لطيف الحبيب
الحوار المتمدن-العدد: 5547 - 2017 / 6 / 10 - 02:07
المحور:
الصحة والسلامة الجسدية والنفسية
لطيف الحبيب
9.6.2017
عندما دخلت فناءالمدرسة
همت بالحياة عشقا
التلميذ بنيامين 7 سنوات
نواح رأسه يصطدم بفراغ المكان , حفيف ورق الأشجار الأصفر المتساقط بعصف ريح الخريف يصاعد الضجيج في رأس" كاي" , صخور تنهال عليه من قمم الجبال ,عصف الريح والمطر الخريفي يفزعه , يختبأ خلفنا, يتأمل أغصان الأشجار تحنيها الريح إلى الأرض وتشهق ثانية إلى السماء , ينفلت مسرعا إلى الحديقة تحت زخ المطر, يسقط على ركبتيه بخشوع يلم بقايا نبتات غضه ناهضة توا من عمق الأرض غمرها ماء المطر ,يعيد ترتيبها وبنائها من جديد مرة تلو المرة,يرقب على ارنبة انفه قطرة مطر تسللت خفية خلال شعره الاسود ,تصل شفتيه يمد لسانه الطويل , يلعقها فيبل ريقه ,مسرعا مرفرفا بذراعيه يعود تحت سقف المدرسة يمسك راسه براحتيه , راسى تؤلمني برق ورعد داخلها , تسح دموعه ويضرب الارض بقدميه يتصاعد لهاثه ويعودالى الارض ثانية . في كل صباح حين يفتتح الدرس بأنشيد الصباح يدور " كاي " حول قيثارة معلمته , يئن من فرح الاوتار باغاني الاطفال يقترب برأسه حتى تمس اذنه يد المعلمة العازفة على الاوتار يفرك راحة يديه ألقا وفرحا . استدعى الخريف ندف الثلج قبل ان يلملم اوراقه الزاهية ويرحل, تسقط متراقصة, تنزل بهدوء وسلام وتحط على الارض تملؤها بياضا من غيوم السماء .
بدأنا " كاي " وانا نتعلم الحروف حرفا حرفا نشدها ونربط خيوطها ببعضها , نبني كلمات يومنا الجميل " صباح الخير " مع السلامة ".. تآلفنا تلميذا ومعلما , افتقده في ساحة المدرسة والاراجيح والمزلاقات حين يمرض ويبقى في المنزل ,يبكى بحرقة ان غبت عنه ,اعمل معه خمس ساعات في الاسبوع مكثفة منتجة , كان عمره انذاك ست سنوات. في احتفال الدخول المدرسي تعد قاعة الاحتفالات لاستقبال التلاميذ الجدد , فرقة المدرسة الكورالية تنشد اغاني الترحيب بالطلاب الجدد باصوات رخيمة عالية ,يدخل كاي اصابعه في اذنيه تجنبا للضوضاء وضخامة الاصوات لسمعه المرهف , يلتصق بامه ويشد بذراعيه النحيلتين على رقبتها .
في اول يوم مدرسي ظل " كاي " متعلقا بثوب امه امام مدخل المدرسة ,يمنعها من الدخول الى فناء المدرسة وبعد محاولات نجحت الام باللوج الى فسحة الممر ,, استقبلته معلمة صفه ومربيته التصق اكثر بامه اختفى خلفها وبدأ يئن ,قدمت له المعلمة بعض اللعب واستدرجته الى صفه , انشغل بها, غادرت الام القسم بغفلة منه , دار في عينه عالمه الغريب وانطلق نحو الباب صارخا كمن سقطت السماء على راسه ,يجوب الممر ركضا ذهابا وايابا يركل الابواب ثم يرمي بنفسه على الارض حتى كلّ وتعب, لم يهتم به احد ,ظل وحيدا مطروحا على الارض, اسير رتابته وتراتيله , يطوح براسه يمنا ويسار ,كل شيئ غريب جديد لا يعرفه خارج مألوف اليومي , نهض اتجه الى صفه حيث لعبته الاولى , حيرة ودهشة اعترت وجوه المعلمات والمربيات , ارتبكت خططهم التربوية وما اعدوه لتلامذيهم الجدد , لاح استفهام كبير انتشر في اطرف القسم ولوحة الكتابة تسلل الى مقاعد التلاميذ ونظام اصطفافهم ,طاولة الطعام مكان الافطار والغداء . لم نطلع بعد على تقارير الاطباء ولا تقارير سيرته في رياض الاطفال ,نظام يخرج عن طواعيته وسابقه , انتقائه سوف يكون صعبا , ان يـأكل كل ما يوضع على طاولة الطعام ويشرب ما وجد , أ ن يجلس حسب ما يلائم معلم الصف وليس حسب مشيئته , ينهض مع الجميع ولا يفر الى مكان اخر او زواية في الصف الدراسي , ان يخرج زملائه ورهطه ويعود معهم , رغبته في قضاء حاجته او الحمام يجب اعلام المعلمه ,اشتراطات جديده تتحكم في مسار يومه وتربك منافذه حريته. في حوش المدرسة وساحتها ضوضاء وصراخ وكركرات اطفال لم يعتدها " كاي " الا في افلام الاطفال المتحركة التي يحفظ اسماء ابطالها,, اراجيح ومزلقات يحني راسه امامها , ترتكبه حالاته التكرارية , ينزوي وحيدا يأرجح جسده وقوفا وعيناه تحدقان في قرص الشمس البارد , يصطفي بعض شرائط اشعتها تسقط على بؤرة نظارته المتسخة دوما , تداعبه الشمس , يبتسم ثم يتكدر اثر صرخة تخرجه من حالة النكوص ,يبحث عن ملاذ امن اخر يجده في شيء ما بجهد جهيد جدا حتى يتصبب عرقا او يصرخ بهيجان اعمى, يضرب نفسه اولا ثم ينتقل الى الاطفال والمعلمين , يستخدم كل اطراف جسده ليتحرر من عتمة الغضب في داخله , من الممكن الامساك به او محاولة ايقافه لكننا لا نريد ان نبدأ رحلة ركل الابواب ورمي حذائه ضد زجاج الشبابيك , نتركه يهرب مندلقا كالماء لايوقفه الا سد او مرتفع. يومه الاول كان مستوفزا يتفجر غضبا تسح عيناه دمعا , رفض الاكل والشرب وحتى البحث عن زاوية لالتقاط الانفاس وانحسار اللهاث , مشدودا واقفا خلف مدخل المدرسة لكنه لا يجرؤ على فتح بابها والهروب الى الشارع فربما من في الشارع اشد غربة ممن معه الان , اقتنع بانتظار الخلاص بقدومه امه , تنقضي الايام و"كاي" يبدأ نواحه في صباح كل يوم حتى قدوم امه , تجلبه الى المدرسة يودعها بحركة كفه يستدير الى معلمته ثم تهطل دموعه توسلا , وفرت المدرسه لكل التلاميذ حافلات نقل من البيت واليه - دموعه كانت تجرح اجفاننا ,لكنها لم تعق عملنا ولم يستطع استجداء عواطفنا , يرمى نفسه على الارض وتنتابه موجة من الصراخ والضرب بقبضته على الارض, بعض الاحيان تضطر معلمته ومربيته الى رفعه من الارض تمسك احداهن بقدميه والاخرى بذراعيه ويدخلنه صفه ,اعتاد" كاي" اللعبة , يسقط على الارض ويرفع ذراعيه الى الاعلى . الى غرفة الاسترخاء هتفت"سابينا" فهي بعيدة عن الضوضاء والسرير المائي سيغريه حتما !
لكن كيف نوصله الى الطابق الثالث؟ تسائلت مونيكا بحسرات متكسرة في مخارج صوتها وعيونها ترنوا الى حل عاجل , في الطريق الى المصعد درات رحى معركة ركل الابواب قبل ان تتمكن سابينا من فتح بابغرفة الاسترخاء, اذهل ظلام الغرفة "كاي ,بدأ هدؤ مطأمن يدب في جوانب جسده النحيف , انطلق الى اسطوانة ينبعث منها بريق ضوء الفسفور,حبال واطواق ملونة تتوهج في زوايا ظلام الغرفة , دب نحوها وانشغل في تدوير الاطواق ولف الحبال ,يغرق في تراتيله مرة خرى . غرفة الاسترخاء ملاذه المفضل يذهب اليها طوعا ويسقط جسده على السرير المائي, يطبق صوان اذنه على الغطاء الجلدي للسرير ليستمع الى رجرجة الماء, وجد فيها مكان للاختفاء من ضجيج الاخر, مكان للتراجع حين يشتد اللهاث وتضيق الفضائات وجد في غرفة الاسترخاء شرنقته ومحارته التي يتدرع بها لحماية نفسه من ضوء القمر ورفيف جناح الحمام ,هديلها ورجعها في اخر النهار.
ولد كاي عام 2001 توئما لاخيه "ارك " في اول اعوائمه ظهرت عليه علامات الشرود وعدم التركيز وحتى عدم البكاء ورفع اليد الى الفم , اعتبرها الاطباء علامات طبيعية الكثير من الاطفال يتعرضون الى تاخر في النمو ولابد من الانتظار , ملامح ومظاهر اضظربات التوحد واضحة , لم تتأكد الا بتقرير طبي يكون اساس العمل التربوي مع كل طفل توحدي للسيربه تربويا وتنظيم سلوكه اليومي ومساعدته للخروج من اضطراب عالمه اليومي , لكن دقة التحليل وطول زمن المراقبة ومتابعة تطور سلوك وتصرفات الطفل وقدراته ونموها وملائمتها لعمره يتطلب منا التعامل مع الطفل في دخوله المدرسي , يخضع تلاميذ المدارس الخاصة الى الخطه العامه الموضوعة من قبل المؤسسات التربوية الخاصة. اخوه ارك في صف اخر لكنه لم يلتق "كاي" في ساحة المدرسة كان منشغلا مع الاخرين من رفاق صفه اما "كاي" كان منشغلا هو الاخر لكن مع نفسه وحركة الاراجيح ,قفزات الاطفال وتعثراتهم , يضع اصابعه في اذنيه وينزوي في احدى الزوايا, تشغله حركة الريح قطرات المطر ضوء البرق ويختفي صارخا من صوت الرعد , يحاول الولوج الى داخل الظاهرة خروجا من قوقعته داخلا الى قلب محارة كبيرة , يتابع مسارة نملة او حشرة الى ان تختفي في ثقب ما , في الخريف تشد انتباه مسارات الغيوم الرمادية الثقيلة والطائرىت الورقية دوران عجلات الدرجات الهوائية , التصق اكثر بمعلمته ويحوم طوال الوقت حول قيثارتها ويحثها قبل بدأ الافطار للغناء لدائرة الصباح , تقنعه الافطار اولا ثم الدرس, يبثها شكواه , معلمته الثانية يتهيبها اكثر ينفذ تعليماتها دون تذمر . لتخفيف حدة التوتر في الصف ومساعدت معلماته , رغم الاستثنائات الخاصة به في الصف حددت ادارة المدرسة عدد ساعات تدريبات خارج الصف في مع معلمين من مختلف الاختصاصات منها اللغة والرياضة والرسم . في انشغالانا معه في تعديل السلوك ومحاولاته دمجه في مجتمعه المدرسي الجديد ,كان وقع نظام المدرسي واشتراطاته ثقيلا عليه رغم الاستثنائات.
#لطيف_الحبيب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟