جعفر المظفر
الحوار المتمدن-العدد: 5513 - 2017 / 5 / 6 - 20:59
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
تؤكد لغة الأرقام ان الإسلام السياسي التركي ممثلا بحزب العدالة والتنمية, استطاع أن يقدم في مساحة بناء الدولة ما تشير بعض جداوله إلى أن الإقتصاد التركي على سبيل المثال قد إنتقل من الخانة 117 في تصنيف الإقتصادات العالمية إلى الخانة 11 في نفس التصنيف, وإن هذا الإنجاز الإقتصادي الضخم ما كان مقدرا له أن يتحقق لولا أن رافقته عناصر سياسية وإجتماعية قسم منها نابعا من ذات الحزب والقسم الآخر من إستعداد المحيط للتفاعل مع مشروعه السياسي والثقافي.
التجربة الإيرانية على الجهة الأخرى, تحمل من ناحية مبدئية, بعض عوامل أساسية مشابهة لتلك التي ساعدت المشروع التركي على النجاح, فلقد إستطاع الإيرانيون أن يحققوا على صعيد الداخل إنجازات, إن لم يكن في قدرتها كسب سباق التنافس مع مستويات النجاح التي حققتها نظيرتها التركية إلا أن بإمكانها أن تثير تساؤلات مهمة وهي تكشف من خلال المقارنة عن عجز إسلاموي عربي عام وعراقي خاص عن بلوغ أدنى مستويات النجاح النسبي الذي بلغته تلك التجربة.
إن المقارنة بين التجرتين الإيرانية والعراقية, رغم التماهي المفترض بين إيديولوجية كلا السلطتين, تكشف, عراقيا, عن إرتباك حقيقي في معادلة السلطة والدولة, مقابل حالة من التجاذب العضوي بين طرفي المعادلة إيرانيا. هنا المشهد الإيراني والعراقي هما على طرفي نقيض تماما. الأول يؤكد على وجود ملحوظ لعملية بناء دولة وطنية في حين يشير المشهد العراقي إلى وجود فاعل لتهديم الدولة الوطنية السابقة مع وجود عجز حقيقي عن توفير المستويات الدنيا لبناء دولة وطنية بديلة.
بكل تأكيد هناك العديد من العوامل الموضوعية والذاتية التي ساعدت التجرتين الإسلاميتين التركية والإيرانية على تحقيق نجاحاتها النسبية على شتى الأصعدة وتلك التي تعيق الحركات الإسلامية العربية المتفرقة, وبخاصة العراقية, عن مغادرة مساحة الصراع على السلطة إلى مساحة بناء الدولة. لكن التوقف أمام تلك العوامل مجتمعة سيحتاج إلى دراسة مستفيضة من شأنها ان تتعرض لنشأة تلك الحركات وعوامل صعودها إلى السلطة مثلما يتطلب الإحاطة بمجمل العوامل الوضعية أو الذاتية المساعدة أو المحبطة.
بمعزل عن الخوض في تلك الإشكاليات المتفرقة فإن عوامل الإحباط أو النجاح تكمن بشكل رئيسي بوجود أو غياب المشروع التاريخي الداعم لفعالية تلك الحركات والذي يحدد بداية خط الشروع بإتجاهاته المتفرقة ومتضمنا معه بالأصل إمكانات النجاح أو حتميات الفشل.
إن الذي يجب الوقوف أمامه هنا هو إفتقاد الحركات الإسلامية العربية للمشروع القومي أو الوطني الداعم والمحفز مقابل حضوره على الجانبين التركي والإيراني, بما يجعل الأخيرتين قادرتين على العطاء الوطني والقومي المفتوح, كل في ساحته, مثلما يعطل غيابه على الطرف العربي إمكانات تحقيق ذلك العطاء على طريق بناء الدولة المستقلة وحماية الإستقلال الوطني. وليس من الغريب بعدها أن نكتشف ان الحركات السياسية الإسلامية التركية والإيرانية تمتلك العوامل المساعدة للخروج من مساحة بناء السلطة إلى مساحة بناء الدولة في حين تعجز الحركات العربية عن إجتياز الخط الفاصل بين المساحتين.
كلا الإسلامين السياسيين, التركي والإيراني, هما إسلامان قوميان, في حين تفتقد الحركات السياسية الإسلامية العربية لهذه الصفة الداعمة والمٌفَعِّلة. إن هذين الإسلامَيْن هما على وئام مع المشروع القومي والوطني التاريخي لدولتيهما. ورغم محاولتيهما التمسك بالأممية الإسلامية إنسجاما مع الفقه الديني الذي يؤسس لبنيتهما وخطابهما السياسي, إلا أن هذه الأممية تظل مٌجَيَّرة وعاملة في خدمة المشروع الوطني والقومي لكلا الحركتين, فالإسلام السياسي التركي لا يمكن ان ينفصم أو ينعزل عن القيمة الروحية والسياسية لتاريخ الدولة العثمانية, أما الإسلام السياسي الإيراني فهو يستمد أيضا تلك القيم من الإمتداد التاريخي للدولة الفارسية, وفي النتيجة فإن كلا الإسلامين يستمدان فاعليتهما الوطنية والقومية من خلال حالة تفاعل إيجابي مع المشروع التاريخي لدولتيهما ويتغذيان به, وبفعل من ذلك فإن عوامل البناء الثقافي والإجتماعي هنا يتغذيان بحالة إنسجام وتماهي ما بين التاريخي والمستقبلي, ليكون هناك مشروعا حاضريا لبناء الدولة من داخلها.
على الجهة الأخرى, والإسلام السياسي العراقي بشكل أوضح, هو على النقيض من الحالة الوطنية والقومية وعلى خصومة معهما, ولست أجد أن الإسلام السياسي المصري بأفضل حال منه, وكذلك السوري على مستويات مختلفة. إن هذه الإسلامات هي على خصومة شديدة مع حالة الدولة الوطنية ومع إمتداتها التاريخية العميقة ولذا نراها فاقدة لفاعلية المشروع الوطني المحلي أو القومي العروبي, بل نراها على العكس من ذلك مشاريع للهدم لا للبناء. ولقد رأينا مقدار التناقض بين الخطابين السياسيين والثقافيين لمشروع الدولة الوطنية أو العروبية من جهة ومشروع الحركات الإسلامية السياسية المتفرقة.
على الصعيد العراقي ما أن تمكن الإسلام السياسي من الهيمنة على الدولة الوطنية حتى ظهرت الخصومة بين حالة الدولة وحالة السلطة, فالإسلام الشيعي السياسي من ناحيته ذا خطاب ثقافي وأخلاقي نقيض لحالة الدولة الوطنية وإمتداداتها القومية, فهو خطاب يحمل مشروعيته من خلال مفهوم المظلومية التاريخية المتخاصم اساسا مع العمق التاريخي للدولة العربية القديمة وللدولة العراقية الوطنية الحديثة, الأمر الذي يجعل المشروع الوطني والقومي في قلب مدفعيته ومرماه بحيث يصبح مشروع تهديم الدولة لا بناءها هو هدفه الأساسي ويبقيه فاعلا في مساحة الصراع على السلطة غير قادر وغير متحمس لمغادرتها إلى مساحة بناء الدولة.
ونتيجة إمتداداته الفقهية العابرة لخطاب الدولة الوطنية فهو سيصير بالنتيجة أكثر قربى مع المشروع السياسي الفارسي المنسجم مع الدولة العميقة والعامل لبنائها كمركز أممي أو إقليمي, وبهذا تكون التبعية نتيجة طبيعية لخطاب سياسي متخاصم مع حالة الدولة الوطنية ولا يملك مقومات وجوده وشرعيته بمعزل عن هذه الخصومة.
على الجهة الأخرى فإن المشروع الإسلامي الإيراني, كما هو المشروع الإسلامي التركي, يتميز بوحدة خطاب ثقافي وسياسي مع مفهوم الدولة والأمة, بما يجعلهما مشروعين قوميين ووطنيين يحملان قدرا كبيرا من حالات الإنسجام بين حالة السلطة وحالة الدولة وستجعلهما حالة التوافق والإنسجام هذه أكثر قدرة وحماس على التنافس في مساحة بناء الدولة والحفاظ على كيانها وسيادتها الوطنية مثلما تجعلهما قادرتين على ترتيب علاقة السلطة بالدولة بحيث تاتي الأولى في خدمة الثانية وليس العكس كما هو الأمر في الحالة العراقية حيث صارت الدولة في خدمة السلطة, وهي إشكالية أدت بطبيعة إلى تهديم العراق لا إلى بنائه.
إن تفعيل التاريخ الشيعي العراقي سياسيا سرعان ما وضع التراث والفقه الشيعي في الموقف النقيض لمفهوم الدولة العراقية الوطني والقومي وذلك تنيجة لتحريك وتفعيل التناقض المذهبي للمؤسسة المذهبية مع التاريخ السياسي للوطن والأمة العراقية بإمتداداته المحملة بمستويات من الصراعات المذهبية التي ما ان تسيست حتى فَعَّلت المٌخْتِلف المذهبي على حساب المشترك الوطني وأدت بالتالي إلى خلق (شعبين), أحدهما سنيا والآخر شيعيا, اما مفهوم الشعب الواحد فتحول إلى حالة إفتراضية تنتظر الظرف الملائم لزوالها. وما كان مقدرا للإخوان المسلمين لو قدر لهم الهيمنة على السلطة غير ان يسيروا على ذات الطريق التي تخلقه التفعيلة المذهبية المعاكسة, والتي تؤدي بدورها هي أيضا إلى خلق شَعْبَيْن عراقيَيْن, احدهما سنيا والآخر شيعيا.
خلاصة القول, إن الإسلامَيْن السياسييْن التركي والإيراني يمتلكان خاصية التماهي بين مشروع الدولة الوطنية والقومية وبين الفقه السياسي حتى بصيغته المذهبية, فهما إسلامان يمتلكان من الخصوصيات الوطنية والقومية ما يجعلهما على علاقة ود وتصالح وتجاذب مع مفهوم الدولة الوطنية وبما يوفر لهما روحية وآليات بنائها وبداية من خلال وجود خطاب تاريخي إجتماعي متصالح مع ذاتهما السياسية. أما على الصعيد العربي, العراقي والمصري كإنموذجين, فإن الإسلامَيْن السياسييْن هنا فاقدان لحالة التوأمة هذه بما يجعلهما يعيشان حالة من التناقض والخصومة مع مفهوم الدولة الوطنية, ولا أظن أن حالة الدولة السورية ستخرج مع إسلامها السياسي عن هذا السياق .
إن الإسلام السياسي العربي هو فاقد لثقافة وآليات خلق التماهي ما بين الدولة الوطنية وما بين السلطة المناطة بها عملية بناء الدولة المستقلة والمجتمع الموحد, وإن ما يصلح لإيران وتركيا لن يكون بالضرورة السياقية صالحا في أمكنة أخرى لصعوبة خلق التوليفة المطلوبة التي لا يمكن العثور عليها إلا من خلال دولة علمانية بإمكانها تعطيل الألغام التي زرعها تاريخ طويل من الفرقة والتمزق المذهبي والقومي.
#جعفر_المظفر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟