|
دامداماران [22] يهودية وظيفية
وديع العبيدي
الحوار المتمدن-العدد: 5545 - 2017 / 6 / 8 - 17:28
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
وديع العبيدي دامداماران [22] يهودية وظيفية History is made often by the headless!- Lesley Hazleton [اذا قلت للبارّ: انك لا محالة تحيا!.. فاعتمد على برّه واثم، فان برّه كله لا يذكر له، بل يموت بخطيته. وان قلت للشرير: انك لا محالة مائت!.. فارتدع عن خطيته، ومارس العدل والحق، فهو لا محالة يحيا، ولا يموت في خطاياه. انه حياة يحيا!]- (حز 33: 13- 15).
الــرؤى اليهوديــة للتاريـخ Jewish Views of History في معظم الكتابات اليهودية أو الصهيونية، التي تعالج القضايا المتصلة بالجماعات اليهودية في العالم، يُلاحظ الدارس أنه لا توجد أية تفرقة، بين تواريخ الجماعات اليهودية من جهة وتاريخ اليهودية من جهة أخرى، أو بين التاريخ المقدَّس والتاريخ الفعلى. فيتداخل التاريخ المقدَّس مع تاريخ العبرانيين، ويتداخل الاثنان مع تواريخ الجماعات اليهودية، لتصبح المحصلة النهائية ما يُسمَّى (التاريخ اليهودي). وربما يعود هذا التداخل إلى التيار (الحلولي الواحدي) في العقيدة اليهودية. ففي تصورهم (الحلولي الواحدي)، يري اليهود أن [تاريخهم مقدَّس]، ويعبِّر عن [الإرادة الربانية]. فإله إسرائيل يتدخل دائماً في مسار التاريخ، لصالح شعب إسرائيل. ولم تأت الأمة اليهودية إلى الوجود، إلا من خلال تَدخُّل إلهي مباشر، أي أن [الإله قد حل في الشعب وتاريخه]!. فكرة [حلول الروح الإلهية في اليهود]، حولتهم إلى أمة من القديسين والكهنة والأنبياء/[خر 19: 6، تث 26: 19]. ومن الملاحَظ أن زوال ثنائية [الخالق والمخلوق]، التي تؤدي إلى التداخل الكامل بين [المطلق والنسبي]، أو بين [الإله والشعب]، أو بين [الثابت والمتغيِّر]، أو بين [التاريخ المقدَّس والتاريخ الإنساني]، سمة بنيوية أساسية في اليهودية. فكتاب اليهود المقدَّس = كتاب تاريخ الشعب، كما أن أعيادهم تحتفل بمناسبات كونية ثابتة، مثل عودة الربيع، وخلق العالم؛ وبمناسبات تاريخية متغيرة، مثل الخروج من مصر. وتتركز الصلوات الدينية المختلفة حول المناسبات القومية التاريخية. كما تأخذ العلاقة مع الإله شكل حوار بين طرفين، أحدهما (مقدَّس مطلق)، والآخر (دنيوي نسبي). ومع هذا فالطرفان متساويان. والديانة اليهودية تتسم بوجود (شريعتين): واحدة مكتوبة مُرسَلة من الإله، والأخرى شفوية يكتشفها حاخامات الشعب عبر تاريخهم. ومع هذا، فللشريعة الشفوية من الشرعية والصلاحية، ما للشريعة المكتوبة؛ بل إنها تفوقها في الاتساع والشمول والدقة. وظاهرة تعدد الأنبياء في اليهودية، تعبير عن (حلول الإله في التاريخ)، وهو (حلول) لا يتوقف عند نقطة ما، بل يستمر من بداية التاريخ حتى نهايته. وقد كانت هذه الرؤية [الحلولية الواحدية] كامنة في العصر القديم، ثم ازدادت عمقاً في التلمود ـ كتاب اليهودية الحاخامية الأساسي ـ، ثم تبلورت وأخذت شكلاً حاداً ومتطرفاً في القبَّالاه/[Kabbalah]، التي سيطرت على الفكر الديني اليهودي، وعلى المؤسسات الدينية اليهودية، ابتداءً من القرن السادس عشر، وورثها المفكرون العلمانيون اليهود ابتداءً من إسبينوزا.
تاريخ يهودي ام دورات التاريخ التكراري.. جاء في العهد القديم أن الخالق « اختار الشعب ». والاختيار يعني درجة من درجات الحلولية الكمونية الواحدية (إذ لماذا يختار الإله شعباً دون الشعوب الأخرى؟). وقد تزايد الحلول والكمون الإلهي في الأمة إلى أن وصل الحلول إلى مرحلة وحدة الوجود. فتوحَّد الإله والشعب وتاريخه وأرضه، وأصبح هناك جوهر واحد للأمة والإله. لا يوجد الواحد منهما دون الآخر، ويتم على هذا النحو زوال ثنائية: [الخالق والمخلوق، والإله والشعب، والمطلق والنسبي، والأزلي والزمني، والمقدَّس والتاريخي]. ويصير تاريخ هذا الشعب محط عناية الاله، بل يصبح تجسيداً لفكرة مقدَّسة ومطلقة. فيتداخل: [المطلق والنسبي، والمقدَّس والمدنَّس]، وتصبح أية حادثة تقع لليهود ذات دلالة دينية عميقة. ومن هنا، فإن كتاب اليهود المقدَّس (العهد القديم) هو أيضاً سجل تاريخهم، حيث يتم تقديم العبرانيين وهم يخرجون من مصر، تهديهم ذراع الإله القوية، وتنقذهم من الغرق، ثم يُلحق بهم العذاب في الصحراء، ولكنه يسدد خطاهم في غزوهم لأرض كنعان. ثم يعقد الإله معهم المواثيق، ويقبل منهم أفعالهم كافة، الأخلاقية منها وغير الأخلاقية. ولهذا، أصبح تاريخ اليهودية هو نفسه تاريخ اليهود.
وكما ورثت المسيحية العهد القديم وجعلت منه أحد كتبها المقدَّسة، كذلك ورثت الحضارة الغربية هذه الرؤية. لذلك يعتبر الإنسان الغربي، اليهود ورثة العبرانيين القدامى. و يراهم في عزلتهم لا يزالون مستمرين في مسيرتهم في الصحراء، نحو كنعان الجديدة، عبر التاريخ الإنساني بأسره، وفي كل أرجاء العالم. وقد تبدَّى ذلك في المفهوم الكاثوليكي للشعب الشاهد، الذي يقف على حافة التاريخ، شـاهداً على عظمة الكنيسة. وغني عن الذكر.. أن مفهوم التاريخ اليهودي، مفهوم محوري في الفكر الغربي، وفي إدراك الإنسان الغربي لليهود. كما يتبدَّى في المفاهيم الاسـترجاعية البروتستانتية، التي تجعل من عودة اليهود إلى صهيون في نهاية التاريخ، شرطاً لعملية الخلاص وشرطاً لتأسيس الفردوس الأرضي. وقد تمت علمنة هذا المفهوم في العصر الحديث، فتحول اليهود من شعب يهودي مقدَّس، له تاريخ يهودي مقدَّس، إلى الشعب اليهودي المستقل، صاحب التاريخ اليهودي الفريد. وهذه كلها مفاهيم تفترض عزلة اليهود، كما تفترض أن لهم وجوداً وتاريخاً مستقلين. وثمة مدارس عديدة تتباين آراؤها في قصص العهد القديم، إذ يرى البعض أن التاريخ الذي يرد في العهد القديم هو تاريخ رمزي. فإبراهيم، حسب هذا التصور، ليس شخصية تاريخية وإنما يمثل مرحلة تاريخية وحسب، وبالتالى فهو رمز أكثر أهمية ودلالة وعمقاً من الواقعة التاريخية.
ومما دعم إحساس الإنسان الغربي بوجود تاريخ يهودي مستقل، اضطلاع اليهود بدور الجماعة الوظيفية (المالية أو الاستيطانية) في المجتمعات الغربية. ومثل هذه الجماعات يتم عزلها عن بقية المجتمع، حتى تبدو وكأنها خاضعة لآليات وحركيات تاريخية مستقلة، مع أنها في واقع الأمر، جزء لا يتجزأ من المجتمع، وخاضعة للآليات والحركيات التاريخية نفسها، التي يخضع لها هذا المجتمع، تصعد بصعوده وتهبط بهبوطه رغم استقلالها النسبي. وقد ظل دور الجماعة الوظيفية حكراً تقريباً، على الجماعات اليهودية في العالم الغربي، وذلك على عكس الحضارات الشرقية حيث اضطلعت جماعات إثنية ودينية مختلفة، من بينها اليهود، بدور الجماعة الوظيفية.
والمعروف أن أعضاء الجماعات اليهودية، لم يكونوا من صناع القرار في عصور التاريخ المختلفة، وخصوصاً في الغرب. فقد كانوا يقتربون أحياناً من أعضاء النخبة الحاكمة، ومؤسسات صنع القرار باعتبارهم جماعة وظيفية، وكانوا يبتعدون عنها أحياناً أخرى. ولكن القرار ظل دائماً في يد النخبة الحاكمة. ومما له دلالته أن أول تاريخ لأعضاء الجماعات اليهودية في العصر الحديث، والذي كتبه أسحق ماركس يوسط (1793 ـ 1860)، بدأ بالعبارة التالية: [هل يمكن أن يُكتب تاريخ مستقل للعبيد؟]. والردّ – طبعا- بالنفي إن أراد المؤرخ أن ينظر إلى تاريخ العبيد، خارج الإطار السياسي والاجتماعي والحضاري، للمجتمعات التي يوجدون فيها، ذلك أن تاريخ العبيد ليس تاريخاً مستقلاً بل هو جزء من تاريخ المجتمع ككل. وما يهمنا هنا هو تأكيد أن الأحداث الكبرى التي تقع للجماعات اليهودية تكمن جذورها وأسبابها في مجتمع الأغلبية. ويمكن القول بأن نموذج التاريخ اليهودي المستقل يُوجِّه رؤية المؤرخ توجيهاً خاطئاً، إذ يذهب هذا النموذج، إلى أن الأحداث التاريخية الكبرى، التي قررت مصير الجماعات اليهودية -(كظهور الدولة الآشورية أو ظهور الإمبريالية الغربية)- تقع خارج نطاق هذا التاريخ اليهودي. وتصبح هذه الأحداث، رغم مركزيتها وقدرتها التفسيرية، أحداثاً هامشية ذات أهمية ثانوية.
إذا افترضنا جدلاً وجود تاريخ يهودي مستقل، فما أحداث هذا التاريخ؟ أن نموذج التاريخ اليهودي المستقل، يفترض وجود جوهر يهودي كامن، يشكل ما يشبه النمط الفكري الجاهز، لكل الأشكال التاريخية التي عاش في إطارها أعضاء الجماعات. حيث يتجاوز هذا الجوهر كل التحولات، ويصبغها بصبغته، ويتحدى جميع القوانين التاريخية المعروفة، ويتخذ اسم (الماضي اليهودي) أو (الاستمرار اليهودي) أو (روح اليهودية) أو (الشعب اليهودي الأزلي) أو (المستقبل اليهودي)، وهذه جميعاً مطلقات علمانية تحل محل الإله، الذي يوجه التاريخ اليهودي، حسب الرؤىة الدينية الحلولية. ومن هنا، فإننا نذهب إلى القول، بأن مفهوم التاريخ اليهودي -(في إطاره العلماني العلمي)- تعبير عن [حلول بدون إله]، حيث يصبح مسار هذا التاريخ، هو التحقق التدريجي لهذا الجوهر الكامن، وللـروح اليهـودية الدينيـة القوميـة. ويتم تفسير كل شيء على هذا الأساس، وتصبح مهمة المؤرخ، هي البحث عن الجوهر اليهودي والروح اليهودية، وكل ما يعبِّر عنهما، متجاهلاً كل التفاصيل الأخرى. كل هذا يجعل التاريخ اليهودي، أمراً لا علاقة له بالواقع الإنساني الدنيوي: تاريخ يشبه البناء المصمت المنغلق على نفسه، ويعبِّر عن نمط أو أنماط محددة متكررة، لا تتعدى حدود تَجلّي الجوهر اليهودي المطلق. وهذا النمط يأخذ الشكل التالي: منفى ثم عودة؛ المنفى: هو الحدث الذي يقع لليهود، والعودة هي الفعل الذي يأتون به. وهذا التاريخ يبدأ عادةً بالعبودية في مصر، ثم يتم التغلغل في كنعان، والاستيلاء عليها، وتأسيس المملكة العبرانية. ثم يتكرر النمط بالتهجير الآشوري والبابلي، تليه العودة من بابل، حسب مرسوم كورش (الذي يؤسس الهيكل)، ثم تأسيس الدولة الحشمونية. ثم يتكرر النمط مرة ثالثة، بهدم الهيكل على يد تيتو، وشتات اليهود وعجزهم، بسبب عدم المشاركة في السلطة وغياب السيادة. وتصل حالة المنفى إلى قمتها، في الإبادة النازية (الحدث الأكبر)، ثم تبدأ العودة من خلال تأسيس الحركة الصهيونية، وتأسيس الدولة الصهيونية (الفعل الأكبر). ويلي ذلك تجميع المنفيين من كل البلاد، وهذا النمط يفترض دائماً نهاية (مشيحانية) للتاريخ، تتوقف عندها الدورات، ويختفي الجدل، ويظهر الفردوس الأرضي.
ومثل هذا التصور للتاريخ، بأنماطه الهندسية المتكررة الرتيبة ونهايته القاطعة، لا يتنافى فقط مع الروح العلمية، وإنما يتنافى مع الروح الإنسانية كذلك. فهو يُسقط عن اليهودي صفة الإنسانية بإنكار تفاعله مع البيئة التي حوله، يتأثر بها ويؤثر فيها، شأنه في هذا شأن كل أعضاء الجماعات الآنية والدينية الأخرى. فالقوات الآشورية والبابلية لم تكتسح الدولتين العبرانيتين وحسب، بل اكتسحت معظم الطويلات الآرامية وغيرها. كما أن أزمة النظام القيصري لم تتسبب في مذابح لليهود وحسب، بل كانت لها آثار سلبية عميقة في قطاعات كثيرة من البورجوازية الروسية وفي جماهير الشعوب الإسلامية وغيرها. فنموذج التاريخ اليهودي يُسقط إنسانية اليهودي، ويخلع عليه هالة أسطورية لا تاريخية إذ تضعه خارج التاريخ الإنساني الفعلي.
أن نموذج التاريخ اليهودي، هو النموذج الأساسي الكامن، في موقف الحضارة الغربية، تجاه [اليهود]: أي الجماعات اليهودية. فالنزعة الصهيونية في الحضارة الغربية، والتي تمنح اليهود مركزية وقداسة، نابعة من افتراض وجود تاريخ يهودي مستقل، يختلط في الأذهان بالتاريخ المقدَّس. كما أن معاداة اليهود، هي الأخرى، تعبير عن أن اليهودي شخص له سماته الفريدة والمحددة وطبيعته الخاصة النابعة من انتمائه لتاريخ يهودي مستقل. ونقطة الانطلاق بالنسبة إلى كلٍّ من الصهيونية والنازية (في موقفهما من اليهود) هي افتراض وجود شعب يهودي، له شخصية مستقلة وتاريخ مستقل. وفي تصوُّر كلٍّ من بغفور وهتلر، فإن المسألة اليهودية، ناجمة عن وجود هذا الكيان اليهودي العضوي المستقل، داخل الحضارة الغربية، يدمرها وتدمره. ولذا، لابد من التخلص منه، إما عن طريق إرساله إلى فلسطين أو عن طريق إلقائه في أفران الغاز، فاليهودي يجب أن يخرج من الحضارة الغربية.
التاريخ المقدَّس أو: (التوراتي- الإنجيلي( Sacred´-or-Biblical History [التاريخ المقدَّس أو: (التوراتي- الإنجيلي)]: هو القصص التاريخي الذي يرد في العهد القديم. وتاريخ العـبرانيين، كمـا ورد في العهد القديم، يختلف عن التاريخ الفعلي ويتناقض معه أحياناً. ويصلح هذا التاريخ أحياناً مصدراً للمعلومات والفرضيات، ولكنه أحياناً أخرى لا يمكن دراسته، إلا باعتباره جزءاً من الرؤية الدينية اليهودية وحسب. وهذا التاريخ المقدَّس، هو جزء من العقيدة اليهودية، كما أنه تعبير عن الطبقة [الحلولية الواحدية]، داخل التركيب الجينولوجي اليهودي. وفي تصوُّرنا، فإن هذا التاريخ، يختلف تماماً عن ممارسات أعضاء الجماعة اليهودية بتجاربهم التاريخية. فالنسق الديني اليهودي، بما يجسده من قيم مطلقة ومثاليات، يختلف عن الممارسات الدينية والدنيوية للعبرانيين واليهود. وفي هذا، لا يختلف أعضاء الجماعات اليهودية عن الجماعات والشعوب الإنسانية الأخرى. فتاريخ الهند والأقوام الهندية ليس تاريخ [الهندوسية/ Hindoism]، وتاريخ الصين ليس تاريخ [الكونفوشيوسية/ Confucianism]، وتاريخ أوربا في العصور الوسطى لا يمكن تفسيره بأكمله، وبكل تركيبيته بالعودة إلى النسق الديني المسيحي السائد في ذلك الوقت[Catholicism]، رغم فعالية هذا النسق في صياغة وعي الناس ووجدانهم، وتوجيه بعض جوانب سلوكهم. إن تاريخ المسيحية، ديناً وفلسفة وفكراً، لا يتطابق وتاريخ المسـيحيين، بحـيث يكونان شـيئاً واحداً (وذلك برغم ارتباط أحدهما بالآخر). وربما يتجلى اختلاف تاريخ المسيحية عن تاريخ المسيحيين، في حملات الفرنجة؛ حيث قام الغرب الأوربي بالهجوم على الشرق باسم المسيحية، فنهب (القسطنطينية) عاصمة المسيحية الأرثوذكسية، ثم قام بالهجوم على (فلسطين) دون أن يُفرِّق (في معظم الأحيان) بين مسلم ومسيحي ويهودي. الاسخاتولوجيا: التاريخ خط مستقيم مرسوم سلفا.. Escatalogy: Prejudiced Destiny ويرى بعض فلاسفة التاريخ في الغرب، أن اليهود أول من اكتشف فكرة التطور والتقدم، التي هي عماد الوعي التاريخي الغربي الحديث. وذلك على عكس الإغريق القدامى، وغيرهم من الشعوب القديمة، الذين كانوا يرون أن للتاريخ شكلاً فلسفياً هندسياً [philosophical geometric form]. كما رأى هؤلاء الفلاسفة أيضاً، أن [حلول الإله في التاريخ]/ [incarnation]، قد حوَّله إلى خطّ مستقيم، يتحرك نحو هدف أعلى وغاية نهائية، بدلاً من أن يكون مجرد شكل هندسي دائري، يتحرك حول نفسه دون غاية. ومما لا شك فيه أن العبرانيين القدامى (حسبما ورد في الكتب المقدَّسة عند اليهود) كان لديهم إحساس قوي بما تصوروا أنه مغزى التاريخ الديني ومعناه [المقدَّس]. ولكن هذا الإحساس نفسه هو أحد أسباب ضعف حسهم التاريخي وضموره بل اختفائه. فالاهتمام اليهودي القديم بالتاريخ، هو اهتمام في صميمه معاد للتاريخ، لأنه يَصدُر عن رؤية دينية [حلولية واحدية]، تتجاهل أن الظواهر التاريخية، لها منطقها الخاص والمستقل، عن رغبات الإنسان وأحلامه. وأنها ليست تجلياً لإرادة (إله) يحابي شعباً. وهي رؤية تذهب إلى أن التاريخ بأجمعه، إن هو إلا كشف الغطاء عن الغرض الإلهي، الذي لا يدور حول البشرية كافة، وإنما يدور حول الشعب المختار بالدرجة الأولى (باعتباره موضع الحلول الإلهي). وهذه الرؤية تُسطّح التاريخ، وتفرغه من تركيبيته وإنسانيته وعالميته، وهي السمات الأساسية التي تعطي التاريخ معناه الإنساني المتعارف عليه بين الناس. ويظهر هذا التسطيح الذي يختزل كل الوقائع ويردُّها جميعاً إلى مستوى واحد، في تَصوُّر الرؤية اليهودية (الحلولية الواحدية) -(والصهيونية فيما بعد)-، للظواهر التاريخية باعتبارها ظواهر مقدَّسة، تقررت حركتها حسب خطة إلهية مسبقة، وُضعت قبل بدء التاريخ. بل إن التدخل المستمر والعلني للإله، هو تأكيد للقول بأن التاريخ يتم دفعه وتحريكه من الخارج. وأن الإرادة البشرية لا مجال لها فيه. وأن التاريخ اليهودي: (المقدَّس والإنساني)، بدأ من مطلق لا يقبل النقاش أو التقييم، (العهد مع إبراهيم/ تك 15)، يقطعه المطلق من آونة إلى أخرى [العهد مع إسحق/(تك 26) ثم مع يعقوب/تك 28: 12- 14)]. وينتهي بمطلق أخير، هو: [ظهور الماشيَّح المنتظر/(مت 24: 30- 31)] أو [وصول العصر المشيحاني/(رؤ 20: 4- 5)]، الذي يشكل نهاية التاريخ. و[التدخل المستمر للإله في التاريخ، حسب التصور اليهودي (الحلولي)، هو ما يكسبه معنى ويضفي على فوضاه اللامتناهية شكلاً]. وترد الوقائع التاريخية في أسفار موسي الخمسة، بمقدار ما تكشف الغرض الإلهي، الذي يهدف إلى إعلاء جماعة يسرائيل. وإذا كانت أسفار الأنبياء المختلفة، تتحدث عن الإرادة وعن المستقبل القريب، حين يتوب أعضاء جماعة يسرائيل، ويعودون إلى الإله، فإن هذا الحديث قد اختفى تماماً في سفر الرؤيا/ (أبوكاليبس) التي تتحدث عن المستقبل البعيد وعن الخلاص العجائبي.
وقد بلورت كل هذه الأفكار [الحلولية الواحدية]، النظرة التي تجعل الشعب اليهودي: الغاية النهائية!، وربما الوحيدة للتاريخ في عقيدة الماشيَّح/(رؤ 21: 3). فمسار التاريخ ذو هدف واحد واضح محدد: يأتي الماشيَّح في آخر الأيام ويعود باليهود إلى أرض الميعاد ليؤسس حكومته العالمية في صهيون/(رؤ 21: 2). وفكرة الماشيَّح قد تنطوي على فكرة التقدم نحو هدف أعلى، أي أنها تختلف عن الرؤية الهندسية الإغريقية، ولكنها مع هذا أسطورة -لا تاريخية- إلى أقصى حد، لأنها تفترض ثبات النقطة التي يتحرك نحوها التاريخ، كما تفترض الحتمية المطلقة لهذه الحركة، وعدم جدوى الفعل الإنساني، لأن نقطة النهاية الفردوسية ستأتي عن طريق التدخل المباشر والفجائي للإله في التاريخ. وهذا التَدخُل يُلغي التاريخ تماماً، باعتباره المجال الذي تركه الإله للإنسان، ليتفاعل معه فيه وليختبره، ينتصر أو ينكسر، يهتدي أو يضلّ. ويبدو أن هذه [الرؤىة الدينية القومية الحلولية للتاريخ]، هي التي شجعت النزعات المشيحانية التي اتسمت بها تواريخ أعضاء الجماعات اليهودية منذ القرن الأول الميلادي، والتي تصاعدت حدتها ابتداءً من القرن السابع عشر في الغرب. وقد أدَّى انتشار الجماعات اليهودية وتَحوُّلهم الى جماعات وظيفية منعزلة عن المجتمع إلى زيادة حدة النزعة المعادية للتاريخ بينهم.
خلاصة.. القراءة (المسيرية) للفكر العبراني من خلال كتابهم المقدس، تقدم اضاءات، على درجة من الاهمية، غير مسبوقة في بعض جوانبها، ويمكن تلخيصها المبتسر في بضعة .. 1- تمييز الجماعة العبرانية/(ابناء الله) انفسهم عن بقية البشرية/(ابناء الناس). 2- تاريخ العبرانيين هو كتابهم المقدس المكتوب باصبع الههم، وهذا يجعل (تاريخهم) = (ديانتهم)، مما يترتب عليه فرضيات غير معقولة. 3- (حلولية) الاله في الجماعة العبرانية، ويترتب عليه ان افرادهم (=الهة) تمشي على الارض/[مز 82: 6، يو 10: 34]. 4- ان الكائنات والطبيعة والبشرية كلها مخلوقة لاجلهم، فالارض ملك لهم بصك رباني، وكل البشرية كلها خدم وعبيد لهم. 5- نهاية التاريخ/ العالم/ البشرية/ الارض محددة سلفا وتتمثل باجتماعهم بالاله وهو يقيم في وسطهم، وهي الفكرة المحورية المتكررة في التوراة والمزامير واخر سفر الرؤيا.
العقيدة العبرانية تنتسب تاريخيا للعصر الوسيط، وقد سبقتها سلسلة عالمية من الميثولوجيات والعقائد والديانات التي انعكست افكارها وتصوراتها في كتاب العبرانيين، وفكرة الحلولية نفسها مركزية في الهندوسية، وتسللت في المجوسية ومنها للعقائد الغنوصية في شرق المتوسط. ولكن العقيدة العبرانية بالغت في تضخيم/ تصوير الامر من خلال تعميمها على الجماعة العبرانية بالكامل: [امة مقدسة، شعب مقدس، قديسين، امة كهنة/ مملكة كهنة]، وتخذتها قاعدة ايديولوجية لتسويق/ تمرير فكرها السياسي وتمييز نفسها ومكانتها السيادية على الشعوب والممالك. وليس ذاك الا من قبيل عقدة الضآلة ومشاعر الدونية، فلم يكن لليهود عبر المن أي دور مائز أو مؤثر، ولم يفلحوا ان يكونوا [شعبا] او تكون لهم [دولة/ مملكة]، بينما تكورت بقية الشعوب من مراحل بدائية جدا الى مستوى الحضارة والمدنية، وانشأوا ممالك وامبراطوريات، حكمت مساحات واسعة من العالم مثل الاشوريين والكلدانيين والفراعنة الذين هم موضع نقمة العبرانيين وحسدهم وعجزهم. ورغم انحيازهم وخضوعهم المذل للفرس قديما والانجليز والاميركان في القرون الاخيرة، فلم يحصلوا منهم على مبتغاهم، وما زالت [دولة اسرائيل] سجن مغلق على اهله، وسط حديقة نار، علما انها لا تضم غير بضعة ملايين من يهود اوربا الشرقية فحسب، والنسبة الاكبر من العبرانيين يعيشون خارجها. وبسبب من تفاصيل عقيدته الحلولية الباطنية المضطربة، يعيش العبراني حالة مضطربة وانفصام يلاحقه القلق والخوف ممن حواليه، وغالبا يتستر على هويته الدينية. ورغم ان ملايين منهم تحولو للبروتستانتية والعلمانية في القرون الاخيرة، فالتربية العائلية المتزمتة والعقلية الدينية المتأصلة، تعيقهم عن ان يكونوا احرارا بارادتهم.
وقد وجدت فيهم الراسمالية الغربية اداة مناسبة، لتوظيفها لصالحها من جهة، وتمرير مشاريع هيمنتها الدولية مع بوادر حركة الاستعمار والقرصنة الانكلوكانية عبر البحار. وفي السلطات الاسعمارية التي عملت في المنطقة العربية منذ القرن الثامن عشر، شكلت العناصر اليهودية محاور رئيسة في طواقم الادارة والتخطيط، امثال بيرسي كوكس الذي خدم في ايران والخليج والعراق ومهندسي مشروع الغزو الاميركي للعراق، ومدرائه في الادارة الاميركية. والواقع ان الجماعة العبرانية بمختلف اطيافها تعيش رهينة القبضة الامبريالية، ولا تجد خلاصا لنفسها، سياسيا ولا اقتصاديا ولا انسانيا. ولذلك تجد ناشئة العبرانيين ومتعلميها من اوائل المتأثرين ومعتنقي الافكار الشيوعية اول ظهورها منذ اواخر القرن التاسع عشر، وسيلة للخلاص والانعتاق الانساني من عقيدتها ومن القبضة الغربية سواء. وبفضل الشيوعيين الاوائل المتطرفين وجهودهم تشكل ملامح [دولة اسرائيل] وباعتماد المزارع الاشتراكية الاولية تشكل الاقتصاد ومؤسساته الاجتماعية، وذلك قبل ان تبتلع الجماعات الدينية والمتطرفة [الكعكة] وتتنكر لمؤسسيها وعقيدتهم السياسية. فالميكافليية والبراغماتية الراسمالية الغربية كانت وما زالت وستبقى اقوى من أي شيء اخر، ليبقى الكاوبوي الابيض السيد الاكبر والاخير على الارض. كما نجحت في ترويض جماعات العبرانيين المقيمين لديها وتطبيع عقائدها الدينية في السياسات والكنائس الاوربية، واتخاذها مادة وذريعة للهيمنة الدولية كما في برامج التبشير التي تعمل في افريقيا وشرق اسيا؛.. فأن الراسمالية الغربية تعمل حثيثا ومنذ زمن لترويض [المسلمين] واستمالتهم اليها، بوسائل مختلفة، ومتناقضة احيانا، لكنها تصب في نفس الهدف. وللمسلمين جاليات ومؤسسات واجيال متعاقبة في الغرب اليوم، لن يمكن لاحدهم الخروج من فردوسه واستثمار امواله وامكانياته وخبراته خارج المحيط الغربي. والاهم في ذلك هو المضامير الغربية للمعيشة والسلوك والتفكير التي تتأصل اكثر في الاجيال التالية. وكما عمل الغرب على ترويض الجماعات العبرانية وتنظيم افكارها وممارساتها الدينية حسب نظامه الداخلي، فذلك هو ما يحصل مع الجاليات الاسلامية والهندوسية والصينية ومعتقداتها وممارساتها الدينية. وليعرف الفاحص ان جملة افكار الاسلام السياسي والعنف السلفي الاهلي، ليس وليد ذاته ولا البيئة العربية الاسلامية، ولا يخدم بالنتيجة غير المشاريع الامبريالية الغربية ، ويشدد من اسر [الاسلام] في قبضة النظام الداخلي الغربي. ومع قرب نفاذ اغراض تسخير [اليهودية الوظيفية] في الماكنة الراسمالية ومشروع الهيمنة الغربية، وما يقال ويلحظ، من صعود الاسلام – الشعبي والسياسي- في الغرب؛ علينا اذن، الانتباه لـ[الاسلام الوظيفي] و[السلفية الوظيفية] التي يجري ترتيبها وترتيب الاجواء لها، للتعكر عليها في تمديد عمر الهيمنة الغربية، وبسط سلطانها لقرن جديد او او اكثر بفضل صعود الاسلام. واذا كان صعود الاسلام والامبراطورية الاسلامية، خدم صعود ارستقراطية تجارية مسلمة اعتاشت على الفساد الاداري والاجتماعي، فأنها خدمت بدرجة اكبر مسلمي الشرق الجدد من غير العرب، وتحولهم الى قادة للدولة والثقافة والدين باسم الاسلام. فان صعود الاسلام الجديد، والمدعوم من الغرب الامبريالي، لن يخدم العرب والمسلمين، الذين تتردى حياتهم على الخط السريع، بقدر ما تخدم مسلمي الغرب الجدد وتفرض هيمنتهم على البلدان الاسلامية في السياسة والدين والثقافة والاقتصاد ايضا. واذا كان المسلمون الفقراء هم يهود المستقبل المتشردين بين البلدان، فأن اغنياء المسلمين وحكامهم وشيوخهم هم عناصر الطاقم الغربي والامبريالية العالمية للقرن التالي. فلا غرو ان الذين يتحدثون عن مستقبل الاسلام العالمي، هم من المنخرطين في خدمة الامبريالية الامريكية وريثة الامبراطورية الانجلكانية. ولعل زيارة دونالد جون ترامب الاولى للشرق الاوسط، مع بداية شهر رمضان، كشفت بعض النقاط على الخريطة. ليست موجة التفجيرات الاخيرة والمتكررة [انجلترا- عراق- افغانستان] بعيدة عنها!.. ـــــــــــــــــــــــــــــــــ * بتصرف: عن الدكتور عبد الوهاب المسيري[1938- 2008م]: (الموسوعة اليهودية)- المجلد الرابع.
#وديع_العبيدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
دامداماران [21] يهودية عربية..
-
دامداماران [20] يهودية عازرية ..
-
دامداماران [19] يسرييل.. يزرعيل: حقل الدم..
-
دامداماران [18] يوسفية موسوية..
-
دامداماران [17] كنعانية يسرايلية..
-
دامداماران [16] عبرانية براهمية
-
دامداران [15] مجوسية زرادشتية..
-
دامداماران [14] الصابئة المندائية
-
دامداماران [13] الحنيفية
-
دامداماران [12] في علم اجتماع الدين- 2
-
دامداماران [11] اوثان واصنام..
-
دامداماران [10] طمطمية عربية..
-
دامداماران [9] ملائكة وشياطين
-
دامداماران [8] عبادة النجوم
-
دامداماران [7]
-
دامداماران [6]
-
دامداماران [5]
-
دامداماران [4] امة.. امتان.. أم أمم..
-
دامداماران [3]
-
دامداماران [2]
المزيد.....
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
-
إيهود باراك يفصح عما سيحدث لنتنياهو فور توقف الحرب على غزة
-
“ألف مبروك للحجاج”.. نتائج أسماء الفائزين بقرعة الحج 2025 في
...
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|