|
الديمقراطية الليبرالية في أزمة، في العالم وعندنا
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 5520 - 2017 / 5 / 14 - 18:24
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
ليس لفوز ماكرون في الانتخابات الرئاسية الفرنسية أن يحجب أزمة عميقة في الديمقراطية الليبرالية التي بدت خلال جيل كامل أفق الطوبى العالمية الوحيدة، حتى أن فرانسيس فوكوياما أنهى التاريخ عنها. وليس فوز دونالد ترمب في الانتخابات الرئاسية الأميركية قبل شهور قليلة، هو الشاهد الوحيد أو حتى الأبرز على أزمة الديمقراطية الليبرالية. من المؤشرات الأهم توقف التحولات الديمقراطية عالمياً، وصمود التسلطية في الصين وروسيا وإيران، وصعودها في تركيا، وتحجر النظم السياسية في أوربا الشرقية من وراء لبرلة فوقية، وتجدد الطغيان والتعفن في العالم العربي، فضلاً عن صعود حركات اليمين الشعبوي في الغرب. المشترك بين هذه الحالات وغيرها هو الضعف السياسي المتفاقم للجمهور العام، وتنامي قوة نخب السلطة والثروة في كل مكان. العالم اليوم يبدو خالياً من أي طاقة ديمقراطية كامنة، أو مركز ديناميكي عالمي دافع نحو التغير. والغرب الذي كان مركز العالم طوال قرنين ونصف لا يزال الأقوى والأغنى بما لا يقاس، لكنه يبدو متخبطاً سياسياً وفكرياً، فلا يتحكم بنفسه ولا يقدم نموذجاً لغيره. لا يقتصر الأمر على أنه لم يعد قوة تغير على المستوى العالمي، يبدو بالأحرى قوة محافظة وانكفاء في نطاقه الخاص. لم ينجح اليمين العنصري في فرنسا، لكن معركة الديمقراطية في فرنسا وفي غيرها تبدو معركة تراجعية دفاعية. كسب هذه المعركة لا يزال مهماً، إلا أنه لا يبدو أن هناك ما يمكن بناؤه على هذا الكسب على مدى أطول. قبل فرنسا، تحقق فوز مشابه في هولندا، لكن هزيمة اليمين القومي العنصري في الحالين ليس انتصاراً نهائياً للديمقراطية، ولا حتى في البلدين ذاتيهما. "الشعب" ضعيف سياسياً في البلدين وفي غيرهما، والديمقراطية تكاد ترتد إلى التمثيل (وهو سابق للديمقراطية ولا يقتضيها) وإلى انتخابات دورية تضمن تداولاً سلمياً للسلطة محصوراً في دوائر ضيقة. وليس هناك أي ضمانات في أن من خسروا الجولة اليوم لن يكسبوها غداً. ليس هناك مراجعة لأي أساسيات في التنظيم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، ولا يبدو أن هناك تطلع لتغير في النظام الدولي على نحو يوفر عدالة أكبر للأكثر حرماناً، ويدرجهم في عالم يدافعون عنه. باختصار، يفتقر النظام إلى أي كوامن ثورية. يُحاول أن يكون مسلياً بدل ذلك، لكنه يثير مللاً متزايداً أيضاً. يتكلم كولن كراوتش على "ما بعد الديمقراطية"، أوضاع سياسة لا تأتي قوى التجدد فيه من التعبئة السياسية لكتل سكانية اكبر وللصراع السياسي، ويلعب الخبراء ونخب ميسورة الدور الحاسم فيها. هذا ما يبقى الباب مفتوحا أمام صعود اليمين العنصري مستفيداً من مشكلات اقتصادية وأمنية، ومن فتور عام وضياع للوجهة. ما كان جعل النموذج جاذباً حتى نحو عقد واحد من اليوم هو ما بدا من قدرته على تجاوز نفسه، على توسيع قاعدة المستفيدين منه واستيعاب طاقات جديدة. اليوم يبدو أنه يضيق بأهله، وليس بالوافدين الجدد وحدهم. كان يمكن لـ"أزمة اللاجئين" أن تكون حدثاً عارضاً، لا يلبث النظام أن يتجاوزه وربما يجدد به نفسه، لكن الاستجابة تبدو دفاعية أكثر: من جهة يصعد اليمين القومي العنصري (في مواجهة لوبان الأب فاز شيراك الفاسد بـ82% من أصوات الفرنسيين قبل عقد ونصف، وفي مواجهة ابنته فاز ماكرون غير الفاسد بأقل من ثلثي الأصوات)، ومن جهة أخرى تبدو أوربا المتأثرة بأزمة اللاجئين مستسلمة لواقعة أنها لا تستطيع ممارسة دور مستقل في معالجة الجذور السياسية للأزمة. في الوقت نفسه يبدو أن البنيان الدولي القائم اليوم يحول دون بروز إمكانية لتجديد شباب الديمقراطية من خارج الغرب. ليس أن هذه الإمكانية جاهزة، لكن ميل القوى الدولية النافذة، الولايات المتحدة بخاصة، إلى السيطرة على عمليات التغير في مجالنا من العالم تحول دون تولد قوى اجتماعية أصيلة وحية. في سورية أجهضت عملية التغيير بقيادة أميركية "من الخلف"، بذريعة فقدان البديل مرة، والخشية من سيطرة الإسلاميين مرة، وهو ما يضمر إرادة تحكم بالعملية ومخرجاتها، وحرمان السوريين عملياً من سياسة أنفسهم وتدبُّر أمر تاريخهم. هذه عملية قلقة لا ضمانات فيها، مثلها في ذلك مثل تاريخ أميركا ذاتها وتاريخ فرنسا وغيرهما. وفي إرادة السيطرة على التغيير في مجالنا ما يدل على خوف من التغيير، وتفضيل للاستقرار أو للشيطان المعروف على شياطين مجهولين. وراء هذه التعبير الشائع إلى حد الابتذال، هناك خوف مميز للقوى المحافظة من مخاطر التغيير وعواقبه غير المأمونة. والقضية السورية تؤشر في تصوري على نهج أعم: محاولة التحكم بالتغير في العالم من قبل قوى مغرورة لا تتغير هي ذاتها، وتنزع إلى افتراض الكمال في نفسها. العالم في أزمة لهذا السبب بالذات: القوى المسيطرة عالميا تغلق منافذ يمكن أن يأتي منها جديد مختلف، وهي تخوض حرباً من أجل ذلك. إن كان ما يجري في سورية هو حرب أهلية، فهي ليست بالقطع حرباً أهلية سورية (ما دامت أميركا وروسيا وإسرائيل وإيران وتركيا والجهادية الشيعية والجهادية السنية عندنا)، بل هي حرب أهلية عالمية. وهي حرب رجعية جوهرياً، ومعادية للتغيير. ليس أن التغير السوري كان مضموناً أن يؤدي إلى أوضاع طيبة أو ديمقراطية. لكن طي صفحة إجرامية لا يحتاج من أي عادلين إلى إعداد البديل سلفاً. طي الصفحة هو الشرط الضروري لولادة البديل. أما حماية القديم السوري، أو هندسة الخراب العام إلى حين يتحكم النافذون تماماً بتغيرنا، فهو الضمانة القطعية في أن لا يولد جديد حي. سورية قد لا تكون مهمة جداً بذاتها، لكنها مثال على مقاومة التغيير برعاية إقليمية وعالمية، هذا بينما من شأن التغيير وحده واتساع نطاقات التغيير عالمياً أن ينقذ الديمقراطية. التغيير عملية عسيرة ومأساوية، لكن ليس غيرها يمكن أن يجدد شباب العالم. ومطلب التغير في سورية وغيرها مرتبط أصلاً بمتخيل العالم الواحد الذي حفّز سوريين إلى الثورة من أجل تغيير النظام والديمقراطية مثلما في بلدان كثيرة من هذا العالم الواحد، وهو ما دفع كثيرين منهم إلى أوربا تفضيلياً مع تحطم العملية التغييرية في سورية. المثال السوري يظهر أن البنى السياسية الدولية تحبط التحول السياسي الذي يحفزه الشرط العالمي المتداخل بالذات. لكن هذا يعود منذ الآن على هذه البنى بمزيد من اللافعالية والنفول، وعلى القوى القائدة فيها بتراجع الديمقراطية فيها ذاتها. في عالم واحد، يتمثل التحدي اليوم في تعميم الديمقراطية عالمياُ، وإلا فتراجع الديمقراطية في مراكزها الأقدم، والاستسلام التدريجي أمام السياسات القومية واليمينية والدولانية. والأرجح أنه يمتنع تولد طاقة تحررية كامنة على الأرضية الديمقراطية الليبرالية التي تطورت خلال العقود الثلاثة الماضية باتجاه حكم (قراطية) أكثر وشعب (ديموس) أقل (الشرط ما بعد الديمقراطي). الطاقة تأتي من انخراط أوسع للبشر في تحديد مصائرهم ومصائر الكوكب. هذا ما كان حفز فكرة الديمقراطية أصلاً، وما حفز نقدها الاشتراكي أيضاً. وهو ما يقتضي دخول من لا يزالون في الخارج مثلنا. لسنا تهديداً للعالم، بل لعله لا يتجدد من دوننا. لا نستطيع في سورية أن نبقى خارج التفكير في هذه الشؤون. ليس فقط لأن الثورة في بلدنا كانت بصورة ما ضحية أزمة الديمقراطية الليبرالية عالمياً، وإنما كذلك لأن هذه الأزمة توافقت مع تحطيم بلدنا، وكانت أقرب إلى تعهد هذا التحطيم دون أصوات احتجاج فكرية وسياسية مسموعة في الغرب. ثم إن التحطم الواسع والمتنوع الأشكال للـ"ديموس" السوري يجعل من المثابرة على التفكير الديمقراطي الليبرالي التقليدي بأن يكون ضرباً من الكسل الفكري، يعتم على مشكلات السياسة والمجتمع والتنظيم السياسي والدولة اليوم، أكثر مما يضيئها. لعل هذا أحد منابع انعدام وزن المعارضة التقليدية العلمانية: ليس لديها أفكار مميزة حول سورية ما بعد أسدية تتجاوز ما كان قيل في أواخر سبعينات القرن العشرين واستعيد أيام "ربيع دمشق": تعددية سياسية وسيادة القانون والمواطنة، ما يبقي القضايا الإثنية والدينية خارج النقاش عملياً، وكذلك القضية النسوية، ومشكلات التنظيم الإداري السياسي في اتجاه غير مركزي، كما يُغفل بقدر واسع أيضاً "المسألة الاجتماعية". يستحسن في تصوري بناء تفكيرنا على أن فرصة تغير ديمقراطي في سورية قد ضاعت "إلى الأبد"، وأن تجددنا صار يندرج في تغير عالمي يرجح له أن يقتضي مراجعة الأسس الفكرية والقيمية الموروثة للديمقراطية الليبرالية. ليست المسألة أن نتخلى عن أهدافنا أو نبدِّلها بغيرها، بل أن نغير مناهج تفكيرنا وأدوات عملنا بالضبط من أجل أن لا نتخلى عن أهدافنا في المساواة والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، والحلم بعالم واحد يُدافع عنه. وتتجسم الأزمة فيما يخصنا في حقيقة أن تياراً واسعاً من اليسار العالمي يبدو شريكاً للفاشيين الغربيين في مساندة الدولة الأسدية، وهو على كل حال في بلدان الغرب ذاتها يعرض عجزاً متفاقما عن اقتراح آفاق تحررية مغايرة ويبدو جزء من الماضي الغابر، لا من مستقبل واعد. الأزمة عامة، والمخارج لا بد أن تكون عامة. وبينما لا نستطيع التنبؤ بالمستقبل، فإننا نعلم يقيناً أن الحاضر سيء.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تشومسكي في نظرة سورية
-
صادق جلال العظم: الاستشراق، الاستشراق المعكوس وسياسة المثقف
-
سورية بين مستحيلات ثلاثة
-
داعش في العالم: الآثار الحقوقية والسياسية لظهور كائن مجنون
-
السُّنّة التدمُرية: صيدنايا، التحول العنصري، الإبادة
-
سميرة... العلوية!
-
العار والذات
-
سميرة ورزان والحجاب: استعادة كرامة السفور
-
-سورية، الدولة المتوحشة-: الكتابة ضد الاختزال
-
سميرة من سورية
-
سورية واليسار الأنتي امبريالي الغربي
-
يوم للصمت
-
النظام الشرق أوسطي والسياسة المستحيلة
-
تجربة الغياب: عن سميرة ورزان ووائل وناظم
-
من أجل سياسة ديموقراطية جذرية في شأن المسألة الإسلامية
-
حرب بالإجماع بلا قضية عامة
-
المسألة الإسلامية والعالم
-
سورية والعالم في أواخر العام السادس
-
البحث عن اليقين والقربان في -مراجعات- سورية
-
سميرة التي وراء سبعة جدران
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|