إشراقة
انتصار أوروبا وهزيمة العرب وأمريكا
فشلت الدعوة لمؤتمر قمة طارئ – بالمناسبة لماذا يصرون على أنه قمة – وأي قمة تلك ؟! . قمة الاستئساد الذي لن يطول على الشعوب، وقمة التراجع عن أضعف المواقف أمام عدو ليس صحيحاً أنه بالقوة التي نتصور، فواقع الحال أن أمريكا تتهاوى من قمة تصورت أنها احتلتها وبركت على أنفاس العالم بعد لعبة سبتمبر .
القمم العربية في حالة ضعف . كل يرتعد على عرشه ونظامه وثروات الشعوب التي رحلوها وثبت أنها ليست لهم . بقدر ما يرتعد من انتفاضة شعبه التي لم يعد ممكناً ولن يطول كبتها .. وبقدر ما تتهاوى مقومات الحد الأدنى لاستمرار التحكم والحكم .. صحيح أن القمم العربية لم تكن يوماً فاعلة وعلى مستوى طموحات شعوبها، ولهذا لن يكون للقمة القادمة الفاعلية المطلوبة . وإن كانت هناك إمكانية لتنسيق وتحالفات عالمية مع حكومات تعبر صدقاً عن روح شعوبها، يبرز على قمتها فرنسا وألمانيا وبلجيكا التي سحبت بساط أوروبا من تحت أقدام أمريكا واستخدمت الفيتو الأوروبي في مواجهة الدول الراغبة في الانضمام للاتحاد الأوروبي حتى لا تفكر أن تعطي ولاءً لغير أوروبا وروسيا والصين والعديد من الدول . وقدراً مهماً من التنسيق وشحذ الهمم واستثارة الوازع الديني والإنساني في مؤتمر القمة الإسلامي القادم، ومؤتمر الدول الأفروفرنسية، ومجموعة عدم الانحياز . وإذا أضيف لذلك شجاعة مجرد شجاعة التوجه للرأي العام العالمي لتستمر وتتزايد ملايينه المتظاهرة ضد أعتى وأغبى أشكال الاستعمار والغطرسة ضد أمريكا مستفيدين من أن حالة العداء لأمريكا تعبر عن هموم مشتركة لهذه الشعوب، وهؤلاء المتظاهرون ضد الوغد الأمريكي .. وهو موقف يخدمنا التعامل الجيد معه في الخطوة التالية وهي مواجهة النازية الصهيونية الأمريكية في فلسطين . إنها معركة واحدة تتعدد مواقعها، لكن التحالف النازي الصهيوني الإمبريالي واحد فيها جميعاً .
مرجدابق جديدة
لمصر دور وقدر ومصلحة . أقول أكثر من العراق بالمعنى المباشر للمصلحة . فالعدوان والهيمنة على مقدرات العراق بأكثر مما هو قائم سيمكن هذا التحالف اللعين من إخضاع مصر . من ابتلاع مجالها المباشر – العالم العربي – وتوظيفه بالكامل لصالح العدو الصهيوني .. وسيحوط مصر شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً ليستولي عليها دون مقاومة، فحتى لو رغب شعبها فسيكون في حالة ضعف لأن مقومات الصمود ستكون قد سلبت منه، وهذا ما نعتقد أن دعوتنا السابقة لمواجهته ستكون محل اعتبار باعتبارها ضرورة حياة بحدها الأدنى الآن وبالأمل في الحياة الأكرم غداً .. وأعتقد أن مؤسسات وطنية قامت لذلك وتدركه وتدرك أن هذه لحظة فاصلة في حياة مصر وحياة الأمة العربية وأن الدفاع عن إحداهما – ضروري للدفاع عن الآخر – وهذه القيادات والمؤسسات تدرك أن لمصر مكاناً ومكانة وثقلاً لدى شعوب الأرض كلها وأن رفض العدوان الأمريكي ممكن ونحن أقوى . نحن نمتلك أسلحة كثيرة لم نستخدمها، وليس مطلوباً أن نعلن عجزاً غير حقيقي .
وهزيمة أمريكا
تمكنت أمريكا من تجميع تحالف دولي كبير وسريع معها لتنفيذ أهم مراحل احتلالها للخليج أثناء تحرير الكويت من احتلال قوات صدام حسين . وتمكنت من ذلك بدرجة أقل حين استصرخت العالم بعد لعبة سبتمبر 2000 .. لكنها تفتقد التأثير المطلوب هذه المرة . فالعدوان على العراق تتضح أبعاده التاريخية والإجرائية الممتدة لسنوات طويلة يوماً بعد يوم . بالمثل تتضح المطامح خاصة في البترول والرشاوي والإغراء بتقاسم ثروة العراق مع تركيا التي يتحكم فيها متأسلمون يناضلون الآن كي يحصلوا على ثمن خيانة المصالح الوطنية لتركيا نفسها، وخيانة الأمانة والالتزام الديني الذي تغنى به المسلمون هناك كثيراً . وتحاول أمريكا مد هذا التقاسم الرخيص لدول أخرى لعلها تتمكن من رشوة البعض .. لكن الشيء الإيجابي أن شعوب العالم تظاهرت ضدها رافضة حرب البترول كما فهمتها الشعوب حقيقة حتى الشعب الأمريكي، وإن كانت النتائج تأتي متداعية بعد الفعل فسواء تم العدوان أو تم الحصول على الثمن من العراق وغيره من المتحكمين العرب، فإن عصراً من الكراهية لأمريكا تم تدشينه وأصبح من مكونات العامة والساسة والنخب الحاكمة في كل دول العالم تقريباً . وثمة إلحاح له مغزى . فأمريكا تدرك قبح جريمتها وصعوبة خروجها من المستنقع الذي ستدخله وفداحة البلاعة الأفغانية التي عادت تضخ مقاومة في مواجهة جيوشها الباغية وجنودها الورق . ولهذا تلح أمريكا على استصدار بيان الحرب من مجلس الأمن لتدعي أنها تنفذ إرادة دولية، وأن الجميع مطالبون بالوقوف معها .. وأعتقد أن مجلس الأمن لن – نعم لن – يعود مجلساً أمريكياً بعد أن ذاق الآخرون قيمة وفائدة الاستقلالية ومدى المطامح الأمريكية الأنانية التي تضرب بمصالح حلفائها السابقين عرض الحائط . ولن تتمكن أمريكا من الحصول على موافقة مجلس الأمن بالعدوان على العراق الذي لم يعد فيه شبراً أو حبة رمل أو عقل طفل أو عالم لم يتم تفتيشه بحثاً عن أسلحة دمار شامل أو أفكار يمكن أن تتطور يوماً ما أو طموحاً في حياة أفضل . وقبلت السلطة العراقية بكل أشكال التفتيش والتجسس .. وبات بوش وتابعه قفه الإنجليزي بين الإصرار على الحرب والتمهيد لتراجع مدفوع الثمن . ونعتقد أن الأيام والأسابيع القادمة ستشهد محاولات متعددة لإخراج نهاية تحقق مصالح وخسائر للجميع . لأمريكا والعراق والأنظمة والشعوب العربية .
أوروبا .. المنتصر الأكبر
أدارت فرنسا وألمانيا وبلجيكا لعبة الصراع الدولي متمثلة في الأزمة الراهنة مستفيدة من رأي عام مستنير مطلق الحرية موثوق فيه من حكوماته وواثق فيها أيضاً . ومن قراءة صحيحة للتوازنات الحقيقية للقوى على الساحة الدولية . ولجسارة توجيه ضربات للوغد الأمريكي تمهد لمزيد من الاستقلال عن أمريكا، بل وإبعادها عن مقدرات أوروبا والعالم .. وأوروبا ترد على أمريكا إصرارها على الهيمنة العسكرية والسياسية والاقتصادية . والمتتبع لتنامي وترابط المحور الألماني الفرنسي يدرك هذا . بل المتتبع لإصرار فرنسا في مناقشات ونتائج اتفاقية الجات والملكية الفكرية وتصاعد تدعيمها لمجموعة الدول الناطقة بالفرنسية، بل وبإدراكها الواعي لحقائق وقيم مستقبليات شعوب تمتد حيويتها من الماضي للحاضر والمستقبل . يدرك الذكاء في اختيار بطرس غالي أميناً لمنظمة الدول الفرانكو فونية ، ومن دعوة رئيس مصر واستمرار التنسيق والتشاور بينهما .
عالم متعدد المراكز والتجمعات وأمميات جديدة
بعكس كل الذين عميت أعينهم بعد تغير الأوضاع في الاتحاد السوفيتي، وتصوروا العالم وقد أصبح جزاءً لأمريكا . فإن آخرين أدركوا حقيقة توجهات الشعوب نحو الاستقلال والحياة الكريمة والإمساك بالديمقراطية في العلاقات الداخلية والدولية، وهي أمور في غير صالح أمريكا والمتأمركين . فإن القوى المستنيرة أدركت أن العالم في صيرورته سيتوجه للخضوع لإرادات الشعوب التي تتزايد مساعيها لحياة دولية تتسم بالحرية والإنصاف والمساواة .. وقد شهدنا أممية جديدة تعددت أهدافها في إطار واحد، لعل أبرزها التوحد الدولي في مواجهة الوجه الأمريكي الإمبريالي القبيح للعولمة . مجموعة سياتل هذه سبقتها . أنشطة وحدت العالم لأغراض نبيلة في مقدمتها . قمة الأرض والاهتمام بالبيئة والطفولة والأمومة والمؤتمر الدوري للمرأة ومنظمة العفو الدولية ومنظمات حقوق الإنسان والمواثيق والعهود الدولية الجماعية الصادرة عن الأمم المتحدة ومنظماتها وأطباء بلا حدود وصحفيون كذلك . وإنشاء العالم لمحكمة العدل الدولية منذ سنين طويلة ثم الاتفاق لإنشاء محكمة جنائية دولية لمطاردة مجرمي البشرية، والأخطر من ذلك أن بعض الدول ضمنت قوانينها ودساتيرها تشريعات قانونية وقضائية تمكنها بل وتجعل مطاردة أعداء الشعوب مثل بينو شين وشارون أمراً واجباً . بل أن أمريكا، وهي تدرك حقيقة الموقف الإجرامي الذي يوضع فيه جنودها ضد البشرية تصر على استثناؤهم من مثل هذه المحاكمات .
خاصة القول أن العالم رغم القتامة يسير للأمام . فهل يدرك الحكام العرب ذلك ؟!! . هل يراهنون على الغد القريب وليس فقط الغد الأبعد ؟!! . وهل تستجيب الأحزاب والمنظمات المصرية وهيئاتها الأساسية للتوحد حول قاسم مشترك لا نعتقد أنه سيكون محل خلاف .. سبق وأن أشرنا إليه وسنعود إليه بادئين بمجلس الشعب الذي يعاني لحظة واختيار .. إما أن يكتسب شهادة ميلاد أو يكتب لنفسه شهادة أخرى .
أبو العز الحريري
نشرت بجريدة التجمع – العدد 90