|
الثورات الروسية: خبرات دموية أم ارتقاء حضاري؟
فارس عثمان نوفل
الحوار المتمدن-العدد: 5545 - 2017 / 6 / 8 - 18:34
المحور:
ملف الذكرى المئوية لانطلاق ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا
ليس بمستغرب أن روسيا تستعد للقاء سنة التفكر و التأمل العميقين بشيء من القلق. فالعام المقبل يحمل في طياته الذكرى المئوية الأولى لأحداث الثورتين الروسيتين العظيمتين (ثورتي فبراير و أكتوبر من العام 1917) اللتين قضيتا على الإمبراطورية الروسية و فتحتا مدى شاسعا أمام الحرب الأهلية السافكة انتهت، هي الأخرى، بانتصار سوفيتي كاسح و قيام مشروع فكري أحمر الصورة و المضمون. فلم تكن هذه السلسلة الرهيبة من الصدمات عبثا أو قضاء جبريا سخيفا تربصت به روح التاريخ الروسي الصعب؛ إذ للثورة الروسية و عواقبها سياق حضاري و ثقافي عسير سنحاول تقديمه في هذه السطور المتواضعة. تطويع ديني لتناقضات دنيوية تاريخ روسيا، أو "الروس" في مصطلح التأريخ السلافي التقليدي، هو تاريخ ديني حافل بصراع إيديولوحي خصب كون أنظمة خطاب الفكر الروسي في القرن التاسع عشر. فتبدأ قصة الدولة الروسية على ضفاف نهر الدنيبر حيث جعل الأمير (أو "الكنياز") فلاديمير شعبه شعبا مسيحيا، و أرضه أرضا مسيحية تابعة للتقاليد اللاهوتية الشرقية، و لا سيما البيزنطية. و لحق بالقرن الذهبي العاشر، قرن "المعمودية الروسية"، قرنين من التأقلم البطيء مع الثقافة الجديدة ختمه احتلال مغولي. و كما لاحظه المفكر الكبير جيورجيوس فيدوتوف بحق، انشقت المسيحية الروسية في تلك الحقبة لتشكل مسيحيتين اثنتين، أي المسيحية التقليدية تمسكت بها الطبقات العليا و المسيحية الشعبية آمن بها الفلاحون. إلا أنه من البديهي أن الأرثودكسية التي اعتقد بها جمهور علماء و زعماء الشعب الروسي تعرضت لهجوم فكري غربي شنته أوروبا على الإيمان الروسي الجديد، و ذلك على خلفية الحكم المغولي. من المستحيل أن نستعرض هنا جملة الإنشقاقات و الأحزاب الروسية عارضت بعضها بعضا على مر التاريخ حتى نهاية القرن السابع عشر. فافترق أنصار الطقوس القديمة و الحديثة، و قام المؤيدون لحقوق الكنيسة الإقتصادية على المعارضين لها، و انتفض المترجمون و العلماء ذات ميول بيزنطية ضد المروجين للاهوت الاتيني. فشيد صرح فكري جديد فريد في نوعه، متناقض في أصوله و فروعه. فبقيت ثمة أسئلة مفتوحة: ما هي الإتجاهات التي من المفروض أن تسير فيها المشاريع الحضارية الجديدة؟ و ما هو نصيب الاقتباس الثقافي من جملة التأملات الفكرية الأصيلة؟ و مم يتركب العقل الروسي المجهول، متحفظا أكان أم تجديديا؟ هكذا تحول الخطاب الديني إلى خطاب سياسي محض. و شأن الفلسفة الروسية في هذا شأن الفلسفات الغربية الأخرى. فاجتمعت العناصر الضرورية حول شقوق عميقة جوهرية قدرت مصير الحركة الإيديولوجية اللاحقة. ارتقاء الكارثة امتزجت الحضارة الأرثودوكسية إذن بالأنظمة الفكرية الغربية، و لا سيما الألمانية. و للأنظمة الألمانية أسماء، أهمها أسمي هيجل و شيلنج. فلو اختزلنا التفاصيل العديمة الفائدة، لتبين لنا أن النقاش الأساسي تركز (إن لن يزل متركزا إلى يومنا هذا) حول مسائل أنتروبولوجية الطبع. و من المعلوم أن الثورة في جذورها ظاهرة إنسانية تحارب الإنسان لصالح إنسان مثالي، أمعدوما كان أم متعينا. تأثر تيار "محبي السلافية"، و خاصة أليكسي خومياكوف، بفلسفة هيجل المقدمة العام على الخاص، و مهمة الأمة الكونية على أصالة الوجود الشخصي. و لم يعادي "محبي السلافية" النتاج الحضاري الغربي، بل قالوا بضرورة الارتكاز على قدسية المصير السلافي القائم على فكرة "الجامعية" المستمدة من اللاهوت الكنسي. و على العكس منهم شدد "الغربيون" على استحالة الوجود المستقل للحضارة الروسية. فبما أن الحياة السلافية انبثقت عن الحياة الحضارية الأوروبية، وجب على المثقف الروسي تتبع خطى العارف الأوروبي ليلتحق مجددا بالحضارة الأم، و ليجيب عن تسآولات روحانية طرحها "الملحدون" منذ أكثر من قرن و رحب بها العالم المسيحي الغربي. لذا علق تشآداييف على مشروع "محبي السلافية" و سارع إلى دعوة الروس إلى تجاوز حدود بيزنطية عتيقة. و قبل الكثير من "الغربيين" بأهم منطلقات فلسفة شيلنج التي تنص على أصالة الفعل و العاطفة الإنسانيين الفرديين. و مع أن تقسيمنا هذا للتأثير الغربي تقسيم مجاز مختصر (فالغربيون مثلا تأثروا بهيجل كما تأثروا "محبي السلافية" بشيلنج إلى مدى قريب)، وجب علينا تحديد مدرج الخلاف الكارثي، أي مدرج صراع العام مع الخاص، و التحفظ مع التجديد، و المصلحة العامة مع الأخلاقية الفردية. الرفض المحتدم و في نفس الوقت ظهرت حركات مؤيدة لأفكار اشتراكية فتكت بالمثل القيصري الأعلى. فوصلت أحلام ماركسية المؤيدة ببعض قوانين جان جاك روسو السياسية إلى مسرح الدراما الروسية، و أخذت عدمية ميخائيل باكونين بعقول الناشئة الروس. فتوالت الانشقاقات في التيار الإشتراكي نتجت عنها فوضوية البلاد الأمنية، و استحر القتل بالموظفين الحكوميين، و بانت في الميدان محاولات أولى لقتل القياصرة نجحت بعضها و فشل البعض الآخر منها. و اختلف المؤرخون في الجواب عن أسباب فشل الإدارة القيصرية في مكافحة الإرهاب الوطني الروسي للمنتصف الثاني من القرن التاسع عشر، و على الرغم من أن السلطة قد روجت أهم الإصلاحات الإقتصادية و الإجتماعية. و لعل حل هذه المسألة كامن في ظاهرة تصاعد الخلافات و قلة العناصر الجامعة للتيارات الفكرية الختلفة، لا سيما أن حملات الرفض كانت تضاعف نفسها بإخلاص و إيمان غير مسبوقين. و هكذا تشكلت ديكوتومية جديدة ضمن وحدة النية الروسية القديمة (أي نية الطلاقة الوجودية الحضارية الموحدة). فبعد الستينات من القرن التاسع عشر نهضت الفلسفة الدينية المتمسكة بالإيمان المسيحي مقابل حركات اشتراكية و عدمية لاقت تعاليم نيتشه بالقبول بأصلها المناهض لكل ماض تقليدي و خلق عرفي. و احتدمت الحرب الإيديولوجية المخلصة شنتها جميع الطوائف بعضها ضد بعض. الماضي المؤلم و الواقع الصعب قامت الثورات الروسية، إذن، لترفع القيد عن القوى التقكيكية المدخرة. فإن ابتعدنا عن الكارثة الإنسانية ذهبت بملايين الضحايا، اكتشفنا أن ثورات عام 1917 كلفت نفسها خطأً – بل سفهاً – عناء البحث الفكري. و انتصرت الشيوعية الحمراء على هشاشة العدميين و المتدينين، ما كان يعني إزالة عتبة الثقافات الشعبية الروسية و نفيها إلى المهجر الغربي. أما رجوع تلك الثقافات في نهاية القرن العشرين إلى الوطن الأم فأذن بعودة الصعوبات الماضي إلى مهد الحاضر الناشئ. انتقلت بعض تلك الصعوبات إلى بلدان الإتحاد السوفيتي السابق، و ليس إلى الجمهورية الروسية الإتحادية وحدها. فغياب الحياة الدينية-الفكرية في أوكرانيا كان قد عُوّض عنه بقيام كيانات متطرفة آثرت الشخصية الأوروبية و التجديد الوطني، و الركود الفلسفي في جمهوريات آسيا الوسطى قد أمسى تهديدا مبشّرا بالتدخل الإرهابي في شؤونها الداخلية المستعصية. و اكتفت السلطات الروسية بتأييد الأرثودوكسية التقليدية، و سكتت عن انعاش الفلسفة الروسية الفاترة لأكثر من خمسين سنة. و بما أن روسيا باتت اليوم مصيدة للكثير من التكتلات المتطرفة، السلافية منها و "الداعشية"، تبقى إشكالات الماضي في ذمة الشعب الروسي. فعلى المفكرين أن يعيدوا النظر في ماهية الإيديولوجيا و زرعها في التراب الشعبي الخصب، و كيفية تعامل الكنيسة مع الدولة، و إرهاصات التشخص الإنتمائي. فإن لم تحدث مثل هذه التحركات، فستُنسى دروس الثورات الماضية لتستثمر فيما بعد من قبل "الإشتراكيين الجدد"، أكان مشروعهم أخضرا أم أحمرا، غربيا أم شرقيا. موسكو-أوديسا
#فارس_عثمان_نوفل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ماذا يعني إصدار مذكرات توقيف من الجنائية الدولية بحق نتانياه
...
-
هولندا: سنعتقل نتنياهو وغالانت
-
مصدر: مرتزقة فرنسيون أطلقوا النار على المدنيين في مدينة سيلي
...
-
مكتب نتنياهو يعلق على مذكرتي اعتقاله وغالانت
-
متى يكون الصداع علامة على مشكلة صحية خطيرة؟
-
الأسباب الأكثر شيوعا لعقم الرجال
-
-القسام- تعلن الإجهاز على 15 جنديا إسرائيليا في بيت لاهيا من
...
-
كأس -بيلي جين كينغ- للتنس: سيدات إيطاليا يحرزن اللقب
-
شاهد.. متهم يحطم جدار غرفة التحقيق ويحاول الهرب من الشرطة
-
-أصبح من التاريخ-.. مغردون يتفاعلون مع مقتل مؤرخ إسرائيلي بج
...
المزيد.....
-
الإنسان يصنع مصيره: الثورة الروسية بعيون جرامشي
/ أنطونيو جرامشي
-
هل ما زَالت الماركسية صالحة بعد انهيار -الاتحاد السُّوفْيَات
...
/ عبد الرحمان النوضة
-
بابلو ميراندا* : ثورة أكتوبر والحزب الثوري للبروليتاريا
/ مرتضى العبيدي
-
الحركة العمالية العالمية في ظل الذكرى المئوية لثورة أكتوبر
/ عبد السلام أديب
-
سلطان غالييف: الوجه الإسلامي للثورة الشيوعية
/ سفيان البالي
-
اشتراكية دون وفرة: سيناريو أناركي للثورة البلشفية
/ سامح سعيد عبود
-
أساليب صراع الإنتلجنسيا البرجوازية ضد العمال- (الجزء الأول)
/ علاء سند بريك هنيدي
-
شروط الأزمة الثّوريّة في روسيا والتّصدّي للتّيّارات الانتهاز
...
/ ابراهيم العثماني
-
نساء روسيا ١٩١٧ في أعين المؤرّخين ال
...
/ وسام سعادة
-
النساء في الثورة الروسية عن العمل والحرية والحب
/ سنثيا كريشاتي
المزيد.....
|