|
في المسألة الدانمركية
أحمد عدلي أحمد
الحوار المتمدن-العدد: 1450 - 2006 / 2 / 3 - 10:52
المحور:
الصحافة والاعلام
تحولت قضية نشر رسوم مسيئة للرسول (صلى الله عليه وسلم) في إحدى الصحف الدانمركية إلى كرة ثلج تكبر يوما بعد يوم ، وينذر التعامل الخاطئ معها من قبل المسلمين حكومات وشعوبا من جهة والحكومة الدانمركية من جهة أخرى إلى إمكانية تحولها لكارثة ربما تفوق ما حدث في قضية المخرج الهولندي "ثيو فان جوخ" في هولندا، فبعد أن وصلت أخبار هذه الرسوم للرأي العام المسلم عبر عدد من الصحف العربية حاولت بعض الدول الإسلامية التعامل بدبلوماسية مع الأمر ، وبدأت حملة وفود رسمية في محاولة لاستصدار اعتذار من الحكومة الدانمركية لعل الأمور تهدأ ، ولكن الدانمرك أصرت على رفض الاعتذار واكتفت بأن تنأى بنفسها عن تلك الإساءات وتأسف لصدورها ، وكان منطقها أن الحكومة غير مسئولة عن آراء الصحيفة لأنه إذا كانت الحكومة تتحدث باسم الشعب فليس كل فرد في الشعب بتحدث باسم الشعب أو باسم الحكومة ، وأنها حال تقديم اعتذار فإنها بذلك سوف تقر بوقوع الحكومة الدانمركية والشعب الدانمركي في خطأ الإساءة لنبي الإسلام وهو ما لم يحدث لأن الجهة التي نشرت الرسوم صحيفة مستقلة ولا تمثل إلا نفسها ، ومؤكدة أنه لا يوجد في القانون الدانمركي ما يسمح للحكومة بمعاقبة الصحيفة وأن من تضرر عليه رفع قضية أمام المحاكم المدنية، ومع عدم اقتناع الجماهير المسلمة بهذه الإجابة اضطرت كثير من حكومات الدول ذات الأغلبية المسلمة أن تتخذ إجراءات أشد مثل سحب السفراء تجنبا للاتهام بالتخاذل ، أو للمزايدة على تيارات الإسلام السياسي أو حتى المزايدة على بعضها البعض، ثم امتد الأمر إلى حملات المقاطعة التي بدا تأثيرها أكبر من تلك التي تشن كل حين على السلع الأمريكية والإسرائيلية (بدون أي تأثير تقريبا) وذلك بسبب الوزن النسبي للسوق العربي بالنسبة للسلع الدانمركية (منتجات الألبان تحديدا) وبسبب حجم الاقتصاد الدانمركي الذي لا يقارن بالاقتصاد الأمريكي مما جعل قطاعات واسعة من الشارع الدانمركي تتصور أن هناك حملة ابتزاز سياسي واقتصادي تهدف لدفع البلاد للتخلي عن مبادئ الحرية وحقوق الإنسان وتبنيها ممارسات ثالثية (نسبة للعالم الثالث) مما جعلها تقف بشكل أكثر تشددا من تدخل الحكومة لتقديم اعتذار للمسلمين كما بينت استطلاعات الرأي ، وجعل قطاعات في دول أوروبية خاصة اليمين المتطرف تتعاطف مع الصحيفة وتتخذ ما يحدث دلالة على تعارض القيم الإسلامية مع القيم الغربية ، بل ويعيد بعضها نشر الرسوم كدليل على تضامنها مع الصحيفة ضد ما يصور على أنه حملة بربرية تستهدف حرية الرأي والتعبير في أوروبا حدث ذلك الأمر في المجر والنرويج وحدث بعد ذلك في فرنسا وقد يحدث في بلدان أخرى ، وهكذا فقد تمترس الجانبان وراء تروس قيمية وأصبحت أي محاولة تحاور أو مناقشة أو حتى فهم تبريرا وتهاونا، ووسط كل هذه الفوضى لم يكتشف أحد حجم الأخطاء التي وقع فيها من حاول التعامل مع الأزمة من الجانب المسلم، وأولى هذه الأخطاء أن الاستجابة بدت معكوسة بالنظر لحدتها فرغم أن الرسوم نشرت منذ شهور إلا أن الاستجابة كانت في البداية محدودة للغاية بل ومتهاونة، ثم بدأت تشتد مما يؤكد أن ردود الفعل خاصة الرسمية لم تكن خالصة ، بل كان دافعها مزايدات أو محاولة لأخذ زمام المبادرة من الجانب الأوروبي الذي دائما ما يوجه انتقادات للدول الإسلامية بشأن حقوق الإنسان وبناء حاجز نفسي بين الجماهير المسلمة وهذه الدول ودعواتها لنشر الديموقراطية والحوكمة الرشيدة ومن يحاول التواصل معها من المعارضة، ولأول مرة نجد جريدة الجمهورية المصرية القريبة جدا من الحكومة تتبنى حملة لمقاطعة البضائع الدانمركية ، ويعتبر تبني الحكومات لمواقف حادة تجاه الدانمرك تطبيقا للمثل المصري الذي يقول "ما قدر الحمار قدر على البردعة" فبينما تواترت الأنباء عن إهانات للمقدسات الإسلامية قامت بها جهات رسمية أمريكية وإهانات أبشع قامت بها ضد معتقلين في العراق وجوانتانمو إلا أن هذه الحكومات ظلت تؤكد دائما علاقتها الجيدة مع الولايات المتحدة رغم مسئولية لإدارة الأمريكية القانونية المباشرة عن تلك الأعمال الإجرامية على عكس الموقف الدانمركي، إلا أن أخطاء أخرى وقع فيها محركي الرأي العام الإسلامي أهمها عدم القرة على استيعاب طبيعة المجتمع الدانمركي ، فشأن هذا المجتمع شأن باقي شمال أوروبا واسكندنافيا يعتبر الحرية الفردية دينه الذي لا يحيد عنه ، ونحن غالبا ما نتعامل مع الغرب ككتلة واحدة مصمتة ولكن ذلك ليس حقيقيا ، فالدول التي أشرت إليها بخلاف مجتمعات أخرى دول لادينية بكل معنى الكلمة فالمتدينون فيها أقل من 15% ، وبعضها قد ألغى عقود الزواج ، و كلها تسمح بالاعتراف الرسمي بالعلاقات المثلية ، وتسمح القوانين هناك بتعاطي أصناف من المخدرات ، وبالتالي فإن الحرية في هذه المجتمعات تظل القيمة الوحيدة تقريبا في غياب أي قيمة أخرى وفي هذه المجتمعات يعتبر ازدراء البعض للأديان أمرا مألوفا تماما ، وكل عام تقريبا تنشر ثلاثة أو أربعة كتب تشكك في وجود المسيح أو في التصور المسيحي الرسمي بشأنه أو تزعم أنه ابن زنى.....الخ ، وبالتالي فإن مطالبة المسلمين بمعاملة متميزة لدينهم في هذا الخصوص تبدو بالنسبة للدانمركيين غير مبررة تماما ، وقد كان لافتا والصحافة العربية تشير لموقف الحكومة الدانمركية برفض الاعتذار تجاهلها لذكر المبررات التي ساقتها في هذا الصدد ، وهي عدم مسئولية الحكومة عن آراء أشخاص لا يعبرون عن الجهات الرسمية ، ومسئولية الحكومة عن الدفاع عن حرية التعبير رغم رفضها للإساءة إلى الأديان بما صور هذا الرفض كتأييد لهذه الإساءات ودفاع عنها، أضف إلى ذلك أن الاستخدام المفرط لفكرة المقاطعة قد يؤدي لعكس المطلوب تماما خاصة عندما تصر الجهات التي تطلقها على الاستمرار في الدعوة لمقاطعة منتجات شركات أعلنت بشكل قاطع استنكارها للإساءات ، وتنصلها منها ، إن الأمم تصنع تأثيرها من خلال المشاركة في النشاط العالمي أما أن تتصاعد دعوات المقاطعة وتتوسع باطراد لتشمل فوق السلع الأمريكية والبريطانية والإسرائيلية (الضيوف الدائمون على لوائح المقاطعة) المنتجات الدانمركية والمجرية والنرويجية ولاحقا الفرنسية (لأن صحيفة فرنسية أعادت نشر ذات الرسوم) واللائحة مرشحة للزيادة مع كل خلاف في قضية تعتبرها قطاعات واسعة من المسلمين ثوابت لا تمس فإننا بذلك نعزل أنفسنا ، ولن نستفيد شيئا لأن الاقتصاد العالمي سيعيد تشكيل نفسه بشكل يستبعد منه الدول العربية والإسلامية باعتبارها مجتمعات مهووسة أيدلوجيا وتشكل بيئات غير مضمونة لاستثمارات طويلة المدى في وقت تبني فيه الدول الإسلامية من ماليزيا حتى المغرب خططها الاقتصادية على جذب رؤوس أموال أجنبية مما سيؤثر بدون شك على معدلات التنمية في واحدة من أقل مناطق العالم نموا، وقد حدث ذلك جزئيا عندما قررت شركة دانمركية إغلاق مصنع لها بالسعودية كان يشغل أكثر من ألف عامل من السعودية وبلاد عربية مختلفة ولا يجب أن يقلل أحد من جدية دعوة الرئيس بوش لتقليل اعتماد الولايات المتحدة على نفط الشرق الأوسط إلى الثلث خلال العشرية القادمة فهو دليل جديد على اتجاه الاقتصاد العالمي بتشكيل نفسه بشكل يدفع بالدول الإسلامية خاصة العربية منها إلى الهامش، وقد حدث ذلك بشكل جزئي خلال الثلاثين عاما الأخيرة ، ففي السبعينيات كان بترول البلدان التي تنضوي الآن تحت لواء أوبك يمثل نحو ثلثي الإنتاج العالمي واليوم يمثل ما يقرب من الربع فقط بسبب سياسة دولية شجعت التنقيب والإنتاج خارج دول أوبك وقد بدأت هذه السياسة كرد فعل لاستخدام سلاح النفط أثناء حرب تشرين ، والقضية التي يجب أن ندركها تماما أن الدول المسلمة تمثل أقل من 5% من السوق العالمي الأمر الذي يعني أن أي خلل قد تحدثه مقاطعتها لدولة ما على المدى القصير يمكن أن يتغلب عليه الاقتصاد العالمي على المدى المتوسط والطويل وبعبارة أكثر وضوحا فإن الدول الإسلامية من الفقر والضعف الاقتصادي لدرجة تجعل أي محاولة منها للتأثير في الاقتصاد العالمي من خلال المقاطعة جزئية ومحدودة بينما يستطيع الغرب إذا أراد وصمم أن يصل بهذه الشعوب إلى حد الموت جوعا ودون تكلفة كبيرة عليه في المقابل (طبعا ذلك لن يحدث بسبب نظرية حدود القوة وعدم إمكانية التوافق على فعل ذلك بين الغرب نفسه) ولكن المعنى أنه يجب ألا نسمح أن تدفعنا الأيدولوجيا إلى إيذاء أنفسنا من خلال تعطيل برامجنا الاقتصادية التي تسمح لنا بأن نقترب من ذلك العالم الذي ربما يجهل الكثير حجم الفارق الهائل بيننا وبينه ، ولا أقصد هنا الغرب أو اليابان فقط ولا حتى الصين القادمة بقوة بل دول مثل البرازيل والأرجنتين أصبح حجم اقتصاد أيا منهما يفوق عدة دول شرق أوسطية مجتمعة أو دول مثل التشيك التي كانت حتى الأمس القريب تعاني أزمة التحول إلى اقتصاد السوق واليوم أصبحت قبلة الشركات لإنشاء مصانع تنتج للسوق الأوروبي هروبا من ارتفاع التكلفة في أوروبا الغربية ورومانيا على الطريق وحتى السنغال من إفريفيا السمراء قطعت شوطا فاق ما قطعته دول عربية كثيرة..إن هذا لا يعني أن نقبل الإهانة أو نطأطأ الرأس ولكن أن نتعامل مع الأمور بحكمة وكفاءة و بدون تهور وبدراسة متأنية لعواقب الخطوة قبل أن نمد أقدامنا وفي قضية الرسوم المسيئة للنبي (صلى الله عليه وسلم) فإن الكثير مما يمكن أن يفعل يمثل ردا مناسبا وفعال بشكل أكثر كفاءة واقل كلفة....كيف؟ لنترك ذلك لمقال قادم بإذن الله
#أحمد_عدلي_أحمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أي إسلام...أي مسلمون؟
-
حديث المرجعية
-
تنظيرات حول الحرية
-
تناقضات المشهد الإخواني
-
نطق المعارضة المصرية المهلك....ابحث عن الحكومة
-
المطلوب من الحكومة المصرية بعد مجزرة شرم الشيخ
-
مصر ملطشة المعارضة
-
الجرائم الجهادية تتواصل وتواطؤ الفكر العربي يستمر
-
الأزهر إذ يترنح
-
القوى اليسارية والمعتدلة اللبنانية لماذا خسرت الانتخابات؟
-
الخطاب الإسلامي الجديد..هل هو جديد بالفعل؟
-
ما الذي كان خاطئا؟
-
لبنان الحقيقي جاي
-
نجاحات المعارضة اللبنانية تظهر في ساحة رياض الصلح
-
الإنسان إذ يصبح رقما
-
عندما يصبح الموت هو الغاية المقدسة
-
هنتجونيون عرب
-
خدعة الديموقراطية الإسلامية
-
هل من تجديد حقيقي للإسلام؟
-
الإسلام والحريم
المزيد.....
-
قرار الجنائية الدولية.. كيف يمكن لواشنطن مساعدة إسرائيل
-
زيلينسكي يقرّر سحب الأوسمة الوطنية من داعمي روسيا ويكشف تفاص
...
-
إسبانيا: السيارات المكدسة في شوارع فالنسيا تهدد التعافي بعد
...
-
تقارير: طالبان تسحب سفيرها وقنصلها العام من ألمانيا
-
لبنانيون يفضلون العودة من سوريا رغم المخاطر - ما السبب؟
-
الدوري الألماني: ثلاثية كين تهدي بايرن الفوز على أوغسبورغ
-
لحظة سقوط صاروخ إسرائيلي على مبنى سكني وتدميره في الضاحية ال
...
-
سلسلة غارات جديدة على الضاحية الجنوبية في بيروت (فيديو)
-
مصدر مقرب من نبيه بري لـRT: هوكشتاين نقل أجواء إيجابية حول م
...
-
فريق ترامب الانتقالي: تعليق القضية المرفوعة ضد الرئيس المنتخ
...
المزيد.....
-
السوق المريضة: الصحافة في العصر الرقمي
/ كرم نعمة
-
سلاح غير مرخص: دونالد ترامب قوة إعلامية بلا مسؤولية
/ كرم نعمة
-
مجلة سماء الأمير
/ أسماء محمد مصطفى
-
إنتخابات الكنيست 25
/ محمد السهلي
-
المسؤولية الاجتماعية لوسائل الإعلام التقليدية في المجتمع.
/ غادة محمود عبد الحميد
-
داخل الكليبتوقراطية العراقية
/ يونس الخشاب
-
تقنيات وطرق حديثة في سرد القصص الصحفية
/ حسني رفعت حسني
-
فنّ السخريّة السياسيّة في الوطن العربي: الوظيفة التصحيحيّة ل
...
/ عصام بن الشيخ
-
/ زياد بوزيان
-
الإعلام و الوساطة : أدوار و معايير و فخ تمثيل الجماهير
/ مريم الحسن
المزيد.....
|