|
الاقتصاد النفسي....ستراتيجية تصريف الطاقة
محمد طه حسين
أكاديمي وكاتب
(Mohammad Taha Hussein)
الحوار المتمدن-العدد: 5513 - 2017 / 5 / 6 - 11:16
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
كلّما نتعمق في كتابات فرويد نستحصل منها فكرة جديدة، هو طرَحَها عملياً يوم كان في عز العمل والنشاط الذهني، عاش فرويد 83 سنة(1856-1939) والعقود الثلاثة الأخيرة في حياته قضاها مع الأمراض ولكن جابهها بكل عناد وتصدي، حاول أن يعيش مع آلامه متربصاً الحياة الأكثر أستقراراً والأقل توتراً. وأستمر كمفكر شرس محاولاً المحافظة على توازنه العقلي بغية أنجاز مهمته الأبداعية المتجلية في بناء المجتمع عن طريق بناء الفرد العاقل والواعي بمناهل ومنابع طاقاته وأِعلامِه عن طريق نظرياته كيفية تصريف كل هذه الطاقات التي تتدفق دوماً من الأعماق والظلمات الخافية ذات الأصوات الخافتة. غاص فرويد في التأريخ ولكن بمنهجية آركيولوجية حيث أستقصى في طبقاته الفكرية المنتوج والمحصول الذهني لمن عاشوا في تلك الحقب، أستنتج مستويات وعيهم وأستعان بها كي يكشف الوجهات التي أستنفد فيها المخزون الهائل من الطاقة الحيوية الليبيدية ومحاولة معرفة كيفية تصريفها. فالتصريف ليس الّا عملية أقتصادية يقوم بها الفرد لأدارة نفسه وأبقاءه حياً بين الأحياء والأشياء. دخل عالم الميثولوجيا وكشف من خلال مخيلات كائناتها البشرية سلوكياتهم الدافعة دوماً نحو تحقيق رغباتٍ قلّما كانت نابعة من أعماق الأرادة المستقلة للأفراد، بقدر ما هي تحقيق لرغبات الرموز الطوطمية المقدسة التي تراكمت تأريخياً وتأطرت منذ ذلك الحين في قوالب مختلفة كضمير تُدار من خلاله العقول والأنفس. حاول الغوص بمعية النصوص الميثولوجية والتأريخية في ظلمات الزمن المؤرَّخ وغير المؤرَّخ، كي يحصل على (الجوهرة السرّ) التي لم ولن تدع البشر يسكن ويتوازن، وهي اللحمة التي تربط المكونات الأربعة للكون(النار والماء والهواء والتراب) في داخل النفس والجسد البشري، حيث تؤجج الفرد البشري كالنار وترطبه وتبلله كما الماء، وتُطَيِّره في الهواء وتدخل صدره لأستنشاق الأنفاس، وتسطح له الأرض كي ينشأ عليها المكان وذلك لطمأنة نفسه. هي الوصلة الرقيقة بين الجنة والنار، بين الخير والشر، بين الفضائل والرذائل. هذه الجوهرة هي (الجنس)، جوهرة ولكن غير مقدسة بقدر ما هي ثمينة، بمثابة الطاقة البيوكيميكية التي تُنشِّط فيزيكا الجسد وتوجِهُه نحو الحياة حيناً وتهدده صوب الموت أحياناً أخرى، هي مكونات قنبلة هيدروغريزية يصعب المزاح معها والتقليل من خطورتها. أدارة المكونات تلك بحاجة الى عقلية مسيطرة ونبهة كي تتمكن من أيجاد مخارج ومنافذ أخرى بغية أستخدامها في مجالات البناء الأنساني كأستخدامات أنسانية للطاقة الذرية، وليس الهدم الكياني والوجودي للبشر. طار فرويد عبر مخيلته الممتلئة الى كيان أجداده الفلاسفة من اليونان ودخل معهم في سجالات عدة حول ثنائية اللذة والألم، وتعلم من أبيكور مفهوم اللذة العقلية وكيفية الحصول عليها من خلال الغور في مجاهيل الآلام، ومن ثم رجع الى آنِه، وتفرغ لبناء هرمٍ هندسي نفسيٍ يدار بذخائر الطاقة الحيوية التي تدفع الفرد هنا وهناك بحثاً عن ما يجعله مستقراً مطمئناً. أدارة الخطورة هي من مشاغل ومهام العقل الذي لا يوجد الّا في أناً واعٍ ومتوازن، يدرك أحتياجات الجسد البيولوجي أو مكنونات الهو، ويدرك مقومات التماسك والأجتماع البشري ضمن الكيانات والمؤسسات الأجتماعية المختلفة والضرورية للعيش والبقاء كأنسان يفهم أهمية الحياة المشتركة. ادارة الطاقة ليس بالأمر الهيِّن والسهل، انها الأعقد بين الفنون الادارية التي تنتظم بها الأنسان ضمن ذاته وكذلك ضمن العلاقة مع الآخرين. هذه الادارة تستقوي بنظام أقتصادي يقدر على تصريف الأمور ذات الجذور الليبيدية، فأن كان الفرد دقيقاً وموزوناً في تسويقها تستقر النفس والكيان الجسدي له، وأن ترهّل في تسييرها فالأضطرابات لن تدعه يتوازن الى أن يبقى حياً. أقتصاد النفس لن تدار فقط بأدارة الطاقة الجنسية، فالجنس ليس المكون الأوحد لليبيدو، فالغرائز تتراكم بكثرة في أعماق الخريطة البيوجينية والبيولوجية وأن تسيطر على معظمها مِسحات جنسية أو بالأحرى تحاط بها هالات ذات الطابع الجنسي، هناك فرق بين الطابع الجنسي لليبيدو أو هويتها الجنسية، وحيازة الجنس لأكبر حصة ومقدار في كيان الليبيدو كطاقة حيوية للفرد، أنطباع الليبيدو بمِسحة الجنس وسيطرته عليه يعني غلبة الشبقية والنرجسية على ناتج الطاقة بأكملها، ولكن الحصة الأكبر للجنس على خريطة الليبيدو تعني أهمية النزعات والرغبات الجنسية للفرد في أدارة كيانه وحصوله على ما يريد ويندفع به، وكذلك أهمية التصريف الأقتصادي لهذه الطاقة كي تكون محركاً تدار بسلاسة ومرونة لن تشوش التوازن العقلي ولن تخدع الوجود الواعي بصرفه عن الأهم في الحياة وهو البناء الحضاري والمدني والثقافي وليس تهديم الذات من خلال سوء أستخدام الطاقة الحيوية(الليبيدو). ادارة النفس والطاقة الليبيدية الكامنة فيها أدارةً أقتصادية واعية، وأعتبار هذه النفس كياناً لا يتوازن الّا بعقل مبرمج أنتاجي وتسويقي في آن واحد، هو شأن تثقيفي وأجتماعي وسلطوي بالمعنى البنيوي للمفهوم، أي أن الأقتصاد في النفس يجعل من كل فرد أن يكون مَلِكاً ومالِكاً لكيانه السيكوجسدي والسيكووجودي. بمعنى أدق أن النظر الى النفس من الزاوية الأقتصادية ومن خلال الحكمة والدقة في أدارة الطاقة الحيوية فيها، يجعل من كل فرد أن يعي قدراته وأمكانياته وأن يفهم ذاته ويقدرها وبعد كل هذا يكشفها ويؤكدها في مواجهاته الحياتية المتكررة والمتعددة. الفهم الأقتصادي للنفس يجعل منها موضوعاً للبحث والأستقصاء الدائم وكذلك الأستثمار الواعي للعقل فيها، استثمار العقل لا يعني غير بناء الأنا المستقل الذي يشعر بأهمية التوازن في الحياة وأختياراتها. الاستثمار مفهوم أقتصادي يبنى على بنية تحتية نفس - أقتصادية وبرأسمال هائل من الطاقة الحيوية التي تستمر في التدفق، ولكن العمل في تسيير أمورها مرتبط بحذاقة الفرد في تصريفها دون الأنزلاق الى هاوية الهدر والتبذير العصابي الذي لا تظهر منه سوى العصاب واللاتوازن السيكولوجي والعقلي. ادارة النفس هي عملية سايكوأقتصادية صعبة جداً، الذات البشرية هي كون مصغر لا متناهي الأبعاد والزوايا، اكتشاف هذا الكون المجازي يأتي من الوعي بالذات العاقلة المتجسدة في الأنا الموزون الذي لا يصرف الّا هو نفسه مخزونه من الطاقة الحيوية ويوزعها على الوجهات العديدة التي تتكون منها جماليات الحياة البناءة. فساد النفس والذات البشرية لا يأتي الّا من أثر سوء ادارة أقتصاديات الطاقة الحيوية النفسية، ومنها تغطي الاساءة الأنظمة المجتمعية ذات المسؤوليات المختلفة. ما لم يكون الفرد مديراً جيداً وواعياً وموزوناً لنفسه وجسده لا يشعر بأهمية وجوده ولا يقدر قيمة ذاته ولا يؤكد هذه الذات من بين الذوات البشرية الأخرى في المجتمع.
#محمد_طه_حسين (هاشتاغ)
Mohammad_Taha_Hussein#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ذات غير سوية.....جسد غير متوافق
-
كم هو صعبٌ أن تكون بسيطاً!
-
حكاية محنطة
-
رسائل محنطة
-
المبدع والنائم!
-
الأنسان الهيراكليتي الفوكوي
-
فلنحب ولا نعشق
-
ادعاءات شاعرية.....اراقص عقلي
-
ماض لا يمضي
-
نبضات ملحنة
-
ظلُّ الموتى
-
بيت الشياطين
-
وطن من الكلمات
-
السقوط الی الاعلی
-
في الامس اعيش
-
رثاء جرح ازلي
-
سمير أمين.....(المسألة الكردية كيف كانت؟) عصبية مبطنة أو خِر
...
-
سلمت قدري لابي الهول¡¡
-
ذنبٌ يلدُ حباً
-
ميتاسيكولوجيا العقل.......عودة لاكانية لفرويد
المزيد.....
-
-لقاء يرمز لالتزام إسبانيا تجاه فلسطين-.. أول اجتماع حكومي د
...
-
كيف أصبحت موزة فناً يُباع بالملايين
-
بيسكوف: لم نبلغ واشنطن مسبقا بإطلاق صاروخ أوريشنيك لكن كان ه
...
-
هل ينجو نتنياهو وغالانت من الاعتقال؟
-
أوليانوف يدعو الوكالة الدولية للطاقة الذرية للتحقق من امتثال
...
-
السيسي يجتمع بقيادات الجيش المصري ويوجه عدة رسائل: لا تغتروا
...
-
-يوم عنيف-.. 47 قتيلا و22 جريحا جراء الغارات إلإسرائيلية على
...
-
نتنياهو: لن أعترف بقرار محكمة لاهاي ضدي
-
مساعدة بايدن: الرعب يدب في أمريكا!
-
نتانياهو: كيف سينجو من العدالة؟
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|