثة مط
...
المزيد.....
-
-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
/ نايف سلوم
-
فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا
...
/ زهير الخويلدي
-
الكونية والعدالة وسياسة الهوية
/ زهير الخويلدي
-
فصل من كتاب حرية التعبير...
/ عبدالرزاق دحنون
-
الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية
...
/ محمود الصباغ
-
تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد
/ غازي الصوراني
-
قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل
/ كاظم حبيب
-
قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن
/ محمد الأزرقي
-
آليات توجيه الرأي العام
/ زهير الخويلدي
-
قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج
...
/ محمد الأزرقي
المزيد.....
|