أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - تيسير الفارس العفيشات - نظام العلامات في القرآن - ج2















المزيد.....


نظام العلامات في القرآن - ج2


تيسير الفارس العفيشات

الحوار المتمدن-العدد: 5537 - 2017 / 5 / 31 - 12:32
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


وإذا كان السياق الثقافي يمثل علاقات النص بخارجه على مستويات عديدة، فإن السياق الخارجي للنصوص يتداخل مع السياق الثقافي ويتقاطع معه في نقاط عديدة. لكن الذي يفصل بين هذين المستويين أن السياق الخارجي يمثل سياق التخاطب كما يتجلى في بنية النص على جميع المستويات، ويجمع سياق التخاطب كما يتجلى في بنية النص على جميع المستويات، ويجمع سياق التخاطب هذه المستويات العلاقة القائمة بين القائل المرسل والمتلقي المستقبل. وهي العلاقة التي تحدد بشكل حاسم نوعية النص من جهة، وتحدد مرجعية التفسير والتأويل من جهة أخرى، وإذا أخذنا هنا بتقسيمات طبيعة النصوص على أساس محور التركيز في النموذج الاتصالي ، أمكننا القول أن المحدد لطبيعة النص يعتمد بشكل كبير على السياق الخارجي، سياق التخاطب، فإذا كان القائل هو محور التركيز مثلا تلاشى الى حد كبير، وإن لم يختف تماما دور المتلقي، وأصبحت الرسالة من أنا إلى أنا وتحددت طبيعة النص بأن تكون أقرب الى الترجمة الذاتية .
وإذا كان التركيز على المتلقي أصبحت مهمة النص الإفهام والبيان، واندرج النص في عداد النصوص التعليمية بمستوياتها المختلفة، وفي حالة التركيزعلى الشفرة غالبا ما يكون انتماء النص الى مجال النصوص الأدبية، وعليّ أن أضع في الإعتبار دائما أن التصنيف يكون على سبيل التغليب الذي يبرز عنصرا على حساب العناصر الأخرى ، لأن تلك العناصر موجودة أبدا في كل أنماط النصوص وإن كان حضورها بالنسبة للعنصر البارز شاحبا الى حد ما.
في حالة النص القرآني يمكن القول بصفة عامة أن سياق التخاطب الأساسي فيه وهو أهم مستويات السياق الخارجي، مما يجعل محور الخطاب أعلى وأدنى ، واذا كان النص القرآني قد حدد طبيعته لوصفه الخاص كونه رسالة، فإن هذه الطبيعة تستوعب كلا البعدين، البعد التعليمي، والتركيز على المخاطب .
لكن السياق الخارجي، سياق التخاطب، بالنسة للقرآن لا يرتهن فقط في هذين البعدين اللذين يتشابه بهما مع غيره من النصوص التي تنتمي للمجال نفسه ، للقرآن سياق خارجي أعقد يكثير من حيث تاريخ تكونه من جهة، ومن حيث طبيعة تغير المخاطب من جهة أخرى، ويمكن أن نطلق على السياق الخارجي الخاص بالقرآن سياق التنزيل ، من المعروف أن النص القرآني مجزأ، أي نص تكون في فترة زمنية تربو على العشرين عاما، وارتبطت أجزاء كثيرة منه لحظة تولدها بسياق يطلق عليه أسباب النزول هذا من جهة، ومن جهة ثانية، تعددت مستويات الخطاب، بل وتعددت لغاته الثانوية بالطبع، نتيجة للتحول الذي حدث في حال المخاطبين خلال هذه الفترة الزمنية التي تكوّن فيها النص.
لقد تحول البعض على مستوى العقيدة من الوثنية الى الاسلام، وكان من الطبيعي أن يستجيب النص لتغير أحوال المخاطبين، خاصة تلك التي تسبب فيها هو، بالإضافة الى ذلك انظم الى قائمة المخاطبين من يطلق عليهم أهل الكتاب، وهو كمصطلح يشير الى اليهود بصفة خاصة، ثم دخل في مدلوله تدريجيا نصارى اليمن بصفة خاصة، لقد تم تناول سياق التخاطب في علم المكي والمدني المعروف من علوم القرآن وهو العلم الذي يتناول الخصائص الأسلوبية واللغوية التي تميز الخطاب القرآني في مرحلتي الدعوة الاسلامية.
ولا تقتصر مستويات السياق الخارجي على اسباب النزول والمكي والمدني، بل تمتد في بنية الخطاب القرآني ذاته الى مستويات اشد تركيبا، هناك مثلا سياق المخاطب الأول محمد، وهو سياق متعدد في ذاته بين تثبيت الفؤاد واللوم والعتاب والتقريع أحيانا، وهناك سياق مخاطبة النساء ايضا بين المدح واللوم والتعنيف، ثم سياق مخاطبة النساء المغاير لسياق مخاطبة الرجال رغم الجمع بينهما في سياق واحد في كثير من الأحيان، من تلك الزاوية وغيرها تجاوز القرآن للنصوص الشعرية السائدة.
اذا انتقلنا بسرعة الى السياق الداخلي للقرآن ندخل مباشرة الى إحدى إشكاليات النص القرآني، فاللسياق الداخلي خصوصية تتمثل في حقيقة كونه ليس نصا موحدا متجانس الأجزاء، لأن ترتيب الأجزاء فيه مخالف لترتيب النزول مخالفة تامة. لا نريد الدخول هنا فيما اذا كان هذا الترتيب توقيفيا من الله المتكلم بالنص أم كان اجتهادا من الجيل الأول الذي تلقى النص مجزءا، لأنها إشكالية خلافية من جهة، ولأن الدخول فيها يزيف الوعي بدلالتها في سياق دراستنا هذه من جهة أخرى ، وسواء كان الأمر توقيفيا من الله أم كان اجتهادا من المسلمين يظل البحث في سياق الترتيب مشروعا. لقد تناول الكثيرين جانبا من هذا البحث فيما أطلق عليه علم المناسبة بين الآيات والسور، لكنهم توقفوا عند حدود اكتشاف الروابط العقلية أو اللغوية وكلها علاقات يقر هم أنفسهم بأنها علاقات اجتهادية تستهدف الكشف عن وجه الحكمة الإلهية بالطبع في هذا الترتيب.
هذه التعديدية في بنية النص القرآني تعد في جانب منها نتيجة للسياق الثقافي المنتج للنص، لأنها تمثل عنصر تشابه بين النص ونصوص ثقافة عامة، وبينه وبين النص الشعري كذلك، لكن هذا التشابه في ذاته يتضمن عنصر مغايرة سواء من حيث الحجم ،أو من حيث المدى الزمني الذي استغرقه النص في تشكله النهائي، ومعنى ذلك أن النص القرآني يخالف ذاته سياقيا، فسياقه الخارجي لا يتماثل مع سياقه الداخلي في حين يفترض في النص الشعري نوعا من التجانس بين سياقيه نعني سياق زمن الابداع أو الخلق، وسياق بنائه الداخلي، كما يمكن أن نضيف ملمحا آخر عن دور النص ببنيته تلك في تحديد بنية النص العربي بشكل عام، ونقصد هنا سيطرة التجزؤ والتعددية والانتقال من موضوع الى آخرعلى نمط التأليف العربي في النصوص الأدبية النثرية على وجه الخصوص، لكن هذا الموضوع يحتاج الى حفر عميق للكشف عن أسباب تلك البنية وعن دلالاتها في الثقافة العربية خاصة وأن النصوص الإبداعية العربية تحاول استعادة بعض ملامح هذه البنية السردية سعيا لتأصيل شكل عربي في الكتابة الإبداعية.
المستوى الثاني من مستويات السياق الداخلي سياق القول في ذاته، أو سياق الخطاب، فثم فروق بين سياق القص مثلا، وهو سياق متعدد في ذاته، حيث تشكل القصة سياقا يدخل في سياق آخر فيتعدد سياق القصة الوحدة داخل بينية النص، وسياق الأمر والنهي، وثم فروق بين سياق الترهيب والترغيب وسياق الوعد والوعيد. وبين مستويات السياق تلك جميعها وبين سياق الجدل والسجال أو سياق التهديد والإنذار. ويضاف الى ذلك كله سياق الوصف، وصف مشاهد الطبيعة، ووصف الجنة والنار، وسياق العقائد والتشريعات التي حصرها علماء أصول الفقه في الحلال والحرام والمباح والمندوب .. الخ .
وكل مستوى من مستويات سياق الخطاب يتجلى في بنية لغوية خاصة داخل إطار النظام اللغوي العام للنص، الأمر الذي يعني أن تعددية النص على مستوى سياقه الداخلي بالإضافة الى الى تعدد مستويات سياق الخطاب يفرض تعددية في اللغات الثانوية للنص. لذلك كان على عبد القاهر الجرجاني أن يبحث عن علة الاعجاز خارج نطاق الأنماط البلاغية، الكناية والتتشبيه والتمثيل والاستعارة والمجاز عموما.. التي حصر السابقون فيها علة الاعجاز اي في اطارها، إن حصر أوجه الإعجاز في تلك الأنماط وحدها وكذلك الحديث عن أمور الغيب سواء في الماضي أو المستقبل، كان من شأنه أن يجعل الاعجاز مقصورا على أجزاء من النص أي محصورا في بعض النصوص الجزئية، وذا كان النظم يمثل من منظور الجرجاني المبدأ المفسر للإعجاز، فما ذلك إلا لأن التفسيرات السابقة تؤدي جميعها الى أن يكون الإعجاز في آيات معدودة في مواضع من السور الطوال مخصوصة. واذا امتنع ذلك
في بنية النص يتحول كل التراث اللغوي الىإشارات أو علامات، آيات دالة بطرائق مختلفة على حقيقة واحدة كلية ومطلقة، وحين نقول كل التراث اللغوي نقصد اللغة بوصفها نظاما من العلامات يمثل فيه الدال والمدلول وجهي حقيقة واحدة، من هنا يكون التراث اللغوي كله دالا في بنية النظام الثقافي المدلول، ذلك النظام الذي لا ينفصل فيه التاريخ المروي عن الحكايات والقصص والمعتقدات وأنماط السلوك والشعائر والتصورات الخاصة ببنية العالم الميتافيزيقية، يتحول هذا النظام الثقافي المدلول المتمثل لغويا في النظام اللغوي الدال الى علامات ، آيات ، إشارات .
وتحويل النظام السياقي اللغوي الديني فيما بعد الى علامات داخل نظام آخر هو النظام الإشاري هو عملية من السهل فهمهما وادراكها من خلال ما يحدث في الأنماط البلاغية، من مثل التمثيل والاستعارة والكناية، حيث لا يتم انتاج الدلالة من الألفاظ العلامات، ولا من التركيب النحوي وحدهما، بل تنتج الدلالة من خلال تحويل الدلالة الكلية الناتجة عن تفاعل دلالات الألفاظ وعلاقات التركيب الى علاقة كلية تميل الى دلالة أخرى، هذه العلامة الناتجة عن علاقة إشارية صورة بصرية أو سمعية .. الخ أشبة ما تكون بالأيقونة، في عملية التحويل الإشارية تلك يدل اللفظ على معناه الذي يوجه ظاهره، ثم يعقد السامع من ذلك المعنى على سبيل الاستدلال معنا ثانيا، وعملية التحويل الإشاري تلك تنقل اللغة من مجال المواضعة الى مجال الاستدلال العقلي، اي تحويلها الى نسق من العلامات غير لغوي، إذ الأساس في العلامات اللغوية قيام دلالتها على العرف والمواضعة، وليس من الضروري أن يكون الأمر كذلك في نظام العلامات، إن التفرقة بين المعنى ومعنى المعنى يزيد الأمر وضوحا فالمعنى هو الناتج اللغوي الذي يتحول الى صورة ذهنية تصبح علامة تحيل الى مستوى آخر هو معنى المعنى . أي أن تعقل من اللفظ معنى ثم يفضي بك المعنى الى معنى آخر .
هذا ما تفعله لغة النص القرآني باللغة العربية، إنها تتعامل معها وبها تعاملا بلاغيا فتنقلها من وظيفتها الدلالية الإبلاغية وتحولها الى علامات تحيل الى معان ودلالات معقولة، ودائما ما تلجأ لغة النص في سياق هذا التحويل الى حفز المتلقي الى التعقل أو التدبر أو التفكر وهذا ما يجعل عملية التحويل من النظام اللغوي في إطار مفصلية السياق الى النظام الإشاري .
هذا من ناحية النص أما من ناحية التلقي فإن القارئ المؤمن في قراءته للقرآن يتمثل في تلك العلامات دون التوقف عند العلامة ذاتها أي عند الآية، بل ينتقل مباشرة من العلامة الى ما تدل عليه العلامة، سواء كانت وصفا للعالم بكل تفاصيله وجزيئاته من السماء الى الأرض وما بينهما من انسان وحيوان وجماد، أو كانت تلك العلامات قصص الذين خلوا من قبل بما تتضمنه من قصص الأنبياء وتاريخ الوحي والدعوة الى الله.
إن مفهوم العلامة في القرآن يتجاوز حدود الكون والتاريخ، إذ يشير الدال الى كل ذلك بالإضافة الى إشارته الى وحدات النص من جهة ثانية، ومعنى هذا أن نظام العلامات في النص متعدد يستوعب نظام اللغة في بنيته، وفي هذا الاستيعاب الناتج عن الدمج بين النص والأحكام والعالم يتم استيعاب القارئ استيعابا تاما في اطار مرجعية واحدة هي النص القرآني ذاته، هكذا تزول الفروق بين القراءة والتأمل وبين الفهم والتعبد زوال ما بين العالم والنص من جهة، وما بين النص والأحكام من جهة أخرى، وهنا يرى المسلم من خلال هذا السياق الملفوظي أن الوجود كلاما إلهيا غير ملفوظ،( قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفذ البحر قبل أن تنفذ كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا..) الكهف 109.
كما أن من حق المسلم هنا ايضا أن يرى القرآن وجودا تاما مكتفيا بذاته يغنيه عن قراءة كل ما عداه...
( وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث..) الإسراء 1060
( ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل ..) الاسراء 89
( ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر ..) القمر 17
وهكذا يكتمل البحث في علم العلامات في التراث بإبراز أن دور النص القرآني في صياغة المفاهيم النظرية اللاحقة عن اللغة والدلالة ليس دورا ثانويا كما تقترح الدراسات التي تولي اهتماما جوهريا لمسألة الأثر او الآثار اللاهوتية والفلسفية الناتجة عن عملية التفاعل الحضاري في تاريخ الثقافة الاسلامية، ولا أريد أن يُفهم من ذلك أن ابراز دور النص هنا ينبثق من موقف ثقافي مغلق يرفض ضمنيا حقيقة التفعال بين الثقافات والحضارات، إن دور النص يمثل بذورا في تربة خصبة لولا وجودها في الأرض ما استطاعت أية عناصر ثقافية وافدة أن تمارس فاعليتها، ولولا تلك العناصر الثقافية المساعدة ما أمكن لتلك البذور أن تتطور وتنموعلى هذه الشاكلة، إن علم العلامات علم استغرق فضاء النص اللغوي في بنيته العميقة .
العالم و العلم و العلامة، ثلاث مفردات لغوية وهي دوال تنتمي الى جذر لغوي واحد، ومن الطبيعي أن يكون بين الدوال الثلاث علاقة دلالية في بنية اللغة الأم، لكن الذي يعنينا هنا هو تتبع تلك العلاقة في الاستخدام القرآني، هذه العلاقة تكشف لنا عن أن النص القرآني وإن كان يعتمد مرجعية اللغة فإنه يتجاوزها مخضعا معطياتها لطبيعته بوصفه نصا دينيا، إن العالم أو العوالم التي تشير إليها تلك اللغة من خلال نظامها الرمزي عن العالم أو العوالم المستوعبة في التصورات والمفاهيم الذهنية لأصحاب تلك اللغة، لكن النص الديني يسعى الى إدماج هذه التصورات واستيعابها داخل نسق من التصورات والمفاهيم لا تتساوق مع ما تحيل إليه اللغة التي يستند عليها. لذلك لابد من اخضاع تلك اللغة لآليات الاستبعاد ..
غياب الدال العالم والإقصاء اي وضع الدال عالمين كانا في حالة الإضافة غالبا، وعن طريق آلتي الأبعاد والإقصاء تلك يتم استعاب الدلالة داخل نسق معادل لطرفي المعادلة في بنية الجملة المعرفية، إن اضافة العالمين الى الرب الخالق، وإضافة التعليم الى الرب الذي علّم بالقلم ... في الآيات الأولى للنص يجعلنا نفترض وجود علاقة دلالية بين العالم والعلم ومن تلك العلاقة يمكن تأسيس علاقة بين العالم والعلامة، هذا الى جانب ما يمكن أن يكشف عنه هذا التحليل للنص الأفتتاحي من آليات النبذ والإحتواء التي تمارسها اللغة الدينية تجاه معطى الوحي والعقل ..
إن إضافة العالمين الى الرب الخالق وإضافة التعليم الى الرب الذي علمّ بالقلم.. في الآيات الإفتتاحية الأولى للقرآن .. أي لافتتاح اللغة الدينية يشي بافتراض وجود علاقة دلالية بين العالم والعلم ومن تلك يمكن تأسيس العلاقة بين العالم والعلامة، خاصة في ضوء ما سبقت الإشارة له، ولتأسيس هذه العلاقة يمكن القول أن تحليل النص الإفتتاحي، أي سورة العلق ذو فائدة قصوى ، هذا الى جانب ما يمكن أن يكشف عنه التحليل من آليات الاستيعاب التي تحاولها اللغة الدينية تجاه اللغة الأصلية التي تتولد عنها.
من السهل ملاحظة أن النص يخلق ترابطا دلاليا بين مفردات الرب والخلق والعلم وما ينطوي عليه هذا الدال الأخير من تعليم، ومن السهل أيضا ملاحظة أن الدال الرب يضاف الى ضمير المخاطب الفرد فقط في سياق هذا النص الافتتاحي، في حين أن الفعل خلق يقع الإنسان مفعولا له كما يقع مفعولا للفعل علّم، ومن هاتين الملاحظتين نستنتج أن الربوبية المضافة الى ضمير المخاطب المفرد تتجاوز دلالة الخصوص الكامن في هذه الإضافة الى دلالة العموم الناتجة عن الوصف .. الذي خلق. خلق الإنسان من علق ... وهكذا يتحول الخطاب على مستوى بنيته العميقة من أن يكون خاصا للمخاطب المفرد ـ مستوى البنية السطحية ـ لكي يكون خطابا للإنسان.
الفعل خلق يمثل المرحلة السابقة على التحقيق والانجاز والفعل التالي للخلق. ومن الملاحظ أن مجال التداول للفعلين خلق وأوجد من مجال الى آخر. ثم انتقلت الدلالة من الحقيقة الى المجاز هذا الاستخدام اللغوي المجازي تحول في سياق تطور الدلالة الى مجاز ميت، أي عاد الى دائرة الاستخدام اللغوي غير المجازي وهو استخدام ورد في القرآن على لسان عيسى...( وأخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله ..) . آل عمران 49
يتجاوز القرآن موضوع تحليلنا هنا .. سورة العلق .. هذه الدلالة اللغوية مستخدما التكرار للفعل خلق مع ايقاع الانسان مفعولا للفعل .. خلق الانسان من علق.. فينقل دلالة الفعل من مستوى اللغة الى مستوى دلالة النص .. وقد أوقع المفسرين في خطأ التأويل هنا عدم إدراكهم أن هذه الآيات هي الآيات الافتاحية للنص، ذلك أن المفسر حين يتناول النص بترتيب تلاوته يصل الى سورة العلق في نهاية القرآن، حيث تكون الدلالات التي أضفتها اللغة الدينية سيطرت على ذهنه تماما فيعجز عن ملاحظة الانتقال من .. الذي خلق.. الى .. خلق الانسان من علق..
على مستوى البنية السطحية للخطاب يدرك المخاطب بالنص محمد، أن الذي يأمره بالقراءة هو ربه، وهذا النوع من التعريف لا تدرك دلالته إلا من سياق ذلك المخاطب اليتيم . لارب له.. في مجتمع يعتمد معيار الإنتماء فيه على عصبية الدم الأبوي، وهي العصبية التي تحدد درجة الاندماج والانصهار في المجتمع من جهة وتحدد القيمة والمكانة الاجتماعيتين من جهة أخرى. وهكذا يبدأ النص من اللغة ـ بدلالتها السوسيولوجية ـ متصاعدا من الاجتماعي والتاريخي الى المطلق، ومن حدود اللغة العادية الى آفاق اللغة الدينية .. الذي خلق. خلق الإنسان من علق.
هذا التصاعد الدلالي .. الرب الذي خلق حتى مستوى الوصف بأنه خلق الانسان، والذي يشير ضمنا الى خلق العالم، يبدو على مستوى البنية السطحية بأنه في حالة تراجع بتكرار الفعل اقرأ .. وبتكرار اضافة الرب الى كاف المخاطب .. وربك.. ولكنه تراجع من أجل مزيد من التصاعد الدلالي، تراجع من أجل وثبة أبعد على مستوى اطلاق الدلالة.
هكذا تتعانق دلالتا .. خلق و علم .. في ختام النص عن طريق اشتراكهما في البنية النحوية حيث يقع ضمير الرب فاعلا لكل منهما، كما يقع دال الانسان مفعولا لكل منهما، واذا كان خلق العالم مشارا اليه ضمنيا في خلق الانسان كما سبق أن ألمحنا ، فإن الإشارة الصريحة الى مادة العالم تنبثق في النص من خلال الدالين .. العلق .. الذي منه خلق الانسان ، والقلم الذي يتعلم به الانسان، وبعبارة أخرى يمكن القول ان النص يشير الى العالم من زاويتين، الأول العالم الحر في شكله الجنيني ـ العلق ـ والثاني العالم في شكل المادة الصامة القلم، هتان الزاويتان تبرزان العالم من مستويين يتوزيان مع التعريف بالرب الخالق والمعلم .. هذان المستويان هما العالم المخلوق والعالم الدلالة في الوقت نفسه.
وإذا كانت كل تلك الآيات الأولى من سورة العلق تمثل النص الأفتتاحي للقرآن فمن الطبيعي أن نتعامل مع الدلالات التي يحملها هذا النص الافتتاحي بوصفها البذور الأولى الدلالية التي استنبت وراحت تتفرع وتتكاثر داخل بنية النص الكلي، من هنا يكون مشروعا القول أن الوصف يمثل بذرة التمايز والتمييز بين طبيعة الله وطبيعة الإنسان في اللغة الدينية، وهو تمايز لا ينفي بعض أوجه التداخل والتشابه التي تفرضها طبيعة اللغة، لأنها تحمل على كاهلها عبء التعبير عن المطلق، في حين أنها في بنيتها الأصلية، أي من حيث هي ظاهرة إجتماعية ثقافية، تعبير عن النسبي ، هذا البعد الثنائي الازدواجي المركب في طبيعة اللغة حالة انتقالها من مستوى الى مستوى، كامن في ذاته في الدال اللغوي .. الأكرم .. من حيث صيغته الصريفة أولا، ومن حيث دلالتها الوضعية ذات البعد الاجتماعي ثانيا.
هكذا يمكن أن نجد في ازدواجية دلالة هذا الدال .. الأكرم ..البذرة الأولى الحاملة لبعد الصفات الإلهية في النص الكلي، وهو البعد الذي تتحرك دلالته بين قطبي التنزيه والتشبيه، وهما القطبان اللذان تحرك عليها في الآية السابعة من سورة آل عمران، وهي آية خلافية على مستوى الدلالة من جانبين: الأول تحديد ماهية المحكم وماهية المتشابه، والجانب الثاني تحديد طبيعة التركيب اللغوي من حيث العطف أو الاستئناف في قول القرآن : (والراسخزن في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا )
لكن اذا كانت دلالة الأكرم تميل الى بعد التشبيه، وتحيل الى التنزيه إحالة ضمنية فإن دلالتي الذي خلق والذي علمّ بالقلم تؤكدان بُعد التنزيه، وذلك من حيث أن الإنسان يقع مفعولا لكلا الفاعلين على المستوى النحوي الذي يبرز مفارقة الفاعل للمفعول لغويا. ومفارقة الخالق للمخلوق وجوديا، إنها مفارقة التمييز بين الله والإنسان، وهو التمييز الذي سيركز عليه الفكر التنزيهي في سياق تطور الوعي الاسلامي، إن الانسان في موقع المفعولية يعني أن العالم في ذات الموقع، وغياب دال العالمين في النص الافتتاحي هو غياب على مستوى البنية السطحية فقط، ذلك أن له حضورا من خلال دوال العلق والقلم الخ ..
واذا جاز لنا القول أن هذا النص الإفتتاحي يعد بمثابة بطاقة تعريفية .. أليس واضحا أن هذه البطاقة تضمنت مفهوم العالمين، في علاقة مفعولية للرب من جهة كما تضمنت العلاقة المضمرة بين العالم و العلامة وذلك من خلال الجمع بين الفعلين خلق و علّم من جهة أخرى، هذه العلاقة المضمرة تفصح عن بنية النص القرآني كله تقريبا، تلك البنية التي تحيل العالم كله الى آيات أو علامات.
وليس العالم فقط بل التاريخ الانساني كله قصص الأمم الغابرة وصراع الأنبياء والرسل مع أقوامهم، يصبح علامة تجسد الصراع الأزلي بين الحق والباطل وبين الايمان والكفر. وتتعانق أنماط العلامتين الكون والتاريخ من خلال الفصل بين نمطين من البشر القادرين على قراءة العلامات الكونية فيستدلون منها على وجود الخالق ويدخلون حضيرة الايمان ويحظون بالخلاص الأخروي، والنمط الثاني هم أولئك العاجزون عن قراءة تلك العلامات فيسقطون في وهدة التكذيب ومحاربة الأنبياء والرسل، ويكون مصيرهم النار أو العذاب الأخروي .
يتوازى مع النص الأفتتاحي لسورة الرحمن التي يتكرر فيها ـ خلق الإنسان و علمه البيان، أي تتكرر عملتي الخلق والتعليم وتربط بينهما وبين تعليم القرآن مع إعطاء أسبقية لتعليم القرآن على كليهما، وهذا أمر لفت انتباه الزمخشري الذي توقف أمام دلالة هذا الترتيب، وتوصل الى نتيجة هامة من منظور مقاربتنا هذه، اذ يرى أن تقديم علم القرآن على خلق الإنسان علمه البيان . إنما هو تقديم لأهم ما خلق له الإنسان ومن أجله علّم البيان، إنه الدين الذي هو الغاية من خلق الإنسان وتعليمه، والغرض من إنشائه، والقرآن بالنسبة للدين هو أهم النعم والآلاء، هذا الى جانب أنه أعظم وحي لأنه سنام الكتب السماوية، وأخر ذكر خلق الإنسان عن ذكره، ثم أتبعه إياه ليعلم لأنه إنما خلقه للدين وليحيط علما بوحيه وكتبه، وما خلق الإنسان لأجله، وكأن الغرض في إنشائه كان مقدما عليه وسابقا له، ثم ذكر ما تميز به من سائر الحيوان من البيان. وهو المنطق الفصيح المعرب عما في الضمير.
الكشاف الجزء الرابع ص 43 ..
يلفتنا هنا دلالة التقديم التي يكشف عنها الزمخشري، وهي دلالة تجعل العبادة، هي محور إنشاء الوجود، وهي غاية يستبطنها المعتزلة عموما، والزمخشري واحد منهم، من استقراء النص القرآني كله، ويتوقفون بصيغة خاصة عند الآية التي تقول :( وما خلقت الجن ةالإنس إلا ليعبدون )، وإذا كانت العبادة هي غاية الوجود الإنساني، فإن تعليم القرآن وتعليم البيان لا بد أن يحيطا بخلق الإنسان الذي يحتل موقعا وسطا بين تعليم هو الهدف والغرض والغايةـ تعليم القرآن ـ وبين تعليم هو الوسيلة والأداة والواسطة، وهو تعليم البيان. وهذا تعليم يجد تأكيد هو تعزيزه في نص آخر من النصوص التي تتعلق بمسألة الخلافة حيث تكون الميزة التي ميزّ الله بها آدم على الملائكة لاعتراضهم على خلافة بني آدم الذين يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء : ( وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين، قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ) .
هذا التوازي بين بدايات سورة الرحمن والنص الأفتتاحي يمتد في الآية التي تكرر في السورة ـ فبأي آلاء ربكما تكذبان ـ إحدى وثلاثين مرة من مجموع آيات السورة الثماني والسبعين. وهو تكرار يجعل محور التركيز أسم الرب مضافا الى ضمير المثنى المخاطب، وقد كان مضافا الى ضمير المفرد في سورة العلق، ذلك يوحي أن سورة الرحمن تمثل الخطاب من الخصوص الى العموم، أو من العموم المضمر على مستوى البنية العميقة، هناك الى العموم المفصح عنه في هذه السورة. ونحن نعلم أن الخطاب في السورة موجها أساسا الى أهل مكة وإن كان المخاطب المفرد ما زال موجودا في هذا السياق وجودا له دلالته كما سيتضحح بعد ذلك، في الآيتين ـ( ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ) و ( تبارك إسم ربك ذو الجلال والإكرام)



#تيسير_الفارس_العفيشات (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نظام العلامات في القرآن - ج1
- أحمد الحمود شاعر الاختلاف والمغايرة
- تفكيك النص القرآني - مدخل عام -ج3
- كيف تشكل المعنى في الخطاب القرآني
- تفكيك النص القرآني وتحليل البنية الخطابية المقدمة - ج2
- تفكيك النص القرآني - تحليل البنى اللغوية والدلالية - المقدمة ...
- نيوزلندا-- زيارتي إلى جبل ألكوك
- قراءة مواربة في تجربة الشاعر السوري سامي احمد ....
- نيتشه - ومفهوم العدمية
- الشاعر أحمد أبو ردن ....
- نيوزلندا ... زيارتي إلى أوكييا أقدم كنيسة في نيوزلندا
- مع قصيدة سميح وجه في المرآه
- بقايا مدينة وآثار صلاة لم تكتمل
- رحلتي الى جبل تاراناكي في الجزيرة الشمالية / نيوزلندا
- رحلتي الى دير جون سانتا في هضاب مدينة هستن ....الجزء الاول
- مايكوفسكي وصديقه يسينين


المزيد.....




- غزة.. مستعمرون يقتحمون المقبرة الاسلامية والبلدة القديمة في ...
- بيان للخارجية الإماراتية بشأن الحاخام اليهودي المختفي
- بيان إماراتي بشأن اختفاء الحاخام اليهودي
- قائد الثورة الاسلامية آية الله‌خامنئي يصدر منشورا بالعبرية ع ...
- اختفاء حاخام يهودي في الإمارات.. وإسرائيل تتحرك بعد معلومة ع ...
- إعلام العدو: اختفاء رجل دين اسرائيلي في الامارات والموساد يش ...
- مستوطنون يقتحمون مقبرة إسلامية في الضفة الغربية
- سفير إسرائيل ببرلين: اليهود لا يشعرون بالأمان في ألمانيا
- المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف مستوطنة -أفيفيم- بصلية صا ...
- المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف مستوطنة -ديشون- بصلية صار ...


المزيد.....

- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - تيسير الفارس العفيشات - نظام العلامات في القرآن - ج2