إن المظاهرات الحاشدة الكبرى في عواصم الغرب وبلدان أخرى، تحت شعار: "لا للحرب على العراق" تستحق وقفات تأمل ودراسة متعمقين. وسأبدي هنا بعض ملاحظاتي عن هذا الحدث الهام والملفت للنظر.
صحيح أن قطاعات شعبية من المواطنين الغربيين البسيطين والطيبين قد شاركوا لكونهم يعرفون أن كل نزاع مسلح يجلب المآسي للشعوب. وهم يرون على الشاشات الصغيرة صور ضحايا النزاعات في البوسنة وساحل العاج وأفغانستان والصومال والسودان وغيرها. غير أن من الصحيح كذلك أن هؤلاء الأناس المسالمين والطيبين غالبا ما لا يعرفون دقائق الأحداث وعواملها وأسبابها ومشعليها الحقيقيين، وما يقف من ورائهم من مصالح وغايات. يبقى أن هذه المشاعر الإنسانية المجردة هي نبيلة جدا وشديدة السمو.
لكن ما أريد التوقف لديه هي الظاهرة السياسية والإيديولوجية التي كشفت عنها المظاهرات والتي هي بعيدة عن أذهان البسيطين ولكنها كانت هي التي تسيّر المبادرين لتنظيم الحركة التظاهرية ومحركيها ونشطائها الواعين تماما لما يفعلون، وحقيقة أغراضهم.
والواقع أنه من النادر جدا في التاريخ الدولي المعاصر اجتماع هذا القدر الكبير من الأضداد في يوم واحد تحت الشعار المذكور، الذي يبدو لغير المطلعين على دقائق الوضع العراقي وكأنه شعار إنساني وأخلاقي من الدرجة الأولى. فمثلا ما هذا الذي يجمع بين اليسار الغربي والمتطرفين الإسلاميين في آسيا واليمين وأقصى اليمين في اوروبا ؟ وكيف يلتقي إرهابيون من طراز بن لادن، وحملة الأسلحة الجرثومية لاستخدامها ضد المدنيين في لندن وباريس وروما، وبين أنصار السلام التقليديين، ورثة شعار " السلم من أجل السلم "، والخضر، وفرنسا [ بلد حقوق الإنسان كما تحب أن توصف ] ، التي برزت كرأس رمح في الموجة الصاخبة ؟ وهكذا، وهكذا دواليك..
أعتقد أن التفسير الأقرب للدقة والواقعية هو أن ما حدث يوم الخامس عشر من الشهر الحالي هو فورة تفجير لجميع الأحقاد والعقد تجاه الولايات المتحدة.ولكل من هذه الأضداد ـ الخصم حساباته ودوافعه الخاصة وتاريخ علاقاته بالسياسة الأمريكية، ونوع الخلاف والنزاع معها. فمثلا لم يخرج الكوريون، لا حبا بصدام ولا تعاطفا مع الشعب العراقي، بل تفجيرا لعداء قديم مستجد وعميق مع الأمريكان. ولفرنسا تاريخها الخاص في الشعور بالمنافسة والشك تجاه الولايات المتحدة ونمطها الثقافي، وشعورها باستصغار الأمريكان لدورها ـ ناهيكم عن حجم مصالحها النفطية في العراق والخوف من أن يضر بها الأمريكان إذا نجحوا في إسقاط النظام العراقي . ولا ننس أيضا عقدة فرنسية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية جراء انه لولا الإنزال العسكري الأمريكي ـ الإنجليزي في نورماندي لما تحررت فرنسا من الاحتلال النازي. وفي حينه استقبلت جماهير باريس القوات المذكورة بالزهور والقبلات. وعلى الألمان بالشقين الغربي والشرقي عدم نسيان كونهم أكثر من زودوا النظام بالسلاح الكيميائي والجرثومي، وإن الشرقيين منهم هم الذين نظموا أجهزة القمع العراقية وأدخلوا وسائل التعذيب الحديثة للزنزانات العراقية. فهل تراهم اليوم يريدون التكفير، وغسل الضمير، ولكن لا بالاعتذار لشعبنا بل بالتخلي عنه ورفض خلاصه من سجن النظام الذي دعموه حتى العظم ؟ وللمتطرفين الإسلاميين أسبابهم وحساباتهم الخاصة، لا سيما بعد أن قادت الولايات المتحدة حملة دولية ضد الإرهاب الدولي الذي كانوا مشعليه ومنفذيه والمصرين على ممارسته قتلا وتدميرا. وغالبا ما كانت المظاهرات تعبيرا عن معارضة الأحزاب والجماعات المنظمة لحكومتهم المنتخبة وليس بدافع أي تعاطف مع العراقيين. وصدقت جريدة "الشرق الأوسط" في الإشارة إلى أن المظاهرات خلت حتى من الشعار التقليدي :"ارفعوا العقوبات". وقالت مصادر عراقية إن عدد العراقيين المشاركين في المظاهرات كان في منتهى الضآلة رغم وجود أربعة ملايين عراقي في المهاجر، لم يسألهم أحد عن رأيهم ومقترحاتهم قبل التظاهر [ربما باستثناءات إن وجدت أصلا!]
لعل القوى الرئيسية في فورة يوم 15 فبراير الجاري هي قوى اليسار الغربي بجميع فروعه وتياراته وتجمعاته. فهذه القوى لا تزال تحمل عقد الحرب الباردة، وهي تشعر بمرارة عميقة جدا لانهيار "المعسكر الاشتراكي" وانحسار المد اليساري منذ العقد الماضي. فاليسار الفرنسي مثلا وبكل فروعه خسر الانتخابات الرئاسية والنيابية جراء عدم استيعابه للهموم الشعبية العاجلة، ولكنه اليوم يجد في الموقف الأمريكي من النظام العراقي فرصة "ذهبية" لكسب الشارع وتنشيط الروح وبعث الهمة. وما دام الطرف الماسك بالقضية هي أمريكا، فما "أحلى" استعادة "أمجاد" محاربة "الهيمنة الإمبريالية" لأيام زمان! أما اليمين الفرنسي الحاكم فله حسابات أخرى، أوروبية ونفطية.واليمين العنصري معروف بعلاقات زعيمه وزوجته بصدام وما في العلاقة من صفقات.
نذكر هذه الحالات كأمثلة، وحيث من النادر جدا أن تشغل قوى التظاهر نفسها بالهموم الحقيقية للشعب العراقي الذي لا يسألون عن رأيه. ولا بد من ذكر دور وسائل الإعلام الغربية في الدعاية المسبقة للمظاهرات وإبرازها طوال اليوم.ونذكر كذلك اختراقات هامة للنظام العراقي لوسائل الإعلام في بعض الدول الغربية الهامة ن ونشاط الجمعيات الغربية التي تمولها أموال النفط العراقية، والنشاط المخابراتي لموظفي النظام وأعوانه من شتى الجنسيات.
إن عقد كراهية أمريكا المنتشرة بكثافة تاريخها وعواملها، والسياسات الأمريكية الخاطئة على مدى النصف الثاني من القرن الماضي مسؤولة عن الظاهرة. وبالنسبة للعرب فإن للقضية الفلسطينية لها دور كبير في تأجج مشاعر العداء لأمريكا رغم ارتباط اكثر الحكومات العربية بالولايات المتحدة. فالفلسطينيون والنخب العربية تنفس عن العجز العربي أمام عنجهية شارون باستخدام اسم العراق. ويلاحظ الأستاذ جهاد الزين في مقالته في جريدة النهار لليوم نفسه أن هناك فارقا كبيرا جدا بين الحركات الشعبية الغربية تحت شعار "لا حرب على العراق" وبين الحركة التظاهرية العربية.فالاحتجاجات الشعبية الغربية تنفيس عن الثورة على العولمة، وعلى القوة الأمريكية الطاغية، فضلا عن نوع من "الثأر" لتراجع اليسار والانهيار السوفيتي. أما النخب العربية والشارع الفلسطيني ـ العربي فإن حركتها باسم العراق تبدو "كمتراس دفاع عن النظام العراقي، بل متراس للدفاع عن كل أنواع الاستبداديات العربية الشديدة التورط في التوجهات الأمريكية تقليديا". ويلاحظ الزين المفارقة الجارحة والفاضحة بين اعتبار الأكثرية العراقية نظام صدام عدوها الحقيقي وكون إسقاطه له الأولوية المطلقة، في حين "أن صدام حسين بطل لشعوب عربية" كما يقول الزين. وليس من الصدف أن يرفع الفلسطينيون صور الرئيس العراقي معتبرين أنه البطل وأنه هو كل العراق. اما بعض الصحفيين العرب فيدعون النظام من لندن إلى نسف جميع آبار النفط في المنطقة كلها. هكذا بالتمام بدلا من ضم الصوت للمطالبين بترحيل الفئة الحاكمة، طوعا [وهو مستحيل ]، أو بالقوة.
إن المحزن في فورة الشوارع يوم 15 الجاري هو أن معاناة شعبنا جراء جرائم النظام الفاشي قد غيبت تماما، وأن شعار السلام العزيز على قلوب الملايين والمشاعر الإنسانية قد " اختطفتها " موجة العداء السياسي والإيديولوجي لأمريكا [تعبير "الخطف" أوردته الطالبة العراقية في بريطانيا رانيا في رسالة مؤثرة موجهة لزميلاتها المشاركات في مظاهرات لندن وقد أشار إليها بلير هو الآخر]. ومن هنا كانت المحصلة الفعلية للفورة المؤقتة لغير صالح القضية العراقية، برغم حسن نوايا الكثيرين من المشاركين. فكل جهة كانت لديها قضيتها وحساباتها الخاصة وقد أفرغوها في الشارع باسم الدفاع عن العراق ضد الحرب المتوقعة، أي كل كان "يغني على ليلاه". أما العراق الحقيقي، عراق الشعب، فقد غاب عن الجميع. فيا للمفارقة!
لقد نسي الكثيرون وتناسى كثيرون من النخب المؤدلجة أن هناك حروبا ظالمة وحروبا عادلة، إن اليسار كله صفق للغزو الفيتنامي لكمبوديا إنقاذا للشعب من قبضة الطغمة الدموية التي فتكت بأكثر من مليوني كمبودي. واحتجت الجماهير الغربية على حرب العدوان الأمريكية في فيتنام وكانت معارضتها لتلك الحرب هي الموقف الصحيح الوحيد. ولنذكر كيف عارضت فرنسا واليسار الاوربي شن الحرب في البوسنة فانتهت لصالح المسلمين كما يذكرنا الأستاذ عب الرحمن الراشد. كما عارضوا حرب كوسوفو في بداية الأمر، وتبين أن كل تساهل مع الجلادين الصرب كان يعني ضحايا بشرية جديدة ، مثلما كان التساهل البريطاني في عهد تشمبرلن مع هتلر لصالح هتلر وتشجيعا على المزيد من العدوان والاحتلال النازيين. وكانت فرنسا آخر من شارك بصورة شبه رمزية في الحرب العادلة على الطالبان والقاعدة. فإذا كان غير ممكن خلاص شعبنا بالقوى الوطنية وحدها، فمن العدالة قبول العون العسكري الأجنبي لتحقيق الهدف. وبالطبع فقد كنت ممن يفضلون لو كانت الحملة العسكرية الدولية بقيادة البابا ومنديلا والعم شيراك والجامعة العربية. ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه!
وبعد تسجيل حقيقة المحصلة السلبة لمظاهرات أعماها العداء لأمريكا عن التضامن مع الشعب العرقي في كفاحه ضد الفاشية العراقية، فلابد في رأيي من القول إن هذه المحصلة السلبية لا تعني أبدا أن النظام "انتصر" في "أم معارك" جديدة كما راح يكتب دعاته وأبواقه الصحفية العربية وكما راح يهرج المسؤولون العراقيون تضليلا للناس. ويقينا لو أن جميع جرائم النظام كشفت علنا أمام الشعوب وفي وسائل الإعلام الغربية، لكانت قطاعات شعبية غربية واسعة ستطالب بأن يكون أبرز شعارات المظاهرات: "مع الشعب العراقي من أجل خلاصه من الفاشية"، "لا ولا لنظام يقطع رؤوس النساء وآذان الرجال"، "لا لنظام قتل أكثر من مليون عراقي". وهنا يبدو مدى تقصير المعارضة العراقية في التوجه نحو الرأي العام الغربي ن وهو موضوع عالجته في مقال سابق في "إيلاف"، رغم علمي بان القدرات المالية للمعارضة ضئيلة أمام أموال النفط التي في حوزة النظام والتي يوزعها هذه الأيام بعشرات الملايين لشراء ذمم الصحفيين والساسة وبعض الخبراء والموفدين الدوليين [؟؟]
والسؤال الآن هو عما إذا كان الضغط في الشوارع الغربية، مقرونا بتقرير بليكس المتراجع عن تقريره الأول ولأسباب خفية [ لابد أن تنكشف ؟؟ ]، سيغير المعادلات الدولية في القضية العراقية، وخصوصا ما يخص القرار الأمريكي. شخصيا لا أعتقد. فالقرارات الكبرى التي تخص أمن الدول ومصالحها الحيوية في بلدان كالولايات المتحدة لا تتخذ في الشارع بل في البرلمانات والدوائر الحاكمة العليا. وسبق للكونغرس الأمريكي بمجلسيه وحزبيه إعطاء بوش جميع الصلاحيات في المسالة العراقية.وخلاف الرأي والمظاهرات المعارضة لمواقف الحكومات في الغرب دليل عافية وقوة الديمقراطية. ومن المؤكد أن القادة يدرسون ردود فعل الجماهير والمواقف المعارضة، علما بان الجماهير قد تندفع في حماس لقضايا خاطئة وذلك تحت تأثير دعايات النخب ووسائل الإعلام. فليس كل تجمع شعبي في الشارع دليل الموقف الصحيح. إن القرارات تظل في نهاية المطاف في أيدي رؤساء منتخبين ومخولين من برلمانات انتخبت بحرية والمفترض فيها تمثيل الإرادة الشعبية الغالبة في البلاد. ثم إن الفورة الحامية لن تكرر كل يوم، وقد تم الإعداد لها منذ شهرين وبتنظيم محكم. كما لا اعتقد أن المناورات المطالبة بتمديد مهمة المفتشين الدوليين لفترة طويلة قادمة ستنجح، قد تمدد لأسبوعين أو ثلاثة أخرى . فاللعبة مكشوفة والهدف هو تعطيل تنفيذ عملية إسقاط النظام بالقوة العسكرية، أي إنقاذ النظام مرة أخرى كما تريد فرنسا ومشايعوها، فيزداد النظام طغيانا واستهتارا وغرورا وبطشا . فالقرار رقم 1441 قد حرفه بليكس والبرادعي وفرنسا وروسيا حين جعلوا مهمة المفتشين محل مهمة السلطات العراقية. فالقرار طلب من النظام الإجابة الفورية على عشرات من الأسئلة المحددة بدقة حول كميات من مختلف الأسلحة المحرمة، والتقرير الحكومي لم يجب على أي سؤال منها. إن القرار يطلب من النظام البرهنة على إتلافه لتلك الأسلحة ولا يطلب من المفتشين أن يبحثوا عنها بأنفسهم في العراق الشاسع : من مخابئ تحت الأرض ومدارس ومستشفيات وبيوت ومستودعات مدنية وسيارات لوري متحركة الخ. إن القرار وضع النظام في قفص الاتهام وطلب منه البرهنة على براءته من التهم ففشل في ذلك، وبذلك فهم منتهك للقرار ورافض لتنفيذه.أما المفتشون فلو بقوا سنوات وسنوات يبحثون فإنهم لن يجدوا غير القليل و القليل جدا [ إن وجدوا شيئا !] ومن استمع لمرافعات وزراء فرنسا وروسيا وألمانيا وغيرها وأعاد بدقة دراسة القرار الدولي والأسئلة والأجوبة المراوغة، لوردت على باله فورا صورة محامين يمارسون المغالطة والتحريف في الدفاع عن مجرم متلبس بالجريمة وعليه عشرات القرائن والأدلة. وأتوقع أن حبل المناورات ذات البعد النفطي الواضح لن تنجح في تخليص النظام من القصاص العادل الذي يستحقه ـ أي إزاحته تماما والتمهيد لقيام نظام ديمقراطي مدني برلماني تعددي، وتجنب كل صيغة أخرى للحكم تعني بقاء " الصدامية " بدون صدام أو قيام دكتاتورية عسكرية في البلاد. ولا ننس وجود عدة سيناريوهات عن عراق ما بعد صدام على طاولة الرئيس بوش وهناك صراعات داخلية مستمرة حولها. ونعرف أن هناك جناحا قويا مؤلفا من وزارة الخارجية والمخابرا.ت الأمريكية لا تريد غير تغيير جزئي يبقي على حكم البعث بواجهة امريكية بعد ترحيل صدام وأولاده و مساعديه المعروفين. مثل هذا الحل تشجع عليه دول عربية وتركيا، بحجة الخوف من "الطغيان الكردي ـ الشيعي" و"خطر الانفصال الكردي". وعلى المعارضة العراقية ان تعلن منذ الآن رفضها لمثل هذا الحل الذي سيبقي على أسس النظام وعقليته وثقافته وقوانينه ومؤسسات قمعه. وأشك شخصيا في أن تعتمد الإدارة الأمريكية حل غير واقعي وطائشا سيحول المنفتحين على أمريكا إلى قوى المعارضة مستقبلا !! وهنا تأتي الواجبات الملحة جدا للمعارضة العراقية بتوحيد الكلمة حول الهدف الديمقراطي الحقيقي الذي لا حل للقضية العراقية بدون تحققه كاملا.
والخلاصة الأخيرة هي أن نعم لعمل عسكري حازم ينقذ الشعب من نظام الطغيان والموت والدم، ويفتح الطريق حقا لبناء عراق ديمقراطي تعددي بلا تمييز عنصري وطائفي، وبالفدرالية لكردستان..عراق قوي مرفه، له جيشه المعزز، ولكن بلا أسلحة دمار شامل وبلا عدوان على الجيران..عراق التسامح والعلم والنور والحرية..عراق جميع الألوان والأطياف.
خاص بأصداء