|
مغارة 5 حزيران
شوقية عروق منصور
الحوار المتمدن-العدد: 5542 - 2017 / 6 / 5 - 21:42
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
مغارة 5 حزيران شوقية عروق منصور دائماً أقول للذين حولي : ليتني أستطيع الإفلات من شبكة الذاكرة ، هناك المئات من الصور العالقة بين خيوط الشبكة ، تحاول التخلص لكن الخيوط تشدها ، وتبني حولها أعشاباً خضراء سرعان ما تتحول الصور الى اعشاش يابسة ، ترقد طيورها على بيض التفاصيل ، حتى تفرخ و أسمع أصوات الفراخ الهاربة ذات الزغب الملون . ثقب الذاكرة يتسع هذه الأيام ، تخرج منه الصور المترنحة ذات الرائحة الباردة كالتي تلف الجثث المرمية على أرصفة النسيان ، بحجم الريح التي تقتلع أشجار الخوف ، كان الخوف يحفر السراديب تحت تراب حارتنا ، كنت أراه يحدق في وجوه الرجال الذين فوجئوا بأن الحرب بين العرب واليهود على الأبواب ، وذلك في العام 67. غرفة الاستقبال في بيتنا مفتوحة على وجوه الرجال الذين أصابهم الاشتعال من قداحة الأخبار ، القداحة التي تنام في جوف الراديو المحاطة بجدران من الخشب اللامع ، وحين يشتعل الصوت مع التهديد ، و سباق التصريحات السياسية ، يتردد الصدى بصراخ صامت ، لقد ذاق الرجال طعم الحرب والهرب من قراهم المهجرة – أبي من قرية المجيدل - ، ذاقوا الخوف الكامن وراء نشرات الأخبار الغامضة ، التي تحمل الأغنيات الحماسية والآيات القرآنية والبيانات العسكرية . كانت امي تدخل وتخرج بهدوء تراقب تقاسيم وجه أبي وأخوالي ووجوه الجيران الذين ينتظرون العبارات الطالعة من إذاعة " صوت العرب " . "وقعت الحرب " صرخ جارنا ، بهذه الصرخة اختصر كل قوارب النجاة التي كانوا يحلمون بقدومها ، وبعد هدوء من نثر غبار الحيرة ، كان قرارهم تنظيف المغارة المليئة بالأوساخ في بيت جارتنا ام سليمان حتى يختبىء فيها الأطفال والنساء حتى لا تصيبهم نيران الحرب . أول مرة اكتشف أن عندنا في الحارة مغارة ، فهي لم تظهر ابداً حيث تقع وراء بيت جارتنا أم سليمان ، خيالي أخذ يمتد الى واقع طفولتي "مغارة علي بابا افتح يا سمسم " ، لكن المغارة التي ظهرت من وراء بيت أم سليمان كانت واسعة ، شاسعة، الداخل اليها عليه أن يحني قامته لأن سقفها واطي ، لذلك كان اختيارنا نحن الأطفال الدخول اليها وتنظيفها من الداخل . بجد واجتهاد وسرعة خارقة ، أخذنا نرمي محتويات المغارة ، براميل زيت صدئة قديمة ، فارغة ، بقايا ملابس مهلهلة ، ممزقة ، لفت نظري أكواماً من الكتب ، لكن جارنا أصر أن أرمي الكتب خارجاً ، قائلاً ( بدنا أكبر قدر من المكان حتى يتخبوا أولاد الحارة ) ، تبين بعد ذلك أن الكتب هي جزء من مكتبة الشاعر مطلق عبد الخالق ، حيث قامت عائلته بوضعها في المغارة حفاظاً عليها قبل رحيلهم عام 1948 . عدة ساعات ونحن الأطفال ننظف المغارة ، والنساء في الخارج يجمعن الأوساخ ورميها بعيداً بما فيها الكتب ، لا مجال الآن لمعرفة قيمة الكتب وأهميتها . من بين طبقات الظلام بدأت تظهر مساحة المغارة ، وبدأت النسوة بحمل السجاجيد والفرشات واللحف وادخالها في بطن المغارة التي تغيرت تضاريسها . تلك الليلة نمنا في المغارة ، أذكر كنا أكثر من عشرين شخصا ، أطفالاً ونساءً ، حشرونا كالسردين فوق بعضنا البعض ، وقد تبين لنا أن المغارة تعاني من البرودة والجدران مسننة ، كأن الزمن قد قام بسن صلابة صخرها ، فكلما تحركنا كانت يغرز الصخر في ظهورنا ، أذكر أنني بكيت بصمت ، لم أستطع التذمر ، فتقاسيم وجه أمي تنذر بأن هناك شيئاً مخيفاً قادماً في الطريق ، وعلي أن أقبل الموجود دون اعتراض. لا أحد يكلم الأطفال ، والكبار يتكلمون بالألغاز .. أسمع كلمة الحرب ، فأتخيلها دماً وذبحاً وجوعاً وفقدان أمي وأخوتي ، متأثرة من حكايات جدتي وأمي التي كانت تحكي لنا قصص الهجيج عام 1948 ، لذلك بقيت ملتصقة بحضن أمي التي طلبت مني عدة مرات الابتعاد عنها لأنها لا تطيق الآن احداً . في النهار نخرج الى الحارة ، نرجع الى البيت ، الجميع في حالة صمت ، يلتصقون بالراديو – كأن على رؤوسهم الطير.. بعد ذلك تأكدت أن هذه العبارة كانت تنطبق عليهم آنذاك - في احدى المرات رأيت أبي يبكي ، لأول مرة أرى الدموع في عيون الرجال ، يرجمون بعضهم بنظرات الغضب ، ويكسرون الصمت بالآهات ولف السجائر واشعالها بسرعة الواحدة تلو الأخرى . من شدة الغضب ضرب احدهم الراديو وشتم وصرخ وخرج من الغرفة ، ارتجفت وتجمد الدم في عروقي ، لا احد لحقه او اهتم لغضبه فجميعهم كانوا مثله . سنوات طويلة حضنتها الذاكرة وكلما حلت ذكرى 5 حزيران انطلقت صورة المغارة التي كانت شاهدة على خوفنا من الحرب -أعترف ما زالت تسكن خوفي الطفولي -. اختفت المغارة تحت أصابع العمران ، لم يعد لها أثراً ، ورغم غيابها عن جغرافية الحارة ، أتذكرها كلما مررت من جانبها ، أتخيلها مفتوحة تستقبل خوفنا ، عندها اضحك بحزن على تلك الأيام . نكسة 67 ، كانت طعنة نجلاء في الظهر لخصها أبي قائلاً : كنا قبل النكسة لما اليهود يحكوا معنا نسخر منهم ونقول لهم ( بكره ناصر والجيوش العربية بتيجي وبتشوفوا ... لكن بعد النكسة صرنا نهرب من قدامهم ، نسمع الشتائم والمسبات في دينينا .. يعايروننا وين ناصر تبعكم ؟؟ نصمت ونسكت .. لا نجيب ) . عشت جرح 5 حزيران عام 1967 ، وبقي نزيف خيبة الأمل على امتداد السنوات ، حيث مات الرجال الذين كانوا يستمعون الى الراديو تلك الأيام ، ينتظرون البيانات العسكرية ، وأصبحوا خبراء في تحليل أصوات المذيعين ، من نبرات التفاؤل والتشاؤم يعرفون كيف تجري الأمور في ساحة الحرب . مع كل ذكرى 5 حزيران أشعر أنني ما زلت أعيش في المغارة ، كبرت ولم تكبر المغارة ، ما زال صخرها المسنن يغرز في وجعي الممتد حتى اليوم .
#شوقية_عروق_منصور (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قالت ايفانكا ترامب : نحن لا نزرع الشوك
-
كل يوم هناك نكبة
-
فطوم وعصر الحيص بيص
-
ليلة مع الأسرى في زنازينهم
-
مسمار صدىء في يوم الاستقلال
-
بلفور يغتصب الفتاة اللبنانية
-
الحب والمرأة الكاتبة في الزمن اليمني
-
الأرض في جيب شلومو
-
الفندق المعزول المحاط بالأسوار
-
المرأة الفلسطينية لا تعرف الثامن من آذار
-
المرأة التي تتكلم بالاشارة والمرأة التي تكتب بحبر بولها
-
من مجنون فلسطين الى ترامب اللعين
-
الطبخة ما زالت في الدست الاسرائيلي
-
القرد في ليبيا وشقيقه هنا .. شكراً لإسرائيل
-
ايها الرئيس رأسك تحت رحمتي
-
الاقي زيك فين يا علي
-
رسائل الحب في زمن الجفاف
-
الثقافة لا تعرف ميري ريغيف
-
الطفل خالد الشبطي يركب الطائرة مع ليلى خالد
-
ما زالت ذاكرتي في حقيبتي
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|