|
كانسر المركزية .. ومن جديد استنجد بجاك دريدا
محمد ليلو كريم
الحوار المتمدن-العدد: 5556 - 2017 / 6 / 19 - 04:21
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
قبل سنة ونيف أحببت جاك دريدا ، ورحت اتأمل فلسفته ، وأطيل التفكر فيها ، حتى أنني كتبت مقالاً نُشر في موقع محترم جُل اهتمامه الفلسفة والفكر ، والمقال كان نقداً من داخل النص الديني بدليل مضبب أتيت به من الخارج ، وتواريت توجساً بالمعميات اللغوية ، والمجاز من القول لئلا أصاب بسوء ، وصار المقال متاحاً للقراء من رواد الموقع المحترم ، وفي رد على قارءة حاذقة عُقد قران من الصداقة بيننا وتوالت أيام النقاش والجدل ، وشيء من التودد ، وجاء يومٌ بعقد انفصال ، فكرهت دريدا . بعد غروب تلك المشاعر تجاه تلك القارئة رجعت لدريدا محباً ، وهذا حال النفس البشرية ، تتقلب ذات اليمين وذات اليسار أو تلتصق في وسطية وتبجح ، ولا موقف غير التطرف يكسو جلال اللوحة الحية . الفيلسوف جاك دريدا ( 1930 - 2004 ) من مواليد الجزائر ، أشتهر بأسلوبه الجريء والمؤثر الذي عُرِفَ عنه في أعماله الفلسفية والفكرية وهو التفكيك ، ومن مشاغل نظرية التفكيك الدريدي تهميش المركز وجعل الهامش مركزا في تحدٍ صريح لأعمق العُقد الموغلة في الوعي الغربي ، وأنا قد أفهم المخايلة الأسلوبية التي أعتمدها دريدا بدءاً بالفن والأدب صعوداً بموازاة القول المأثور الذي صرّح به روزفلت أمام تشرشل : (( الحضارات في صعود )) مروراً بالسياسة ، ونحن احياناً نحتاج لتلك الوهدة الصوفية لتفهم مقاصد أهل الفلسفة ، فقد يكون جل القصد في مستوى يحمله الرمز والإشارة أكثر من النص ، وبالتجرد نلامس شيئاً ما . من اللغة وبها بدأ التدوين حين تحول المنطوق الى مكتوب برموز أصطلح عليها الجنس في تنوع من المخارج الصوتية التي جعلت كل مجموعة لغوية تتفاهم فيما بينها ، ومن ثم تطور الجنس ليستخدم الترجمة للتفاهم بين أهل اللغات ، وللغة دور في موضوعة المركزية ، واليوم يخضع العالم لمركزية اللغة الانجليزية كلغة للتداول ، حيث هيمن المنطوق الانجليزي على العلاقات والتداول العالمي ، ويمكن حصر هذه الهيمنة في ثلاث عوامل رئيسية أولها الداعم التاريخي المتمثل في الجذر اللغوي اللاتيني والثقافي اليوناني والتوضيف المكثف لهما للتسيد اللاحق على الثقافات العالمية ، والعاملين الآخرين هما الجغرافي والتقني ، فالناطقين باللغة الانجليزية يتوزعون على قارتين ( امريكا الشمالية واستراليا ) اضافة لبريطانيا ، كما أن هونغ كونغ تتحدث الانجليزية اضافة للكانتونية ، ودولة جنوب افريقيا ، وتطول قائمة الدول التي تتخذ من الانجليزية لغة رسمية لها ، ونلاحظ الانتشار الجغرافي الواسع لهذه اللغة ، ونأتي الى العامل التقني ، وغالبية البرامج الحاسوبية والمعلوماتية باللغة الانجليزية ، وهكذا تكون لغة عالمية بفعالية عالية وهيمنة واضحة مما دعم تفوق ذو أبعاد متعددة ، فالفن الذي تنتجه هوليود يهيمن على سوق الأفلام العالمية ، والأدب الشكسبيري مازال فعالاً على مستوى العالم ، إضافة للتفوق العسكري والإقتصادي والثقافي الأمريكي بطابعه اللغوي الانجليزي ، ولا ننسى الفكر الذي يعد بنهاية للتاريخ بخاتمة رأسمالية كما صدحت نظريات فرنسيس فوكوياما وغيره ، ولا تنتهي سلسلة التفوق الى هذا الحد ، فهناك التفوق في سبر الفضاء ، والسبرانية اللاهوتية التي توغلت في ما يعتقد المؤمنين به إنه مستقل ومنيع لا يمكن بلوغ ثوابته من قِبَل العولمة الكونية ، مع أن الحضور الأمريكي بمنطوقه الإنجليزي يحمل الفكر التوراتي الذي قفز من عمق التاريخ الى عصر العم سام ، وبقوة عصر الهيمنة الإنجليزية الثاني دُفِعَ التراث الإسرائيلي المتناسج مع الفكر الديني العملي الأمريكي العولمي ، ولا يقف التفوق الإسرائيلي - التوراتي المدعوم على اللسان الإنجليزي - الأمريكي ، بل نجد النص القرآني قد خصص آلاف الآيات لبني التوراة ، فكانت آيات قرآنية بحق ترفع من شأن الكلمة التوراتية وتُبجلها . تُعرّف اللغة إنها نسق من الإشارات والرموز ، تشكل أداة من أدوات المعرفة ، وتُعتبر اللغة أهم وسائل التفاهم والإحتكاك بين أفراد المجتمع في كل ميادين الحياة .ليس من الممكن حصول أي نشاط بشري بلا لغة ، فاللغة والتفكير بينهما رابط وثيق ، وكل فكرة تصاغ بقالب لغوي ، حتى في التفكير الباطني . يقول روسو أن اللغة نشئت من العاطفة ، ويرى كانت إنها نتاج عقلاني منطقي ، ويذهب ويتينستاين الى أن الفلسفة هي دراسة اللغة . جرت دراسات وبحوث معمقة حول عملية تبلور اللغة وتنوعاتها اللسانية وتاريخ ظهورها وتطورها عن اساليب اقدم منها . جاءت الكتابة بعد اللغة ، والكتابة لغة نصية تُمكن من تداول اللغة عبر صور أو رموز أو حروف يتم تداولها بين الناس عبر الحفظ وبطرق مختلفة ، فقد تُكتب اللغة على الطين أو البردي أو الورق أو لوح آيباد . وجدت الترجمة عبر تطور ذكي للإنسان ، وهي طريقة تمكن من نقل نص من لغة الى لغة أخرى . حملت اللغة وصيروراتها المتطور اللاحقة ( الكتابة والترجمة ) الثقافة والعلوم والتاريخ والحقوق والشرائع والتنبوءات وقصة الجماعة الدينية ، وقد خُطت الكتب الدينية ، ومنها التوراة بلغة القوم حيث وجدت عندهم ، فكل كتاب ديني ينطق بلغة أهله ممن ظهر فيهم ، وقد تموضع النص التوراتي عبر التاريخ في عدة مواضع حضارية ، وكذلك نقل لنا قصة الإسرائيليين في العراق ومصر قبل تدوينه ، وأخبرنا عن تأثيراته في الأمم الأخرى بعد تدوينه ، ومن ثم توزع نصياً وبالمعنى بين نصوص المسيحية والإسلام ، الى أن ظهر متوجاً في الثقافة الدينية الأمريكية . لن نسرد قصة التوراة ، فإهتمامنا هنا ينصب على الأتيان بمدخل لموضوع المقال ، وقد أتينا بالمدخل ، والآن سندخل الى صلب الموضوع ، وموضوعنا محاولة لن تكون يسيرة حتماً لإستخدام مصطلحين وجدا في نظرية دريدا التفكيكية ، وهما الإختلاف والتأجيل ، وسيكون الإستخدام كمن يُطوّع المعدن الصلب لغرض تحويله الى شكل جديد . النظرية التفكيكية لجاك دريدا تستهدف الفراغات في النصوص وتبحث عنها ، أو لنقل هي ( قراءة ما بين السطور ) حيث تقبع متناقضات وألغاز كامنة تمثل معضلة النصوص حتى البسيطة ( معضلة -aporia) وأصل الكلمة اليوناني تعني : لغز ، تناقض ، أو طريق مسدود . وسنستخدم التفكيكية الدريدية بسعة وتطويع ، فالعالم مولع بالمنهجية . حين ننظر للفلسطيني الذي يحمل حجراً ليرمي به جندياً اسرائيلياً كنوع من المقاومة ، وآخر من حركة حماس يحمل سكيناً ليطعن أي اسرائيلي يصادفه ، أو نشاهد عراقياً مسلماً سُنياً أو شيعياً يُعرّض حياته للخطر وهو يصطدم بفرقة جوالة من الأمريكان ، أو يزرع لهم عبوة ناسفة تحت التراب ، أو مجاهد عربي أو غير عربي يستهدف أهل الكتاب من مسيحيين ويهود ؛ نتسائل : هل كان النص القرآني مقاوماً لأهل الكتاب ؟ من هذا السؤال ننطلق . ما كانت النظرية التفكيكية مقتصرة على النص فحسب ، بل تعدت النص الى الفلسفة والأخلاق ، والدين ، وقد تناول الشُرّاح مفردة من النظرية وهي ( الإحالة ) ودريدا طرح مقولة أن ( لا شيء خارج النص ) أي لا إحالة ، أي ليس من مصدر خارج النص كان هو الخالق للنص ، بل لكل نص نص سابق الى أن تنتهي المتوالية لإعدام النص ، وبالتالي يرفض دريدا اللوغوس ، الكلمة ، أو الله وهو يصفه وصفاً قاسياً ( تاريخ البراز ) ، وأن التقليل من الشأن ، أو التسفيه والتسخيف الذي جاء به دريدا هو الذي ندعوه ب ( إستدعاء الهامش ) كفعل تبادلي له نصف ثانٍ وهو ( تهميش المركز ) ، وعليه يكون النص المقدس بلا قداسة لأن قداسته تقع خارجه ، فالتوراة وألواحها ، والإنجيل كلمة الله ، والقرآن المُنزَّل وفق نظرية دريدا ليست لوح هبط على جبل أو كلمة تجسدت أو آيات تنّزّلت من السماء ( لا شيء خارج النص ) أي أن النصوص لا تنتهي بإصولها لأن نحيلها الى مصدر خارج عنها ، وبهذا يقضي دريدا على قدسية النص ويُبقيه نصاً لا نهائي ، وهو نص لا نهائي لأننا نكتشفه في كل مرة نقرأه ونستخرج أشياء ومعاني جديدة من بين سطوره وفق إنطباعاتنا الشخصية ولا يستطيع المُنتِج للنص أن يتدخل في تدخلاتنا بالنص لأن النص المكتوب يمكن أن ينفرد به قارىء في غرفة مغلقة الأبواب ويقرأه بأنفراد ويُكوِّن ما شاء من الإنطباع حول مادته ، بينما كاتب النص غائب ، والكاتب يغيب إما بموته ، أو بتحييده ( السرقة الأدبية أو الفكرية ) ، أو بإنكار علاقته بالنص كما هو الحال في نظرية التحريف ، إذ يدعي المسلمون أن التوراة الحالية التي بين يدي اليهود مُحرّفة وجاء القرآن لينسخها فجعل التوراة الأصل في معزل عن اليهود وأحاله الى ذمة التأريخ ( موت النص الأصل ) . أن التحريف بمعنى التلاعب في جزء من النص أو طمس النص نهائياً نظرية إسلامية بإمتياز . لنُقيم ترابطاً في المقال : هل هناك مشروع للكاتب التوراتي ليُمدد النص الى خارج الأسفار ؟ هل هناك مشروع مقاومة إسلامية تجاه مشروع الكاتب التوراتي ؟ ما علاقة نظرية التفكيك الدريدية بموضوعنا ؟ المركزية ، كلمة نستخدمها كمنطلق للإجابة عبر طرح النصوص ، وكذلك كلمة الإحالة ( الإحالة ألا نهائية) ، وبمزج هذه الكلمتين نستخرج ( معضلة ) . مع طرح النص القرآني طُرِحت معضلة ، فالمسلم في عقيدته أن النص التوراتي تم تحريفه وطمسه ، ونفس المسلم يقرأ في قرآنه (( نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ ♤ آل عمران ، آية 3 )) وتكاد تجد إجماعاً من المفسرين بخصوص هذا النص يُحيله لما قبله من نص توراتي وإنجيلي ، حيث ورد في الآية التالية (( مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ ۗ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ ♤ آل عمران ، آية 4)) ولكن نفس المسلم يرجع بعد قراءة هذا النص فلا يقر بوجود النص التوراتي ، والمعضلة هي في الصراع على ( المركزية ) ولولاها لما وجدنا ممانعة من الذهنية المسلمة ترفض الإقرار بوجود نص سابق عن النص القرآني كان مشاركاً في تشكل النص القرآني ، والقرآن ينقل لنا الصراع النفسي المرهق حيث نشبت جدلية المركز والهامش في أول عهد الإسلام ، ففي أول عهد الإسلام كانت قبلة المسلمين تقع في أورشليم ويبدو أن حركة إعتراض عربية الطابع أخذت بالتوسع تتساءل عن علة إتخاذ أورشليم وهيكلها قبلة للصلاة ، ويبدو أن النبي العربي مر بحالة عصيبة من الصراع النفسي متأثراً بما يتساءل حوله المعترضون من قبائل العرب ، ونحن قد علمنا مما ورد عن وصف العرب في مقدمة أبن خلدون أن العرب (( لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو اثر عظيم من الدين )) ولهذا وجِدت فسحة لنبيهم ليعالج قضية طلب المركزية وتهميش المركز الأورشليمي ، وبعد صراع بدى لنا عبر التوصيف القرآني مريراً في نفس النبي قرر العدول عن المركز وتهميشه ونقل المركزية للهامش . جاء في التوصيف القرآني (( قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ۗ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ♤ البقرة ، 144 )) : (( متطلعا إلى الوحي ومتشوقا للأمر باستقبال الكعبة وكان يود ذلك لأنها قبلة إبراهيم ولأنه دعى إلى إسلام العرب ♤ تفسير الجلالين )) !!!!! . طرحنا السؤال التالي : هل هناك مشروع مقاومة إسلامية تجاه مشروع الكاتب التوراتي ؟ الجواب نستشفه من نصوص قرآنية قد أسست لمشروع يقاوم مشروع الكاتب التوراتي ، فهذه آخر الآيات من سورة يوسف : (( وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ )) ولنركز على (( توفني مسلماً )) ، ونص آخر : (( أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ♤ سورة البقرة ، 133 )) ولنركز على ( ونحن له مسلمون ) ، ويرجع القرآن في صراعه النصي مع ما سبقه من النصوص ليؤسس لعقيدة تُحيل كل الأديان الأبراهيمية وما قبلها من دعوة إبراهيم وديانته الى أصل إسلامي حجازي مكي (( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ • رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ♤ من سورة البقرة ، 127 - 128 )) . حين دخل الإسلام في عصر ما بعد المكي ، أو ما بعد الحجازي تنبه الى ما يمكن أن نسميه إستعارةً : أزمة المتن والهامش ، وهذا تعبير دريدي وتفكيكي ، وكما تأوه دريدا من ثقل المتن فالإسلام كذلك تأوه من ثقل المتن السابق ، والآي القرآني يعترف صراحةً بهذه الأزمة (( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ، ..... ، الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته اولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون ♤ )) وبالسياق والتتابع راح الهامش القرآني يهاجم المتن ، التوراتي والإنجيلي ، فهو لم يعترف بروما مثلاً ، ولا بالأرثذوكسية القبطية في مصر ، ولم يتطرق للزرادشتية والمثنوية واللاهوت الرافديني بتعدد حضاراته ، واكتفى بذكر اليهود والنصارى ، ولم يذكر المسيحيين ، واكتفى بذكر كلمة ( صابئة ) دون أي تعريف وشرح ، ويبدو أن القرآن - الهامش في حينها أتخذ خطة أستلابية فنسب نفسه الى العائلة الأبراهيمية واستدعى شيء من نصوص سبقته بتصرف ومن ثم أذاع بأنه نسخها وحل هو كنص رباني صحيح كافٍ لأهل الديانتين اليهودية والمسيحية ، وهكذا يتضخم بحجم ثلاثة أديان ، ثم ينسخ ثُلثيه بعد أن أبتلع الأتباع والشهرة والعقائد والجغرافية والتاريخ فيصفو دين الله التام الخاتِم المصحح لما قبله ، الجامع لما سبقه في قرآن ، وهذا بالتحديد معنى كلمة ( قرآن - الكتاب الجامع) (( وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه ♤سورة المائدة ، آية 48 )) . تمكن الهامش من القفز الى المركز ، المتن ، وتقهقر المتن - المركز ردح من الزمن ، والإمبراطوريتان العباسية والعثمانية أفصحُ تجلٍ لتلك القفزة . تقهقر المتن ، ولكنه لم يندحر الى الأبد ، فبعد قرون قفز الى سطور العالم الجديد ، وأذيع به كنص مقدس أول ، وللحركة البروتستانتية فضل كبير ، وهذا يُذكرني بنبوءة القائد رستم المُدونة شِعراً في الشهنامة حين تيقن من إجتياح عربي - اسلامي قادم لا محال (( يشير الشاعر الفردوسي في الشاهنامة نقلاً عن رستم إنه كتب رسالة الى أخيه تطرّق فيها الى انقراض السلالة الساسانية وهيمنة العرب على إيران ، يقول : من هذا العام الى اربعمائة سنة لاحقة لن يرى العالم مثل هذه النطفة وهكذا بعد اربعمئة عام من انقراض الساسانيين وسيطرة العرب ، تمكن السلطان محمد الغزنوي من إقامة امبراطوريته في ايران ، وأعلن إنه سليل تلك النطفة !!!! ♤ كتاب التشيع العلوي والتشيع الصفوي ، ص 132 ، علي شريعتي )) إنك لتلاحظ أن النبوءة كُتِبت في ( شاهنامة ) وحين تحققت نطق بها محمد الغزنوي ، ونحن اليوم ( نقرأ ) ما نطق به الغزنوي !! . بعد دعوته الشهيرة ، جمع مارتن لوثر الإنجيل بالتوراة فيما عُرف بالكتاب المقدس فصار التوراة يحمل إسم العهد القديم والإنجيل العهد الجديد ، ولكن الحركة كانت أعمق وليس مجرد دمج كتابين لديانتين في لحظة صدفة ، وليس هناك من صدفة ، فالنص التوراتي - المتن الإسرائيلي حافظ على وجوده وتغلب على ممحاة التأريخ ، وهو أولاً ظل في نطاقه كتاب بني إسرائيل ( التوراة ) ، و ( إنتقل ) بعض منه الى الإنجيل ، و ( تناصَ ) في دهاليز النص القرآني ، ثم تشابك مع النسق الغربي ليتمركز معه الى أجلٍ لحين عودته البابوية . تُثير النظرية التفكيكية التساؤل حول العلاقة ما بين اللغة والفكر والأخلاق ، وبها نتساءل عن نوع العلاقة ما بين النص التوراتي والتاريخ ، والإنجيل ، والقرآن ، وكيف تمكن من الإنتقال والتناص والتشابك ؟ الإنتقال : بالإساس ( برأيي ) أن إنتقال النص التوراتي لداخل الإنجيل حدث لأن المسيحية تبدو باديء ذي بدأ حركة ( معارضة ) إسرائيلية وقفت بوجه الفريسيين والكتبة ، أي بوجه رجال الدين الإسرائيليين ، ويمكن أن نعتبر يسوع وتلاميذه وبولس ورسائله حركة إسرائيلية ذات طابع عولمي ، فالمسيح وضع قاعدةٍ أساس لحركته كدالة الحراك المعارض : (( لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء ، ما جئت لأنقض بل لأكمل . فالحق أقول لكم : الى أن تزول الأرض والسماء ، لن يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الشريعة ♤ انجيل متى 5 : 17 - 18 )) ودالة أخرى (( فإني أقول لكم : أن لم يزد بركم على بر الكتبة والفريسيين ، لن تدخلوا ملكوت السماوات أبدا ♤ انجيل متى 5 : 20 )) أما دالة الحراك العولمي : (( فأذهبوا إذن ، وتلمذوا جميع الأمم ♤ إنجيل متى 28 : 19 )) . التناص : التناص يعني في الفكر الحداثوي الغربي تلاقح النصوص ، وتقول تلميذة العالم الروسي باختين ؛ جوليا كريستيفا أن التناصية ( أن يتشكل كل نص من قطعة موزاييك من الشواهد ، وكل نص هو إمتصاص لنص آخر ¤ من بحث منشور ، علياء محمد الغرابلي ، جاء في صدر البحث : أصحاب الكهف : لعبة التناص )) ، وبرأيي أن أساس التناص في القرآن من التوراة وجود أسم ابراهيم مع أسم ابنه إسماعيل ، مع وجود أسماء : اسحاق ويعقوب والأسباط والتوراة ، ومن ثم موسى والألواح . التشابك : لنفهم معنى التشابك علينا تصور تشابك الخيوط في نسيج قطعة القماش . برأيي أن أول مشروع التشابك تأسس على يد بولس الرسول ، ذلك الطرطوسي شاول الإسرائيلي المخضرم في المجمع اليهودي ورجل الدين الملتزم بالتوراة والمدافع بقوة وعزيمة عن عقائد وشريعة بني اسرائيل ، والذي تحول للمسيحية في طريق دمشق حين داهمه حضور يسوع المسيح ووبخه على إضطهاده للمسيحيين ، والقصة معروفة في الإنجيل ، وبولس الرسول أقتحم أوربا بعدة رحلات تبشيرية أنتهت بإعدامه في روما ودفنه هناك لتؤسس على قبره كنيسة الكاثوليك الأوربية أو ما سيُعرف في زمن لاحق من التأريخ بالفاتيكان ، وقد ضم الإنجيل ثلاثة أو أربعة عشر رسالة لبولس مما يشكل نصف الإنجيل أو أكثر . حصل العهد الثاني من مشروع التشابك في الحركة البروتستانتية اللوثرية ، وأنا أشير الى الحركة أكثر من الإشارة الى شخص لوثر وحركته واعتراضه ، فمن مجمل فلسفة الحركة الدينية البروتستانتية تبلورت الرأسمالية الغربية ، والمهم في الأمر أن مارتن لوثر جمع العهد القديم والجديد في كتاب واحد مقدس ، وقد كتب ماكس فيبر في مؤلف أسماه ( أخلاق البرتستانتية وروح الرأسمالية ) يمكن لمن يهتم للموضوع الرجوع اليه ، ونحن هنا نركز على دور اللغة والنص في بلورة مركزية ما . التفتكيك .. ما بين طيات النص القرآني توجد فراغات ، وهي تلك النصوص التي تطرقت للتوراة وشرائعها وربما حتى نبوءاتها ، وبالبحث في تلك الفراغات بعينها نجدها لا تشتغل عندنا بحثياً إلا بطريقة الإختلاف والتأجيل ، والإختلاف ( difference ) الدريدي مصطلح تقني استخدمه كإشارة لجانب غريب في اللغة ، فبالتلاعب اللغوي بالمصطلح وتحديداً التلاعب بحرفي a و e فاللفظ يبقى ولكن المعنى يتغير : تعني اختلافdifference deferrer تعني تأجيل وبدمج الكلمتين نخرج بكلمة difference ، وهذا تلاعب بكلمتين فرنسيتين ، والتأجيل هو أن كل كلمة أضيفها وأنا استرسل في قراءة نص يُضاف معنى جديد ، أي أن المعنى الكامل للعبارة يضل مؤجلاً ، والكلمة التي أنطقها قراءةً في النص لا تكتسب معناها من رابط خفي بينها وبين المعنى ، بل تكتسب المعنى عبر إختلافها عن كل كلمة غيرها ، وهذا هو الإختلاف ، ونوع الأختلاف في النص القرآني أنه نص يتوقف معناه على نص آخر ، وأنا أقصد النص القرآني المعني بالتوراة ، وهذا ايضاً ، وفي نفس الحال تأجيل ، فالنص القرآني مؤجَل المعنى لأنه في سرديته القرآنية لا ينتضم نصياً مع التوراة في نسق متسق ، والى هنا تتضح معضلة (( aporia )) وقلنا أنها كلمة يونانية قديمة تعني ( تناقض ) ( لغز ) ( طريق مسدود ) : التناقض : تناقض السرد القرآني مع الأصل التوراتي . لغز : من أي مصدر مجهول جاء هذا التناقض . طريق مسدود : عدم توافق النصين . والقضية عبارة عن مواجهة بين نصين ، وهي مواجهة من طرف واحد هو الطرف الإسلامي ، والغاية الستراتيجية أن يتم إعتبار القرآن الكتاب المقدس الجامع الذي يُفرض على اليهود والمسيحيين ، والداحض أو الناسخ للنصوص التوراتية والانجيلية الأصل . هل يمكن أن تتوقف النصوص ؟ ليس للنصوص أن تتوقف عند رسمها الأولي ، ولهذا نجدها تتعرض للتفسير والتأويل والريبة ، وحول كل نص تحوم ريبة وشكوك فيما يُعرف بالتحريف أو الأسفار الأبوكريفا أو المنحولة ، والمفسرون يختلفون في كل نص يفسروه ، والمؤلون كذلك ، ولا إتفاق نهائي ، وأيضاً ؛ لا يتوقف النص عند حدود صياغته الأولى كرسمٍ من التنزيل أو كألواح مقدسة ، فهو حصيلة تجمّع نصوص سبقته ، وحين تشكُلِّهِ تعددت فيه القراءات التفسيرية ، وهو بعد زمن تدوينه عرضة للتفلسف ، وإن ضربنا مثالاً ضاق بنا المقام ، ويكفي أن نشير الى نصوص الخليقة ، ومن يجزم وبدليل قاطع أن هناك زمن محدد دونت فيه القصة الأولى الغير مسبوقة التي تتحدث عن قصة الخليقة أو التكوين ، ومن يجزم ويأتي بتفسير يدعي إنه التام يقيناً في قراءة النص ويفحم كل مفسر ، ومن يوقف التفلسف في النص بعد زمن تدوينه . إذن ، لا إحالة نهائية . والأمر ينطبق على مجرى الصراع على المركز ، والمتن ، فالنصوص التوراتية والقرآنية مستمرة في التصادم لإحتلال مكان المتن وطرد الخصم الى الهامش ، مع إن النص القرآني متخم بالقصص والشرع والرموز الإسرائيلية ، وهذه مفارقة على شكل معضلة ، وهو تناقض ولغز ، وطريق لا افق له . وكأن الصراع والتصادم عبارة عن ملحمة من التفكيك العدمي . لم ننتهي من الموضوع ، إنما هو التأجيل ، الأبدي .
#محمد_ليلو_كريم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ترتيل ما تيسر من آيات الشيطان
-
عركة مع الله
-
تعالوا الى كلمة سواء ... وكلمة : فلسفة ؟؟
-
في هذا عزائك يا دريدا . . .
-
رواية طوق الياسمين .. نفخ في الجمر المستتر
-
مظلومية ساسون حسقيل
-
من بلاد الصهاينة , أخاطبكم
-
الله ... نعاس
-
أسرار مجمع روتانا 3
-
أسرار مجمع روتانا .. جزء 2
-
أسرار مجمع روتانا .. جزء 1
-
رحيل خضير ميري .. ترحيل عصيان العقل
-
رؤوس الحزب الحاكم
-
بدو السماء يهاجمون فرنسا
-
آخر الآيات الناسخة , تأويلها مثل شعبي دارج
-
سقوط برلين البابلية
-
بين فيزيائي ومتدين
-
الموهوب والموهوم .. هل تتقبل حديث الثقافة وتنوعاتها ؟؟
-
تنازع الناس في الصوفي .... !!!!!!!!
-
غابتنا ..آخر ما تبقى لنا
المزيد.....
-
تأسست قبل 250 عاماً.. -حباد- اليهودية من النشأة حتى مقتل حاخ
...
-
استقبل تردد قناة طيور الجنة أطفال الجديد 2024 بجودة عالية
-
82 قتيلاً خلال 3 أيام من أعمال العنف الطائفي في باكستان
-
82 قتيلا خلال 3 أيام من أعمال العنف الطائفي في باكستان
-
1 من كل 5 شبان فرنسيين يودون لو يغادر اليهود فرنسا
-
أول رد من الإمارات على اختفاء رجل دين يهودي على أراضيها
-
غزة.. مستعمرون يقتحمون المقبرة الاسلامية والبلدة القديمة في
...
-
بيان للخارجية الإماراتية بشأن الحاخام اليهودي المختفي
-
بيان إماراتي بشأن اختفاء الحاخام اليهودي
-
قائد الثورة الاسلامية آية اللهخامنئي يصدر منشورا بالعبرية ع
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|