|
دامداماران [13] الحنيفية
وديع العبيدي
الحوار المتمدن-العدد: 5516 - 2017 / 5 / 10 - 18:33
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
وديع العبيدي دامداماران [13] خامسا: الحنيفية (حنفاء لله غير مشركين به)- (الحج 31)
الحنيفية: ديانة.. الحنيفية: مذهب او نسك. ومنها اسم الفاعل: [ حنيف: حنفاء/ أحناف]: جماعة زعموا انهم على دين ابراهيم، لم يكونوا يهودأَ ولا صابئة او نصارى، ولم يشركوا بربهم أحداً. سفهوا عبادة الأصنام، وسفهوا رأي المعتقدين بها. وهم بحسب هذا التوصيف الاسلامي، لم يعترفوا بالديانات الكتابية المعروفة لمفارقتها (دين ابراهيم). وقد أشير إلى [الحنيفية و الحنفاء] في كتب الحديث والاخبار. ومن ذلكم فيها حديث: [لم أبعث باليهودية ولا بالنصرانية، ولكني بعثت بالحنيفية السمحة]. وحديث: [أحب الأديان إلى الله الحنيفية السمحة]. وهو ما يؤيد قراءة عبدالله بن مسعود في سورة (ال عمران 19): [ان الدين عند الله الحنيفية!] ، ويتطابق مع نص (البقرة 135): [قالوا كونوا هودا او نصارى تهتدوا، قل بل ملة ابراهيم حنيفا، وما كان من المشركين]. ويتضح منه ان (الحنيفية) تخذت (ابراهيم) مرجعا روحيا، ورمزا دينيا لمعتقدها، بغض النظر عن مدى واقعانية الامر، او اسناده التاريخي بقرائن دينية. والواقع ان التصوير القرآني لشخصية ابراهيم، افضل ما يجسد هذا التصور الحنيفي، او المعتقد الحنيف. ويقتضي هنا التمييز بين التصور/ التصوير القرآني لشخصية [ابراهيم ابن ازر] في القرآن، وشخصية [ابرام/ ابراهام بن تارح] في سفر التكوين التوراتي، ونصوص الكتاب المقدس الجامع للعهدين عامة. وقد نعته الفكر الاسلامي بأبي الانبياء، بينما هو [أب لجمهور من الامم]-(تك 17: 5) في التوراة. أما صفة ابي لانبياء فقد جاءت في وسم ايليا التشبي (875 ق. م.) رئيسا للمدرسة النبوية لبني اسرائيل، بحسب الأب متى المسكين [1919- 2006م]. ولدى بعض أهل الأخبار ان الحنيف قبل الاسلام، هو: (من اختتن وحج البيت). فكل من اختتن وحج البيت هو حنيف. وقد رأى الطبري [838- 923م] ان ذلك لا يكفي، بل لا بد من الاستقامة على ملة ابراهيم واتباعه عليها. وقد ورد الاختتان/ الختان لأول مرة في سفر التكوين التوراتي بالنص:[هذا هو عهدي الذي بيني وبين ذريتك من بعدك، الذي عليكم ان تحفظوه: أن يختتن كل ذكر منكم، تختنون رأس قلفة غرلتكم، فتكون علامة العهد الذي بيني وبينكم. تختنون على مدى اجيالكمن كل ذكر فيكم، ابن ثمانية ايام، سواء كان المولود من ذريتك، أم كان ابنا لغريب مشترى بمالك، ممن ليس من نسلك!]- (تك 17: 10- 12) ولفصل القرآن الختان عن ديانة العبرانيين وقصرها على (دين ابراهيم) الذي لا ترد عنه معلومات خارج التوراة، يضع نفسه امام اشكالية – دينية-، أم دين ابراهيم (ختان) فقط. أما فكرة (الحج) فهي مضافة لاحقا – اضافة اسلامية ارتجاعية- وذلك لعدم وجود الكعبة في زمن ابراهيم الذي يعود بحسب حسابات علماء التوراة الى القرن السابع عشر قبل الميلاد. وظهور قرية (بكا/ مكة) لا يتعدى القرن الرابع الميلادي بحسب بطليموس، وبالتالي فالكعبة حديثة العهد. وحتى بعد انتشار الاسلام كان المسلمون يتوجون الى بيت المقدس في الصلاة اسوة باليهود والنصارى. ولم تتغير قبلة المسلمين الى (مكة) الا في العام الثامن للهجرة أي قبل وفاة النبي بعام او عامين. وسورة البقرة التي يرد فيها اكلام عن القبلة من السور المدنية أي السنوات الاخيرة، وهي لا تحصر التوجه لمكة الا في نص وحيدن وتجيز غيره ايضا. وباعتبار ان (الحج) هو زيارة – دينية- فهي من طقوس اليهود القديمة وطقوس النصارى السنوية الى كنيسة القيامة وكنيسة الميلاد في القدس. وكان الحج الاسلامي حتى عام انشاء اسرائيل في (1948م) يشمل القدس. ومن بعد (1967م) امتنع نهائيا حج المسلمين الى القدس. تعريف (الحنيف) بأنه [من اختتن وحج]، يغفل أن العرب لم تتمسك بشي من دين ابراهيم غير الختان وحج البيت. والاختتان والحج هما من فروض وطقوس اليهودية ايضا المنتشرة على امتداد المنطقة من الشام ومصر حتى اليمن، مما يضعف نسبتها للحنيفية، واليهود هم اولاد ابراهيم بلا شك، وهم اول ذكره في كتبهم. ولو كانت (الحنيفية)= [حج البيت والاختتان] فقط، لوجب أن يكون كل من كان يختتن ويحج، من -المشركين- حنيفا مستقيما. وقد نفى الله أن يكون ذلك تحنفاً بقوله: (بل ملة ابراهيم حنيفاً مسلماً، وما كان من المشركين(. وبمكن القولان احكام الحنيفية.. 1- التوحيد 2- الاختتان. 3- الحج. 4- لامتناع عن أكل ذبائح الأوثان وكل ما أهل إلى غير الله. 5- تحريم الخمر على أنفسهم. 6- الإغتسال من الجنابة. 7- الميل للنظر والتأمل في خلق الله وسماواته. 8- اتباع الحق والاخلاص له. 9- اتباع وصايا ابراهيم وما أتى به. وجعلوا ذلك من العلامات الفارقة والمميزة للحنفاء عن سواهم. والواضح ان (الحنيفية) طريقة نسكية وزهدية في التمسك باصول العبادة والتأمل الالهي بواطة العقل، مع نبذ الدنيويات. وهو ما يعني الاخلاص لله، أي التخلي له، وعدم مشاكلة اهل العالم، ومشاركتهم في طرق المعيشة والسلوك واتباع الاطماع والنظم السياسية والاقتصادية، وهو يتطابق ووصية الانجيل: اسلكوا بالروح، ولا تشاكلوا اهل العالم، ولا تهتموا لأمور معيشتكم، ولا تقولوا ماذا نأكل غدا!. فهم بذلك اقرب الى تعاليم يسوع الجليلي، وادنى الى الجماعات النسكية التي ظهرت في ايام المسيح، ومنهم جماعة قمران في وادي الاردن. وقد لخص الفخر الرازي والطبرسي [1073- 1154م]، آراء العلماء في (الحنيفية) واجملاها في تفسيرهما لـ(البقرة 135):[وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا، قل بل ملة ابراهيم حنيفاً، وما كنت من المشركين]. فقالا ما نصه: وفي الحنيفية أربعة أقوال: احدها: انها حج البيت، وثانيها: انها اتباع الحق، وثالثها: انها اتباع ابراهيم فيما أتى به من الشريعة وغير ذلك، والرابع: انها الاخلاص لله وحده والاقرار بالربوبية والإذعان للعبودية!. ومما تقدم يلحظ، ان أهل الأخبار لم يكونوا على بينة تامة بأحوال الحنيفية، وعلم واضح بآرائها وأحكامها وأصولها، وانهم خلطوا في بعض الأحيان فيما بينها وبين الرهبنة، ولا سيما رهبنة النصرانية. وفي نفس الوقت، طابقوا بينها وبين احكام الاسلام وفروضه. فأدخلوا فيها من بجب اخراجهم عنها، لانهم كانوا نصارى، ومن هؤلاء: قيس بن ساعدة الأيادي وورقة بن نوفل، وعثمان ابن الحويرث، ممن نصوا نصاً صريحاً على انهم كانوا من نصارى العرب، ثم نجدهم مع ذلك يدخلونهم في جملة الأحناف. والمقصود هنا هو ابن اسحاق النوفلي [683- 750م] في السيرة التي اخذها عنه ابن هشام البصري المصري (ت 834م). فالحنيفية هي ديانة توحيد، ظهرت بتأثير اليهودية والنصرانية، غير ان أصحابها لم يكونوا يهوداً ولا نصارى، وانما كانوا فرقة مستقلة تأثرت بآراء الديانتين. وكانوا يسفهون عبادة الاصنام والمعتقدات المتعلقة بها. وربما كانوا جماعة، اخذت منهم وانشقت عنهم، كما هو شأن المعمدانيين والحرانيين– اتباع يوحنا المعمدان-. على ان عدم نسبتهم ليوحنا/ (يحيى النبي) فلغرض الابتعاد عن جماعة (الصابئة) المنتشرة جنوبي الفرات وشماله، ولغرض تأكيد الانتماء لابراهيم الذي ينتسب اليه اليهود والنصارى. وواقع الحال ان الصابئة ونبيهم (المعمدان) ينتسبون اليه ايضا، ويوحنا هو ابن خالة يسوع ابن مريم. الحنفاء، -اذن- طراز من النسّاك، زهدوا في الحياة الدنيا، وانصرفوا إلى التعبد للالهَ الواحد الأحد -إلَه ابراهيم-، ساحوا في البلاد على نحو ما يفعله السواح الزهاد بحثاً عن الدين الصحيح. فوصل [زيد بن عمرو بن نفيل] إلى الشام والبلقاء، ووصل عثمان بن الحويرث وورقة بن نوفل الى الموصل والشام، ووقفوا على اليهودية والنصرانية، وما تعلمه عن الحق والتوحيد. ومنهم من سعى لهداية قومه، وحثّهم على ترك عبادة الأصنام، فلقوا منهم غشاً ونصباً شديداً. ومنهم من كان يتأمل في الكون، فتجنب الناس واعتزلهم، والتجأ إلى الكهوف والمغاور البعيدة، وقد نبذوا الخمرة والأعمال المنكرة، وقول الفحش. وقد ذهب ولهوزن [1844- 1918م] إلى ان الأحناف هم من النصارى، وان حركتهم حركة نصرانية، وانهم كانوا القنطرة التي توصل بين النصرانية والإسلام. ويلحظ ان لفظة (مسلم) استعملت في مرادف معنى لفظة (الحنيف). وان ابراهيم هو أبو وأول المسلمين. وان (الإسلام) هو دين الله الحنيف، والدين الحنيف، وان شريعة الإسلام، هي الحنيفية السمحة السهلة، وذلك تمييزاً لها عن الرهبانية المتعصبة.
الحنيفية: لغة.. وللتراثيين الاوائل اراء وتفسيرات في أصل لفظة [حنيفية: حنيف- حنفاء- أحناف] ومعانيها. يقول البعض ان الأصل: (حنف)= بمعنى: (مال). وحنف القسمين ميل كل واحدة منهما نحو الأخرى. والحنًفُ هو الذي مال عن الضلال إلى الاستقامة، والحنف ميل عن الاستقامة إلى الضلال. والحنيف هو المائل. ومن هذا المعنى أخذ (الحنف). وأما (الحنيف)، فالشيء يميل الى الحق، وقيل الذي يستقبل. والحنيف المستقيم الذي لا يلتوي في شيء. والمرجح في ذلك ان: (الحنافة: الاستقامة)، والفاظ [الصراط، الصراط المستقيم]-(الفاتحة 6، 7) من دلالاتها القرآنية. وكلمة [صراط/ سرات: طريق/ شارع] في لغة الروم. وفي دمشق القديمة كان ثمة حي او شارع اسمه (صرات/ المستقيم) بالترجمة العربية، وردت اشارة اليه في محاولة جند الحارث القاء القبض فيه على بولس الطرسوسي/(اع 8: 11). وقد وردت لفظة (حنيفاً) في عشر مواضع من القرآن. ووردت لفظة (حنفاء) في موضعين، هما: [الحج والبينة]، من السور المدنية. وقد نص في بعض منها على ابراهيم، وهو على الحنيفية، وفي بعضها غفلا عن اسمه. ويرى المستشرقون ان أصل اللفظة (ارامي)، وهي معروفة عند النصارى/ السريان، وعنهم أخذها العرب، وصفوا بها القائلين بالتوحيد. ومنهم سكان اليمن ممن نادوا بالتوحيد وعبادة الرحمان. فيما ذهب بعضهم إلى ان اصل اللفظة (عبراني)، هو: [تحينوت/ tchinoth]، أو من [حنف/ Hnet] ومعناه التحنث في العربية، وذلك لما لهذه اللفظة من صلة بالزهد والزهّاد. وقال نولدكه [1836- 1930م]: انها من أصل عربي هو (تحنف)، على وزن –تبرر-، وهي من الكلمات التي لها معان دينية. كما وردت بمعانى: [الملحد، والمنافق، والكافر] في لغة بني إرم. ويطلق السريان لفظة [حنفه/hnefa] على الصابئة، بمعنى – مال عن الشيء- وهو المعنى المتعارف في لغة اليمن القديمة، والذي اخذ به اللغويون العرب. وقد اطلق المسعودي [896- 956م] وابن العبري هذه اللفظة على (الصابئة). وذهب المسعودي إلى أن اللفظة من الألفاظ السريانية المعربة. وقد اطلقت على (المنشقين) على عبادة قومهم الخارجين عليها. كما أطلق أهل مكة على النبي وأتباعه صفة: (الصابئ) و(الصباة). فصارت علماً على من تنكر لعبادة قومه، وخرج على عبادة الأصنام. ولدى جواد علي [1907- 1987م]: أن لفظة (حنيف)، هي في الأصل بمعنى (صابئ) أي خارج عن ملة قوم، تارك لعبادتهم. مؤيدا رأيه هذا، في ما ذهب اليه علم اللغة، من أنها من الميل عن الشيء وتركه، وبهذا المعنى وردت في النصوص الجنوبية. ولهذا نجد الإسلام يطلقها في بادئ الأمر على نابذي عبادة الأصنام، وهم الذين دعاهم بأنهم على (دين ابراهيم). ولما كان التنكر للاصنام هو عقيدة الإسلام لذلك صارت مدحاً لمن أطلق الجاهليون عليهم تلك اللفظة ذماً.
الاحناف: انتلجنسيا ارستقراطية.. جلً هؤلاء الآحناف، هم من أسر معروفة، وبيوت يظهر أنها كانت مرفهة أو فوق ستوى الوسط بالنسبة إلى تلك الأيام، ولهذا صار في امكانهم الحصول على ثقافة. وعلى شراء الكتب، وقد كانت غالية الثمن إذ ذاك، لنيل العلم منها. كما صار في امكانهم الطواف في خارج جزيرة العرب لأمتصاص المعرفة من البلاد المتقدمة بالنسبة إلى تلك الأوقات، مثل العراق وبلاد الشام. وقد اتصلوا كما يزعم أهل الأخبار فعلاً برجال العلم والدين فيها، وتحادثوا معهم وأخذوا الرأي منهم. ومن يدري فلعلهم قرأوا عليهم الكتب وفي جملتها كتب اليونان، أو ترجمات كتبهم بالسريانية، فحصلوا نتيجة لذلك على علم بمقالات اليونان وبآرائهم في الفلسفة والدين والحياة. وقد تكون بعض الاراء المنسوبة اليهم، من أصل يوناني، أخذوها من تلك الكتب ومن دراستهم على من اتصلوا بهم من العلماء، في أثناء وجودهم في العراق وفي بلاد الشام. وجميع المذكورين تحت عنوان (الحنيفية)، هم من [القارئين الكاتبين]، المهتمين بالكتب ومراجعتها، والمتابعين أخبار أهل الآراء والمذاهب والديانات. ولبعضهم علم باللغات الأعجمية كالسريانية والعبرانية، ولهم علم ووقوف على تيارات الفكر في ذلك الوقت. وقد أضافوا إلى علمهم الذي أخذوه من الكتب، علماً حصلوا عليه من أسفارهم إلى الخارج مثل العراق وبلاد الشام، ومن اتصالهم بالرهبان والاحبار ورجال الكنائس والمجوس. فهم بالنسبة لذلك الوقت الطبقة المثقفة التي نادت بالاصلاح، ورفع مستوى العقل، ونبذ الأساطير والخرافات، وتحرير العقل من سيطرة العادات والتقاليد البالية. ويمكن القول إنهم كانوا اناساً من النوع الذي نطلق عليهم كلمة (مصلحين) ، من الطراز الذي يريد اصلاح الأوضاع ورفع مستوى العقل. فهم جماعة ضد الأوضاع الاجتماعية السائدة في أيامهم، لكونها تمنع الإنسان من التقدم ومن ادراك الواقع. ويلحظ انه، كما استخدم الكاتب التراثي – الحنيفية- لتمرير خطاب زمنه، يستخدم المؤرخ المعاصر، -الحنيفية- لتمرير خطابه الحداثي العصري، القائم على تحرير وتنوير العقل. والاشارة للاوثان الراهنية المستمرة في الممارسات الدينية في غياب العقل والحس السليم. اما الكتب التي قرأوها وكانوا يتداولونها – على غرار اخوان الصفا مثلا- فلا ذكر لاسمائها ومؤلفيها، وما هي مرجعيتها واثارها!. وهل هي التوراة والانجيل، الفيدا وافستا أم الكنزا ربا؟.. ان الصمت التاريخي لكل ما يخص عصر ما قبل الاسلام من تاريخ ودين وثقافة، هو نتيجة مأساوية لمجازر تاريخية لسياسة: [(دم- هدم) و(تحريق- تغريق)]!، لاقسار الناس على استخدام (القرآن) مرجعا شاملا/(الانعام 38)، يحتوي اصول المعارف والديانات، وقهر الناس ثمة على قبول الاسلام. فليس من المنطق والعقل صمت المؤرخين والمؤلفين على غياب المعلومات هنا، وانعدام المصادر هناك، ومواصلة التغطية على اثار فتوحات سيف خالد ابن الوليد وغيره. وبشكل جعل الكتاب المعاصرين ينحنون للخطاب السلفي ولا يجرؤون على مقاربة الحق والحقيقة من غير تقية ونفاق، وهو فعله جواد علي ورهطه من –مراوغة وكر وفر- بين السطور. وبسبب مجازر ومحارق ومغارق الكتب والمكتبات التي اشار لجانب منها الباحث الوثائقي يوسف زيدان، انفجرت حملة تأليفية كبرى في عهد الانفتاح العباسي -[بين عهود هارون الرشيد الى اواخر عهد المعتصم] كان أغلب روادها ورمزها من بلدان الشرق المتضررة والمتدمرة من ممارسات الحكام الجدد، مما يأفوه من قبل من حكم الفرس وبيزنطه. ولكن هذا التأليف الجديد المتلون بين الخطين، هو ايضا ما بنى المشروع الثقافي الاسلامي والعروبي، وشكل اداة جاهزة لدور (باشكاتب) الحكم الجنوبي. ومنه ما سبق وصفه باعادة كتاب التاريخ من منظور اسقاطي للغالب على حساب المغلوب لتبرير وجوده وسيادته. وبينما يمكن بسهولة استنكار كل مزاعم الحنيفية والوثنية ووجودها، لانعدام الادلة والمصادر الاصيلة عنها، نجد الفكر المعاصر يستمر في تمرير افكار ضبابية ودعائية مشوهة، الغرض منها تبرير وتنزيه الخطاب السائد من جهة، ووصفه بالصح والحق المطلق، بينما تتهم المصادر التي نشأ في حاضنتها ونقل عنها، بالباطل والافتراء. وتبقى ثمة ازدواجية فكرية، وراء استخدام –(الحنيفية)- لاعتبارها -(أصل)- الاسلام من جهة، وتحميلها تبعات الانشقاق والهجوم على اهل الكتاب من جهة أخرى. فترى المؤرخ يذكر: [أن الحنفاء كانوا يرون تحريفاً في الكتابين: [التوراة والانجيل]. وأن هناك تبايناً قليلاً أو كثيراً بين الأصل الذي أوحاه الله، وبين الذي كان بأيدي الناس، وأنهم لذلك مالوا عن اليهودية والنصرانية إلى دين ابراهيم الحنيف، فقرأوا كتبه وتعبدوا بعبادة ابراهيم.] ويتساءل جواد علي بالمحصلة: (ولكن ما هي كتب ابراهيم وما هي عبادته؟.).. كيف يمكن الافتراء على (الحنفاء) والتلسن بالسنتهم، وهم لم يكتبوا شيئا ولم يتركوا اثرا مكتوبا يصلح الاستشهاد به عنهم او ضدهم. أم ثمة نزاهة في العدل ودقة في التحقيق والبت العلمي اكثر من –الغاء- شخصية المتهم واستنابة القاضي عنه!. ان المقصود بالمصطلح هنا هو اسم الفاعل (الأحناف) وليس المصدر (حنيفية)، وذلك للاشارة الى طبقة العلماء والمفكرين والفلاسفة واهل العقل في مجتمع شبه الجزيرة قبل الاسلام. ولذلك تم توزيعهم الى قسمين، مؤمنين وابرار رغم عدم قبولهم الاسلام مثل زيد بن نفيل واية ابن ابي الصلت، وقسم رموا بالمروق والدعوة لانفسهم، مثل بحيرا ومسلم الحنفي. فلا غرو ان يظهر الاسلام ولا يسجل التراث رموزا معرفية وثقافية، باستثناء الشعراء المرتزقة. وهكذا تم اعتيال مزدود، للعقل العربي من جهة، عندما اعتبر الاحناف – مسلمين- قبل الاسلام، وبعد الاسلام، صار المسلمون هم الاحناف، من جهة ثانية. وهكذا انتهت الحنيفية وبوادرها ومظاهرها مرة، وحتى اليوم، كما هو وضع العقل والفكر العربي!.
الحنيفية والعرب.. لا صحة لقول الأخباريين: أن سكان العرابيا، كانوا على دين ابراهيم، قبل [عمرو بن لحي الخزاعيّ]. فلما جاء عمرو بن لحيّ، أفسد العرب، ونشر يينهم اضاليل عبادة الأصنام، بما تعلمه من وثنية بلاد الشام حين زارهم. فكان داعية الوثنية بين العرب، والمبشر بها ومضلهم الأول. وهو على رأيهم موزع الاصنام بين القبائل، ومقسمها عليهم. ولقد فشت دعوة عمرو بن لحي وانتشرت، حتى دخل فيها أكثرهم، وقلّ عدد من حافظ على دين الحنيفية ومراعاة أحكام دين التوحيد الحنيف. وكأن مثل هذا القول، يقصد ان (اهل الحجاز/ قريش) كانوا – افضل/ اكثر رقيا- من أهل الشام. وأن اهل الشام كانوا عالة على اهل الجزيرة. والواقع التاريخي والحضاري لا يؤيد هذا الزعم. وكل معطيات الحضارات والمدنيات والثقافات الاصيلة انحصرت بين وادي النيل ووادي الرافدين عبر بلاد الشام. وان الطعن في حضارة الشام، لوجود الرومان فيها وامتداد النفوذ البيزنطي، ليس مبررا لاتهامها بالوثنية. ولو كانت الشام مركز (الوثنية) – وهي مولد اليهودية والمسيحية!-، لكان موقع (الكعبة) في الشام، وليس في مكة قريش. فالكعبة هي مجمع الاوثان والاصنام والالهة المصنوعة، على غرار (دلفي) في أثنيا او (النفر) في ايام سومر. وينسى مروج الزعم السابق صلة العائلة الابراهيمية بوادي (حران) والتي ستكون مركزا لدعوة يوحنا المعمدان وموطن شيخ الاسلام ابن تيمية. وأن اسم غار (حراء) في السيرة النبوية، مشتق من اسم (حران) لفظا ومعنى. و(حران) مركز ديني قديم سابق لزمن ابراهيم نفسه، مما اغراه بالهجرة اليه تاركا موطن اجداده في اور- الوركاء، مملكة جلجامش القديمة. أدخل المسعودي [896- 956م] بعض الاحناف في جماعة اهل الفترة ممن كان بين المسيح ومحمد، من أهل التوحيد، ويقر بالبعث. ثم قال: وقد اختلف الناس فيهم، فمن الناس من رأى انهم أنبياء، ومنهم من رأى غير ذلك وقد ذكر من بينهم: حنظلة بن صفوان، وخالد بن سنان العبسى، ورئاب الشنى، وأسعد ابو كرب الحميري، وقس بن ساعدة الإيادي، وأمية بن أبي السلط الثققي، وورقة بن نوفل، وعداس مولى: عتيبة بن ربيعة الثففي، وابو قيس: صرمة بن أبي انس الانصاري، وأبو عامر الاوسي، وعبد الله بن جحش الاسدي، وبحيرا الراهب. والرجال الذين قال أهل الاخبار عنهم إنهم كانوا على دين، وكانوا من الاحناف، هم: قس بن ساعدة الإيادي، وزيد بن عمرو بن نفل، وأميةّ ابن أبي الصلت: وارياب بن رثاب، وسويد بن عامر المصطلقي ، وأسعد ابو كرب الحميري، ووكيع بن زهير الإيادي، وعمير بن جندب الجُهني، وعدي بن زيد الجبادي، وأبو قيس صرمة بن أبي انس، وسيف بن ذي يزن، وورقة بن نوفل القرشي، وعامر بن الظرب العدواني، وعبد الطانحة بن ثعلب ابن وبرة بن قضاعة، وعلاف بن شهاب التميمي، والملتمس بن أمية الكناني، وزهير بن أبي سُلمى، وخالد بن سنان العبَمْي، وعبد الله القضاعي، وعبيد ابن الابرص الاسسي، وكعب بن لؤي بن غالب. وبعض هؤلاء مثل: قس بن ساعدة الإيادي وعثمان بن الحويرث، وعيسي بن زيد العبادي من (النصارى). وبعضهم مثل: أسعد ابو كرب الحصري، ابو كرب اسعد الحميري، وعبيد بن الابرص، وزهير ابن أبي سلمى، لا يعرف شئ عن ديانتهم. وقد اقتصر محمد بن حبيب على ذكر: عمان ين الحويرث، وورقة بن نوفل، وزيد بن عمرو بن نفيل، وعبيد الله بن جحش ابن رئاب الاسدي. وقال: ان منهم من تنصر ومات على النصرانية، مثل: عثمان بن الحويرث، وورقة بن نوفل، وعبيد الله بن جحش بن رئاب الاسدي. ومنهم من جعل مسلمة بن حبيب الحنفي – وهو نصراني- دعا إلى عبادة (الرحمن)ن الى الاحناف. كما ذكر عمرو بن عبسة بن عامر بن خالد السلمي، الذي رغب عن عبادة الاصنام ايضا.
رموز الحنيفية.. القس بن ساعدة: اول خطيب عربي وأكبرهم واشهرهم، واليه تنسب الديباجة في القول وكثير من الجمل والصياغات التي شاعت في لغة العرب من بعده. فهو أول من آمن بالبعث من العرب، وأول من توكأ - عند خطبته على عصا، وأول من علا على شرف وخطب عليه، وأول من قال: أما بعد، وأول من كتب: إلى فلان بن فلان، وأول من قال: البينة على من ادعى واليمين على من أنكر. فكل ما عرفه العرب من هذه الامور، هو من صنعة قس وعمله. كان أحد حكماء العرب، وكان أسقفا في ان، وخطيب العرب كافة. أوصله بعض الاخباريين إلى القيصر، فزعموا انه ذهب البه واتصل به، وان القيصر أكرمه وعظمه. وقد سأله عن العلم قائلاً له: ما أفضل العلم؟.. قال: معرفة الرجل بنفسه. قال: فما أفضل العقل؟.. قال: وقوف المرء عند علمه. قال: فما افضل الادب؟.. قال: استبقاء الرجل ماء وجهه. قال: فما أفضل المروءة؟.. قال: قلة رغبة المرء في اخلاف وعده. قال: فما أفضل المال؟.. قال: ما قضى به الحق. وهو كلام ينبئك أسلوبه وطبعته عن أصله وفصله، وله أصل يرجع إلى الفلاسفة اليونان. كما وضعوه في صف المعمرين الذين عاشوا مئين من السنين قيل سبع مئة سنة، وقيل ست مئة سنة، أو أقل من ذلك بكثير، في انه لا يقل عن ثلاث مئة سنة على كل حال.وأما موته، فمجهول. ونسبوا له قبراً جعلوه في موضع (روحين) على مقربة من (حلب) في لحف جبل ينشر له. وقد ورد في رواية ان النبي ادركه ورآه يخطب في سوق عكاظ خطبته الشهيرة المعروفة، غير انه لم يحفظها، وان ابا بكر، وكان من جملة من حضر السوق وسمع الخطبة، كان قد حفظها، فأعادها على الرسول. وهي الخطبة الشهيرة المتداولة بين الناس والمحفوظة في الكتب. وهناك رواية تذكر ان الرسول كان حفظها، وقد تلاها على من حضر عنده، وتلا بعضاً منها على وفد عبد القيس. ومما يلفت النظر في الروايات الواردة عن حفظ للرسول لخطبة (القس)، هو اشارتها إلى أن النبي كان يحفظ نص الخطبة، ولم يكن يحفظ الشعر الملحق بها. مع ان حفظ الشعر أيسر من النثر. ولعل الرواة رووا ذلك لإظهار أن الرسول كان لا يقول الشعر، وانما كان يسمعه. ولكننا في هم من ناحية أخرى نرى انه كان يتلو من الشعر المناسب ما شاء ان يتلو، وانه كان يستشهد به في كلامه، وأنه كان يحفظ شيئاً من شعر الماضين والحاضرين. ولن يضير النبوة من حفظ الشعر شئ. والنص المحفوظ لخطبة (قس) نص مختلف لم يتفق الرواة عليه. مما يدل على أنه لم يكن مدوناً، وإنما روي بروايات مختلفة، ثم دونت فيما بعد. وذكروا ان له ولقومه فضيلة ليست لاحد من العرب، لان الرسول روى كلامه وموقفه على جمله (الاورق) بعكاظ وموعظته، وعجب من حسن كلامه، وأظهر تصويبه، هوانه قال فيه: يحشر أمة و حبر!. وجاء في رواية في تفسير قول الرسول: يحشر أمة وحده!، أو يرحم الله قساً، إني لأرجو ان يبعث يوم القيامة أمة واحدة!- وربما كان ذلك في العهد المكي او ابغاء استمالة النصارى اليه. الجارود بني عبد القيس.. يختلف عن رواية أخرى، جاء فيها ان الوفد للذي قدم على الرسول كان وفد (عبد القيس)، وأن الذي قرأ الشعر عليه هو احد بني عبد القيس ويذكر بعض أهل الاخبار، ان (الجارود)، وكان في ضمن رجال وفد (عبد القيس)، قال للرسول حين سأل عن (قس): فداك أبي وأمي كلنا نعرفه وإني من بينهم لعالم يخيره، واقف على أمره. كان قس يا رسول الله سبطاً من أسباط العمر عمّر ستمائة سنة نج تَفر منها نفسه أعمار في البراري والقفار. ثم اخذ في وصفه وذكر عقاثده، وفي لقياه لسمعان بطرس: رأس الحواريين. وخلص بعد ذلك إلى ذكر نص خطبته بسوق عكاظ، ومطلعها: (شرق وغرب)، حتى انتهى منها، وألحق بها شعراً. وهي خطبة تختلف تماماً عن الخطبة المعروفة التي تنسب اليه، وان كانت على نمطها من حيث الاسلوب والافكار، وفيها مصطلحات اسلامية ترد في القرآن. ولا استبعد ان تكون من وضع شخص اخر غير الجارود. وضعها في العصور العباسية، للحث على الزهد. والجارود كان نصرانياً من سادات عبد القيس ، قدم على النبي سنة عشر في وفد عبد القيس الاخير، وسرّ الرسول بإسلامه، وكان حسن الإسلام صلباً على دينه، وقتل بأرض فارس في خلافة عمر، وقيل بقي إلى خلافة عثمان. ولو صح ما ذكروه من انه كان أسقفاً على نجران، لوجب اخراجه اذن من الحنيفية وإدخاله في عداد النصارى. ولكن ليس مؤكداً انه كان اسقفاً على ذلك الموضع، ويرى الاب لامانس احتمال كونه نصرانياً، لان ما نسب اليه يبعث على هذا الظن. وقد أدخل الاب لويس شيخو قساً في جملة النصارى الجاهليين، وأورد اكثر ما نسب اليه في ترجمته غير ان كثيراً من هذا المنسوب اليه مذكور إلى غيره. وذهب شيرنكر إلى ان قساً كان من (الركولمجة)، وهم فرقة عرفهم اهل اللغة بأنهم بين النصارى والصابئين، شملت جماعة من الحائرين في امر دينهم، ولذلك عمدوا إلى السياحة والترفع والانزواء. وقد حسبهم العرب نصارى، فأدخلوهم فيهم في اثناء كلامهم على هؤلاء. ويرى لامانس انه لو كان قيس شخصية تاريخية حقاً، فإن زمانه لا يمكن ان يكون في ايام الرسول أو في ايام مقاربة من ايامه. إذ لايعقل عنده ان تكون هذا القصص التي صيرت قساً شخصية من الشخصيات الخرافية، لو كان من المعاصرين أو المقاربين له. ثم إن اياداً لم تكن في ايام الرسول كتلة واحدة، حتى ينسب قس اليها. فلا بد اذن ان تكون ايام هذا الرجل بعيدة بعض البعد عن ايام الرسول. غير ان حجج لامانس المذكورة لا يمكن ان تكون سنداً يؤيد ادعاءه في ان قساً كان شخصية خرافية، أو انه كان رجلاً حقاً، ولكنه كان بعيد العهدعن الرسول. ولدى الرواة أبيات ينسبونها إلى بعض الشعراء الجاهليين، هم: الاعشى، والحطيأة، ولبيد، ذكر فيها اسم قسُّ. وقد أشيد فيها بفصاحته وببلاغته وحكمته، حتى جعل لبيد لقمان دون قس في الحكم. وورد اسم قس في هذا الشعر وفي أمثاله إن صح انه من شعر الجاهليين حقاً، وورود اسمه في الحديث وفي الاخبار، هو تعبير عن رأي اهل الجاهلية في خطيب مفوه عدّ في نظرهم المثل الاعلى في الخطابة، وممثل البلاغة عندهم فهو كشيوخ الخطباء عند اللاتين.
زيد بن عمرو بن نفيل.. زيد بن عمرو بن نفُيل بن عبد العزى بن رياح بن عبدالله بن قرط ابن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر. فهو من قريش من بني عدي، لم تعجبه عبادة قومه، فانتقدها وسخفها وهزىء منها ووقف فلم يدخل في يهودية ولا نصرانية، وفارق دين قومه، فاعتزل الاوثان، ونهى عن قتل الموؤودة، وامتنع من الذبح للانساب ومن أكل الميتة والدم وما ذبح للاصنام. وقد زار زيد الشام والبلقاء، وعاش إلى خمس سنين قبل البعثة. وقد نسبوا اليه شعراً في تسفيه عبادة قومه، وفراقه دينهم وما لقيه منهم. وكان قد أوذي لمقالته هذه في دين قومه، حتى اكره على ترك مكة والنزول ب (حراء). وكان الخطاب بن نفيل عمه، وقد وكل به شباباً من شباب قريش، وسفهاء من سفائهم، كلفهم ألاّ يسمحوا له بدخول البلدة وبمنعه من الإتصال باهلها، مخافة ان يفسد عليهم دينهم، وان يتابعه احد منهم على فراق ما هم عليه. وفي رواية، يرجع سندها إلى [هشام بن سعيد بن زيد بن عمرو ابن نفيل]، اي إلى حفيد (زيد)، تذكر أن زيد خرج مع ورقة ابن نوفل يلتمسان (الدين)، حتى انتهيا إلى راهب بـ(الموصل)، فساله عن الدين، فلم يقتنع بالنصرانية. اما ورقة، فاقتنع بها وتنصر. ويذكر أهل الاخبار ان حرصه على الحنيفية وتمسكه الشدبد بها، حمله على السفر إلى بلاد شاسعة بحثاً عنها وعن مبادئها الصحيحة، الاصيلة الخالية من كل درن وشائبة. فذهب إلى الموصل والجزيرة، ثم طاف في بلاد الشام حتى انتهى إلى راهب بـ(ميفعة) بـ(بيعة) من أرض (البلقّاء) أو (أيلة)، فسأله عما قدم من أجله، فأرشده إلى ان ما يبتغيه ويراه. وعاد يريد مكة موطنه، فلما توسط بلاد لخم أو جذام، عدوا عليه وقتلوه. وقالوا أيضاً انه التقى في اثناء أسفاره هذه بأحبار اليهود وبعلماء من النصارى، ولكنه لم يجد عندهم ما يطمئن نفسه، وما يرى فيه التوحيد الخالص، ومبادىء ابراهيم، لذلك لم يدخل في ديانة ما من تلك الديانتين، حتى قتل. وكانت وفاته، وقريش تبني الكعبة قبل البعثة بخمس سنين، ودفن بأصل (حراء). وقال عنه ابن دريد انه: كان يحيي الموؤودة. يقول للرجل اذا أراد ان يقتل ابنته مهلاً: لا تقتلها أنا أكفيك مؤونتها، فيأخذها، فإذا ترعرعت قال لأبيها إن شئت دفعتها اليك، وإن شئت كفيتك مؤونتها. وقيل انه كان يقول: اللهم لو أعلم أي الوجوه أحب اليك سجدت اليه،ولكني لا أعلمه. ثم يسجد على راحته. وانه كان يقول: إلهي إلهَ ابراهيم، وديني دين ابراهيم. وكان يعيب على قريش ذبائحهم ويقول: الشاة خلقها الله وأنزل لها من السماء ماء، وأنبت لها من الأرض، ثم تذبحونها على غير اسم الله!. أو قوله: يا معشر قريش: أيرسل الله قطر السماء، وينبت بقل الأرض، ويخلق السائمة فترعى فيه، وتذبحوها لغيره! والله أعلم ما على ظهر الأرض أحد على دين ابراهيم غيري!. ويستقبل القبلة ثم يقول: أنفي لرب البيت عانٍ راغم مهما يُجشّمني فإني جاشم عذت بما عاذ به ابراهـيم مستقبل القبلة وهو قـائم وذكر له ابن دريد شعراً في تجنبه الأصنام، هو: فلا عُزى أدين ولا ابنتـيهـا ولا صنمي بني عمرو أزور أربّـاً واحـداً أم ألـف ربّ أدين اذا تقسمـت الأمـور. ويفهم من هذا الشعر ان (عزى): إلهة- أي انثى-، وان لها ابنتين اثنتين. لم يشر ابن دريد إلى اسميهما. ويذكر اهل الأخبار ان زيد بن عمرو بن نفيل كان يراقب الشمس، فإذا زالت خلص إلى البيت استقبله ثم قال: [لبيك حقاً حقاً، تعبداً ورقاً، البر أرجو لا الخال، وهل مهجر لمن قال. ثم يقول: عذت بما عاذ به ابراهيم مستقبل الكعبة وهو قائم]. أو: [لبيك حقاً، تعبداً ورقاً، عذت بما عاد به ابراهيم]. وذكر انه كان يأمر بالتوحيد وبعبادة إلهَ واحد. من ذلك قوله: لا تعبدنّ إلهاً غير خالقكـم وإن دعيتم فقولوا دونه حدد. وكان يحج فيقف بعرفة، وكان يلبي، فيقول: لبيك لا شريك لك، ولا ندّ لك. ثم يدفع من عرفة ماشياً، وهو يقول: لبيك متعبداً مرقوقاً. وقد رووا له أبياتاً من شعر نظمه يعاتب فيه زوجته: صفية بنت الحضرمي، لأنها كانت تمانع في خروجه عن مكة وفي سفره إلى الخارج التماساً لهذا الدين. وتفيد رواية من روايات اهل الأخبار بأن زيد بن عمرو بن نفيل، كان في جملة من اشترك في (حرب الفجار)، وكان على رأس بني عدي وذلك في يوم شمطة. ومن ولد زيد رجل كان له سبق وقدم في الإسلام، هو سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل. كان من السابقين الأولين ومن المهاجرين، شهد المشاهد والأحداث المهمة، إلا بدراً، فإنه لم يكن حاضراً بالمدينة إذ ذاك. وهو أحد العشرة المبشرة. ذكر انه أسلم قبل دخول رسول الله دار الأرقم. وأمه: فاطمة بنت بعجة بن أمية بن خويلد بن خالد بن اليعمر من خزاعة. ولسعيد أخت اسمها: عاتكة بنت زيد.
أمية ابن ابي الصلت (ت 630م).. أمية بن أبي الصلت، هو أحسن الحنفاء حظاً في بقاء الذكر، لبقاء الكثير من شعره. وربما وضع كثير منه على لسانه، وحفظ قسط لا باًس به من أخباره. وسبب ذلك بقاؤه إلى ما بعد البعثة. لم يكن مسلماً ولم يرض أن يدخل في الإسلام، ورثى قتلى قريش في معركة بدر، حتى مات سنة تسع للهجرة بالطائفن قبل أن يسلم قومه الثقفيون. ورثاؤه قتلى معركة بدر، محفوظ في قصيدة حائية. مطلعها: الاّ بكيت عـلـى الـكـرا م بني الكرام أولى الممادح كبكا الحمـام عـلـى فـرو ع الأيك في الغصن الصوادح وهي قصيدة يتوجع فيها أمية لسقوط قتلى مكة، ودفنهم بالقليب، وفيهم: عتبة وشيبة، ابنا: ربيعة بن عبد شمس، وهما ابنا خالة أمية. وذكر ان أمية نال في بيتين من هذه القصيدة من أصحاب رسول الله، ولذلك أهملهما ابن هشام في السيرة. وذكر أيضأَ ان النبي نهى عن روايتها. ولكن الرواة رووها وحفظوها ودوّنوها في الكتب. وأميةّ مثل سائر المتألهين الآخرين من طبقة الحنفاء، سافر إلى الشام، واتصل بأهلها، وأوى إلى الأديرة ورجال الدين يسأل منهم ما يهمه من مشكلات دينية وعما كان يجول في خاطره من عبادة قومه وحقيقة العالم. وكان تاجراً، يذهب مع التجار في قوافلهم إلى تلك الديار التي كَانت في أيدي الروم. ثم إنه كان قارئاً كاتباً، قرأ الكتب، ووقف عليها. ومنها ومن اتصاله برجال الدين وبأهل الكتاب تكونت عنده فكرته عن الدين، وشكّه في عبادة قومه وفيما كانوا عليه من عقائد وعبادات. وقد بدا هذا التأثر في الكلمات والمصطلحات الأعجمية والغريبة المستعملة في شعره وفي الأمثلة والقصص المنتزع من الكتابين: للعهد القديم والعهد الجديد ومن موارد أخرى عديدة من الموارد الشائعة المستعملة عند أهل الكتاب. وقد ورد في بعض الأخبار ان امية سافر مرة مع أبي سفيان والد معاوية في تجارة إلى بلاد الشام، فكان كلما نزل منزلاً أخذ فيه سفراً له يقرأه على من معه، كما كان يزور علماء النصارى ويتباحث معهم، وكان يلبس ثوبين أسودين حينما يقابلهم. ولم تذكر الرواية شيئاً عن السفر أو الأسفار التي كان يقرأ منها أمية ويشرحها لمن معه من التجار. وتذكر رواية أخرى انه كان قد بلغ مع أبي سفيان (غزة) أو (ايلياء)/ القدس. ولأمية ديوان ضم أكثر ما نسب اليه من شعر. كما ان في بطون كتب الأدب والأخبار أشعاراً أخرى لم يرد لها ذكر في هذا الديوان. ومعظم شعره هو عن الدين والاخرة وعن الجنة والنار والحساب والكتاب، وقد تضمن إشارات إلى حوادث وقعت في ايامه، أو في ايام قرببة من ايامه مثل قصة الفيل. كما تضمن بعض قصص الأنبياء، ولتعرض شعره إلى هذه النواحي نعت بشاعر الآخرة. ومما ذكره الأخباريون ورواة شعر أمية من أمثلة على استعماله للكلم الغريب، انه استعمل. (الساهور) للقمر، وهو كلمة آرامية الأصل من أصل [سهرو/ Sahro] لا تعرفها العرب، بمعنى (القمر). وانه ذكر، (السلطيط)، اسماً لله تعالى. وانه أطلق كلمة (التغرور) على الله في موضع آخر من شعره، وانه سمى السماء: (صاقورة) و (حاقورة). وانه استعمل أشياء أخرى من هذا القبيل. ولولعه باستعمال الغريب، رفض علماء اللغة الاحتجاج بشعره. وهذا الشعر المنسوب إلى أمية وغريبه خاصة مادة مهمة جداً تجب دراستها بعناية، لمعرفة مبلغ صحة ما جاء في أخبار الرواة عن هذه الكلمات وعن أصولها ومواردها الأولى، إن صح انها من أشعار تلك الأيام حقاً، إذ ترشدنا أمثال هذه الدراسات إلى معرفة المنابع التيّ استقى منها هذا الشاعر علمه وإلهامه ومدى تأثره وتأثر أمثاله من الجاهليين بالآراء والتيارات الفكرية التي كانت في مكة وفي خارج جزيرة العرب قبيل الإسلام. وقد روى الأخباريون قصصاً عن شق طيرين لقلب هذا الشاعر، لتنظيفه، وتهيئة النبوة فيه. ولكنهما عندما وقفا عليه لم يجدا أن النبوة خلقت له. وتشبه قصة تنظيف الطيرين لقلب أمية، وهي القصة التي أشرت اليها قبل قليل، خبر حليمة السعدية مرضعة الرسول لصدر النبي. ورواة قصة شق صدر أمية وتنظيف قلبه هم من أهل الطائف. ويرجعون سند قصتهم إلى أخت أمية المسماة (الفارعة)، وكانت ذات لُبّ وعقل وجمال، وكان رسول الله، بها معجباً، وقد وفدت عليه، فلما سألها عن شعر أخيها كما يقول الرواة، قصت عليه قصة الطيرين، كما قصت عليه قصة وفاته. فقال لها: ان مثل أخيك كمثل الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها له!. كذلك رووا أنه كان يتفرس في لغات الحيوانات، فيعرف ما تقوله وما تريده ويقصه على الناس وانه كان يسخر الجنّ، وكانت تطيعه، وأنه تنبأ بموته حينما نعب عليه الغراب. فجعلوه بأخبارهم هذه في مرتبة تضاهي سلمان في علمه بمنطق الطير وبقية الحيواناتْ. وذكر ابن دريد: كان بعض العلماء يقول له لولآ النبي، لادعت ثقيف أن أمية نبي،لأنه قد دارس النصارى وقرأ معهم، ودارس اليهود وكلّ الكتب قرأ!.
عبدالله بن جحش.. عبيد الله بن جحش بن رئاب بن أسد بن عبد العزى بن قصي، فقد بقي مرتاباً في دين قومه، بعيداً عنهم وعن عبادتهم، حتى اذا ظهر الإسلام دخل فيه، ثم هاجر مع من هاجر إلى الحبشة، ومعه امرأته أم حبيية بنت أبي سفيان، وكانت مسلمة كذلك. فلما صار في الحبشة، فارق الإسلام وتنصر، وهلك هناك.
عثمان بن الحويريث.. عثمان بن الحويرث، فقد بقي مغاضباً قومه في دينهم، ثم رأى الذهاب إلى الروم، فذهب اليهم، وتقرب إلى قيصر، وحسنت منزلته عنده ومنحه لقب (بطرك)، وأراد تنصيبه ملكاً على مكة، ولكن قومه أبوا ذلك، فلم يتمّ له مراده، ومات بالشأم مسمومأَ، سمهّ (عمرو بن جفنة الغساني). وذكر الزبيري، أن والدة عثمان بن الحويرث، هي [تماضر بنت عمير بن أهيب بن حذافة بن جمح]. وأنه خرج إلى قيصر فسأله أن يملكه على قريش، وقال: أحملهم على دينك، فيدخلون في طاعتك، ففعل. وكتب له عهداً وختمه بالذهب، فهابت قريش قيصر، وهموا ان يدينوا له، ثم قام الأسود بن المطلب أبو زمعة، فصاح، والناس في الطواف: إن قريش لقاح، لا تملك ولا تملك. فاتسعت قريش على كلامه، ومنعوا عثمان مما جاء له، فمات عند ابن جفنة، فاتهمت بنو أسد ابن جفنة بقتله. وَكان ابن جفنة حبس أبا ذئب عنده، وأبا أحيحة بسبب عثمان بن الحويرث. ويقصدون بابن جفنة: عمرو بن جفنة الغساني. وكانت وفاته قبل المبعث بثلاثين سنة، رثاه: زيد بن عمرو بن نفيل، وورقة بن نوفل. ويعد عثمان بن الحويرث، من أشراف بني أسد من قريش. وقد كان مع خويلد بن أسد على رأس بني أسد في (حرب الفجار). وكان ينادمه شيبة بن ربيعة بن عبد شمس. وقد تنصرا جميعأ، وقتل شيبة يوم بدر مع قريش .
ورقة بن نوفل.. هو رجل دين نصراني،كان عالما بالكتاب المقدس أي كتب العبرانيين والمسيحيين، ويجيد الكثر من لغة بينها السريانية والاغريقية، وكان يعمل في ترجمة االكتاب المقدس للعربية، ويستخدمها في التعليم والعظ، وهو أسقف مكة وما حواليها، ومن أوائل مترجمي البايبل للعربية في التقليد المسيحي. وينسب البعض اليه الكثير من قصص الانبياء في العهد القديم الواردة في قرآنه، فضلا عن لغة (سجع الكهان). وسوف يرد في هذا البحث نماذج من ترجماته العربية التي شكلت مصدرا لنصوص القرآن. اسمه ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي، يلتحم نسبه بنسب الرسول في جد جده. ذكروا انه ساح على شاكلة من شك في دين قومه، وتتبع اليهود والنصارى، وقرأ الكتب، وعدّ في جملة المتنصرين، فقد ذكر انه: تنصر واستحكم في النصرانية، وقرأ الكتب ومات عليها!. وقد نسب اليه شعر ذكَر انه قاله في رثاء زيد بن عمرو بن نفيل، وفيه إشارة إلى النار والى الثواب والعقاب بعد الموت والى فكرة التوحيد والأيمان برب ليس رب كمثله والى التنديد بالأوثان. وله أبيات من الشعر يحث فيها على مساعدة الضعيف ونصر المظلوم، وعلى فعل الخير للناس. ولا نعلم عن حياة ورقة في ايام شبابه شيئاً، ولعله كان يعين اهله أو إقربائه في اتجارهم مع بلاد الشام أو اليمن شأن اكثر شبان أسر مكة المعروفة فىِ ذلك الوقت. فتَعلم بذلك سلوك الطرق الموصلة إلى العراق أو بلاد الثأم، ومن هنا اندفع نحو خارج الجزيرة يلتمس الحكمة والوصول إلى رأي يقنعه في الحياة. ويظهر انه لم يكن في شبابه من اولئك الشباب الخاملين الذين كانوا يصرفون وقتهم في فراغ دائم، دون عمل ولا تفكير، متوسدين الأرض يقتلون فراغهم في ترهات الكلام، كما انه لم يكن من اولئك الطائشين النزقين الذين يقضون وقتهم في النزاع والخصومة وشرب الخمر والاعتداء على الناس، والحصول على المال للانفاق على اللهو بأية طريقة كانت، بل كان شاباً متأملاً مفكراً منكمشاً على نفسه، مكنه علمه بالكتابة والقراءة من قراءة الكتب والاطلاع على آراء الماضين والحاضرين، حتى جاء يوم، دفعه اجتهاده الذي وصل اليه على الخروج على تقاليد قومه وانتقاد الأوضاع التي كانوا عليها، مما حمله على ترك مكة طوعاً أو قهراً، والتجول للبحث أو فراراً من غضب قومه عليه. وقد أشير اليه في خبر مجيء جبريل إلى النبى في حراء، وله كلام مع الرسول على ما ورد في بعض الروايات،يقال إنه قال للرسول و كَان قد ذهب اليه مع زوجته خديجة ليسأله رأيه فيما رآه من الرؤيا: "ليتني أكون حياً حين يخرجك قومك !" وان الرسول قال له: أمخرجي هم؟.. قال: نعم، إنه لم يجيء رجل قط بما جئت به إلا عودي، ولئن أدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً!. وأشير اليه في خبر آخر، حيث ورد أن خديجة ذهبت وحدها إلى ابن عمها لتسأله عن الرؤيا التي رآها الرسول وعن هذا الناموس الأكبر الذي تجلى له. فلما قصت عليه القصة قال: لئن كنتِ صادقة، إنّ زوجك لنبي، وليلقين من أمته شدة، ولئن أدركته لأنصرنه!. وفي خبر آخر أن الرسول قد رأى ورقة في منامه، وكان لابساً ثياباً بيضاً، وان الرسول ذكر ذلك لمن سأله عنه، وبين لهم انه لو كان من أهل النار لما ظهر له في منامه وهو بهذه الملابس. لأن أهل النار. لا يلبسون ثياباً بيضاً. ويروى أن الرسول قال: لا تسبّوا ورقة بن نوفل، فإني رأيته في ثياب بيض. قيل إن شخصاً تساب مع أخ لورقة بن نوفل، فسب ورقة ليحرق قلب أخيه، فبلغ ذلك الرسول، فنهى عن سبّه. وقيل ان ورقة كان يمر بمكة، فيرى بلالاً وهو يعذَّب، يعْذبه المشركون برمضاء مكة، يلصقون ظهره بالرمضاء، ويضربونه يريدون منه ان يشرك بالله، فلا يشرك به. ويأبى إلا ان يقول: أحد أحد، فيرثي ورقة لحاله ويقول: أحد أحد والله يا بلال. والله لئن قتلتموه فأنتم من الخاسرين. أو: والله لئن قتلتموه، لاتخذن قبره حناناً! ويظهر من الأخبار المتقدمة ان "ورقة بن نوفل"، كان قد أدرك ايام الرسول وعاش إلى يوم نزول الوحي عليه. بل يظهر من خبر رؤيته لبلال وهو في حالة تعذيبه، انه عاش مدة بعد نزول الوحي. غير إن الأخبار المذكورة لا تنص على اسلامه، ولم نجد أحداً قد نص على ذلك. أما خبر رؤيا الرسول له في منامه، فانه يدل على عدم إسلامه، وعلى انه كان قد توفي قبل نزول الوحي على الرسول. وهو الرأي الراجح. وهذا ما حمل أحد المؤرخين على القول: وقد اختلف فيه، فمنهم من زعم انه مات نصرانياً ولم يدرك ظهور النبي. ومنهم من رأى انه مات مسلماً وانه مدح النبي. وقد كان يكتب الكتاب العربي، فترجم للعربية من الانجيل ما يعد او ترجمة لهاته اللغة. ولما كان الانجيل باليونانية وبلغة بني إرم، فقد أخطأ الرواة بجعل لغة الانجيل هي العبرانية، وهم يتوهمون كثيراً فيخلطون بين العبرانية والسريانية. والغالب أنهم كانوا يريدون بالعبرانية لغة بني إرم التي كانت لغة العلم والأدب والدين في العراق وفي بلاد الشام، بل وبين مثقفي اليهود ورجال دينهم في ذلك الوقت.
وكيع بن سلمة.. وكيع بن سلمة بن زهر الإيادي، فهو من إياد. زعم ابن الكلبي [737- 819م] انه ولي البيت بعد جرهم، فبنى صرحأَ بأسفل مكة، وجعل فيه أمة يقال لها (حزورة)، وبها سميت [حزورة مكة]، وجعل في الصرح سلّماً، فكان يرقاه ويزعم انه يناجي الله. وكان ينطق بكثير من الخبر، ويزعم الناس انه صدِّيق من الصدِّيقين، وقالوا كان كاهناً،.وذكروا له كلمات مسجعة، ليس فيها ما يشرح لنا معتقده الديني ويوضحه وضوحاً تاماً. و(الصرح): كما يقول علماء اللغة، بيت يبنى منفرداً ضخماً طويلاً في السماء وكل بناء عالٍ مرتفع. و(الحزورة) الرابية الصغيرة والتل الصغير. ويظهر انه كان بنى صرحه فوق تل في محل منفرد، ليختلي هناك على طريقة الرهبان والنساك.
عمير بن جندب.. عمير بن جندب الجُهني، كان موحداً لم يشرك بربه احداً، وانه مات قبيل الإسلام.
عامر العدواني.. عامر بن الظرب العَدواني من الحكماء، نسبت اليه أقوال في الحكم والدين. منها: إني ما رأيت شيئاً خلق نفسه، ولا رأيت موضوعاً إلا مصنوعاً، ولا جائياً إلا ذاهباً، ولو كان يميت الناس الداء، لأحياهم الدواء!. ثم قال: إني ارى أموراً شتى وحتى. قيل له: وما حتى؟.. قال: حتى يرجع الميت حياً، ويعود اللاشيء شيئاً، ولذلك خلقت السماوات والأرض، فتولوا عنه ذاهبين!. وقد نسبوا اليه جملة أحكام، منها حكمه في (الخنثى). وقد ذكروا أن حكمه هذا قد أقرّه الإسلام. وقالوا إن العرب كانت إذا أشكل عليها أمر في قضاء، أو حارت في أمر معضل ترى وجوب الحكم فيه برأي صائب وعقل وتدبير، ذهبت اليه، فإذا حكم كان حكمه الحكم الفصل، فلا راد له.
المتلمس بن امية.. المتلمس بن أمية الكناني، اتخذ من فناء الكعبة موضعاً يخطب فيه، ويعظ قومه عظات دينية، فكان في جملة ما قاله لهم: انكم قد تفردتم بآلهة شتى، واني لأعلم ما الله راض به. وإن الله تعالى رب هذه الآلهة، وانه ليحب ان يعبد وحده!.. فنفرت كلماته هذه وامثالها القوم منه وتجنبته، وقالوا عنه انه على دين بني تميم.
زهير ابن ابي سلمى.. زهير بن ابي سُلمى الشاعر المعروف ، ورد في شعره إقرار بوجود الَه عالم بكل ما في النفوس، هو (الله)، لا تخفى عليه خافية، فلا يجوز كتمان شيء عنه. وبوجود يوم حساب يحاسب فيه الناس على ما قاموا به من أعمال، وقد ينتقم الله من الظالم في الدنيا قبل الآخرة، فلا مخلص له.
عبدالله القضاعي.. عبد الطابخة بن ثعلب بن وبرة بن قضاعة ، كان من الحكماء الخطباء، يتبع الحنيفية، وينهج على نهجها مثل الحنفاء.
عبيد ابن الابرص.. عبيد بن الأبرص الاسدي، شاعر جاهلي شهير، له في قتله قصة، هي من ذيول قصة (الغريَين) للمنذر بن ماء السماء. نجد في الشعر المنسوب اليه اسم (الله) يتردد في كثير من المواضع، وهو من المتشائمين المؤمنين بالمنايا وبالمحتم المكتوب. وفي قصيدة بائية يتوكل على الله، ويدعو الناس إلى الاعتماد عليه فيقول: من يسأل الناس يحرموه وسائل اللّـه لا يخـيب باللـه يدرك كـل خـير والقول في بعضه تلغيب والله لـيس لـه شـريك علاّمُ ما أخفت القلـوب ونراه يقول في المنايا: فاًبلغ بنيَّ وأعمامـهـم بان المنايا هي الـوارده لها مدة فنفوس العـبـاد اليها وإن كرهت قاصده فلا تجزعوا الحمام دنـا فللموت ما تلد الوالـده وفي كثير من مواضع شعره يذكر المنايا ويتذكر الموت، ثم هو يتجلد ويتصبر في ملاقاة الشدائد والأهوال، وينصح الناس بالسير على هذا المنوال. والذي يقرأ شعره، يشعر أنه أمام رجل حضري رقيق عاطفي المزاج، في نفس ميالة إلى التقشف والتصوّف، مؤمنً بالعدل، كاره للظلم.
كعب بن لؤي.. كعب بن لؤي بن غالب، هو من أجداد النبى، وكان على الحنيفية، واليه كانت تجتمع قريش في كل جمعة، فكان يعظهم ويوجههم ويرشدهم ياًمرهم بالطاعة والتفكر في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار وتقلب الأحوال والاعتبار بما جرى على الأولين والآخرين، ويحثهم على صلة الأرحام وإفشاء السلام وحفظ العهد ومراعاة حق القربة والتصدق على الفقراء والأيتام.
خلاصة.. لاشك ان (الحنيفية) حركة انسانية روحية مهمة وعميقة، ولكنها تمثل امتدادا وتنافذا من البلاد المحيطة بالحجاز وشبه الجزيرة. وكما تردد لدى الرواة، فمعظم رموزها كانوا على سفر، وقد بلغوا الشام والعراق وغيرها، ونسب البعض اليهم التقاءهم بالأحبار والرهبان والاساقفة وهم علماء دين، وكان لهم حظوة وتقدير في بلاط بيزنطة، على غرار ملوك الغساسنة واساقفة العراق والشام. ولكن هاته الحركة/ الظاهرة، بعد عشرات القرون، لم تجد حظا في التأصيل والتوثيق العلمي. وقد انجز جواد علي الكثير بتجميع المعلومات من مضانها، وهو جهد يفوق احتمال الشخص، وكان الاولى تأليف لجنة او قسم اكاديمي يتولى هذا التوثيق والترصين والتهذيب والتنقية من الخرافات والتدليس، بعيدا عن الادلجة البائسة والقراءة الارتجاعية التي هي طابع كل تراث العرب الثقافي. على اني اعتبر لحركة الحنيفية امتدادا في حركة (المعتزلة) و(أخوان الصفا)، مما اهمل الباحثون امره، ليبقى العرب في منأى عن النهوض والابداع العقلي. وما زال نداء جواد علي ودعوته في ضرورة دراسة ما امكن من اثار الحنيفية ينتظر استجابة اكادمية. بغض النظر عن كونهم مذهبا او ديانة مستقلة، او طائفة زهدية نسية معتزلة للدنيويات والماديات، لها وجود في كل دين او جماعة او بلد، وهو ما أعتقده في الاحناف. ولا مبرر لتطير جواد علي من نسبة النصارى واليهود الى الاحناف ودعوته لاستبعاد بعضهم. ونحن نعرف، ومن مصادر التراث نفسه ان معظمهم كانوا على دين المسيح او النصارى. ولا ريب.. ثمة صلة قوية قوية وراسخة بين اساسيات الحركة المحمدية واصول الحنيفية وافكارها وانعكاس طقوسها ونصوصها وتلبياتها في هيكل الاسلام، وهو مبرر تدمير تلك النصوص وتشويه الشخوص، بروايات متضاربة، تصل ببعضها حد الخرافة، او يعاد نسبة قصة واحدة الى اكثر من شخص، لكي يضعف مصداقيتها، مثل حكاية لقاء قيصر التي تكررت غير مرة، وهي مذكورة في سبيرة الشاعر امرئ القيس اخر ملوك كندة وغيره. ومن خلال اضعاف تلك المصادر والاخبار، يضعف احتمال اعتيرها مراجع ومصادر للاسلام والقرآن والسيرة. ولم يهتم جواد علي، اسوة بالاخباريين القدماء بمسألة الزمن والتحقيب التي عني بها الغربيون. ولم يتحدد زمن ظهور الاحناف او انتشار حركتهم، واسباب نكوصها وانحسارها اذا كانت على دين ابراهيم ولها كل اراجيح الحق والعقل والمنطق. والارجح انها لا تتعدى القرنين الرابع والخامس الميلادي، وهي الحقبة التي بدأت فيها المنطقة بالتململ، جراء التغيرات السياسية والدينية التي سادت قلب العالم، مع ظهور انبراطورية بيزنطه، ومحاولاتها توحيد المسيحية والكنيسة. الامر الذي ترتب عليه اصطدامها بكنيسة الاسكندرية المصرية وروما الكاثوليكية، ولجوء ضحايا الاصطهادات من الجانبين، الى باطن شبه جزيرة العرب، مما بعث حركة روحية احيائية جديدة من جهة، ودفع بفكرة التوحيد والمونوفستية البيزنطية ان تجد انعكاسا ومبررا، للظهور والتحول الى تيار ديني، يتخذ من فكرة التوحيد والوحدة الدينية اساسا او اطارا لمشروع سياسي عالمي.
ــــــــــــــــــــــــــــــ • تم الاعتماد على المفصل في تاريخ العرب لجواد علي – بتصرف!.
#وديع_العبيدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
دامداماران [12] في علم اجتماع الدين- 2
-
دامداماران [11] اوثان واصنام..
-
دامداماران [10] طمطمية عربية..
-
دامداماران [9] ملائكة وشياطين
-
دامداماران [8] عبادة النجوم
-
دامداماران [7]
-
دامداماران [6]
-
دامداماران [5]
-
دامداماران [4] امة.. امتان.. أم أمم..
-
دامداماران [3]
-
دامداماران [2]
-
دامداماران [1]
-
اربعة عشر عاما على احتلال العراق
-
هل تناولت فطورك اليوم؟..
-
ياهودايزم [20]
-
ياهودايزم [19]
-
ياهودايزم [18]
-
ياهودايزم [17]
-
ياهودايزم [16]
-
ياهودايزم [15]
المزيد.....
-
قائد الثورة الاسلامية يستقبل حشدا من التعبويين اليوم الاثنين
...
-
144 مستعمرا يقتحمون المسجد الأقصى
-
المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية: مذكرة اعتقال نتنياهو بارقة
...
-
ثبتها الآن.. تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025 علي كافة الأقم
...
-
عبد الإله بنكيران: الحركة الإسلامية تطلب مُلْكَ أبيها!
-
المقاومة الإسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الأراضي
...
-
المقاومة الإسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الاراضي
...
-
المقاومة الاسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الاراضي
...
-
ماذا نعرف عن الحاخام اليهودي الذي عُثر على جثته في الإمارات
...
-
الاتحاد المسيحي الديمقراطي: لن نؤيد القرار حول تقديم صواريخ
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|