|
تفكيك النص القرآني وتحليل البنية الخطابية المقدمة - ج2
تيسير الفارس العفيشات
الحوار المتمدن-العدد: 5526 - 2017 / 5 / 20 - 12:05
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
إنتهينا في الجزء الاول من هذه المقدمة الضرورية لتحليل بنية الخطاب إلى أن التضاد الحاد والقاطع بين التراث والحداثة لم يُشكل في التاريخ إلا لحظة محددة هي لحظة العقلانية العلموية التي فرضت تحديداتها في الغرب، لقد تجاوزنا هذه المرحلة الآن، المجتمعات تتكلم على عدة مستويات وينبغي أن نتلقى كل خطاب على المستوى المعرفي الخاص به، ومن خلال المقولات التي ساعدت على تشكيله وتمفصله، هكذا نلاحظ أن خطاب أغلب الباحثين المعاصرين الأسلاميين والمستشرقين لم يتوصل حتى الآن، الى التمييز بين الأسطورة والتاريخ، لم يتوصل الى تفكيك المعرفة المتضمنة في النسق السردي، والتي هي في رأيهم تشكل الحقيقة التاريخية الناجزة والنهائية، إنهم يخلطوا بين هذين النمطين أو الطرازين من المعرفة ويتم الانتقال من الواحد الى الآخر دون أي انزعاج، ودونما أية مساءلة لتاريخية هذه النصوص، واي تساءل ابستميولوجي ممكن، بمعنى دون الشعور بأية مشكلة، وهنا تكمن الكارثة إننا لا نشهد تحليلا نقديا لحقل التجربة بالمعنى الاحترافي للنقد العلمي وصياغاته المتقدمة. لما كانت قراءة التاريخ تفترض كما رأينا علاقة محددة للفكر باللغة، فإنه يفترض أيضا رؤيا معينة للتاريخ تتناسب مع اطاره والكتابة الخاصة بطريقة تعبيره وشكله أو اسلوبه، فنقل العبارات النصية للقرآن أي الآيات، ونقل الحديث والشهادات الخاصة بسلوك النبي وطريقة حياته وممارساته اليومية بكافة أشكالها وتمظهراتها الآنية والمستقبلية، وحتى علاقاته مع زوجاته ودائرة الصراع مع أعدائه، و كذلك الصحابة وأعمالهم وحروبهم، وانتقاء الوقائع والأحداث الدالة والمهمة بالنسبة للذاكرة الدينية للأمة، كل ذلك يشكل ممارسات عديدة تفترض مسبقا استخداما خاصا للتاريخ، ورؤيا خاصة للتاريخ، فنحن نعلم أن المؤرخون المسلمون يهتمون بالأحداث الزمنية المتسلسلة وبالسيرة الذاتية من أجل البرهنة على صحة المادة المنقولة وموثوقيتها. وما أن يتشكل التاريخ على هذا النحو حتى تشرع كل المناقشات الجارية بين الفقهاء والمدارس العديدة بإثارة المحاجات التاريخية، لكي تدعم مواقعها واطروحاتها، ومن المسلم به أن هذه المحاجات ليست تاريخية، وإنما هي مركبة ومبرهن عليها بشكل لا تاريخي، أي بالشكل التقليدي والمفهوم القديم للتاريخ، فكيف نعتبرها إذا حقائق، ثم نعود لمساءلة هذه الحقائق وفق طرح جديد ومختلف كليا ؟ . نلاحظ أن الكتّاب الحديثين الذين اهتموا بالاستعادة النقدية للتراث الديني والثقافي أو كليهما، لم يستطيعوا زحزحة المناقشة من أرضيتها السابقة نحو دراسة تمهيدية للأطر الاجتماعية الثقافية السائدة، والخاصة بالمعرفة خلال مرحلة الأنبثاق وما تلاها طيلة القرنين التاليين، لا يكفي التذكير بالقول بأن النقل الشفهي كان يغلب آنذاك على النقل الكتابي، وإنما الشيء الأساسي والأكثر أهمية يكمن فيما يلي: تبيان كيف أن البعد الأسطوري والرمزي والمجازي، كان يتغلب آنذاك على المقولات العقلانية والمنهجيات المنطقية في تشكيل المخيال الاجتماعي وطريقة وظائفيته وممارسته، ينبغي أن تستعاد دراسة كل التاريخ الثقافي للمجال العربي والاسلامي ضمن المنظور المزدوج بين العاملين الشفهي والكتابي، الأسطوري والعقلاني، نجد هنا أن التاريخ والتراث بصفته نسيجا نصيا ومعنى يحمل مضمونا أي كشكل ومضمون، يحمل علامات هذه المنافسة وآثارها، وهذا ما يجعل لازما بل ومحتوما اليوم إعادة تقييم الشكل والمعنى، لأن كل هذه المفاهييم الأساسية المضطلع بها في المعاش الضمني للمؤمنين، من تقديس وغرائبي واسطوري وشفهي وكتابي ومخيال وعقلاني وغير عقلاني، هي الآن في طور الأنتقال الى حالة المعروف الصريح بفضل الاكتشافات الجديدة للعلوم الانسانية والاجتماعية. هذه العلوم المنبثقة حديثا والضاغطة على الوعي الجمعي للأمة الاسلامية هي التي ستحدث النقلة المعرفية الكبرى، أما تلك القراءات التي تلقي ظلالا آسنة، بعيدة أو قريبة على هذه التجربة الكونية الغنية والمتميزة في الوجود البشري، فستظل تلك ظلالا، لاتنتج معنى ولا تؤسس وعيا مغايرا، وهنا أذكر بما قاله جميس جويس في كتابه ـ جماليات التلقي ـ في أن العمل الأدبي لا يوجد ولا يدوم إلا بالمساهمة الفعالة والتدخل المستمر لجمهوره على شتى الأصعدة، وهو ينطبق على الأعمال الادبية والفنية ذات المستوى الأعلى والتي هي : النصوص الدينية، بهذا المعنى نجد أن التاريخ الديني مكتنز بالشهادات التي لم يخلفها لنا أولئك الذين مستهم روح الوحي عبر التاريخ، وإنما هو عبارة عن خلق جماعي صنعه وشارك في صنعه كل أولئك الذين يستمدون هويتهم ووجودهم من هذا التاريخ، وبالتالي فإن عملية نقل الأحداث من مستوى فاعليتها المعاشة كتجربة تاريخية الى تجربة مفارقة للتاريخ، الى تجربة فوق تاريخية، هي عملية مشروعة تماما في الوعي المؤسس لهذه التجربة. ما نود أن نشير له، ان كل ممارسة للعقل تهدف للتوصل الى سيادة إجرائية ومعرفية قادرة على مقاومة كل التكذيبات والتفنيدات، وقادرة على فرض نفسها أبديا على كل روح بشرية، إن البحث عن الصلاحية المعرفية التي تفرض نفسها على الجميع بشكل دائم هو شيء مشروع من الناحية النفسية، إنه يعبر في آن معا عن الرغبة الحارقة في البقاء، وعن الحنين الى الكينونة، وعن حب الفضول، أو إرادة المعرفة التي لا يخلو منها أي كائن بشري، ولكن البحث هذا يصبح ميالا للهيمنة والسيطرة عندما يفرض العقل نفسه، بواسطة الإكراه السياسي والاقتصادي والاجتماعي كأنظمة معرفية بعيدة أو خارجة على كل تفحص نقدي حر أو ترفض هذا التفحص، ثم يؤدي تضافر الحافز النفسي وإرادة القوة والهيمنة الى ولادة عقل مهيمن يمكن أن ندعوه عندئذ بالعقل الإسلامي أو الغربي.. الخ . لقد فرض العقل الإسلامي هيمنته طيلة ستة قرون تقريبا أي حتى لحظة موت ابن رشد تحديدا، لقد فرضها على كل النطاق المتوسطي المتأثر سابقا بل والذي كان خاضعا للحضارة اليونانية والهلنستية، وراح يوسع من هذه الهيمنة لكي تشمل مناطق واسعة من آسيا وإفريقيا، وقد اعتمدت هذه الهيمنة على اللغة العربية والدولة الخليفية أو بدائلها، وكذلك الانجازات الحضارية، كما واعتمدت على اطار ميتافيزيقي ـ ديني معاش وكأنه توسع خيالي وثقافي للمدونة النصية القرآن، وبالتالي فإن الهيمنة التي مارست نفسهاعلى هذا النحو أو الصدد طيلة الفترة القروسطية، لا ينبغي ان نخلط بينها وبين المقاومة الإيديولوجية للعقل المنبثق الحالي، فهذا العقل يمثل رد الفعل اكثر مما يمثل الفعل اوالاستكشاف الابداعي الخلاق، ان هذا العقل الذي يملأ الساحة حاليا يمارس ضغوطا ايديولوجية على الناس بدون ان يرافق هذه الضغوط اي بحث حر عن المعنى، والعلاقة النقدية التي كانت تشغل العقل الاسلامي في القرون السابقة. إنه يمارس تأثيرا كبيرا على مجال الكتابات والتأويلات التي يهيمن عليها الاعجاب بالذات والتواطؤ مع الذات، كما ويهيمن عليها الاعتداد بالذات والتفاخر بها وخلع المشروعية بشكل ذاتي على عليها، وهكذا تقلص العقل واختزل في المجتمعات الاسلامية المعاصرة الى مجرد ترقيعات استدلالية، هدفها تأمين بقاء القيم الهشة المنزوعة من سياقها مرتين بشكل مزدوج. فهذه القيم السائدة حاليا منزوعة من السياقات الاسلامية الأصلية التي يقترض أنها تحيل إليها، ومنزوعة من سياق الحداثة التي ترفضها بشكل صريح، وبالتالي فإن هذا العقل المبستر لا يمكن أن يمارس إلا هيمنة من نمط إيديولوجيي، مفهوم العقل الغربي مفهوم علماني، في حين أن مفهوم العقل الاسلامي مفهوم ديني، والشيء الذي يقابله في الغرب هو العقل المسيحي. ولكن بما ان العقل الديني لا يزال هو المهيمن عندنا فانه لا يزال هو الذي يقابل العقل الغربي، وسوف يظل الأمر على هذا النحو حتى ينمو العقل العلمي لدينا الى الدرجة الكافية التي تمكنه من الاستقلالية عن العقل الديني. لا يمكن أن نقول الشيء نفسه عن العقل في السياقات الغربية ، نقول السياقات الغربية ولم نقل السياق الغربي، لكي نتحاشى الوقوع في التعميمات التعسفية الناتجة عن إقامة التضاد المانوي بين الإسلام والغرب. فقد تحول هذان المفهومان الى أقنومين ايديولوجيين مضخمين جدا، فالإسلام ليس واحدا وكذلك الغرب بمعنى معين، فشروط ممارسة العقل في الولايات المتحدة ليس هو بالضرورة نفسها في سويسرا أو السويد ، وكذلك الاسلام في اندونيسيا والباكستان يختلف من حيث سياقه العام أي في العمق وليس بطريقة محض شكلانية. ونلاحظ في الوقت الراهن ان الباحثين في العلوم السياسية والصحفيين من ذوي الشهرة الإعلامية أو التلفزية يتحدثون كثيرا عن القيم الغربية المهددة من قبل لا قيم الحضارات الأخرى، وهم إذ يفعلون ذلك يمارسون تركيب نفس الأنظمة الخيالية للاستبعاد المتبادل، وهذا الذي مارسه قبلهم لاهوتيو العصور الوسطى من نوع شعب الله المختار، أو لا خلاص خارج الكنيسة، أو أن الاسلام هو أخر نسخة عن الدين الحق، وأنه وحده هو المقبول من قبل الله أوالملقن من قبل خاتم الأنبياء، من الواضح أن تفكيك أنظمة التصورات وأطر الفكر الموروثة عن الماضي لا يزال في بداياته، اقصد تفكيك أنظمة الثقافات المناضلة من أجل بقائها على قيد الحياة . فالثقافة الغربية أصبحت تمد هيمنتها اكثر فأكثر على شعوب الأرض، إن استراتجية التفكيك هذه لا تزال في بداياتها، وانا أعي تماما ما أقوله، إن العقل الذي يمارس نفسه في مختلف السياقات الغربية يعرف أنه مهيمن، فهو لا يفرض فقط نماذجه الاقتصادية والتشريعية على الجميع، وإنما يفرض نفسه بصفته الذروة العليا والاجبارية لتكريس او تحطيم اي انتاج علمي او ثقافي لا يعترف به الغرب ، ويعتقد العقل الغربي أنه يعوض عن هذه الهيمنة الشاملة عن طريق ليبراليته، أو من خلال احترامه لحق الاختلاف مما يشكل نوعا من المآساة التي تحتم مثل هذا الصراع الحامي الذي يستعاد مرة أخرى للقبض على الحقيقة واحتلال منطقة أوسع من المعنى على أية حال كل عقل ينجح وينتصر يسود ويفرض هيمنته على الآخرين، هذا ما تعلمناه من التاريخ، والضعيف يقلد المنتصر أو السائد، كما قال ابن خلدون، لكني أفرق دائما بين العقل الباحث عن المعنى، والعقل الباحث عن الهيمنة والتسلط . والواقع ان كل عقل مهيمن كان في البداية يبحث عن المعنى ثم انحرف في لحظة ما من نحو الاستغلال والتوسع والهيمنة وفرض تصوراته. لقد ألمحت آنفنا وبشكل سريع الى إن الشخص المكوّن معرفياً داخل سياج فكري مغلق ، لا يمكنه أن يفكر بمسألة المعرفة المنفتحة على العكس، إنه يتلقى نصاً كنص معتبرا إياه بمثابة الصحيح كليا وبمثابة الحقيقة الناجزة والنهائية، والفتُ الانتباه الى أنني وأنا اتحدث عن وجود خطاب قرآني مفتوح معرفياً، فإني لا أدخل بدوري ضمن إطارهذا السياج الدوغمائي ، وإنما أتصور القرآن على هيئة فضاء لغوي تشتغل فيه عدة أنماط من الخطاب الخطاب النبوي، والخطاب التشريعي، والخطاب القصصي، والخطاب الوعظي والأمثال والعبر .. الخ ، وأكدت على أن هذه الخطابات تشتغل في القرآن في ذات الوقت وتتقاطع معه أيضاً، وإن التحليل اللغوي والدلالي البحت لهذه الخطابات، يتيح لنا أن نستخرج البنية الأسطورية المركزية للقرآن، هذه البنية التي تستخدم الرمز والمجاز من أجل أن تخلع على العبارات القرآنية إمكانيات افتراضية عديدة للمعنى والدلالة، وهذه الإمكانيات قابلة للتحيين والتجسيد في الظروف الوجودية المتواترة والمتكررة، أريد أن أتوسع هنا بعض الشيء في هذه الفكرة وتعميقها على نحو بالغ الأهمية، منبها الى أن هذا التضاد الذي ألمحنا له ليس تجريدياً ولا إيمانياً، وإنما يمكن التحقق من وجوده لغوياً وتاريخياً عن طريق التفاعل والتأثير المتبادل المستمر بين اللغة والتاريخ والفكر، وهي الذرى الثلاث لإنتاج المعنى، إن قراءة القرآن تجبرنا على الربط بين هذه الذرى الثلاث التي تدرس عادة بشكل منفصل من قبل المؤرخون والفلاسفة، والقوة الإقناعية والتعبوية للخطاب الاسلامي تزداد فعاليتها وقوتها كلما أوردت الاستشهادات العديدة من النصوص المقدسة أو التي جرى تقديسها من قبَل المؤمنين كنصوص ابن تيمية مثلاً، فكلما أعادوا تحيينها واستملاكها وتطبيقها من جديد على أوضاع اجتماعية وسياسية مختلفة ومعاشة من قبل جماهير المسلمين كلما استطاعوا تحريكها أكثر فأكثر، وأما في داخل الفكرالاسلامي نفسه فيمكننا أن نعترض على هذه الطريقة في الاستشهاد بالنصوص القديمة، أو على الأقل مناقشة صلاحيتها من حيث المعنى والسياق والمشروعية اللاهوتية لاستخدام القرآن والحديث لأغراض كهذه، هكذا نلاحظ حصول نوع من الزحزحة الدلالية داخل النظام المعرفي الخاص بالفكرالاسلامي ذاته، فمبدأ العودة إلى النصوص التأسيسية لا يزال سارياً، بل وقد تصلب وتشدد أكثر فأكثر، ولكن التلاعب المعنوي والاستدلالي المنطقي بالنصوص قد أصبح خاضعاً كلياً للغائية الإيديولوجية والسياسية التي تستبعد كافة المعاني الدلالية ذات البنية العميقة في الوصول الى النتائج، ونحن نعلم إن الدلالة القرآنية تتميز عن الدلالة الإسلامية بواسطة الشروط اللغوية والسيميائية والتاريخية لنشأتها. أما من الناحية اللغوية فمن السهل تبيان أن الخطاب القرآني يختلف عن كل خطاب آخر في اللغة العربية، نقصد بالاختلاف هنا التفوق الذي ركزت عليه نظرية الإعجازالتي سوف نحلل معطياتها الشكلية والنحوية والمعنوية والبلاغية والاسلوبية والايقاعية الخاصة بالقرآن، والتي كشفنا عنها عمليا وإجرائيا، ذلك أن المجاز يشكل بنية الخطاب القرآني كما ألمحنا سابقا، وهو الذي يتيح تغيير أو تحوير الوقائع الوجودية الأكثر يومية وابتذالا وتصعيدها وتساميها من أجل أسطرة الوعي الديني. ومن الناحية السيميائية فسيلاحظ القارئ أننا كشفنا عن النسق الذي ينتظم خلاله الخطاب القرآني وكيف أنه مركب كليا بواسطة مخطط معين للتوصيل، يظهر هذا المخطط أن الوظائف المسيطرة تمارس من قبل الله، والله يتواصل مع مرسل إليه ينقسم الى مؤمن وكافر، وتتم عملية التوصيل عن طريق وسيط ذي مكانة متميزة هو محمد وهو ليس مجرد ناقل للوحي فقط، ومن الناحية التاريخية، نلاحظ كيف أن الآيات القرآنية قد الممارسة الحياتية للنبي، ففي الوقت الذي كان فيه النبي يعبر مباشرة وبشكل محسوس عن ممارسات وأهداف عمله ومشروعه، كان القرآن يخلع نمطا من التعالي على هذه الأعمال والوقائع ويجعلها متسامية ومتعالية عن طريق ربطها بالمطلق، وهكذا أزيل تاريخ وأسماء الأماكن والأحداث الفردية من الآيات، لنزع الصفة التاريخية عنها وطولب الوعي بربط كل شيء في هذا العالم بالخالق الأعظم، إن القرآن يؤسس وعيا خاصا بالعالم والتاريخ والدلالة ولهذا فسوف يشرط فيما بعد وعلى مدار الزمن كله إدراك المؤمنين بالعالم وكل تعبير عنه، أما الأمر فيما يخص الظاهر الإسلامية فيختلف الأمر تماما ، فبعد موت النبي توقف الخطاب القرآني عن ممارسة دوره كقوة منظمة ترسخ وعيا في حالة الأنبثاق ضمن الأحداث المعاشة من قبل جماعة المؤمنين، بحيث يصبح بالتدريج مكانا أو فضاء ثابتا يرجع إليه للاسقاط ومرجعا يعاد إليه. أصبح يعاد إليه من أجل تبرير المعايير الاخلاقية والسياسية والشعائرية والقضائية التي ينبغي أن تتحكم منذ الآن وصاعدا بفكر كل مسلم وممارساته، ولكن راحت تسقط عليه في أزمان تالية مختلفة وفي آن واحد كل أنواع التصورات، والمفاهيم، والافكار، والتحديدات، التي تظهر الأواسط المهمة للمراكز الحضرية الجديدة ،( دمشق ، بغداد ، البصرة..... الخ ) إن المرور من ظاهرة القرآن الى ظاهرة الإسلام يتم على صعيدين متمايزين ومترابطين: صعيد الدولة والمؤسسات وعملية التمثل أو الدمج الايديولوجي للجماعات والمجتمعات .. دمجها داخل الأمة الإسلامية. وصعيد الانجازات العقائدية والثقافية وصعيد النفسيات الفردية والجماعية، في كلتا الحالتين نجد أن الاسلام هو عامل التغيير والتحول، ولكنه يتحول هو بدوره عن طريق عوامل وأشياء خارجية عليه، وكلما ابتعد عن منبعه الاولي كلما ازدادت حدة الحنين للصفاء الضائع، وكلما تحولت تلك اللحظة التاريخية الأولى الى لحظة اسطورية تتمركز فيها القيم الحقيقية والوسائل الفعالة من أجل النجاة في الآخرة. إن جانب الدولة والمؤسسات الرسمية معروف بشكل أكثر لأنه استرعى انتباه المؤرخين المسلمين أنفسهم بشكل مبكر جدا ، وأصبح الموضوع الأساسي للحوليات ثم للتاريخ الحديث، في هذا النوع من المؤلفات تتعدد السلالات الحاكمة المتتابعة التي حكمت باسم الاسلام، الذي استخدم في الواقع كمصدر للتبرير والتسويغ ، أي خلع لباس الشرعية على السلطة، وبهذه الطريقة شاعت فكرة الترابط والتضامن بين السلطة السياسية والدين، إن المؤرخين الذين كتبوا التاريخ أو نظروا فقط اليه انطلاقا من هاتين الذروتين قد قووا الرؤية الرسمية ورموا في دائرة النسيان القطاعات غير الخاضعة للسلطة الرسمية في كل مجتمع. ولكي يتم إنتاج تصور شامل عن شبكة البُنى والعلاقات الداخلية والخارجية للنصِّ المكتوب ينبغي أن تتجاوز عمليةُ القراءة حالةَ الاكتشاف البدهي أو حالة القراءة البنيوية للنصِّ في حالة الاكتشاف الأولى، إلى حالة القراءة التفكيكية لمجموعة البنى والعلاقات المشار إليها ضمن بنية النص. طبعًا هذا لا يحدث إلا بعد حدوث القراءة الاستنطاقية البنيوية كشرط لممارسة القراءة التفكيكية بمعناها الكلِّي. فحالة الاكتشاف الأولى هي حالة تنويرية، حالة بناء رؤية لممارسة الفعل التالي لعملية القراءة. القراءة التفكيكية تمثل القراءة المنتِجة، القراءة التي تستثمر ما أنتجتْه القراءة الاستنطاقية، بمستوييها البنيوي، وعليه يمكننا أن نصفها بالقراءة الكلِّية، القراءة التي أنتجت نصًا آخر متكئًا على النص المكتوب، أو القراءة الاستنباطية. وفي هذه الحالة تكون القراءة قد تجسَّدت، عبر مراحلها، في صيرورات أو استحالات متتالية لتثوير المعنى المرجو من وراء عملية الكتابة، أي تأكيد جدوى الكتابة كعملية بنائية ذات بُعدٍ دلالي يسهم في المشاركة في تدوين الوعي. إذن، يمكن تعريف القراءة، من حيث هي عملية استكشافية تنويرية تأويلية ذات بعد دلالي مقصود. وبهذا التحديد يمكننا أن نذهب مع المحاولات التي ترمي إلى اعتبار القراءة عملية مكمِّلة لعملية الكتابة؛ فلا قراءة بدون نصٍّ مكتوب. وبالتالي فالقراءة هي فعل ذهني منتِج يؤدي إلى استنباط نصٍّ جديد يعتمد في تشكله على آليات القراءة كعملية ذهنية ذات بُعدٍ مستقل، ربما يستمد بعض سمات تحفزه من النصِّ المكتوب. تُعتبَر عملية القراءة كأداء معرفية، إذن، عمليةً متكاملة تمرُّ بمجموعة مستويات، تبدأ بالاكتشاف أو التحرِّي الأول، الذي يسمَّى أحيانًا الانطباع الأول، ثم مرحلة الاستنطاق التي تعمل على تحليل البنى الداخلية وتفكيكها، لتمهِّد للقراءة التفكيكية في إعادة تشكيل الوحدات المعرفية إلى مُنتَج نهائي يصف سلوكَ النصِّ المكتوب ودوافعَه. وبهذا التعريف يمكننا القول إن القراءة تتبع تسلسلاً منطقيًّا في التعامل مع المنجز المكتوب – تعاملاً مثاليًّا لا عشوائيًا – في استدراج النص إلى مناطق أكثر إشراقًا. أو، بعبارة أخرى، تعمل القراءة على النصِّ المكتوب عملاً تنقيبيًّا من حيث قصدية واضحة. لا شك في أن القراءات تتفاوت من حيث أهميتُها وقوتُها على الاجتراح والخرق والتأثير بالتخييل الخلاق والمجازات المبتكَرة والمفاهيم الخارقة. القراءة الخصبة هي جرح لكن هذا لا يعني أن تكون القراءة مجرَّدة ومحايدة، ولا يعني أن نمتنع عن الاستعانة بالأمثلة الفكرية في معالجة مسائل تخصنا وتهمنا في عالم اليوم. على أية حال، فإن مفردة "القراءة" تحتاج إلى معالجة مستفيضة مخصوصة بحقل معرفي معيَّن. ولن ينفعنا التعميم هنا، ولا اختزال القراءة في الحقول كافة فالكلمة تحيا حياتها في سياق معين، ويتسع معناها باتساع مركِّباتها ومحمولاتها، وباتساع مجالها التداولي وخرقها للمسبَّقات اللغوية والمعرفية، عبر الخلق وإعادة التشييد على مقام معيَّن للفكر، وليس عبر المجاز وحده، نظرًا لأن ليس كل مجاز هو عبور نحو فضاء جديد تنكَّس معه قوالبُ المعرفة وحتميات الواقع. وقد لا يغني المجاز إمكانات الوجود ولا يثري عالم الفهم ولا مفردات اللغة. في المقابل، فقد حدث توسُّع وتغيُّر في استعمال مصطلح القراءة ومفهومها، إنْ في الحقل أو المقام، ولم تعد العلاقة بين النص والواقع وحيدة الجانب والاتجاه، بل أصبحت مركَّبة ومزدوجة أو متداخلة وملتبسة، بمعنى أنها تتشكل وتُبنى بتغيير كلِّ واحد من الطرفين الداخلين في بنائها؛ وصار العالمُ نصًّا يحتاج إلى القراءة والفهم. ومن جهة التغير في النص، فإن النصوص أصبحت، منذ زمن، تُعامَل كوقائع خطابية لها منطقها وقوانينها، أو كأحداث فكرية لها أثرها ومفاعليها، بصرف النظر عن مراد مؤلِّفيها. ولم يعد النص مجرد ناطق باسم المؤلِّف أو مجرد مرآة تعكس الواقع، بل أصبح هو نفسه واقعةً تخضع للدرس والتحليل، ليس فقط من حيث منطوقُه وطرحُه، بل كذلك من حيث بنيتُه ومنطقُه وآليةُ عمله، أو من حيث قواعدُ تداوله وتشكيل سلطته. ولهذا أصبح النص، كواقع خطابي، حقلاً لإنتاج الأفكار والمعارف، على نحو تتغير معه مفاهيمنا للفكر واللغة أو للمعرفة والحقيقة، كما تفيدنا بذلك المنجزات التي أسفرت عنها فتوحاتُ الدرس المعرفي حول الخطابات والنصوص والرموز اللغوية. ويحتمل النص أكثر من قراءة، بحيث تختلف القراءات وتتفاوت من حيث علاقتُها بموضوعاتها وبالمواد التي تعمل عليها. وما يقال على النص يمكن قوله على الحدث، من جهة أنه لا يُقرأ قراءةً وحيدة الجانب أو الدلالة أو الوجهة، كبنية مقفلة أو سلسلة محكمة أو حتمية صارمة، وإنما يُقرأ بوصفه منبع إمكاناته، بقدر ما يُعامَل من حيث تداخُلُ مستوياته وتراكُبُ طبقاته، أو من حيث تعددُ أبعاده وتفاوتُ سرعاته، أو من حيث صيرورةُ هويته وحِراكُ معطياته. ولذا فهو يحتمل أكثر من قراءة، بقدر ما هو حصيلة لما لا يتناهى من الظروف والحيثيات والانفعالات والتصورات والمفردات التي كانت تتجمع وتتراكم أو تعتمل وتتفاعل لكي تسهم في إنتاجه وانفجاره يكمن أن لا نتحدث عن موت المؤلف بهذا السياق وعلى هذه الشاكلة المعرفية المغرقة في التوصيف بالقدر الذي يحضر فيه النص كمجال للتداول في حالة إنعزال تام عمن اجترحه وعمن أعاد خلقه بإعادة تداوله. بقي أن أشير الى أنني سوف أستشهد بنصوص طويلة وهي بمثابة محاولات جريئة لعدد من مؤريخي الفكر الاسلامي الذين أحدثوا انزياحات بالغة الأهمية في الدراسات الاسلامية المعاصرة وهم: المستشرق الفرنسي موليان بيير، والمأسوف عليهما محمد أركون ونصر حامد أبو زيد، و سروش، والمستشرقة الأسترالية كاترين ... الخ.
#تيسير_الفارس_العفيشات (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تفكيك النص القرآني - تحليل البنى اللغوية والدلالية - المقدمة
...
-
نيوزلندا-- زيارتي إلى جبل ألكوك
-
قراءة مواربة في تجربة الشاعر السوري سامي احمد ....
-
نيتشه - ومفهوم العدمية
-
الشاعر أحمد أبو ردن ....
-
نيوزلندا ... زيارتي إلى أوكييا أقدم كنيسة في نيوزلندا
-
مع قصيدة سميح وجه في المرآه
-
بقايا مدينة وآثار صلاة لم تكتمل
-
رحلتي الى جبل تاراناكي في الجزيرة الشمالية / نيوزلندا
-
رحلتي الى دير جون سانتا في هضاب مدينة هستن ....الجزء الاول
-
مايكوفسكي وصديقه يسينين
المزيد.....
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
-
إيهود باراك يفصح عما سيحدث لنتنياهو فور توقف الحرب على غزة
-
“ألف مبروك للحجاج”.. نتائج أسماء الفائزين بقرعة الحج 2025 في
...
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|