سامى لبيب
الحوار المتمدن-العدد: 5510 - 2017 / 5 / 3 - 15:00
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
- نحو فهم الوجود والحياة والإنسان ( 65) .
- خربشة عقل على جدران الخرافة والوهم ( 63) .
- حجة (84) من مائة حجة تفند وجود إله .
ملاحظات مبدئية
- سبق لى تناول فكرة وفلسفة الجمال ليأتى هذا البحث شاملاً ولأرى أنه من الأهمية بمكان , فأنا أقدم رؤية فلسفية لم يتطرق لها آخرون لذا فهى جديرة أن تجد حظها فى الإنتشار كما سأنقد رؤى فلسفية لبعض الفلاسفة عن مفهومهم للجمال فى جزء ثانى .
- هذا البحث لا يقترب من الإسلام والمسيحية بالنقد والإعتناء فهو بحث فلسفى وإن كان جوهره وغايته نفى وجود إله كخالق ومصمم مبدع ألخ , لذا أرجو أن يدلو الزملاء بدلوهم فى هذا الإتجاه .
- أعتذر عن الإطالة فهكذا أردت أن أجمع كل رؤيتى عن ماهية الجمال فى بحث واحد .
-------------
- يكون الإلحاد تأملات وبحث عقل متحرر من كافة الأكليشيهات والتلقينات الفكرية , عقل حر جرئ قادر على الرفض وقول كلمة "لا" أمام القوالب والتقريرات الفكرية التى تقدم نفسها بلا سند ولا دليل .
- المعروف أن الإلحاد جاء من رحم اللادينية كرفض للأديان بآلهتها وأساطيرها وخرافاتها وشرائعها ليتم لفظ تلك المنظومة الفكرية لما تحتويه من هشاشة وسذاجة وتناقض وتعسف وإستخفاف فى طرحها , فهى لا تخاطب ولا تحترم عقل الإنسان , لذا يرفض الملحد كل هذه المنظومة , ولكن أرى أن هذه حالة لا تتجاوز اللادينية وإن كان لها أسبابها الوجيهة فى الرفض , ولكن لا يمكن إعتبارها حالة إلحادية قوية فهى رفضت فكرة الإله المُسوق فى الأديان ليمكن أن تفتح الطريق أمام الربوبية أى إله بدون أديان , ليأتى الإلحاد القوى رافضاً بوجود أى آلهة من منطلق فكرى فلسفى متكئاً على الفهم المادى للوجود , فلا يسمح للخرافة أن تتواجد ليضع الإله فى إطار فكرة إنسانية خيالية .
- كان لى إيمان بالإله فى مرحلة الطفولة والصبا ولكن لم يكن إيمان تلقينى ولا معتنى بقصة الخالق الرحيم العادل ولا بقصة المسيح الإله المخلص فقصة الفداء والخلاص لم تقنعنى منذ البدء , كذلك غير مهتم بأن لكل سبب من مُسبب ولكل مُحدث من حادث بل إيمان عاشق ومفتون بالطبيعة متحسساً جمالياتها الرائعة ليكون إستبدال لكل سبب من مُسبب , بكل جمال من فنان لأؤمن بالإله كفنان رائع أبدع فى رسم لوحاته .
- أى أن إيمانى بفكرة الله فى البدء هو إعجابى الشديد به وإمتنانى العظيم لصنعه كرسام ماهر مع تصورى الخاطئ حينها أن الجمال شئ مستقل بذاته ومن ذات فاعلة عاقلة وأن الخلق شبيه بعمل رسام لتتمحور أفكارى فى هذا الإطار فهاهو إله ينتج أعمال جميلة , فهكذا كان حالى عندما كنت أكحل عيونى برؤية وردة جميلة وفراشة رائعة الأجنحة وزهرة وسمكة وطبيعة خلابة بل غيوم رائعة تتخللها أشعة الشمس , وإن كان موج البحر هو الأكثر إثارة ومتعة لأنبهر بجماليات حركته وتدافع أمواجه طوال ساعات اليوم فى الفجر والغروب بل حتى فى المساء متأملا ضوء الشمس والقمر على صفحة الماء والأمواج لأعيش هكذا مفتوناً بالطبيعة ممتناً لإله أنتج هذا الجمال .
- كانت هذه الرؤية منسجمة مع واقعى المُدِرك أننى من أقوم برسم رسوماتى الجميلة فلابد من وجود فنان قام برسم جماليات الطبيعة لأكتشف بعد ذلك أن الجمال عشوائى بلا مصمم عاقل بل أن رسوماتى الفنية لا تعود لوجود عقل صارم أو وحىّ يتملكنى بل مراكز عصبية متقدمة فحسب , ويمكن تناول هذه الرؤية فى بحث مستقل .
* إستيقاظ الوعى .
- كان يفتنى بالفعل هذا الجمال الخلاب لأندهش كيف يُنتج الإله هذا الجمال المُبدع , ولكن سكرة الجمال والإستمتاع به لم تَحول عن تأمل يخربش ليُنتج علامات إستفهام كبيرة بدأت من تحديقى فى السحاب ليفتنى مشهدها وأتذكر اننى تعلمت فى المدرسة أن الغيوم هى جزيئات من بخار الماء ويضيف مدرس التربية الفنية أن الظلال هى إنعكاس الضوء على الأشياء لأبدأ التفكير فى معقولية فكرة الإله الذى يرص جزيئات بخار الماء فى السحاب ويسقط عليها ضوءاً بزاوية معينة لتراه عيونى مشهداً جميلاً .. لتبدأ الملاحظات والتدقيقات تتسرب وتتناسل لتنتج ألغاز ودهشة لتسأل هل الله رص الجزيئات على ظهر جناح فراشة بتلك الروعة ولكن الفراشات هذه كانت بيضات ويرقات قبل ان تكون جميلة فهل الله رسم ولون أجنحتها وهى فى البيضة وتتوالى المشاهد عن الزهور وكل شئ جميل لتتولد الحيرة عن كيفية قيام الله برسم هذا الجمال .
- البدايات كانت من ميلى للرسم لأحظى بمتعة كبيرة فى رسم الخطوط والألون فأنتج رسومات تنال إستحسان الأهل والرفاق .. وتتطور الموهبة وأحس بالألوان فأمزجها وأدمجها لتنساب على صفحة اللوحة مُنتجة تشكيل لونى أستحسنه .. بدأت أحس بالألوان وأتأملها وأحاول البحث فى مغزاها وهل هى جميلة أم أننى أصنع منها الجمال لتظل الأمور على مستوى الأسئلة والحيرة ولأبدأ فى مرحلة متطورة من النضوج الفكرى محاولة فهم مغزى الجمال لأصل لنتيجة بعدم وجود شئ جميل فى ذاته وكينونته بل نحن من نصنع ونتوهم الجمال لتتفاوت قدرتنا فى تجميع أحاسيسنا وخبراتنا عن الطبيعة والتعبير عنها , فنمنح الأشياء الجمال أو القبح وفق حالة مزاجية تعتمد على حاجة نفسية عميقة لا ندركها ولا نتحسسها ولا نعيها بشكل واعى ملموس ولكن من المؤكد أنها مختبأة فى الدورس الأولى للطبيعة التى أسست المفاهيم الجمالية .
- رؤية الجمال التى قادتنى للإيمان بالإله هى نفس الرؤية التى قادتنى للإلحاد لأتأمل كثيرا وأفكر فى هذا الجمال لأجد أنه تشكيل عشوائى وليس بريشة وأداء إله فنان , فحركة الأمواج نتيجة ظاهرة المد والجزر لتمارس الأمواج فعلها من قديم الأزل فى صيرورة وحتمية قبل وجود الإنسان بمئات الملايين من السنين , وأن الجمال الظاهر من تساقط الضوء على الأمواج والغيوم هو مشهد من السخافة القول أنه مُرتب فالضوء يسقط على أى شئ .
- النقطة الحاسمة لبداية الوعى بماهية الجمال هو البحر فأنا اعشق البحر بشكل جنونى بالرغم أننى لست من بيئة ساحلية ولكن أحس أن البحر أجمل شئ فى الوجود ليمكنى أن أحدق فيه ليوم كامل مستمتعاً بجماله فلا يصيبنى لحظة ملل , فلا أعلم سر هذه الفتنة بالبحر فقد يكون الحنين الرومانسى للبدء حيث إبتدأت الحياة بسمكة , ولكن هناك جمال فى البحر لا يستطيع أحد أن ينكره أعزيه لفعل الحركة والحراك الرائع الدائم , فسر الحياة وجمالها فى الحركة , ولكن ما معنى هذه الحركة الدائبة التى لا تنتهى بوجودنا أو بغير وجودنا .
- إنها حراك المادة فحسب , لتتحرك الامواج على الدوام بصورة عشوائية لتنتج مشاهد رائعة من حركتها مع ضوء الشمس أو القمر عندما ينعكس على الأمواج ليعطى مشهد ساحر , وفى خضم هذه الروعة بدأت أفهم ماهية الجمال , فالأشياء ليست جميلة فى ذاتها بل عيونى هى التى تراها جميلة أو قل أحاسيسى ومشاعرى وإنطباعاتى تسقط على الأشياء لتمنحها الجمال من خلفيات نفسية إرتبطت بالحاجة وشكلت الوعى والإحساس , فالطبيعة هى التى تشكلنا وتمنحنا مفردات الوعى بالجمال وما نحن إلا إنعكاسات لما تهبه لنا وحظوظ من فيض إنتاجها وما نستقبله من صور وما نسقطه عليها من أحاسيس وانطباعات .
إكتشف فى رؤيتى وتأملاتى للطبيعة مع إزدياد الوعى ومحاولاتى أن أقلدها فى رسوماتى أن هناك أمور نغفل عنها ونتوهمها خطأ أو بالأحرى لم نتعمق فى مشهدها لأجد أننا كلما حدقنا فى الطبيعة سنتعلم أشياء كثيرة تقربنا من فهم الوجود شريطة أن نطلق معها تأملاتنا وفكرنا ولا نكتفى بمتعة المشاهدة كصور فوتوغرافية ذات خطوط وألوان .
- يفتنى منظر الغيوم فى السماء وأتصور أن الكثيرين يشاركونى ذلك عندما تتشكل لوحات تشكيلية رائعة للسحاب بدرجات مختلفة من اللون الرمادى والأبيض وعندما يتخللها ضوء الشمس وإسقاطاته لتمنح المشهد الروعة والجمال , فهل نحن أمام عمل فنى تشكيلى لفنان إستخدم ألوانه وفرشاته أو فلنكن علميين هل هناك من أسقط الضوء على جزيئات الماء فى السحاب بطريقة محددة لتمنح عيوننا مشهد جميل أم أننا أمام فعل طبيعى عشوائى غير هادف بلا غاية تشكل هكذا تحت تأثير عوامل فيزيائية بحتة .
- مشهد أخر يعجبنى وهو تساقط قطرات المطر على بركة مياة ساكنة لتنتج دوائر كثيرة متقاطعة ليفتح هذا المشهد عقلى على الجمال والعشوائية , فأنا أرى المنظر جميل ولكنه عشوائى تحكمه قوانين الطبيعة , فمن السخافة القول أنه منظم بالرغم أنه ينتج دوائر منتظمة ومن هنا أدركت أن الوجود عشوائى وأعنى بالعشوائية هنا اللاغائية , أى لا يوجد أحد وراء المشهد يتدخل فيه . (( من الأهمية بمكان إدراك مفهوم العشوائية حتى لا ندخل فى لغط كثير , فالعشوائية هى فعل مادى لا غائى )) .
- يعجبنى التشكيل اللونى على جلد الثعبان وأرى فيه تشكيل لونى جميل ولكن سيخالفنى الكثيرين فى هذا التقييم , لماذا؟ لأن تقييم الجمال نسبى فلا نستطيع أن نجمع على شئ بأنه جميل علاوة على أن هذا التقييم المتباين للجمال يفتح مدراكنا على فلسفة ومغزى الجمال التى سيأتى شرحها , فالجمال مفهوم يرتبط إرتباطاً وثيقاً بفكرة الألم واللذة فما نستحسنه ويجلب علينا نفع وفائدة نطلق عليه حسن أو جميل , وما يجلب علينا الألم والمآسى سيكون قبيح لننزع عنه الجمال , أما من يسأل عن إعجابى بجلد الثعبان فنتيجة أننى لم أعانى من رؤية ولدغ الثعبان لأتعاطى مع رؤيتى التجريدية التشكيلية .
- انظر إلى الجبال والغيوم ستجد فى مشاهدها رسوم تقترب وتتشابه مع مخزوننا المعرفى لبعض الأشياء لتمنحنا صورا جميلة تأتى جمالها من غرابتها فقد تجد بروفيل لوجه رجل أو منظر لفيل أو جمل منحوتاً فى الصخر , ولنا أن نتأمل ونسأل كيف وُجدت هكذا , فهل هناك كيان عاقل قام بنحت الجبال بأزميله وشاكوشه أم هى جاءت من عوامل طبيعية كالرياح والنحر والتعرية .. أتصور أن من يمتلك ذرة عقل سيعزيها إلى عوامل النحر والتعرية تمت على مدار ملايين السنين , وهذا مثال يعنى أن الجمال والمصنوعات الطبيعية لا تأتى من مصمم عاقل فنان نحت بشاكوشه وأزميله .
- كان من الصعب فى فترة الصحوة التأملية هذه تصور أن هناك من يرص ويدفع جزيئات ماء البحر لتتدافع فى أمواج خلابة أو يضع صخور لتتصادم بها منتجة مشاهد رائعة .
- تتناسل صحوة التأملات لتتكون رؤية أن الأمور ليست بذات ترتيب فهى فعل الطبيعة العشوائى , فلا يوجد تعمد فى تنسيق الألوان فى ريش عصفور كناريا أو ظهر سمكة زينة أو فى أوراق وردة جميلة أو فى تشكل جبل .
- عندما لا تخرج المشاهد التى نراها جميلة أو قبيحة عن فعل الطبيعة اللاواعى فمن الحماقة القول بأن هناك من يرسم الجمال , فالأمور تقتصر حصراً وبتفرد على فيزياء وكيمياء لتنتج مشاهد عشوائية , فمن الحماقة توهم ان هناك من يلون ويعزف معزوفة فى الطبيعة .
* ماهية الجمال .
- فى رؤيتى لا يوجد شئ إسمه جمال أو قبح فى ذاته أى أن الاشياء لا تحتوى على جزيئات فى تكوينها الوجودى والبنائى إسمها جمال أو قبح , فجمال الشيء يتوقف على تقدير الإنسان وإنطباعاته بما يشعر به تجاه الشيء ، أي أنه لا يوجد شيء جميل في ذاته كما يعتقد كثير من البشر أنه جميل , بل الأشياء تُعد جميلة أو غير جميلة طبقًا لتقدير كل إنسان لمدى تأثيرها في عقليته ونفسيته .
- الجمال ليس خاصية مباشرة باطنة في الأشياء , بل بالضرورة إحالة الشئ إلى الذهن البشري الذي يدركه ويمنحه إنطباع وبهذا تنتقل حقيقة الجمال من كونها صفة للشيء إلى طريقة إدراك وأثر فى النفس الإنسانية , فالجمال معنى عقلى مجرد لا تدركه الطبيعه الغير عاقله , وهو إنطباع وإحساس وإنفعال ذاتى إنسانى مع الأشياء فهو من يمنح الموجودات صفة الجمال أو القبح وهذا حجر الزاوية فى رؤيتى الفلسفية والتى منها نستطيع فهم الوجود والحياة وماهية الإنسان .
- لتأكيد هذه الرؤية فنحن نقول أن الجمال نسبى أى تقييم الأشياء نسبى وليس ثابتاً مطلقاً فما أراه رائع الجمال قد يراه آخرون جميلاً أو عادياً لا يثيره جمالها بل قد نجد من يعتبره قبيحاً وهذا يعنى أن الجمال تقييمات إنسانية نسبية خالصة , ولكن قد يقول قائل إننا نجتمع على الجمال , فالزهرة جميلة فلن نجد من يقول عنها قبيحة وهذا صحيح ولكن هذا لا يجعل الزهرة جميلة فى ذاتها بل لتقارب الخبرات والإنطباعات والأحاسيس والمعارف والثقافات الإنسانية التى رسخت فى الوعى أن الزهرة جميلة وسنتطرق لهذه النقطة فى السياق .
- الجمال إنطباع إنسانى حسى يستحسن الأشياء وهذا الإستحسان ليس شيئا ميتافزيقياً بل ذو علاقة وثيقة بما يُجلبه هذا الشئ من نفع وإيفاء حاجة بل يمكن القول أن الجمال هو تقييمنا الحسى للأشياء يما تجلبه من راحة وإشباع , كما نستمد رؤيتنا الجمالية من ثقافة وبيئة صَدرت لنا مفردات جمالية فتقبلناها كقبولنا للمعتقدات الإيمانية , ولكن ليس معنى أننا إكتسبنا التذوق الجمالى من ثقافة أن هذه الثقافة إبتدعتها بل هى رؤى الإنسان القديم للطبيعة وإنطباعه عنها بما تجلبه من نفع وضرر ليكون النافع هو الجمال بينما يتمثل القبح فى الضرر وليتم توريث هذا المفهوم لأجيال لاحقة فى ثقافة حسية .
- الإنسان يمتلك الوعى , والوعى هو إنعكاس لصور مادية فى الوجود وكلما كانت الطبيعة ثرية فى عطاءها كلما إمتلك الوعى مساحة أكبر لصور ومشاهد من الطبيعة ليختزنها فى أرشيف كبير من الصور عن الطبيعة ليكون منها وعيه وإحساسه فنحن لسنا بجهاز كمبيوتر يحتوى على ملفات مصمته بل نختزن المشاهد مصحوبة بإسقاط مشاعرنا وأحاسيسنا عليها .ً
- لا توجد جزيئات فى الأشياء إسمها جزيئات جميلة وقبيحة كما ذكرنا , فالجمال والقبح مفهوم ومعنى ورؤية وإحساس وإنطباع أى لا يخرج عن حالة إنطباعية إنسانية ليسأل سائل : ما تفسيرك على إتفاق البشر على مشاهد ليصفونها بالجمال وأخرى بالقبح ؟.
أقول بداية أن تقييم الجمال والقبح نسبى وأن ما نراه من إجماع كثير من البشر على تقييم الأشياء بأنها جميلة هو نتاج تقارب وتشابه الحالة الإنسانية البيولوجية والعقلية والنفسية والتطورية .
- هناك مشهد طريف يثبت النسبية فى الجمال فهناك شعوب آسيوية تستطعم وتستعذب أكل الديدان والصراصير لتقدمها فى مطاعمها كشيش طاووق ويكون الطبق الأشهر هو لحوم القطط والكلاب والضفادع بينما شعوب أخرى ترى كل هذا قبح وقرف ويدعوها للتقيؤ .
- كما لا ننسى أن مفاهيم الجمال تتشكل من ثقافة مجتمعية ليتم تصديرها وتوريثها لأجيال ومن هنا سيبرز سؤال متشكك آخر يطلب تفسير المشهد الجمالى عند الإنسان البدائى أو لدى المعاصرين الذين يطلقون إعجابهم بالجمال عند التجربة الأولى وليس عن طريق تصدير ثقافة فنية لهم ؟. سنأتى على هذا الفهم ولكن من الأهمية بمكان إدراك أن الجمال مفهوم إنطباعى وليس وجود مادى أى أن الجمال يتخلق وفق إنطباعاتنا وتقديرنا وتفاعلنا مع الأشياء وتقييمنا لها وليس وجود حقيقى يفرض ذاته علينا .
* رؤيتى الفلسفية لماهية الجمال .
=الجمال إسقاط إنطباع من فعل حاجة .
- الإنسان يكون مفاهيمه وإنطباعاته الجمالية على الاشياء التى تجلب له الخير واللذة والسعادة ويمنح القبح للأشياء التى تجلب الألم والشقاء , فالأشياء التى تمنحه الغذاء والفائدة هى أشياء جميلة , فاللبن غذاء رائع له ولأطفاله فيكون اللبن جميل وليتم إعتبار اللون الأبيض شئ جميل ومن هذا التجريد يتكون مفهوم جمالى فى أرشيف الدماغ أن الأبيض شئ جميل.
- لا يتشكل الإحساس بالجمال أو القبح بعيداً عن مفهوم الحاجة كإنطباع حسى يختزن فى الوعى بإرتباط المادة باللذة أو الألم ليتكون مفهوم حسى فى الداخل يتم إختزانه فى الذاكرة لتخلق مفاهيم لدينا على شكل إنطباعات يمكن أن نستدعيها ونَتوارثها ونَورِثها لتتشكل ثقافة وذوق جمالى ولكن كل جذورها البدئية هى ردود فعل وانطباعات عن حاجات ورغبات .
- الجمال جاء من مراقبتنا للأشياء وإسقاط رؤية برجماتية لمدى نفعها وفائدتها لدينا لنستحسنها ونصفها بالجمال , فجسد المرأة ليس جميلاً ولا قبيحاً فهو جسد فى النهاية من جلد ولحم ودم ولكن بقدر ما يلبى إحتياج نمنحه الجمال .. فالجسد الغض القادر على الإشباع الجنسى وإنتاج الأطفال نراه جميلاً , بينما الجسد الضعيف الواهن المُجدب نراه قبيحاً لأنه غير قادر على إنتاج نسل يكون دعم لنا فى عالمنا .
- حين تنظر إلى فتاة ذات صدر مكور مستدير نطلق عليها جميلة , ليأتى هذا التوصيف من تجاربنا وخبراتنا كونها تستطيع أن تنتج ما يكفي من الحليب لترضع الطفل فوهبنا هذا النهد الجمال والإستحسان ..فهكذا يكون الوعى بديلاً عن فكرة أن الطبيعة أو الإله وهب المرأة نهد ووضعت فيه الجمال وجعلته إثارة للرجل .؟
لقد اسقطنا تقييمنا للنهد على مايؤديه من حاجة , فالنهد الشاب قادر على الإرضاع ووهب الحياة للوليد بينما النهد العجوز فقد القدرة على هذا فأصبح النهد الشاب بخطوطه شئ جميل واكتسب نهد العجوز بترهله القبح , لتسير الأمور معنا إلى التجريد فنتعامل مع الخط وننسى أن الحاجة هى التى قيمت الخط .
نحن منحنا النهد الشاب الجمال ونزعناه عن العجوز من مدى فائدة النهد بالرغم أنه ذات النهد ليرتبط فى ذهننا علاقة بين تشكيل خطوط النهد بالحاجة ولكننا فى معظم الأحيان ننسى الحاجة أو أصول الإنطباع البدئى الذى جعل النهد جميل أو قبيح فقد تحول لدينا إلى مفهوم إستقناه من رؤية قديمة وبدئية لنا أو من تصدير ثقافة الأجداد وخبراتهم وإنطباعاتهم وتم نسيان السبب ليتبقى الحكم كقيمة ورؤية .
- لماذا مؤخرة المرأة المنحنية نراها جميلة عن المؤخرة المفتقدة للإنحناء .. ولماذا أصبح خط الإنحناء هنا جميلاً وعدم الإنحناء قبيحاً .. هل نقول شهوتنا ؟..ولكن كيف جاءت وتولدت الشهوة هنا وإفتقدناها هناك .؟! ..لا تكون الأمور وفق شهوة , فالشهوة نحن من نخلقها وكل شئ فى الوجود يرجع لسبب مادى يتحرك فى دائرة الحاجة والغاية لينتج الشهوة , فنحن لاحظنا أن المرأة ذات المؤخرة المنحنية سيكون مفيداً لحملها وولادتها , فتجويف الحوض جيد ومرن لأداء المهمة بيسر فتكون قدرتها على إنتاج الأطفال أكثر يسراً لإتساع الحوض , كما تعطى متعة أكثر فى الممارسة , فمن هذه الملاحظة المتكررة إستحسنا المؤخرة المنحنية لفائدتها ووصفناها بالجمال ليتم تلقين هذه المفردة للأجيال اللاحقة لتتكون ثقافة وذوق جمالى فى التعاطى مع المؤخرات الأنثوية المنحنية.
- عندما نستحسن بشرة المرأة وجسد المرأة الناعم ونعتبره جميلاً لأننا ادركنا من التجارب أن هذا يعنى أن لديها ما يكفي من الدهن لمدها بسعرات حرارية تسعفها عند الحمل والولادة , وعندما تفتنا المرأة ذات الأنوثة والدلال لنمحنها الجمال كونها تنتج هرمون الإستروجين بوفرة وهذا يعنى أنها ستنتج بويضات , كذا سر فتنتنا بالمرأة التى تمشى بدلال من إنطباع ان تلك النسوة أصحاب مفاصل حوض مرنة تسمح بولادة ناجحة .
- منظر غروب الشمس قد يستهوى الكثيرون ويرونه منظر خلاب ورائع الجمال , فهل الجمال كامن فى هذا المشهد ؟ أم أننا منحنا هذا المشهد الجمال نتيجة إرتباطه بحاجة نفسية إرتبطت بمشهد الغروب , فالإنسان ظل لعقود طويلة يعمل للبحث عن طعامه وكان الغروب ميقات الإنتهاء من رحلة الشقاء والتوسم فى الراحة والإشباع والأمان والإسترخاء , فيرتبط مشهد الغروب مع الحاجة إلى الراحة ويصبح هناك إرتباط شرطى , فالغروب يرتبط بالراحة والسكينة فهو شئ حسن فلنجعل مشهده جميلاً ليتوالد فى الداخل الإنسانى إستحسان لهذا المشهد ليورثه لأولاده وهذا شبيه بإستحسان الأطفال لسماع صوت جرس الفسحة فى المدرسة للإنطلاق للهو , كذلك منظر شروق الشمس نراه جميلاً رائعا ًبعد أن تكون لدينا إنطباع دائم يرافق مشهد الشروق بالأمل والتفاؤل بيوم جديد يحمل معه رزق وفير وحاجات مأمولة .
- الغيوم التى نراها ونستحسن صورتها لا تكون لوحة فنية صنعها الإله بل مجموعة من جزئيات بخار الماء العشوائية سقط عليها الضوء بشكل عشوائى وعندما نصفها بالجميلة لأننا ربطنا الغيوم بالمطر الذى يجلب الخير والنماء والحياة , لذا لو حاولنا أن ندقق فى السر الذى يجعلنا نستمتع بمنظر طبيعى نصفه بالإبداع والجمال سنجد أن له إحساس بدئى جاء من تولد إنطباع طيب تجاهه كونه مانحاً الحاجة والراحة واللذة فإستحسناه ووصفناه بالجمال .
-الإنسان كائن قادر على إختزان المُركب والمُعقد لذلك نجد أننا من الممكن أن نكون أحاسيس وإنطباعات عن الأشياء وهى فى حالتها التركيبية فيكون لنا إنطباع حسن عن الزرع ونراه جميلا كوننا نعيش ونحيا عليه , فمن خلال إحتياجنا للنبات ورغبتنا فيه منحناه إحساس طيب ووصفناه بالجمال ليترسخ فى داخلنا إرتباط النبات والزرع بالجمال ويصبح لدينا مفهوم للجمال بإعتبار النباتات جميلة وقد ننسى السبب الأول الذى من خلاله منحنا النبات الجمال .
- هكذا بالنسبة لكل الأشياء فى الطبيعة , فالنهر يكون جميلاً لأنه واهب الحياة والخير والنماء فيلتصق فى ذهننا مفرداته اللونية والحركية بأنه جميل , كذلك يمكن أن تكون الصحراء جميلة عند أهل البادية كونها المحتوى الحاضن بما تحمله من إنتماء وهوية وذكريات لذا نجد المغتربين يرون أن قريتهم البائسة رائعة أو باديتهم جميلة بالرغم أنهم يعيشون فى باريس , فالجمال يرتبط بحالة شعورية روحية مختزنة وليس بالضرورة بكينونات ومعايير مادية مثالية .
- التمساح ووحيد القرن كائنات قبيحة لأننا ببساطة لم نحظى منهما إلا على كل ألم وشر لذا ننزع عنهما أى صفة طيبة للجمال ونصنفهما فى القبح فيتولد فى داخلنا هذا الشعور ويصبح كل تمساح قبيحاً مخاصماً للجمال .
- السماء عندما تكون مزدحمة بالسحب تفتنا أكثر من السماء الصافية لنعتبر هذا المشهد جميلاً فمن أين جاء جماله ؟هل من تكاثف جزيئات الماء ؟ فبالطبع هى منها , ولكن هذا لا يعنى أى شئ , إنما الأمور تتضح من إرتباط الغيوم بقدوم الأمطار اللازم لحياتنا وزرعنا فأصبح هذا المشهد رائعاً , ولكن هناك من يرى مشهد الغيوم الملبدة غير جميل حينها ستجد حياته غير مرتبطة بالأمطار فلديه النهر ويرى المطر معيق لحركته وعمله فمن هنا يتضايق عندما يرى السماء ملبدة بالغيوم ومن هنا نستطيع تأكيد نسبية الجمال نتاج رؤيتنا وحاجاتنا المتغيرة .
- الأمور لا تكون صارمة , فالإنسان كائن ذو وعي وتجارب ذاتية ويستقبل الوجود بأحاسيسه ومشاعره ليختلف بها عن الآخرين .. كما لا يوجد تماثل وتناسخ بين البشر فى المشاعر والأحاسيس بل يمكن أن تتقارب بحكم تقارب الإحتياجات والآلام والتجارب البشرية , وحتى الإنسان ذاته لا يوجد لديه أحاسيس متقولبة ومكررة على الدوام , فالماء لا يجرى فى النهر مرتين .
- يكون تفاعلنا مع الطبيعة بإعطاء الألوان والخطوط معنى وقيمة جمالية .. فعندما أسألك عن رأيك فى اللون الأحمر فقد تجاوبنى أنك تستحسنه وتعتبره لوناً جميلاً بالرغم أنه مساحة لونية لا تختلف عن أى مساحة لونية أخرى فلا هو متوهج ولا مضئ مثلا , فلماذا إذن يكون اللون الأحمر جميلاً فى عيونك وعيون الكثيرين .
ثمة عوامل كثيرة تجعله جميلاً فى عيوننا , فعندما نذكر اللون الأحمر يتراءى فى وعينا ثمرة التفاح , ويكمن سر الجمال بأنها أشبعت حاجة غذائية مصحوبة بمتعة فى التذوق فإستحسنا منظر التفاحة بلونها الأحمر ومنحناها صفة الجمال , فالتفاحة أوفت حاجة فجعلنا تميزها بخطوطها ولونها الأحمر يبدو جميلاً رائعاً ليبتعد مشهد التفاحة وتبقى معلومة اللون الأحمر كلون جميل فى الوعى الظاهر , أو قد يكون اللون الأحمر مداعباً خيالنا البكرى فى رؤية جارتنا الحسناء وهى مرتدية قميص نوم أحمر حرك فى داخلنا حاجة وشهوة , وقد يكون الأحمر لون فانلة النادى الذى نعشقه .. إذن اللون يستمد جمالياته من رؤيتنا نحن والذى هو إحساس راودنا ليدخل فى علاقة مع اللون .. إحساس ناتج عن ذكريات مشاعر طيبة تكون مصاحبة للون ومن هنا يكون لنا عشق وإعجاب بلون محدد .
- فطرة الإنسان ومنهج تفكيره لاتنحو نحو القوالب الفكرية بالرغم أن هناك أيدلوجيات تريده كذلك .. فيمكن أن نكون مفاهيم مزدوجة عن الاشياء مابين الجمال والقبح بحكم تباين اللحظات الشعورية فنرى الألوان بأحاسيس متباينة ونسبية .. فبعضنا يفتنه لون ويراه جميلاً ورائعاً والبعض الآخر لا يفتنه هذا اللون وقد يراه قبيحاً , بل أن اللون الواحد يمكن أن نراه جميلا وقبيحا وفقا للحالة النفسية وإرتباطه بحاجات ورغبات وأحاسيس متباينة , فالأحاسيس ليست قطبية حادة مقولبة , فكما ذكرت فى التأمل السابق أسباب الإنطباع الحسن باللون الأحمر ولكن نفس اللون الأحمر الذى أمتعنا نراه سيئاً عندما نشاهده فى الدم النازف .. فنحن عرفنا أن نزيف الدم سيخلق لنا متاعب تؤدى للموت فلا نقبل مشهد اللون الأحمر فى الدم المسفوك بينما قبلناه فى التفاحة .. لتتباين المشاعر من إنسان لآخر وللإنسان ذاته وفقا لعملية الإنطباع والتجريد التى يمارسها .
- قد نجد تباين فى الحكم على اللون الأسود كما فى أى لون لأننا كما قلنا أن الجمال نسبى أو قل أننا نحمل رؤية إزدواجية فى تقييم اللون , فبعض الناس يكرهون اللون الأسود وقد تجد منهم من يستطيع أن يعلل سبب إستقباحه لهذا اللون , فهو يستدعى صورة الموت والحزن والأمهات الثكالى أو يستدعى قصص أسطورية عن الشيطان والعفاريت والجن .. بينما عند آخرين أو عند نفس الأشخاص يجدون فيه سحراً وجمالاً لأنه يستدعى من الأعماق الشهوة الأولى والخيال الجنسى الجميل لأجساد بيضاء ترتدى ألبسة سوداء .
- اللون الأبيض نراه جميلاً لإرتباطه باللبن الصادر عن الأم أو البقرة فيرتبط فائدة اللبن باللون فنستحسنه ونجعله جميلاً ونعتبره لوناً هادئاً صافياً .. ولكن نفس اللون الأبيض قد نستقبحه عندما نجده حاضراً فى شعور رؤوسنا فيصيبنا بالإنزعاج وقد نسارع للبحث عن اللون الأسود لنصبغ به شعر رؤوسنا .. إستقباح اللون الأبيض فى هذه الحالة لأننا ربطنا الشعيرات البيضاء بالعجز والوهن فإستقبحنا العجز والوهن وما يصاحبه من لون أبيض .. من هذه الرؤية نحن قادرون على تجميع مجموعة من الصور فى مشهد نستحسنه عندما يفى بحاجات ورغبات ولذة فنهبه صفة الجمال .. وقد نستاء منه لما يصيبنا منه ألم وسوء فنصفه بالقبح .
- إمتلاكنا القدرة على التجريد و الإختزال جعلنا نمنح الأشياء التى تمنحنا المتعة توصيف الجمال وننزعها عما يصيبنا بالألم والعناء والمشقة , وتتباين المشاعر بالنسبة للمشهد الواحد حسب ما يؤثر فينا ليتولد فى داخلنا القدرة على الفصل الشعورى فليس كل أحمر أو أبيض جميل دائماً كما ذكرت بل يمكن أن نستقبحهما فى حالات أخرى لتتكون قدرة رائعة وديناميكية وثرية فى التعاطى والتفاعل مع المادة .
- فى نفس السياق لماذا نرى معابدنا المقدسة جميلة ولا نراها فى معابد الآخرين .. لأننا ببساطة أسقطنا عواطف وإنتماءات وهوية إجتماعية وإرتباط بالمجموع كمشروع إنتماء على المكان المقدس كرمز يمنحنا الدفء وأمان العائلة والجماعة , ومن هنا يمكن أيضا تفسير إستحسان الإيمان من هذا المنحى .
- قد يتخلى الوعى المُدرك عن السبب المُنتج لمعنى الجمال فيصبح قيمة فى حد ذاته ولكن لا يوجد شئ جميل ولا قبيح فى ذاته كما ذكرنا فنحن من نهب الأشياء جمالها وقبحها , فالذهب معدن نراه جميلاً .. فما سر جماله هل لكونه ذو لون أصفر أصبح جميلاً فلدينا عشرات الأشياء ذات اللون الأصفر و نراها عادية .
نحن وهبنا معدن الذهب الجمال لأنه حقق لنا غاية أن نكون متميزون بإقتنائه وذلك بخلق حالة من التمايز الفوقى على الآخر والشعور بلذة التمايز والإقتناء والسطوة لذا إستحسنا الذهب ووهبناه صفة الجمال ولنصدر لأولادنا معلومة وثقافة أن الذهب جميل فيرونه جميلاً , ويزداد جماله فى عيونهم من فتنة الآخرين به ليتكون مناخ وثقافة تمنح الجمال للذهب , ولكن لو تصورنا قدرة كل البشر على إقتناء الذهب فلن يكون هنا معدن جميل , فسيبحث من يريدون التمايز عن معدن آخر كالماس مثلاً يمنحونه صفة الجمال .
- العلاقة الجنسية بين رجل وإمرأة فى ظل مؤسسة الزواج نراها جميلة ورائعة ونحتفى بها إحتفاءاً شديداً , بينما نفس هذه العلاقة عندما تكون حرة نراها قبيحة مذمومة ننفر منها ونستهجنها بالرغم أن الأداء والفعل والممارسة والشهوة الجنسية والميكانزم واحد , فلماذا هذه الصورة جميلة والأخرى قبيحة بالرغم من تشابههما ؟ هذا يؤكد أننا من نسقط الجمال والقبح على الأشياء والعلاقات والسلوك وفق رؤيتنا ومصالحنا وثقافتنا وإنطباعاتنا .
- يمكن تعليم وتوريث مفردات الجمال للآخرين وخلق ثقافة جمالية تتكون ملامحها بما نصدره لهم من تجاربنا الشخصية والتى تتوافق معهم كونهم يعيشون نفس مظاهر الطبيعة , لتتشكل ثقافة جمالية لدى الإنسان يتم تصديرها للآخرين كخبرات يتم إستقبالها وتدوينها فى الدماغ فيردد أن البحر جميل كونه مصدر رزق ليتولد فى الوعى أن مشاهد البحر جميلة وأن الغروب رائع إيذاناً بالراحة فتتوارث أجيال مفردة أن البحر والغروب رائع دون أن تحمل نفس الرؤية التفسيرية الأولى .
- كثيراً ما ننسى المشاعر المصاحبة للون التى جعلته جميلاً أو قبيحاً فى عيوننا لنصفه بالجميل أو القبيح بناء على إحاسيسنا القديمة التى نسيناها ولكنها تركت إنطباعاً بقى , ومن هنا نصل إلى نتيجة أن اللون فى الطبيعة ليس جميلاً ولا قبيحاً فى ذاته ليتحدد جماله أو قبحه من مخزون مشاعرنا المصاحبة له سواء أدركناها أو لم ندرك مغزاها والتى فى معظم الأحيان نكون قد نسيناها ليبقى حكمنا على اللون وفق ماهو باطنى معبراً عن احتياجاتنا وغرائزنا وسلامنا أو وفق ثقافة إكتسبناها , فكما ذكرت أننا نكون علاقة عاطفية مع اللون وفقا لإحتياجاتنا ورغباتنا النفسية .
-عندما نحكم على مشهد بالجمال يتعاطى العقل مع كل مخزونه الفكرى ومفرداته الثقافية التى تم توارثها وما تم إكتسابه من تجارب حياتية ليتشكل قرار بالحكم على الأشياء بالجمال , ولكن لن تخرج كل المفردات الخالقة للقرار من جذور حاجات ورغبات عميقة مُستحسنة سواء أدركناها أم لم ندركها .
يمكن تشبيه التعامل مع الجَمال ببرنامج حاسوب من حيث أن تقريرنا للجمال يتم فى لحظة بينما مر بمعالجات ومخزونات ومفردات كثيرة تمت فى عمق الفكرى الإنسانى لتتشابه مع الحاسوب فى سرعة انجازه لخطوات كثيرة فى لحظة واعلان التقييم والنتيجة.
- لن يكون هناك لون جميل لو وُجد وحيداً منفرداً بل لن توجد حياة إلا من تنوع الألوان , فيستحيل أن تتواجد حياة من لون واحد , فنحن نصدر حكمنا اللحظى على الجمال وفق حاجات ورغبات وتضاد الأشياء والألوان وصراعها , ومن هنا نكون لحظة نظامية وسط وجود عشوائى فلا يتصور أحد أننا فى تواجد نظامى فنحن من نخلق لحظة ووجود نظام حتى نستطيع التعاطى مع الوجود وقد تطرقت لهذا فى مبحث سابق .
- الإنسان القديم عندما مارس الموسيقى فقد مارسها بشكل عشوائى ثم خرج منها بالنظام والجمال , فمثلا عندما عرف الطرق على الطبلة كأول آلة موسيقية .. كان يطرق دقات مختلفة معبرة عن حالته العصبية والمزاجية ليلاحظ بعض الأذكياء منهم أن هناك دقات معينة تثير الإستحسان والقبول لدى الجماعة فتعلم أن يكررها وينتقيها فى كل مرة يدق على طبلته .. ومن هنا جاءت نغمة منتظمة نالت القبول وسط الآلاف من محاولات الطرق .. ليقوم الإنسان فى العصر الحديث بإيجاد لغة ذات شفرة مثل أى لغة مكتوبة يتم التعامل بها يسميها النوتة الموسيقية .
لاتتم إستساغة الموسيقى بشكل غامض بل لوجود أعصاب فى الأذن ترتخى وتتمايل مع النغمات الحلوة لتكون تلك الموسيقى بمثابة المساج لتنال التقدير والجمال , بينما الدقات والنغمات الصاخبة الشديدة والرتيبة تصيب هذه الأعصاب بالإنزعاج كمثل سماع دقات المطرقة على السندان لتكون النغمات الموسيقية التى نسمعها ونطرب لها حالة إستثنائية تولدت من مليارات النغمات فى الوجود لتكون حالة جمالية نظامية أو قل نحن من أطلقنا عليها الجمال وسط عالم ملئ بالفوضوية والعشوائية .
- كل موسيقى الدنيا من سبع نغمات وكل لوحات العالم من 6 ألوان .. يكون التنوع والغزارة فى الإنتاج من عملية مصفوفات وتشكيلات وتوافيق لهذه الأنغام والألوان فهل فهمنا ما هى الحياة ؟. هى تشكيلات وتنوعات عشوائية أنتجت اشياء متباينة أوجدنا لها معنى بينما مفرداتها ليست بذات معنى ثم نقنن هذه المشاهد كمعايير , ولنضيف بإستحالة أن تتطابق نغمة مع نغمة فى الكون .!
نعم الوجود عشوائى ومهما تحايلنا عليه فلن تتطابق نغمتين أو لونين أبدا لأن كل نغمة ولون تواجد فى وسط مادى زمكانى يستحيل معه التطابق .
- يتجمع لدينا مخزون هائل من الصور والأشكال التى صنفناها بالجمال أو القبح لتتولد ثقافة سواء تكونت من إبداعنا أو إكتسبناها من المجتمع فكلما رأينا فى واقعنا المعاش صورة جديدة نبدأ فى تقييمها وفقا للرصيد الإنطباعى الذى نمتلكه , ومن هنا ينشأ ما نسميه بالذوق الفنى أو الجمالى أى قدرتك على الإحساس بالإشياء وتقييمك لها وفقا لمخزونك من الأحاسيس والخبرات القديمة التى هى إنطباعات وإستحسانات للطبيعة وعلاقتك بها .
- الجمال والحركة .
هناك علاقة وثيقة وجدلية بين الجمال والحركة , فنحن نستحسن الاشياء عندما تكون مفعمة بالحركة لتتكون شفرة خاصة بين الجمال والحركة , كون الحركة هو وعينا وإحساسنا وإدراكنا الحقيقى للوجود , فكلما كانت الصور غزيرة الحركة كلما إستحسنا شكلها , فالحركة هى الحياة وسرها وشفرتها ولا نقصد بقولنا الحركة تلك الحركة الميكانيكية بل فى عمومها من التغيرات الشكلية والكيميائية والفيزيائية والتطورية لنجد أن عيوننا وآذاننا ونفوسنا تُفتن من تلك الأشياء السخية الفياضة من الحركة لنستحسن الموسيقى والرسم والمشاهد الطبيعية المُفعمة بالحركة لنطلق عليها جميلة , فلا يوجد أى جمال من خلال لون واحد او نغمة واحدة أو السكون فهو الموت والموات بعينه ليكون سر الجمال فى هذا الثراء الشديد من الحركة .
- يمكن تأكيد فكرة أن الجمال إنطباع إنسانى على الأشياء من فكرة أن المادة سابقة على الوعى ولا تكتفى بأسبقيتها بل بتشكيل الوعى وفق الصور التى تطلقها لتسقط على مرآة الوعى لتشكل الفكرة والمفهوم والإحساس , فكل إنطباعاتنا وأفكارنا وأحاسيسنا نتاج سقوط المادة بأشكالها المختلفة على مرآة الوعى ليأتى الجمال من هذا السياق فهو إنطباع وإحساس تكون من التفاعل مع الوجود المادى .
* فلنشاكس فكرة الإله والجمال وفق للفهم الدينى .. الله الذى يحب الجمال ويرى الأشياء جميلة وحسنة .
- فى قصة الخلق يذكر الكتاب المقدس
1: 4 و راى الله النور انه حسن و فصل الله بين النور و الظلمة
1: 10 و دعا الله اليابسة ارضا و مجتمع المياه دعاه بحارا و راى الله ذلك انه حسن
1: 12 فاخرجت الارض عشبا و بقلا يبزر بزرا كجنسه و شجرا يعمل ثمرا بزره فيه كجنسه و راى الله ذلك انه حسن
1: 18 و لتحكم على النهار و الليل و لتفصل بين النور و الظلمة و راى الله ذلك انه حسن
1: 25 فعمل الله وحوش الارض كاجناسها و البهائم كاجناسها و جميع دبابات الارض كاجناسها و راى الله ذلك انه حسن
1: 31 و راى الله كل ما عمله فاذا هو حسن جدا و كان مساء و كان صباح يوما سادسا.
سنهتم بمقولة " ورأى الله أنه حسن " وسنستدعى من التراث الإسلامى حديث " الله جميل يحب الجمال "..فما معنى أن الله رأى الخلق حسن وما معنى ان الله يحب الجمال ؟!!
- بداية لوقلنا أن الله رأى الشئ حسن فهذا معناه أن هناك أشياء قبيحة متواجدة لديه ليتم المقارنة والتقييم وعلى هذا الأساس وجد أن ما صنعه هو حَسن فيصبح هناك معيار لديه يقاس عليه الأشياء ولينطلق السؤال المبدئى : من أنتج الشئ السئ هل هو الله أم إله آخر ؟! .. وطالما هو الله فكيف ينتج ويخلق شئ سئ ويراه سيئا ً ثم يتجاوزه بعد ذلك وينتج شئ يراه حسنا ً !.. هذا يعنى ان الله ليس كاملا ًوليس بالخالق الجيد ولا أحسن الخالقين فهناك أمور تظبط معه حينا ً وتفشل فى أحيان أخرى .
- وبالمثل لوقلنا أن الله يحب الجمال فقد تمر هذه المقولة من أمام عيوننا فنراها شئ طبيعى أن يحب الله الجمال , فبالطبع لن نريده أن يحب القبح أو يليق به ذلك .!
ولكن معنى أنه يحب الجمال أن هناك قبح يستنفر منه ويستقبحه .. لنقول أيضا ً من أوجد القبح الذى جعل الله ينفر منه ليميل للجمال ..وإذا كان هو من خلق القبح فسيتكرر سؤالنا السابق عن كيفية خلق الجمال والقبح وهل هذا من الكمال ؟! ..وهل هذا من حُسن الخلق ؟!
مقولة أنه رأى الشئ حسن أو أنه يحب الجَمال سيرجع بنا إلى مقالنا ونسأل ما هى معايير الجمال والقبح وكيف تتكون إنطباعات للحكم على الجمال والقبح ما لم تسقط تجارب ومشاهد على الإله تتوافق أو تتناقض مع حاجاته ورغباته ليستحسن أشياء فيصفها بالجمال ويستاء من أشياء فيصفها بالقبح لنصل بذلك اننا وهبنا الإله نفس الاحاسيس والانفعالات والرغبات البشرية فى التفاعل والتعاطى والدخول فى سراديب الحاجة والغاية .
- مقولة الله جميل هل هى وصف الإنسان له أم ان الله هو جميل وبعث يخبرنا بهذا الأمر ..لو كان الإنسان هو من يصف الله لعدم توقعه أن الله قبيح أو يحب القبح فهنا يكون الانسان يصف بلا إدراك ولا وعى سوى أنه يريد ان يعظم ويجل إلهه فلنا أن نقول من اين علم ان الله جميل ؟!.. وما تقييم الإنسان للجمال للحكم على الله .؟!
أما لو قلنا ان الله هو جميل بذاته وأرسل للبشر هذه المعلومة لمعرفة ذاته فلنا أن نسأل كيف يكون جميلا ً بدون أن يكون هناك قبح يُبرز الجمال أو هو جميل بالنسبة لمن طالما أنه يتواجد منفردا ً بدون وجود آلهة تشاركه المنافسة على الجمال والتقييم ؟!..ثم تبرز نقطة أخرى عن مغزى الجمال بالنسبة للإله وكيف يرى الأشياء جميلة طالما أن الجمال هو إستحسان أشياء تفى حاجة ذاتية ونفسية فهل الله تحت الحاجة والتأثر بها .. أى يكون لديه إنطباعات على الأشياء فيهبها الحسن لما تحققه له من إحتياج وينزع عنها الجمال لما تثيره من ضيق .
لو خلصنا الله من تكوينات الجمال والقبح فسينفى الوجود , ولو وضعناه فى دائرة الجمال وأنه يحب الجمال ويرى الأشياء حسنه فقد أدخلناه فى دائرة بشرية ذات مزاج وإنطباع وإسقاط لمشاعر على الشئ فينتفى معه الألوهية .
لقد تعاملنا مع فكرة الله برؤيتنا وفكرنا وأحاسيسنا فخلقنا فيه ما نراه من إستحسان للجمال فجعلناه يحب الجمال ويرى الأمور حسنة وجميلة كما ننظر نحن بعيوننا .. نحن نخلق آلهتنا بأفكارنا وأحلامنا وخيالاتنا الجميلة .
* الخلاصة
- من الأهمية بمكان إدراك فلسفة الحياة والوجود كما هى , فالحياة ليست لها خطة أو تصميم أو غاية أو معنى متأصل فيها , فلن تجد مشهد وجودى يحتوى على معنى أو غاية فى ذاته لنتغاضي عن هذه الحقيقة برؤيتنا المغلوطة عن الطبيعة ونتشبع بفهم ميتافزيقى يمتد حتى فى فهم الوجود المادى , فالطبيعة لاتبحث عن معنى , فالمعنى مفهوم واعي لكيان واع ضمن منظومة ثقافية انسانية عاقلة بينما الطبيعة هي وجود مادى نبحث له نحن عن معنى يتوافق مع أسقف وآفاق إحساسنا ومشاعرنا وإنطباعاتنا لننتج تساؤلات ومعرفة , الطبيعة ليست لديها تساؤلات وبالتالي لاتحتاج الى معاني .
- هذه الرؤية للجمال وأنها نتاج وجود عشوائى لطبيعة غير هادفة ولا غائية يؤسس لعدم وجود المصمم , فالجمال وفق لوعينا يحتاج لمصمم بارع فنان بينما الأمور لا تحتاج لهذا فى أى مشهد من المشاهد التشكيلية.
- كما يؤسس فهمنا لماهية الجمال كإنطباع إنسانى تجاه الأشياء إلى إدراك إشكالية وعى الإنسان عندما ينفصل عن الطبيعة أو عن ذاته ليخلق أوهامه من وجود معانى وغايات خارجة مستقلة عنه يُكرس فعلها ووجودها بينما هى من إنتاجه فمن هنا يتخلق الوهم ويجد حضوراً فى الذهنية الإنسانية .
- فهمنا للجمال يعطينا فهم معنى عشوائية الوجود , فمشكلتنا فى التعاطى مع الوجود أننا نتغافل الإرتباط به بالرغم اننا فى وحدة مدمجة متفاعلة فيه بلا إنفصام لتتكون علاقات وانطباعات عن الوجود ما يلبث أن ننسى أنها من إنتاجنا لنتصور الوجود يقذف لنا بمفاهيمه وقوانينه وعلاقاته بينما هى انطباعاتنا نحن عن الوجود والطبيعة .
فهمنا للجمال كونه تقييم وإنطباع ذاتى عن الأشياء وفقاً لما تلبيه من حاجات إنسانية نستحسنها فنطلق عليها جميلة لنمارس منها الذوق الجمالى والمسطرة التى نَقيس ونُقيم بها ليجعلنا نتوقف أمام العشوائية فى الوجود ومعنى النظام , فالطبيعة تلقى بصور عشوائية بلا معنى لتتكون كل صورة من جزيئات عشوائية بلا معنى أيضا , ولكننا أوجدنا معنى لتلك العشوائية ووضعنا لها إنطباع وتقييم وتوصيف فأصبحت نظاماً.
- ما نراه من جزئيات عشوائية على جناح فراشة أو ظهر سمكة أو زهرة هى تكوينات لونية عشوائية ليس فيها نظام محدد ولا معنى ولا رسالة ولا شفرة محددة ولكنها لاقت إستحسان لعيوننا لأننا وجدنا فيها إيفاء لحاجاتنا فأصبح العشوائى هنا نظام , ليمكن أن نصيغه فى علاقات بأن اللون الفلانى عندما يمتزج باللون العلانى سيعطى لوناً جميلاً , وهكذا تدور الدوائر لنخلق قوانين ماهى إلا إنطباعتنا وملاحظاتنا التى أردنا أن نسجلها عن الأشياء , فالأشياء لا تحمل قانونها ولكننا من نضع لها قانونها أى صياغة وجودها فى قانون وعلاقة جاءت من إبداعنا ومراقبتنا.
- عندما ننفى الجمال كوجود ليقتصرعلى كونه إنطباع ومفهوم فإننا ننفى فى الطريق مفهوم النظام والمُنظم , فالجمال وفق الفهم الميتافزيقى هو شكل من أشكال النظام كونه وفق هذا التصور نتاج مصمم أنتج مُنتج يتسم بالدقة وروعة التصميم لذا لم يعد لنا حاجة لفكرة المصمم العاقل وإن كان هذا لن يمنع من تأكيد تهافت فكرة المصمم فى مقالات قادمة .
دمتم بخير وعذرا عالإطالة .
-"من كل حسب طاقته لكل حسب حاجته" – أمل الإنسانية القادم فى عالم متحرر من الأنانية والظلم والجشع .
#سامى_لبيب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟