|
تداعيات بصري عائد من المنفى
علي ابو عراق
الحوار المتمدن-العدد: 1447 - 2006 / 1 / 31 - 09:01
المحور:
حقوق الانسان
البصرة يبن الأمس واليوم يا ألهي كم موحشة هذه المدينة ……. مفجوعا قالها صديقي العائد من المنفى بعد قرابة الثلاثين عاما .قالها وهو يتفجر حزنا ويتمتم مذهولا مع نفسه مستحيل هذه ليست مدينتي ..؟ هذه مدينة أخرى …قلت له .ربما امتلكتك روح المدن التي كنت فيها ..فليس هناك مجال للمقارنة بين البصرة وبين لندن أو أمستردام أو ستوكهولم أو أي مدينة غربية أخرى ..قال لي .لم تفهمني جيدا ..إن ما صدمني ليس هذا الخراب الماثل في البنايات والشوارع والأماكن العامة وليست هذه النفايات والازبال التي حولت المدينة إلى مزبلة كبيرة ..بل أرى كل شيء مختلفا تماما ..كانت وجوه البصريين طافحة بالبشر والمسرة والسماح تقطر طيبة وودا وشفافية ..ألآن أرى الكثير من الوجوه المطفأة والملامح الكابية والمظاهر والشعارات الغريبة وجيوشا من الشباب غائبة عن وعيها ومسافرة عبر طقوس ماسوشية نحو جزائر التعصب والسواد وجلد الذات بما لا يتناسب مع روح هذه المدينة الطيبة وتأريخها وحضارتها أهي لعنة ..؟….كيف يقولون أن التاريخ لا يرجع إلى الوراء …….؟ قلت له مهونا ..هذه حصيلة ثلاثة عقود من الطغيان والاستبداد والحروب ….سكت على مضض وراح يشاغل نفسه بالصمت ولفّنا صمت ثقيل وطويل أجبرني على أن أراجع نفسي وبعد برهة قلت لها ربما صاحبي على حق فأنا نفسي لم أجد جوابا كافيا لكل هذا الذي يحدث ..فكنت اعتقد بسذاجة وتفاؤل غير مشروطين أن مع الفجر الأول لرحيل النظام السابق سيتغير كل شيء ..…وصحوت من عدوى التداعيات والتفت الى صاحبي بحنو وود كبيرين ..وحاولت أن أطيب خاطره بكلمات فيها الكثير من المجاملة والمواربة فقلت له لولا الوضع الأمني السيئ ..والعمليات الإرهابية وتدخلات بعض دول الجوار لكان الأمر غير ما ترى ولو جدت مدينتك أو بعضاً منها ..والمستقبل كفيل بذلك …ولكن صاحبي عرف مقدار المجاملة والمواربة في ما قلته ..فقال تعال لنقلب أوراق الماضي وسأريك الفرق بين بصرتي التي غادرت وبصرتي التي رجعت ذكريات أتذكر حينما كنا شبابا في سبعينات القرن الماضي وكنا نلتقي على المحبة في كل الأماكن دون أن يعرف أحدنا عن الآخر دينه ومذهبه او قوميته أو عشيرته أو حتى المدينة التي جاء هو وعائلته منها إن لم يكن بصري الأصل ولم يكلف أحدنا نفسه بالسؤال عن هذه الأمور فهي لم تكن تعني شيئا لنا..نلتقي ..متدينون وشيوعيون وقوميون ووجوديون ومستقلون دون أن يكفر أحدنا الآخر أو يهدده أو حتى يزعل منه شباب تجمعنا روح الشباب وحب الوطن والأيمان بمستقبله وليس سوى ذلك والآن حروب مسلحة ومتطرفون يقتلون على الظن أو الاختلاف في العقيدة والرأي وحروب عشائرية وجماعات عقيدية تنشطر عن بعضها وتكفر إحداها الأخرى وكأن أدياناً جديدة نزلت أو مذاهب تأسست مكتبات ….مقاهي هل تذكر المكتبات التي كانت تغص بروادها على كثرتها وخصوصا رأس كل شهر وكان لا يخلو شارع من شوارع البصرة منها أين مكتبة الجميع …مكتبة الحكمة …مكتبة المثنى….مكتبة فرجو .. وعشرات المكتبات الأخرى زرتها ولم أرَ واحدة منها باقية في مكانها في جولتي لمحاولتي التعرف على المدينة ..كلها تحولت الى محال لبيع الأحذية والملابس والأجهزة الكهربائية …ليس سوى مكتبات الأرصفة التي تبيع كتب التنجيم والطبخ والرياضة وصور نانسي عجرم والكتب التي تنذر بالويل والثبور وعذاب القبر والبرزخ ….هل كف البصريون عن القراءة ؟…وهل هاجرت المقاهي أيضا ..؟..أتذكر مقهى ( أبو مضر) وكازينو البدر التي كانت تغص بنا فنقتعد رصيف النهر ونفترش دكته لعشرات الأمتار واغلبنا كان يتأبط أو يتصفح كتابا ..وحلقات نقاشاتنا وحواراتنا الساخنة لا تنفرط حتى يتوغل الليل في جسد المدينة نوادي ..مسارح ..سينمات وتفتح النوادي والمسارح والسينمات وتبدأ عروضها المسائية …أتذكر سينمات البصرة الصيفية .ربما هي المدينة الوحيدة التي فيها سينمات صيفية بسبب حرارة صيفها ربما ..فلم أرَ في المدن الكثيرة التي زرتها أو سكنتها سينما صيفية واحدة …هل تذكر كنا لا نفوت فلما واحدا من أفلام الموجة الجديد في إيطاليا وفرنسا ..وأين المسارح …والمسرحيون ..فرقة الفن الحديث وفرقة الفن المعاصر و14 تموز هل تحول أعضاؤها إلى باعة خضار أو سجائر …أين التشكيليون وغاليرياتهم …مررت على نادي الفنون ونقابة الفنانين فوجدت مكانهما مقرات أحزاب ..أتذكر كنا نسهر في هذا النادي لساعات متأخرة من الليل دون أن نخشى أو نفكر بان هناك من يضمر لنا شرا ..أو يكفرنا …..وسكت قليلا وسألني فجأة ..هل الموسيقى ممنوعة .؟ منذ مجيئي لم أشاهد من يحمل آلة موسيقية ؟ فأجبته ..لا أحد يجازف …تحسر بشكل غير أرادي..واستأنف تداعياته وكأنه يحدث نفسه …فرق الهيوة ..فرج الأسود …تومان العبد..بيادر خير …المطرقة ..الخشابة ..لقد مسخوا ذاكرة المدينة …وأين تقضون أوقات فراغكم ومناسباتكم وعطلكم .؟ حدائق ….متنزهات مررت على كل الحدائق والمتنزهات التي اعرفها فوجدتها خرابا …جزيرة السندباد غارت.عليها الحروب والحواسم ..حدائق الأندلس لم يبق منها ألا أشجار عارية وحزينة يذهب لها الناس ليخدعوا أنفسهم وفاءً لذكريات الماضي وسرعان ما يستيقظون من أحلامهم وذكرياتهم البعيدة ..أليس كذلك.؟..وحديقة الأمة مسحت تماما ..ومنتزه السراجي تجرد من كل ( سراجيته) وأصبح مقبرة للازبال ومنتزه الخورة ابتلعته قصور ( الريس ) السابق ..هل تذكر السفرات الى الأثل وأبى الخصيب ومواسم البهجة العائلية التي تتفجر مع كل ربيع لم أر من بقايا المدينة سوى شارع الكورنيش وربما لولا وجود شط العرب في مكانه لأستغربته هو الآخر ..فقلت له فرحا وكأني اكتشف اكتشافا ..الحمد لله أخيرا وجدت مكانا من مدينتك المندثرة !!!
#علي_ابو_عراق (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ضحايا السيول في سفوان..بين برد كانون وتجاهل الحكومة
-
شعر المرأة العراقية وكسر نسق الاستبداد ظاهرة ( اكعيم) في الد
...
-
2ملتقى السياب التأسيسي
-
ملتقى السياب التاسيسي
-
مهرجان السياب الثالث
-
المسيحيون في الجنوب بين ماض جميل وحاضر مليء بالخوف
المزيد.....
-
دول تعلن استعدادها لاعتقال نتنياهو وزعيم أوروبي يدعوه لزيارت
...
-
قيادي بحماس: هكذا تمنع إسرائيل إغاثة غزة
-
مذكرتا اعتقال نتنياهو وغالانت.. إسرائيل تتخبط
-
كيف -أفلت- الأسد من المحكمة الجنائية الدولية؟
-
حماس تدعو للتعاون مع المحكمة الجنائية الدولية لجلب نتنياهو و
...
-
وزير الدفاع الإسرائيلي يوقف الاعتقالات الإدارية بحق المستوطن
...
-
133 عقوبة إعدام في شهر.. تصاعد انتهاكات حقوق الإنسان في إيرا
...
-
بعد مذكرتي اعتقال نتنياهو وغالانت.. سيناتور جمهوري يوجه تحذي
...
-
قادة من العالم يؤيدون قرار المحكمة الجنائية باعتبار قادة الا
...
-
معظم الدول تؤيد قرار المحكمة الجنائية باعتبار قادة الاحتلال
...
المزيد.....
-
مبدأ حق تقرير المصير والقانون الدولي
/ عبد الحسين شعبان
-
حضور الإعلان العالمي لحقوق الانسان في الدساتير.. انحياز للقي
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
فلسفة حقوق الانسان بين الأصول التاريخية والأهمية المعاصرة
/ زهير الخويلدي
-
المراة في الدساتير .. ثقافات مختلفة وضعيات متنوعة لحالة انسا
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
نجل الراحل يسار يروي قصة والده الدكتور محمد سلمان حسن في صرا
...
/ يسار محمد سلمان حسن
-
الإستعراض الدوري الشامل بين مطرقة السياسة وسندان الحقوق .. ع
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
نطاق الشامل لحقوق الانسان
/ أشرف المجدول
-
تضمين مفاهيم حقوق الإنسان في المناهج الدراسية
/ نزيهة التركى
-
الكمائن الرمادية
/ مركز اريج لحقوق الانسان
-
على هامش الدورة 38 الاعتيادية لمجلس حقوق الانسان .. قراءة في
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
المزيد.....
|