|
ماتيلدي سيراو والاحتضار بين زهور الفل
سعاد جبر
الحوار المتمدن-العدد: 1445 - 2006 / 1 / 29 - 12:32
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
قراءة نقدية في نص بائعة العطر من روائع الأدب الأيطالي تشكل إبداعات ( ماتيلدي سيراو )* مساحة مضيئة في الأدب الإيطالي ، واعتبرت تلك الكاتبة الموهوبة عبقرية أدبية في تاريخ الأدب الإيطالي ، لما امتلكته من موهبة متفردة في التصوير الفني لنصوصها القصصية ، وعكسها الفئات المهمشة في المجتمع الإيطالي ، عبر فنيات إبداعية ، تتشكل في التقاط الحياة في جزيئاتها بصورة مؤثرة مدهشة ، وعذوبة مشوقة في السرد ، حتى اعتلت عرش الإجادة الفريدة في التقاط النفس الشعبية ، ومن جملة العقد الفريد لإبداعاتها ، بائعة الزهور(1) ، التي تعكس من خلالها لوحة فنية أدبية لمتسولة صغيرة ، برعت الكاتبة في التقاط أنفاسها المتحشرجة ، وتعابير المعاناة في محياها ، ومساحات الخوف التي تترصدها وهي ابنة السابعة ، وصور الألم التي تتضور في جسدها عند مصانع البسكويت ورائجة الخبز المنتشرة من المخابز، وملامح اندهاشاتها من العالم الأخر فيما وراء ( سانتا باريرا ) ورمزت له الكاتبة بتعبيرها ( من فوق فترصد الكاتبة استهلالة قصها بمشى الصغيرة بتمهل على حافة الجدار لسوق التجار الضيقة والمعوجة وعيناها ترمق الأماكن العالية ، من البقعة السفلى التي ترزخ تحت نير جوعها وبؤسها ، في أزقة مظلمة تدور فيها يمنة وشمالا مع الفئات المهمشة الفقيرة في المجتمع الإيطالي طلبا لثمن رغيف خبز هي غاية مناها في الحياة وتتشكل أيدلوجية الكاتبة بالسخرية من اعتبارات دينية واعتبارات اجتماعية في أنصاف تلك المتسولة الصغيرة ؛ التي فقدت أمها ولم تبك وتصرخ ومضت في أزقة الظلمات طلبا لرغيف خبر في معترك الحياة وصراع البؤساء في الحياة ، إذ تتشكل في النص رؤية الكاتبة لوهمية تلك الرموز الدينية في مساحاتها القصصية ، وانها تبقى تماثيل جامدة لاتملك حياة لتلك البائسة الفقيرة ، تطالعها الفتاة الصغيرة ، وتمضي إلى طريق فقرها اللامتناهي وفي الوقت ذاته تتشكل العذابات من تلك الفئات المترفة في المجتمع ، والفئات المتنفذة في المجتمع؛ التي تزيد من بؤس المعاناة وتجريد الفتاة الصغيرة من إنسانيتها؛ من خلال الرؤية الفوقية لآفة التسول وضرورة سجنها دون نظرة حانية رقيقة لأحتضان تلك الفتاة الصغيرة وإنقاذها من ظلمات مدلهمة ؛ تتكدس ألماً ومعاناة في حياتها الشقية البائسة، حيث تغفى الضمائر ولا تستيقظ وتبرع الكاتبة في رمزية مفردة ( من فوق ) في لغتها القصصية؛ لتخترق تلك الطبقة الأرستقراطية في ذهنية تلك المتسولة البائسة ، حيث تترصد مساحات الخوف والفضول في رحلة مؤلمة؛ تنكشف دقائقها عبر تقنيات القص المبدعة لدى الكاتبة: " كانت تتبع طريقها حتى ( سيريليو) وتعود أدراجها دائما في خطى حذرة كي لاتتعثر على طول الجدران ، اوبين أقدام السابلة ، تلك الأزقة السوداء ، ذلك العار، ذلك البؤس ، الدهانات ذات الأطياف ، انعدام الشمس ، سحنات المرابين ، والبائعين ووجوه سماسمرتهم المتشككة ، والملامح المتوحشة للمومسات ، تلك البضاعة التافهة الزاخرة بالغبار ، والفاسدة ..كانت كل عالمها ، كانت بالتسكع تشعر انه في ماوراء سانتا باربرا ...في نهاية شارع الأميرة مارغريدا ، كان يوجد عالم أخر ، لكنها كانت تخشى أن تواجهه ، كان لديها منه خوف وحشي ، كانت تطلب صدقة ، لكن مراراً كثيرة ، ما كانوا يعطونها جميع أولئك الناس المسرعين ليربحوا المعاش القاسي ...."
وتتواكب الإضاءات الخافتة للنص في عكس معاناة تلك الصغيرة البائسة، والتعبير عن انكساراتها اللاشعورية " كانت تطلب بصوت مرتفع ( صولدو ... رغيف " وبعدها كان الصوت ينحدر برنته ويعود متوسلا ، ويختنق باكيا، بينما بعض دموع باردة كانت تنحدر على خديها، وبالرغم من كل هذا كانت تتابع الذهاب والمجيء كل ذلك يتم بإلهام ، مدندنة بكلمات مبهمة ، حتى إذا جف الصوت في حنجرتها المتحترقة ، عندئذ كانت تطلب صدقة بتنبيه النظر ....وفي نهاية النهار ..تترنح بدوار ثم تجرجر نفسها حتى درجات كنيسة " بورتانوفا " وهناك تظل بلا حراك ، منكمشة كثوب مهترئ تخرج منه حشرجة مخنوقة " وتتشكل المفأجات القصصية في إضاءة بنفسجية في النص تتدفق حيوية في النص ، في يوما ما من حياة تلك الصغيرة البائسة ، من خلال تجمع جماهيري وهم يتدافعون ، وتندفع معهم تلك الصغيرة بين تناثرات الورد وامرأة جميلة بين الحرير والورود ، والرعب ينال الصغيرة من هول ومفأجاة المشهد وبمحاذاتها امرأة أنيقة بملابس سوداء تحمل سلة صغيرة من الأزهار ، والنقود تتكدس في قعر السلة الصغيرة ، فيقع عود وفلة بين يدي الصغيرة ، فتتوزع ابتسامتها عليه ، وتزرع الفلة بفتحة قميصها ، لكن سرعان ما تنهال الصرخات واصوات الشتم لها في عز أمنياتها بأن تكون مثل هذه البائعة ، وامتعاضات من وجودها ، إذ يجب أن تسوقها الشرطة على السجن للتخلص من ظاهرة التسول المقيتة في المدينة ، فعند تلك اللحظات المؤلمة وعند إسدال النص نهاياته المؤثرة ، في فنياتها التعبيرية العالية، وهي تبيع الزهور بصورة أليه في تنهيدة بطيئة تنهض لها الصدر ، كان الفرج بشراء جندي فلة منها ، ونيل " صولدوا " لتشتري بها رغيف خبر ، ومشهد السيارات التي تسبب الدوار ومشاعر الخوف لديها ، وعبورها مضطرة خائفة الشارع إلى الجانب الأخر ليسدل النص على صرخة امرأة في سيارة عابرة نالها الإغماء " وبمحاذاة الرصيف كائن برئ يحتضر وساقه مدعوسة ، كانت تحتضر بين زهور الفل التي انتشرت حولها ، ضاغطة بيدها على صدرها وقابضة باليد الأخرى على رغيفها الصغير بوجه ابيض وصارم . وكان فمها نصف مطبق ، وعيناها الكبيرتان المندهشتان والمتألقتان في السماء " وهناك تبرز رؤى الكاتبة المبدعة التي اختارت الفئات المهمشة نبضا لولادة نصوصها الإبداعية ، في التعبير عن معاناتهم وفقرهم ، في ظل لوحة اجتماعية منكسرة مؤثرة ، ترصد الواقع آنذاك بكل تجلياته ، وبكل عفوية ومصداقية مرهفة ، وشفافية نازكة ذات نفس طويل في السرد والتصوير، مما مكن الكاتبة من اعتلاء عرش القصة الإيطالية في زمنها العريق ، واعتبارها عبقرية قصصية في الأدب الإيطالي . وعند انحناءات أغصان الفل الناعمة ، وتراقصات فلة الإبداع أودعك أيها القارئ العزيز بالحب والسلام ، وعليهما ألقاك عبر تفتحات بنفسج الإبداع والق زنابق القص العالمي ــــــــــــــــــــــــ *ماتيلدي سيراو من افضل كاتبات إيطاليا واكثرهن آثراً في الحياة الفكرية ، ولدت في باتراس باليونان عام 1856، وبدأت منذ نعومة إظفارها المساهمة في صحف نابولي ككاتبة ، وكثير من الصحف الإيطالية مدينة بوجودها لماتيلدي سيراو ، وافتها المنية عام 1927 تاركة وراءها إرثاً فنياً ضخماً يناهز الأربعين مجلدا منها( القلب القاسي عام 1881) و(خيالات عام 1883 ) و( جيوفانا 1887) و(اللامميز1894) و (المخادع1898) ـ بائعة العطر : ترجمة عوض شعبان، المؤسسة العربية للدراسات والنشر،1981بيروت ـــــــــــــــــــــــ
#سعاد_جبر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هندسة الذات (5) : استراتيجيات تحفيز الذات نحو المذاكرة
-
ابداعية تماهي الحوارات في نص لاتسأليني
-
فوب هانسون وتمرد الشفاه الحمراء
-
هندسة الذات (4) / تطبيقات عملية
-
فرجينيا وولف من خلف أشجار القص
-
ثقافة الحوار ..نهوض واستقرار
-
هندسة الذات 3 3
-
ندوة سيكولوجيا الأدب: الماهية والواقع
-
رصد اهتزازت الشعور وانثلامات الوجدان في الإبداعية الأدبية
-
ثنائية التفرد ، العمومية في المشهد القصصي
-
ثنائية العبقرية ، الجنون في الأبداعية الأدبية
-
الأسماء المستعارة في العوالم الأدبية ، إلى اين ؟؟
-
تساميات لغة الورد بين رونسار وفاروق مواسي
-
الأنوثة والوجود
-
الرؤى الإجتماعية في نص احلام فتاة شرقية
-
ثقافة الحوار : الواقع والأزمات
-
الأنا الذكورية ومشاعر الانوثة المستلبة
-
رصد لحظة التوهج في الإبداعية الأدبية
-
المسكوت عنه والمقموع في النص الأدبي
-
الثقافة والإبداع
المزيد.....
-
من قوته إلى قدرة التصدي له.. تفاصيل -صاروخ MIRV- الروسي بعد
...
-
نجل شاه إيران الراحل لـCNN: ترامب و-الضغط الأقصى- فرصة لإنشا
...
-
-لقد قتلت اثنين من أطفالي، فهل ستقتل الثالث أيضا؟-: فضيحة وف
...
-
كيم: المفاوضات السابقة مع واشنطن لم تؤكد سوى سياستها العدائي
...
-
الوكالة الدولية للطاقة الذرية تعتمد قرارا ينتقد إيران لتقليص
...
-
ZTE تعلن عن أفضل هواتفها الذكية
-
مشاهد لاستسلام جماعي للقوات الأوكرانية في مقاطعة كورسك
-
إيران متهمة بنشاط نووي سري
-
ماذا عن الإعلان الصاخب -ترامب سيزوّد أوكرانيا بأسلحة نووية-؟
...
-
هل ترامب مستعد لهز سوق النفط العالمية؟
المزيد.....
-
-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
/ نايف سلوم
-
فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا
...
/ زهير الخويلدي
-
الكونية والعدالة وسياسة الهوية
/ زهير الخويلدي
-
فصل من كتاب حرية التعبير...
/ عبدالرزاق دحنون
-
الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية
...
/ محمود الصباغ
-
تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد
/ غازي الصوراني
-
قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل
/ كاظم حبيب
-
قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن
/ محمد الأزرقي
-
آليات توجيه الرأي العام
/ زهير الخويلدي
-
قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج
...
/ محمد الأزرقي
المزيد.....
|