بشاراه أحمد
الحوار المتمدن-العدد: 5545 - 2017 / 6 / 8 - 03:57
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
صَادِقُ البُرْهَانِ عَلَىْ زَيْفِ فِرْيَةِ بَشَرِيَّةِ القُرْآنِ:
الإشكالية الثالثة لدى الكاتب الذي قال: ((... الرهبانية بدعة ولكن الرهبان أصحاب البدع مَمدُوحون ؟ ...):
في هذه المرة جاءنا الكاتب بنوعية فريدة للوصول لغايته التي يحاول فيها تصديق ظنه ببشرية القرآن الكريم لغاية في نفسه, ولكنه دون قصد قد ساهم في إثبات إعجاز القرآن بمستوى الكلمة, بل وبمستوى الحرف والشكل. لقد حاول أن يطمس بريق القرآن فإنبثق وهجاً وألقاً ينير الدنيا ببريق الحق والحقيقة المشعة من نور البيان والإبيان القرآني المعجز... فكيف كان ذلك؟؟؟
هذه المرة قرر أن يدلي بشهادته على إحكام آيات القرآن وإعجازه وعلو هامته في البيان والإبيان. ليس هذا إدعاءاً كما قد يظن البعض,, ولكن فلنؤجل الحكم حتى نرى معاً حقيقة وصدق هذا القول بالتحليل, حيث سنرى انه قد جاء بالحق الذي أراد به باطلاً,, كما سيأتي فيما يلي:
قال الكاتب هذه المرة - في نقده وإستهجانه بآيات الله البينات, إن القرآن يهاجم الرهبانية بوصفه لها انها بدعة من جهة ثم نسى هجومه هذا وعاد ليصف هؤلاء الرهبان أصحاب البدع "مادحاً إياهم", فقال في ذلك: ((... الرهبانية بدعة ولكن الرهبان أصحاب البدع مَمدُوحون.! ...)). وهو يقصد بهذا العنوان الترويج لفكرته التي يقول فيها إن القرآن "متناقض" لأنه بشري حسب إدعائه.
ولكن لحسن الحظ انه قد إستشهد بالقرآن نفسه,, ليس ذلك فحسب, بل وقد أتى بالآية/ الآيات التي إستشهد بها في تصديق ظنه أو إدعائه, - فسهل علينا بذلك مهمة نسخ ما قاله بدون أي مجهود يذكر, إذ يكفي فقط نتدبر الآيات التي جاء بها فيما يلي ليرى القراء الكرام مدى بُعده ومجافاته للحق والحقيقة بغض النظر عن الغاية والهوى والشنآن الحاكمان لهذا التوجه.
قال الكاتب في بداية موضوعه إن: ((... فى القرآن رفض تام للرهبانية وإعتبارها بدعة وضلاله ...)), هل هذا ما جاء بالقرآن الكريم حقيقة أم أنه جاء بغيره وعكسه تماماً؟.
فهل هذا القول صحيح أو حتى يقترب من الصحة؟
ولكن, كيف سيكون الحال مع هذا الكاتب إذا جاءت الرياح بما لا تشتهي سفنه؟؟؟ ..... إذاً حتى لا نضيع وقتنا ووقته سداً علينا أن ننظر إلى الآيات حيث أشار لنقف على الحقيقة ونملكها للقراء.
والكاتب - مستشهداً على صدق ظنه - قال بأن « فى القرآن رفض تام للرهبانية وإعتبارها بدعة وضلاله », وإليك ما جاء بعبارته التي قال فيها: ((... ففى سورة الحديد 27 ( ثُمَّ قَفَيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَينَاهُ الأِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا ما كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) ...)).
رغم روعة البيان والإبيان لهذه الآية الكريمة, إلَّا أنه قد حاول إخراجها من مضمونها. فهو لعله يريد إيهام القراء بأن هذه الآية تشهد بأن الله جاء - فى القرآن برفض تام للرهبانية وإعتبارها بدعة وضلاله,, ولكن لسوء حظه قد شهدت الآية بعكس ما قاله تماماً,,, كما يلي:
أولاً: بلَّغ الله تعالى نبيه عن رسله السابقين منهم نوح وإبراهيم, بأنه قد أتى برسل وكتب بعدهم,:
- قال: (ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا...), يعني كل الرسل الذي جاءوا بعد إبراهيم الخليل وقبل عيسى بن مريم,
- وقال: (... وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ ...), فإتبعه الذين قالوا إنَّا نصارى, فبعضهم صدق في إيمانه وإتباعه وأخلص لربه وكثير منهم لم يكن من الصادقين,
- ثم إمتدح الله هؤلاء الأتباع المخلصين وبين بأنه قد أكرمهم وخصهم بالقلوب الرحيمة الرؤوفة, قال: (... وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً ...), وهذا يعني أنه تعالى قد إمتدح فيهم التمتع بمزيد من الإنسانية وصفاء النفس والرأفة والرحمة بالآخرين,,,
ليس ذلك فحسب, بل انهم قد إبتدعوا رهبانيةً من عند أنفسهم, وهي (مبالغة في التقشف وزيادة في العبادة والزهد والتقرب إلى الله تعالى رغم أنه لم يكتبها عليهم أو يطلبها منهم, فقال في وصف ذلك: (... وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ ...), لأنهم ألزموا أنفسهم بها زيادة في التقرب إلى الله تعالى, أكد ذلك بقوله عنهم إنهم لم يبتدعوها: (... إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ ...), وهذا عمل طيب إمتدحه الله تعالى فيهم.
- ولكنهم للأسف, لم يستمروا في إلتزامها كما ينبغي, بل فرطوا فيها ونكصوا عهدهم,, قال في بيان ذلك: (... فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ...)., وهذا هو السلوك الذي ذمه في من أتاه من الغالبية العظمى منهم.
فالنتيجة الحتمية والطبيعية العادلة أن الله تعالى آتى الذين رعوها حق رعايتها منهم أجرهم عليها, قال: (... فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ ...), وقد كانوا قلة. أما الذين لم يرعوها حق رعايتها, وهم الغالبية العظمى منهم إعتبرهم الله فاسقين,, وقال عنهم: (... وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ).
السؤال الآن هو: كيف خلص الكاتب إلى الإعتقاد بأن الله قد جاء فى القرآن برفض تام للرهبانية وإعتبارها بدعة وضلاله؟؟؟ ..... فإذا كان ذلك كذلك, فعلامَ كان المدح في هذه الآية الكريمة المعجزة, وعلامَ كان الأجر, وعلى أي شيء كان إستحقاق الفسوق على أهله؟؟؟
الله تعالى في القرآن الكريم بين أن الرهبانية النصرانية كانت زيادة ومبالغة في العبادة والورع من بعض أتباع عبده ونبيه ورسوله عيسى بن مريم عليه السلام الذين قالوا إنا نصارى, والذين ألزموا بها أنفسهم لا لشئ إلَّا إبتغاء رضوان الله عليهم, رغم أن الله تعالى لم يكتبها أو يفرضها عليهم أو يطلبها منهم, ولكنه لم يعتب على الذين رعوها حق رعايتها وصدقوا فيها. بل وقد مدح الله أولئك الذين يسعون في الإستزادة من مرضاته مثال ذلك المسلم الذي نوى أن يصوم الإثنين والخميس من كل اسبوع أو غير ذلك, أو نوى أن يصلى عدد من الركعات "نافلة" وتقرباً إلى الله بالخشوع, وما دام انه قد نواها فلزاماً عليه أن يؤديها كاملة فيؤجر على ذلك, وإن لم يؤديها كما نواها كان فسوفاً منه.
ثانياً: هناك إشكالية أخرى لدى هذا الكاتب ظن فيها ان القرآن متناقض,,, قال فيها: ((... كما يشن القرآن هجوماً شرساً على الرهبان فيصفهم بأن الكثير منهم يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدونهم عن سبيل الله, - فإستشهد بقول الله تعالى في سورة التوبة ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ وَالذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيم ) التوبة9: 34 ...)).
ولكننا عندما سنفند ظنه هذا, ونتدبر الآيات التي إستشهد بها وجاء بعكس مرادها عندها سيتضح له وللقراء ان هذه الفقرة قد جاءت بما لا تشتهي سفنه فقلب الهرم على رأسه,, وذلك للآت.
- الله تعالى رب الخلق كله, ولا يضيع عمل عامل أبداً, لذا فهو "العدل" مطلقاً, فمن عمل خيراً ذكره له خيراً وجازاه عليه وإن عمل شراً ذكره عليه وأعلمه به.
- فالقرآن دقيق في وصفه وتوصيفه لكل كبيرة وصغيرة, فلا تختلط عنده الأشياء ولا الأمور ولا الخواطر... فهو ينظر للإنسان على أنه "ولد آدم", وقد خلقه على الفطرة, ولكن هذا الإنسان بسلوكه إصطف تحت ثلاث طوائف (مؤمنين, وكافرين, ومنافقين). فعندما نوحد بين أهل الكفر (الكافرين + المنافقين) ونجعلهم في مجموعة واحد « لأن هذا هو واقعهم الحقيقي » يصير عندنا (مؤمنين + وكافرين).
فعندما يرسل الله أحد الرسل "موسى مثلاً" تصبح المعادلة (مؤمنين يهود + كافرين يهود, ومنافقين). وعند إرساله لعيسى بن مريم تصبح المعادلة (مؤمنين نصارى + كافرين يهود, ومنافقين نصارى).
وعند إرساله لنبيه ورسوله محمد الخاتم, تصبح المعادلة (مؤمنين مسلمين + كافرين أهل كتاب ومشركين, ومنافقين مسلمين).
- فالله تعالى قد إمتدح كل المؤمنين من ولد آدم بغض النظر عن دينه وملته ومنهاجه سواءاً بسواء ولكنه فضح الكافرين والمنافقين بغض النظر عن مللهم وتوجهاتهم الضالة.
وبالتالي عندما يتحدث عن الرهبان فإنه يصنفهم بنفس المعايير كما رأيتم في الآية السابقة من سورة الحديد انه إمتدح الرهبان الذين رعوا الرهبانية حق رعايتها وأعطاهم أجرهم على إخلاصهم وبارك لهم عملهم, والذين نافقوا فيها حَسِبَهُم فاسقين.
هذا مدخل مهم قبل أن نفند ما قاله الكاتب في الفقرة التالية ونتدبر ما جاء بالآية التي إستشهد بها فيها كما يلي:
يقول الكاتب: ((... كما يشن القرآن هجوماً شرساً على الرهبان فيصفهم بأن الكثير منهم يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدونهم عن سبيل الله ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ وَالذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيم ) التوبة9: 34 ...)),
أولاً: ليس صحيحاً ما قاله الكاتب في مطلع هذه الفقرة لأن الله لم يقل عن الرهبان بالتعميم بدليل قوله « إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ », وعليه فإن عبارة: ((... كما يشن القرآن هجوماً شرساً على الرهبان فيصفهم بأن الكثير منهم يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدونهم عن سبيل الله ...)) هذه ليست صحيحة بكل المقاييس, ولا يجوز فيها تجاهل "التبعيض" هنا, وبهذا يكون قد أكد التناقض في عرضه هو نفسه وليس في القرآن.
وعندما نتدبر هذه الآية الكريمة نجدها تتحدث عن ثلاث شرائح من البشر تفصيلهم كما يلي:
1. تحدثت الآية عن "كثير من الأحبار والرهبان" - « وليس كلهم » كما إدعى الكاتب - هم فقط الذين يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله, لقوله تعالى في سورة التوبة: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا « إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ » - لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ ...),
2. كما أن هناك فئة ثانية فاسدة - مثل هؤلاء الرهبان - ولكنها ليست منهم, لأن أولئك هم البخلاء من الناس الذين يكنزون الذهب والقضة ولا ينفقونها على الفقراء والمساكين والمحتاجين, قال الله عنهم: (... وَالذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ...),
فإن هؤلاء, بالإضافة إلى أولئك الرهبان - الذين يأكلون أموال الناس بالباطل - قد إستحقوا على ذلك الفساد والإفساد غضب الله تعالى عليهم وعذابه لهم, فقال عنهم لنبيه الكريم (... فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيم 34).
3. ولكن هناك فئة قليلة من الأحبار والرهبان - مستثناة,, وهم أولئك الأحبار والرهبان الذين لا يأكلون أموال الناس بالباطل ولا يصدون عن سبيل الله,, فهؤلاء هم من المؤمنين ولهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
وعليه نقول لهذا الكاتب: فالذين قلت عنهم بأن الله تعالى قد شن هجوماً شرساً عليهم, هم سبب مشاكل الناس في كل زمان ومكان لأنهم فاسدون ومفسدون ومعتدون ظالمون, ولن تجد شخصاً سوياً ليس لديه حيالهم نفس الشعور إلَّا إذا كان هو واحدا منهم.
ثانياً: عدم إستيعاب الكاتب لمعطيات الآية السابقة وما قبلها وبعدها لا بد من أن يفرز مفهوماً خاطئاً عن الآية التالية التي إستشهد بها فإختلطت لديه الأوراق وتعقدت الخيوط. فلنفند فقرته التالية ولنتدبر الآية التي إستشهد بها وصولاً إلى الحقيقة المحضة وكفى.
قال الكاتب أيضاً: ((... ولكن نفس القرآن الذى رفض الرهبانية وإعتبرها بدعة لم يأمر بها الله , يحتفى بالرهبان ويشيد بهم ففى المائدة 82 ( لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِيسِينَ وَرُهبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ ) ...)).
ولكن, قبل أن نبدأ في تفنيد قوله هذا, ونتدبر الآية هذه, علينا أولاً أن نرجع إلى الآيات الثلاث التي قبلها, والتي قال تعالى فيهنَّ لنبيه الكريم: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ 77), من الأمم التي سبقتهم, وهم بلا شك الذين كفروا من بني إسرائيل, وقد أكد الله ذلك بقوله: (لُعِنَ - « الَّذِينَ كَفَرُوا » مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ - « عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ » - ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ 78).
ثم بين سبب لعنهم ونوع عصيانهم وإعتدائهم, قال:
1. (« كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ » - لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ 79), ليس ذلك فحسب, بل:
2. (تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ - « يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا » - لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ 80) وبين أن توليهم للذين كفروا كان بسبباً مباشراً لعدم إيمانهم بالله والنبي وما أنزل إليه, لذلك إتخذوهم أولياء مع أن كثير منهم فاسقون,
3. قال تعالى: (وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ - « مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ » - وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ 81), فما دام أنهم أولياء الكافرين, وأنهم كانوا لا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل اليه,,, فهذا مبرر كاف لشدة عداوتهم للمؤمنين مطلقاً. لذا
4. قال الله تعالى لنبيه الكريم: ( لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا - « الْيَهُودَ » « وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا » ...), فقد كان بعضهم أولياء بعض, وهذا ما يؤكده الواقع والموضوعية والمنطق أيضاً.
أما بالنسبة للنصارى فهم ليسوا ودودين للذين آمنوا « مطلقاً », ولكنهم نسبياً أقرب مودة من اليهود لهم, وهذا عين المنطق ما دام أن من بينهم مؤمنين صادقين في إيمانهم منهم « قسيسين ورهباناً » صادقين وهم لا يستكبرون. بل ويؤمنون بما أنزل إلى النبي الكريم الخاتم محمد ويعلمون أما ما جاء به هو الحق من ربكم,,
5. لذا قال الله لرسوله الكريم: (... وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا - « الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى » ...), ولكن ليس كل النصارى, بل بعضهم فقط, أكد ذلك في قوله: (... ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ « قِسِيسِينَ وَرُهبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ » - وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ « تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ » مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ...).
بل ويعلنون إيمانهم به, قال إنهم: (... يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ ) ...)).
إذاً قول الكاتب مستدركاً بأن - « نفس القرآن الذى رفض الرهبانية وإعتبرها بدعة لم يأمر بها الله , يحتفى بالرهبان ويشيد بهم » - هذا قول يدل على سوء الفهم لمدلول هذه الآية الواضحة البيان والإبيان, أو سوء النية في تحريف وتزوير الحق الواضح البين الذي لا يحتاج إلى كثير تدبر.
ثالثاً: أما مفهوم الكاتب عن الرهبانية في القرآن ومبتدعيها من النصارى بقوله: ((... فكيف يكونون مبتدعين على الله بإقامة الرهبانية التى لم يكلفهم بها ولا ترضيه ثم يمدحهم كل هذا المدح الجميل أنهم الأقرب الناس مودة إلى المسلمين بل هم لا يستكبرون بالرغم أن البدعة هى قمة التكبر على الله .!! ...)), لأدل دليل على أنه لم يفهم شيئاً من الآيتين, ولم يستطع الغوص في إحكامهما ولا التدبر لتفصيلهما الذي فصله الله تفصيلاً,, هو ألآتي:
1. مفهومه الخاطئ للبدعة المنبوذة وهي تلك التي تزيد في ما فرضه الله تعالى من عبادة على الناس, ونسبة هذه الزيادة لله تعالى بأنه كتبها عليهم, وفي هذا كذب على الله وتأله عليه, أما الإجتهاد في الإكثار من التطوع بقصد التقرب من الله فهذا قد قبله الله من الرهبان الصادقين وأثابهم عليه, وهذا شأن الصالحين دائماً بصفة عامة وشأن أولي العزم من الرسل بصفة خاصة.
ولا ننسى انه قد فعلها إبراهيم الخليل أكثر من مرة, فعندما رأى في المنام أنه يذبح ولده "تله للجبين على الفور دون تردد", وعندما أمره الله برفع القواعد من البيت, لبَّى على الفور فرفعها إلى أقصى ما يستطيعه إنسان, ولكنه لم يكتف بذلك فأتى بصخرة (مقام إبراهيم) وقام عليها ليرفع البيت زيادة بقدر إرتفاعها, فكانت الصخرة منسكاً في البيت الحرام تشهد له بالجودة الشاملة الحقيقية رغم أنه قد إبتدعها ولم يأمره الله بها.
كذلك حفيده الخليل الخاتم محمد بن عبد الله, قد فعلها أكثر من مرة, حرصاً على نجاة كل ولد أدم من النار, فأرهق نفسه كثيراً في ذلك حتى قال الله له شفقة به في سورة الشعراء: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ 2), (لَعَلَّكَ « بَاخِعٌ نَّفْسَكَ » أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ 3), لشدة حرصك عليهم, ولكننا: (إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ آيَةً « فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ » 4), وفي سورة الكهف, قال له عن مشركي النصارى: (وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا 4), (مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ « إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا » 5), ثم قال له لا تتأسف عليهم حتى لا تهلك نفسك: (فَلَعَلَّكَ « بَاخِعٌ نَّفْسَكَ » عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا 6), يكفي انك أخلصت لهم النصح وأقمت لهم البينات فلم تقصر في مهمتك. وكذلك سورة "عَبَسَ" لخير شاهد على ذلك.
2. سوء فهم من الكاتب لمقاصد قول الله تعالى عن الرهبانية ومبتدعيها من الذين إتبعوا المسيح ابن مريم, وعن مبالغتهم وإكثارهم من العبادة والزهد والإكثار من أعمال الخير والورع رغم أنه لم يكتبها الله عليهم, ولكنها كانت تطوعاً منهم إبتغاء مرضاته فقال عنهم ربهم: (... وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا ما كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ ...), فلا أدري كيف بلغ بهذا الكاتب الظن بأن التقرب من الله بالتطوع يغضبه, بل وذهب إلى أبعد من ذلك فوصفه قائلاً «... قمة التكبر على الله ...»!!!) وقد كان ما قاموا به تطوعاً من جنس ما أمرهم به عبادةً.
3. في الحقيقة إن الله قد إمتدح أولئك الذين رعوها حق رعايتها لقوله (... فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ ...), أما الكثيرون منهم الذين ما رعوها حق رعايتها هم فقط الذين ذمهم وغضب عليهم ووصفهم بالفسق, لقوله تعالى فيهم (« فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا » - فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ - « وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ »).
أما ربكة الكاتب, وإختلاط الأمر لديه حتى بلغ به القول: ((... أرى أن الآيات التى تمدحهم جاءت فى سياق رؤية تطلب دعمهم وإعتباره مكملاً للمشروع الإيراهيمى ولما خاب أمله فيهم قلب الطاولة بلا بلا بلا...)), فهذا - كما أصبح واضحاً جلياً للجميع - يعتبر لغو حديث لا أكثر وبكل المقاييس-, و من ثم, فلا قيمة له ولا معنى أو مدلول. بل يفترض عليه - أدبياً - أن يراجع نفسه فيه في ضوء كل هذا البيان والإبيان الذي أمامه الآن إن أراد ذلك,, وإلَّا فالحق أحق أن يتبع.
تحية طيبة للقراء والقارءات
بشاراه أحمد عرمان
#بشاراه_أحمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟