|
ثقافة التلاص: ذ.محمد بوبكري ومنابع سرقاته.
سعيدي المولودي
الحوار المتمدن-العدد: 5509 - 2017 / 5 / 2 - 15:38
المحور:
التربية والتعليم والبحث العلمي
"ثقافة التلاص" محمد بوبكري ومنابع سرقاته
إعداد: - سعيدي المولودي (أستاذ باحث). - أحمد الفوحي (أستاذ باحث) كلية الآداب والعلوم الإنسانية. مكناس.
الحقيقة مُرَّة، ولكن لا مفرَّ من الجهر بها وإعلانها، ولا مبرر إطلاقا لحجبها أو التستر عليها. وعبر النماذج التي نقدمها هنا كعينات، تتجلى بكل وضوح مساوئ الكتابة لدى ذ. محمد بوبكري، الذي تتضمن كتاباته كل أشكال التلاص ومعالم السرقة الموصوفة وآليات الأخذ والنسخ والنقل والتلفيق والتمويه، والاستهتار بالقارئ. وبقدر ما نأسف لهذا المأزق الذي وضع فيه ذ. محمد بوبكري نفسه وتاريخه، فإننا نلفت النظر إلى أن هذه الظاهرة ما فتئت تستفحل وتستغرق كثيرا من الأبحاث والمقالات.. الأمر الذي يجسد خطرا حقيقيا يهدد مستقبل الثقافة المغربية والفكر والإبداع المغربيين.
- 1- بوبكري يكتب.. حول إعادة رسم حدود الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الثلاثاء 11 أكتوبر 2016 - 09:39 ( العمق المغربي) محمد بوبكري يرى الباحثون الأنثروبولوجيون والسوسيولوجيون أن الطائفية والقَبَلِية تُعلِيان من شأن تنظيمَيْها، حيث تعتقد كل واحدة منهما أن تنظيمها أعلى وأرفع من كل الكيانات الأخرى التي تحيط به، كما أنها تنظر إليه بكونه الوطن أو العقيدة أو هما معا. وهذا ما يجعل تنامي المشاعر الطائفية والقَبَلِية يؤدي إلى إضعاف الروح الوطنية، ما قد يمزق أواصر تماسك النسيج المجتمعي في إطار دولة وطنية يجمعها الانتماء لوطن يحظى بالأولوية عندها، حيث تضعه فوق كل شيء. لقد بدأ الترويج لفكرة إعادة رسم الحدود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا منذ مطلع تسعينيات القرن المنصرم، حيث بدأ الحديث آنذاك عن نظرية نهاية "الدولة الوطنية". ولإنجاز ذلك ارتأى أصحاب هاتين الفكرتين ضرورة خلق اضطرابات داخلية في بلدان هذه المنطقة تؤدي إلى حروب وتطاحنات طائفية وقبلية، حيث يعتقدون أن الحدود الحالية التي أقرَّتها "معاهدة سايكس-بيكو" لم تعد ملائمة لزمن العولمة. وشاعت هذه الأفكار رسميا في سنة 2006، حيث دعت وزيرة الخارجية الأمريكية "كوندوليزا رايس" في تلك السنة إلى مشروع جديد للشرق الأوسط تقتضي إقامته خلق أزمات تَقود إلى الفوضى والعنف في دول هذه المنطقة. وبعد ذلك بدأت جهات غربية قريبة من دائرة القرار تعلن عن مخطط لإعادة رسم الحدود بالمنطقة وفق المفهوم الجديد للشرق الأوسط المختلف عما كان قائما آنذاك. . ففي إحدى المناسبات الرسمية للحلف الأطلسي سنة 2006، تمَّ القيام بتوزيع برنامج تدريبي لكبار عسكريي هذا الحلف، قيل عنه آنذاك إنه يعكس خطط الأجهزة العسكرية والمخابراتية الأمريكية التي ترمي إلى تفكيك الشرق الأوسط إلى دويلات صَغِيرَة، لكن بعض الدول الأعضاء في هذا الحلف وجهت النقد لهذه الخطط، حيث اعتبرت أنها تتضمن سعيا لتقسيم منطقة الشرق الأوسط دون حساب تبعات هذا التجزيء... كما نشرت مجلة القوات المسلحة الأمريكية في تلك السنة نفسها خريطة مرافقة لمقال للكولونيل المتقاعد "رالف بيترز Ralph Peters " تحت عنوان "حدود الدم.. نحو شرق أوسط أفضل" يطرحُ فيه أن رسم الخريطة الجديدة يفرض خلق توترات ونزاعات طائفية وقَبَلِية تٌفَجِّر حروبا أهلية تُمَكِّن من إعادة رسم الحدود. وهذا ما يفسر إثارة النعرات الطائفية والعرقية والحروب الأهلية في كل من العراق، وسوريا، وليبيا، واليمن. كما بدأت أقليات في بعض دُوَل هذه المنطقة تطالب باستقلالها بتشجيع من بعض القوى العظمى وبعض دول المنطقة، ما يشكل ضربا لمبدأ الدولة الوطنية. إضافة إلى ذلك، فقد دعا "جون بايدن"، نائب الرئيس أوباما، عندما كان عضوا في الكونجرس، إلى تقسيم العراق إلى ثلاث دويلات: شيعية، وسنية، وكردية. ومن المعلوم أن تنظيم "داعش" والتنظيمات المشابهة له تتبنى فكرة تفكيك دول المنطقة بهدف ضرب مبدأ الدولة الوطنية. فضلا عن ذلك، فقد سبق لفكرة الشرق الأوسط الجديد، المفتّت إلى كيانات صغيرة عن طريق العنف والحروب الأهلية، أن ظهرت مرارا في خرائط مختلفة لمؤسسات غربية عديدة. فقبيل حرب العراق، كتب الخبير العسكري الإسرائيلي "زئيف شيف Zeev Schiff" عن الاتجاه نحو تقسيم هذا البلد إلى ثلاث دويلات: إحداها سُنِّية، وأخرى شيعية، وثالثة كردية. كما قام الرئيس بوش الأب بإلقاء خطاب قُبَيل غزو العراق قال فيه: إن العراق سوف يشكل نموذجاً للاحتذاء في كل دول المنطقة. علاوة على ذلك، سبق لشيمون بيريز Peres Shimon أن قال في كتابه "الشرق الأوسط الجديدThe Middle East New " الصادر سنة 1993: إنه لا يمكن الاستمرار في الاعتماد التقليدي على المفهوم الحالي للشرق الأوسط،، والدولة الوطنية، والحدود الحالية، لأن ذلك أصبح متجاوزا بحكم ظروف العولمة ومقتضياتها، حيث يجب على بلدان المنطقة إعادة النظر في هويتها، وفتح حدودها، وأن يكون هناك تدبير مشترك لمصادر المياه الطبيعية... كما أكد "مارتن كرامز" مؤلف كتاب "الشرق الأوسط القديم والجديد" أن سياسات ما بعد الحرب الباردة لم يعد وازعها الصراع الإيديولوجي، بل التنافس على المصالح، ثم أضاف: إن السياسات في الشرق الأوسط تحكمها الصراعات بين الهويات، ما يشكل إشارة صريحة إلى ضرورة إثارة النزاعات الطائفية والعرقية في هذه المنطقة التي ستفضي بدورها إلى تفتيت دولها إلى هويات متعددة ومتناحرة. تبعا لذلك، أصبحنا نلاحظ اليوم احتلال مليشيات أجنبية لمساحات من بلدان ذات سيادة في هذه المنطقة، حيث تمكنت من السيطرة عليها بدعم قوى خارجية، ما أدى إلى الفوضى والصراعات المسلحة. وترى القوى العظمى أن هذه الأوضاع الخطيرة سوف تفرض حتما التفاوض على إعادة رسم الحدود. وهذا ما يُبيِّن بجلاء أن ما يسود من صراع طائفي وقَبَلِي في المنطقة يخدم مخططات الدول العظمى في المقام الأول، ولا يجلب للمنطقة وأوطانها وأهلها سوى الدمار.. وبذلك يتضحُ أن إثارة الصراعات الطائفية والنعرات القَبَلِية لم يأتِ صدفة، بل تمَّ التخطيط له لإضعاف الدولة الوطنية بغية خدمة المصالح الإستراتيجية لبعض القوى العظمى في هذه المنطقة، حيث أطلقت هذه الأخيرة منذ تسعينيات القرن الماضي حملة الترويج لفكرة نهاية عصر الدولة الوطنية بهدف تقسيم أوطان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى كيانات صغيرة متعددة ومنفصلة. لذلك، فما يدفع اليوم إلى الاستغراب هو الإصرار على تكريس استمرار قيام "المؤسسات المنتخبة" في بلادنا على الطائفية والقَبَلِية والنزعات التقليدية، ما يحول دون تحديثها وبنائها ديمقراطيا ويجعلها أرضا خصبة لإنجاز مخططات التقسيم السالفة الذكر... - المصدر: ** الخرائط الأجنبية لإعادة رسم حدود المنطقة بقلم: عاطف الغمري تتردد بشدة منذ أوائل التسعينات، أفكار عن إعادة رسم الحدود بين دول الشرق الأوسط، يرافقها الترويج واسع النطاق لنظرية تقول إن عصر الدولة القومية قد انتهى. والذين ينشرون هذه الأفكار، يقرون بأن ذلك لن يتم بدون حدوث تقلبات داخلية، تشعلها نزاعات عنصرية، وطائفية، واشتباكات مسلحة. وقولهم بأن الحدود الحالية منذ سايكس – بيكو، لم تعد تناسب العصر. هذه الأفكار لقيت ذيوعا رسميا عام 2006، عندما أعلنت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كوندوليزا رايس أثناء زيارتها لإسرائيل، وبحضور رئيس وزرائها ايهود أولمرت، دعوة لقيام شرق أوسط جديد، وهو مشروع يطبق على مراحل تتضمن خلق حزام أزمات يطوق العالم العربي، ونشر الفوضى والعنف، عبر دول المنطقة. ثم راحت جهات أمريكية ليست بعيدة عن الدائرة الرسمية للدولة، تكشف عن مخطط لإعادة رسم الحدود، وفق خريطة لتخطيط أوضاع الشرق الأوسط بشكل مختلف، وحسب مفهوم الشرق الأوسط الجديد. إحدى هذه الجهات كانت فى مناسبة رسمية لحلف الأطلنطى عام 2006 عندما وزعت فى برنامج تدريبى لكبار العسكريين بالحلف خريطة وصفت بأنها تعكس خطط الأجهزة العسكرية والمخابراتية الأمريكية، لتفكيك الشرق الأوسط، إلى كيانات صغيرة. ولكن دولا من أعضاء الحلف انتقدت هذه الخريطة، ووصفتها بأنها تسعى لتفكيك الشرق الأوسط. فى نفس عام 2006، نشرت مجلة القوات المسلحة الأمريكية، خريطة ضمن مقال للكولونيل المتقاعد رالف بيترز، بعنوان «حدود الدم.. نحو شرق أوسط أفضل»، وشرح بيترز أن تنفيذ الخريطة يتطلب خلق توترات عرقية، وحروب أهلية، لتسهيل إعادة رسم الحدود. ويلاحظ أن هذه الوسائل التنفيذية تجسدت فعلا بعد ذلك، فى إثارة النعرات الطائفية، والحروب الداخلية، فى العراق، وسوريا، وليبيا، واليمن، وظهور دعاوى التفكيك، في مناطق تخضع لسيطرة أقلية تسكنها، وهو ما يهدم مبدأ الدولة الوطنية. وليس بعيدا عن الذاكرة، ما كان جون بايدن نائب الرئيس أوباما، قد دعا إليه وهو عضو في الكونجرس، عن تقسيم العراق إلى ثلاث دويلات – شيعية، وسنية، وكردية. كما أنه ليس خافيا على أحد أن أفكار تنظيم داعش، وبقية التنظيمات المشابهة، تتبنى فكرة تقسيم دول المنطقة، وضرب مبدأ الدولة الوطنية. إن فكرة الشرق الأوسط الجديد، بحدوده المعدلة، عن طريق العنف، وإثارة الفوضى والصراعات الداخلية، سبق أن ظهرت عدة مرات فى خرائط مختلفة. من بينها ما كتبه الخبير العسكري الإسرائيلي زئيف تشيف قبيل حرب العراق، عن الإتجاه لتقسيمه إلى ثلاث دويلات. ولا ننسى خطاب الرئيس بوش الابن أمام معهد اميركان انتر برايز قبيل غزو العراق، والذي قال فيه إن العراق سيكون نموذجا يحتذى في كل دول المنطقة. وسبق أن ذكر الرئيس الاسرائيلي شيمون بيريز في كتابه «الشرق الأوسط الجديد»، الصادر عام 1993 إن التصور التقليدي عن الشرق الأوسط، وعن الدولة الوطنية، والحدود، والأرض، قد توقف عن أن يكون له شأن في عصر العولمة. وإن عصرا جديدا قد بزغ. ويجب على الدول أن تعيد تحديد هويتها. وأن تفتح الحدود، وأن تكون هناك مشاركة في مصادر المياه الطبيعية، كما شرح هذا التوجه، مارتن كرامز مدير مركز موشي ديان لدراسات الشرق الأوسط، ومؤلف كتاب «الشرق الأوسط القديم والجديد»، إن السياسات بعد نهاية الحرب الباردة، لم تعد تنافسا بين ايديولوجيات، لكنها تنافس على المصالح. كما أن السياسات في الشرق الأوسط هي أيضا تنافس على الهويات. وتعبير الهويات هنا يقصد به إشارة إلى المقصود من إشعال النزاعات الطائفية، وصولا إلى تقسيم الدول، إلى هويات متعددة ومتصارعة. إن ما تشهده المنطقة العربية، من اقتحام عناصر أجنبية، لساحات هذه الدول ذات السيادة، وسيطرتها على بعض أجزائها، في شكل من أشكال الاحتلال الصريح، وبدعم من دول خارجية، هو عمل يخدم فكرة إشعال صراعات مسلحة، وفوضى، كأمر واقع، والدفع بالأوضاع داخل هذه الدول إلى حافة موقف يراد منه، أن يبدأ عنده التفاوض على إعادة رسم الحدود. وهو مطمع يرتبط بمخططات أكبر ممن وضعوا أنفسهم في خدمة هذه المخططات. ( الخليج ) -2- بوبكري يكتب: خطط عمل لتدمير هوية الدولة الوطنية الثلاثاء 28 فبراير 2017 - 10:03 ( العمق المغربي) لقد بدأنا نلاحظ في السنين الأخيرة بروز خطط عمل لتدمير هوية الدولة الوطنية،و قد ارتبطت هذه الخطط بنظرية برزت خطوطها العريضة في بداية التسعينيات عبر الترويج لفكرة نهاية الدولة الوطنية وظهور هويات جديدة تعيش داخل هذه الدولة واتجاهها نحو الانشقاق عن دولتها الأم من أجل إقامة كيانات خاصة بها تتجسد غالبا في "ولايات".. في ظل هذه الظروف، ساهم النظام الإقليمي في الشرق الأوسط، كما كانت تعبر عنه جامعة الدول العربية، في مواجهة الهجمة على فكرة الدولة الوطنية. لكن ما كان ينقص هذه المنطقة هو الإستراتيجية الشاملة، والإرادة الموحدة والمشتركة التي تكون بمثابة حائط في مواجهة دول إقليمية عرفت معنى الإستراتيجية وقيمتها، وأغراها الفراغ الإستراتيجي السائد في جوارها ، فشرعت في تقوية نفسها على حساب بلدان المنطقة. كما تعززت حركة هذه القوى الإقليمية بأطماع القوى العظمى التي تروم إعادة رسم حدود المنطقة. وقد رافق ذلك دعم خارجي للمنظمات الإرهابية الرافضة لفكرتي الوطن والوطنية. كما ساهمت الخلافات والشكوك بين دول المنطقة في تأزيم الأوضاع بين مختلف بلدانها. كما تميز العالم في هذه المرحلة بتغيير في السياسات الخارجية،ما نجم عنه تغير في المفاهيم القديمة للأمن القومي، حيث امتلكت القوى الخارجية رؤية متغيرة تساير التغيرات التي يعرفها العالم. وفِي مقابل ذلك ، ركنت بلدان هذه المنطقة إلى الجمود، بينما يتحرك الآخرون إقليميا ودوليا بغية توفير الشروط ليكتسبوا القدرة على الفعل والتصرف بما يخدم إستراتيجياتهم ومصالحهم الخاصة في المنطقة و في مختلف جهات العالم وأقاليمه... وفي عالم تتغير فيه السياسات الخارجية، ويُعاد فيه النظر في المفاهيم القديمة للأمن القومي، حيث امتلكت القوى الخارجية الدولية رؤية متغيرة تواكب التغيرات التي عرفها العالم ، وظل مسؤولو منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على حالهم ، إذ لم يعرفوا أي تغيير، بينما يتحرك الآخرون الذين جهزوا أنفسهم بالقدرة على التصرف في شؤون المنطقة،. وهذا ما يجسده اللقاء ا الذي تم في موسكو، حيث اجتمع قادة روسيا وإيران وتركيا، للتباحث في الأوضاع في سورية. وذلك في غياب هذه الأخيرة التي تشكل طرفا أساسا في هذا الصراع. وإذا كان الترويح لفكرة نهاية الدولة الوطنية قد بدأ في أوائل التسعينيات،فقد تم اتخاذ خطوات عملية موازية لإنجازه،إذ تم تطوير خطط لوضع حد للدولة الوطنية في هذه المنطقة و تدمير هويتها الوطنية قبل ذلك بسنوات، إذ تجسد ذلك في عملية غزو العراق في عام ٢٠٠٣التي كانت خطتها العملية قد وضعت في عام ١٩٩٢، حيث لم يتسن لواضعيها الانتقال بها إلى حيز التنفيذ آنذاك، فاضطروا إلى الاحتفاظ بأوراقها في حقيبة وثائق وزير الدفاع الأمريكي آنذاك "ديك تشيني"، و تم انتظار حوالي أحد عشرة سنة للانتقال بها إلى حيّز النتفيذ .وهذا ما نشرت تفاصيله مجلة "تايم" الأمريكية ضمن تقرير مطول شارك في تحريره ستة من كبار محرريها، وهو ما يكشف أبعاد صناعة السياسة الخارجية، باعتبارها ليست موقفاً فوريا يتم اتخاذه كرد فعل على أزمة أو خطر معين قائم، لكنها جزء من منظومة إستراتيجية شاملة تروم تحقيق مصالح أو طموحات القوى العظمى في إقليم أو منطقة معينة من العالم.. هكذا يتم غرس الفكرة في تربة السياسة، ويتم تركها تنمو وتترعرع إلى أن تنضج ثمارها ويحين قطافها، عندئذ يتم البحث عن أسباب ومبررات ومسوغات لإطلاق الخطة العملية عن طريق الحرب ، أو الغزو،أو البحث عن وكلاء محليين يوكل إليهم تفجير الوطن، أو باتخاذ إجراءات متشددة من بينها الحصار بشتى أنواعه. عندما نتأمل في مجريات عالمنا الحالي، نجد أن مفاهيم السياسة الخارجية للدول، قد طرأت عليها تغيرات كبيرة في السنوات القليلة الماضية، نتيجة انتقال العالم من عصر الثورة الصناعية، إلى عصر ثورة المعلومات، والمعرفة والتطور التكنولوجي المتسارع، ما دفع القوى العظمى إلى تعديل مفهوم التحديات التقليدية للأمن القومي، وتغيير أساليب ووسائل تحقيق مصالحها في مختلف مناطق العالم بأدوات وأنماط جديدة غير قائمة على المواجهات العسكرية المباشرة، وهو ما اقتضى الأخذ بوسائل الوكلاء المحليين، تجنبا للظهور عند خط المواجهة، كما تم ابتداع الخريطة الجديدة لحرب الجيل الرابع، بكل ما تشمله من وسائل الحروب النفسية، وإشعال الصراعات والفتن الداخلية الطائفية والقبلية في المجتمعات المستهدفة. وقد دفع ذلك بعض القوى الإقليمية، خاصة في آسيا، إلى الإسراع بتعديل مفاهيمها التقليدية للسياسة الخارجية حتى لا تكون في موقف يجعلها مكشوفة أمام إرادة وضربات الآخرين، وبالتالي تمكنت هذه الدول من إنجاز التقدم تنموياً،فصارت القوى العظمى تحسب لها الحساب. ليس العالم في حال ثبات، بل إن هناك دولاً إقليمية، تغير من أنماط علاقاتها الخارجية التقليدية، بما يحمي كيانها كدولة وطنية من التفكك، ويحافظ على الهوية الوطنية للدولة. يبقى أننا نحتاج في منطقتنا، بشكل عاجل، إلى أن تكون لنا رؤية إستراتيجية متجددة، - المصدر: ** عاطف الغمري العالم العربي في عالم يتغير ارتبطت خطط العمل على تهافت هوية الدولة الوطنية، بنظرية بدأت تبرز خطوطها في أوائل التسعينات، تروج لمعنى انتهاء عصر الدولة القومية، واتجاه هويات تعيش في هذه الدولة، كأحد مكوناتها، لكي تنشق عن دولتها الأم، وتقيم لنفسها كياناً يخصها. وترافق مع هذه النظريات، ظهور المنظمات الإرهابية، وتوجهها في نفس المسار، والتي ترفض فكرة الوطن، وتكفر بالقومية، وتنادي بكيان منشق سمته أحياناً «الولاية»، ينسلخ عن الدولة، ويمزق نسيجها الوطني التاريخي. في هذه الظروف كان النظام الإقليمي العربي، كما تعبر عنه جامعة الدول العربية، يمثل سياجاً في مواجهة هذه الهجمة على معنى القومية، وعلى الدولة الوطنية، لكن ما كان ينقصها هو الاستراتيجية الشاملة، والإرادة الموحدة والمشتركة، التي تكون بمثابة حائط صد، في مواجهة دول إقليمية عرفت معنى القدرات التراثية، فامتلكت استراتيجية لم تكن تكتفي بحماية الدولة من الداخل، بل أغراها الفراغ الإستراتيجي المجاور. وكان يعزز حركتها، أطماع لقوى دولية تسعى لإعادة رسم حدود المنطقة، يتماشى معه دعم خارجي للمنظمات الرافضة لفكرة الوطن. وبسبب الخلافات أحياناً، والشكوك في أحيان أخرى، ظلت الجامعة العربية مرآة لهذا الوضع. وفي عالم تتغير فيه السياسات الخارجية، ويُعاد فيه النظر إلى المفاهيم القديمة للأمن القومي، بحيث امتلكت القوى الخارجية رؤية متغيرة، تتماشى مع التغيرات في العالم، فقد ظل العرب وقوفاً في أماكنهم، بينما يتحرك الآخرون الذين جهزوا أنفسهم بالقدرة على التحرك والتصرف، حتى في أخص الشؤون العربية. وآخر مثال على ذلك ما حدث في لقاء في موسكو، يضم قادة روسيا، وإيران، وتركيا، ليبحثوا شأناً عربياً، هو الحال في سوريا. وكأن الطرف الأصيل في هذه القضية ليس موجوداً. وإذا كان الترويج لأفكار نهاية عصر الدولة القومية، قد بدأ في أوائل التسعينات، فقد سارت موازية لها خطوات عملية، كانت خططها وأفكارها، قد وضعت قبلها بسنوات. منها على سبيل المثال، غزو العراق 2003، والتي كانت خطتها العملية قد وضعت في عام 1992، ولما لم يتسنَ لواضعيها تنفيذها، فقد احتفظوا بخطتهم في حقيبة أوراق وزير الدفاع ديك تشيني، في ذلك الوقت، لمدة إحدى عشرة سنة، إلى أن يحين الوقت المناسب لوضعها موضع التنفيذ. وهو ما كانت مجلة «تايم» الأمريكية قد نشرت تفاصيله في تقرير مطول على تسع صفحات، وشارك في كتابته ستة من كبار محرريها. وهذا يكشف أبعاد صناعة السياسة الخارجية، باعتبارها ليست موقفاً يُتخذ كرد فعل لأزمة أو خطر قائم، لكنها جزء من منظومة استراتيجية شاملة، لتحقيق مصالح أو طموحات القوى الكبرى، في منطقة إقليمية في العالم. فالفكرة غرست في تربة السياسة، وتركت لتنمو وتتفرع إلى أن يحين وقت قطف ثمارها، عندئذٍ يتم البحث عن أسباب ومبررات لإطلاق الخطة، بالحرب، أو الغزو، أو أي إجراءات متشددة أخرى. أو حتى بافتعال ظروف تسمح بإيجاد هذه المبررات. وإذا لاحظنا أن مفاهيم السياسات الخارجية للدول، قد طرأت عليها تغيرات كبيرة في السنوات القليلة الماضية، نتيجة انتقال العالم من عصر الثورة الصناعية، إلى عصر ثورة المعلومات، والمعرفة، والتطور التكنولوجي المتسارع، ما دفع القوى الكبرى إلى تعديل مفهوم التحديات المستقرة للأمن القومي، والانتقال بوسائل تحقيق أهدافها في مناطق العالم، إلى أنماط أخرى غير الوسيلة التقليدية القائمة على المواجهات العسكرية المباشرة، وهو ما تطلب الأخذ بوسائل الوكلاء المحليين، ابتعاداً عن الظهور عند خط المواجهة، وكذلك ابتداع الخريطة الجديدة لحرب الجيل الرابع، بكل ما تشمله من وسائل الحروب النفسية، وإشعال الصراعات الداخلية في المجتمعات المستهدفة. وقد دفع ذلك بعض القوى الإقليمية، خاصة في آسيا، إلى المسارعة إلى تعديل مفاهيمها التقليدية للسياسة الخارجية، حتى لا تكون في موقف يجعلها مكشوفة أمام إرادات وضربات الآخرين، وبالتالي تمكنت هذه الدول من إنجاز التقدم تنموياً، وبحيث صارت القوى الكبرى تحسب لها ألف حساب. إن العالم ليس في ثبات، بل إن هناك دولاً إقليمية، تغير من أنماط علاقاتها التقليدية، بما يحمي كيانها كدولة قومية من التفكك، ويحافظ على الهوية الوطنية للدولة. يبقى أننا في عالمنا العربي، نحتاج بصورة عاجلة، إلى أن تكون لنا رؤية استراتيجية متجددة، تستوعب كل ما يُجرى في العالم من تحولات، وما يطرأ على السياسات الخارجية للقوى الدولية من تغيير، لابد بالضرورة أن تكون له آثاره علينا. يحتاج عالمنا العربي لأن ينظر إلى نفسه، ويرى ما يحتاج إليه من تغيير في رؤيته لذاته، وللعالم المتغير من حوله، لكي يكون له دور ووجود وفاعلية. عن"الخليج" -3- المنظمات الإرهابية.. بوابة خلفية لمخابرات القوى الأجنبية الإثنين 3 أبريل 2017 - 18:17 محمد بوبكري بعد أن انتهت المواجهات المسلحة للصراعات الإقليمية خلال سنوات الصراع على النفوذ والهيمنة على العالم الثالث بين القوتين العظميين، تغيرت هذه الوسيلة بعد انتهاء الحرب الباردة، وأصبحت المنظمات الإرهابية سلاحا لضرب الدولة التي تنتمي إليها هذه التنظيمات من داخل الدولة المستهدفة وليس من خارج حدودها. وقد تضاعفت في السنوات الأخيرة المؤسسات الدولية المتخصصة في دراسة ظاهرة انتشار التنظيمات الإرهابية وتطورها في العالم، وشمل هذا الاهتمام ما حدث من تطور في أساليب مكافحة الإرهاب عبر القيام أولا باختراق هذه التنظيمات بواسطة عملاء محليين يُناطُ بهم دوران: الأول دفع التنظيم الإرهابي إلى القيام بعمليات تبدو وكأنها تخدم أهدافا خاصة به، بينما هو في الواقع يخدم في نهاية المطاف مصالح قوى أجنبية. أما الدور الثاني، فهو نقل معلومات عن التنظيم الإرهابي إلى مخابرات القوى الأجنبية، فيتم استخدام هذه المعلومات في تسديد ضربات لهذا التنظيم وزعامته،إذا ما اقتضت ذلك مصالح هذه القوى الأجنبية. وآخر هذه الدراسات اثنتان: الأولى أنجزتها مؤسسة "راند" التي تعتبر من أهم مراكز الدراسات السياسية في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث تكلفها وزارة الدفاع الأمريكية بإنجاز تقارير خاصة تحتاج إليها. وقد شارك المعهدُ الأمريكي لمحاربة الإرهاب المؤسسةَ المذكورةَ في إعداد تلك الدراسة. والثانية أنجزها البروفيسور ديفيد تاكر عضو مركز أبحاث الشؤون العامة وأستاذ التحليل العسكري بالجامعات الدفاعية . وقد ركزت دراسة مؤسسة راند على الأسباب الكامنة وراء نجاح جهود استئصال منظمات إرهابية في الفترة الممتدة بين 1998ـو2006، بينما لم تحقق في السابق جهود مكافحة تنظيم القاعدة نجاحا بنفس الوتيرة والنسبة. وخلصت تلك الدراسة إلى أن النجاح في الأولى راجع إلى توسيع نطاق مواجهة الحركات الإرهابية، باستخدام قوات الأمن الداخلي والمخابرات في جمع المعلومات الكاملة عن هذه المنظمات، حيث أمكن معرفة كل شيء عنها . أما بالنسبة إلى تنظيم القاعدة، فقد تركز التعامل معه بدرجة كبيرة على استخدام القوة العسكرية. ومع أنَّ هذا العامل كان مهما في دراسة تاكر، فقد تطور لاحقا، بتركيز أجهزة المخابرات، على اختراق التنظيمات الإرهابية، واستخدام أفراد من داخلها عملاء لأمريكا. في هذا الصدد، يقول تاكر:كنا محظوظين كثيرا عندما وجدنا أعضاء في منظمات إرهابية يتطوعون للعمل معنا. ترسم دراسة راند صورة واضحة لخريطة هذه المنظمات الإرهابية عبر الاعتماد على جمع المعلومات عنها وتحليلها، إذ تقول: في فترة ما بين 1998 و2006 كانت هناك 648 منظمة إرهابية نشطة منتشرة في العالم، تم القضاء على 268 منها في تلك الحقبة، كما حدثت انشقاقات داخلية في 136 منظمة، حيث تفتت إلى تنظيمات أصغر حجماً، بينما استمرت 244 منظمة في نشاطها الإرهابي، ووجد الدارسون أن 40% منها قد تم اختراقها من داخلها وتصفيتها، وأن 43% منها توصلت إلى مصالحات مع حكوماتها. وتضيف أن تنظيم القاعدة ظل فاعلا في عام 2008. واجتمع أعضاؤه بهدف الاستيلاء بالقوة على الحكم في كل الدول الإسلامية، من خلال القتال ضد أنظمة الحكم في هذه البلدان، وهو ما استحال معه التوصل إلى أي تفاهم بين القاعدة وتلك الدول. ويكاد الخبراء المختصون يتفقون على أن الطريقة المثلى لحصول أجهزة المخابرات على المعلومات التي تحتاجها عن الإرهابيين هي توظيف رجال يعملون لحسابها داخل المنظمات الإرهابية . وقد توصلت المخابرات المركزية الأمريكية، أثناء تحليل المعلومات المتوافرة لديها، إلى أنه يصعب اختراق الكثير من المنظمات الإرهابية التي يقوم تكوينها على علاقات عرقية، أو قبلية، أو عائلية. أما في حالة تنظيم القاعدة، فالوضع مختلف، لأن هذا التنظيم لا يقوم على أساس وحدة اللغة، لكن على فكرة أو فهم معين للإسلام، وإخضاع تفسير كافة القضايا بناء على هذا الفهم. وهذا التشكيل الواسع للتنظيم هو ما ساعد على اختراقه من خارجه. وتقول دراسة تاكر: في مثل هذه المنظمات، تكون المعلومات المهمة التي تحتاج إليها المخابرات المركزية، تتوافر لدى الدائرة الضيقة لزعامات التنظيم، ونكون محظوظين عندما ننجح في تجنيد عميل يكون قريباً من هذه الدائرة الضيقة. ويتم ذلك بالاعتماد على من تربطه بالزعامات روابط عائلية أو عرقية. وتتفق هذه الدراسات على أن القاعدة أصبحت تنظيماً متطرفاً، يدار بطريقة لا مركزية، حيث هناك منظمات عديدة تتحدث باسمه دونَ أن تجمعها به روابط تنظيمية، لكنها تحمل أفكاره المتطرفة والدموية. وقد تحدث، من وقت لآخر، انقسامات داخل خلايا إرهابية صغيرة، بخروج أعضاء منها، وانضمامهم إلى خلايا غيرها، ويكون أسلوب اختراقها معتمدا على جمع معلومات كافية عنها وعن أعضائها. وتخلص هذه الدراسات إلى أن اختراق القاعدة، والمنظمات الإرهابية الأخرى في العالم، هو أمر حيوي واستراتيجي لمصالح الولايات المتحدة . إن ظاهرة التنظيمات الإرهابية التي يقوم فكرها وعضويتها على العداء للدولة التي ينتمي إليها أعضاؤها، تنم عن رفض هذه الجماعات لمفهوم الوطن والانتماء إليه، ما جعلها بدون أي أساس من الوطنية، وهو ما ساعد على قيام جسر من وحدة المصالح بينها وبين المخابرات الأجنبية، حتى لو لم يكن بينهما أي اتصال أو تواصل، وحتى لو توهمت هذه أنها تشكل أساس التحركات لما هي متورطة فيه من أحداث. وقد بدأ هذا التحول يتبلور بعد انتهاء الصراع الأمريكي السوفييتي في التسعينيات. كما ساعد تكاثر المنظمات الإرهابية الخارجة على الوطن والمعادية له استخدامها من قبل المخابرات الأجنبية، فصار الإرهاب السلاح المتطور الذي تستعمله هذه المخابرات لتحقيق به هدفين: ضرب دول انتماء التنظيمات الإرهابية، وضرب هذه التنظيمات نفسها إذا اقتضى الأمر ذلك. - المصدر: ** عاطف الغمري ..منظمات الإرهاب.. الباب الخلفي للقوى الأجنبية -عاطف الغمري omandaily 25 ديسمبر 2013 بعد أن كان السلاح هو وسيلة المواجهات وإشعال الصراعات الإقليمية المسلحة، في سنوات الصراع على النفوذ في العالم الثالث بين القوتين العظميين، فقد تعدلت الوسيلة بعد انتهاء الحرب الباردة، إلى استخدام المنظمات الإرهابية سلاحا، لضرب الدول التي تنتمي إليها هذه المنظمات، وبحيث تأتي الضربات من داخلها وليس من خارج الحدود. وفي السنوات الأخيرة تضاعف اهتمام المؤسسات الدولية المتخصصة بدراسة ظاهرة انتشار وتطور التنظيمات الإرهابية في العالم، وشمل هذا الاهتمام ما حدث من تطور في أساليب مكافحة الإرهاب، ومن أهمها: أولا: اختراق هذه المنظمات بعملاء مستترين يكون دورهم دفع التنظيم للقيام بعمليات تبدو وكأنها تخدم أهدافا تخصهم، بينما تكون النتيجة النهائية لعملياتهم، خدمة مصالح قوى أجنبية .الثانى: نقل معلومات عن التنظيم إلى مخابرات القوى الأجنبية، تستخدم في توجيه ضربات للتنظيم وقياداته، إذا كانت مصالحها تقتضي ذلك عندئذ. آخر هذه الدراسات، تلك التي أعدتها مؤسسة «راند»، وهي من أهم مراكز الدراسات السياسية في الولايات المتحدة، والتي تكلف أحيانا من وزارة الدفاع، والقوات المسلحة، بإعداد دراسات خاصة تحتاج إليها. وقد شاركها في هذه الدراسة المعهد الأميركي لمنع الإرهاب. والدراسة الثانية أعدها البروفسور ديفيد تاكر، عضو مركز أبحاث الشؤون العامة وأستاذ التحليل العسكري بالجامعات الدفاعية. دراسة مؤسسة راند، ركزت على الأسباب، وراء نجاح جهود استئصال وإنهاء وجود منظمات إرهابية في الفترة بين 1998 - 2006 بينما لم تحقق النجاح بنفس القدر في السابق جهود مكافحة تنظيم القاعدة. وجدت أن النجاح في الأولى، راجع إلى توسيع نطاق مواجهة الحركات الإرهابية، باستخدام قوات الأمن الداخلي، والمخابرات، في جمع المعلومات الكاملة عن هذه المنظمات، بحيث أمكن معرفة كل شيء عنها. أما بالنسبة للقاعدة، فقد تركز التعامل بدرجة كبيرة في التعامل معها، على استخدام القوة العسكرية، وإن كان هذا التعامل - كما ذكرت دراسة تاكر - قد تطور فيما بعد، بتركيز أجهزة المخابرات، على اختراقها، واستخدام أفراد من داخلها كعملاء، ويقول: كنا محظوظين بما فيه الكفاية، حين وجدنا أعضاء في منظمات إرهابية يتطوعون للعمل معنا. . إن دراسة راند ترسم صورة واضحة لخريطة هذه المنظمات استندت إلى جمع المعلومات عنها وتحليلها وتقول: في الفترة من 1998 - 2006، كانت هناك 648 منظمة إرهابية نشطة منتشرة في العالم، تم القضاء على وجود 268 منظمة منها في تلك الفترة، وحدثت انشقاقات داخلية في 136 منظمة، بحيث تفتت إلى منظمات أصغر حجما، بينما استمرت 244 منظمة في نشاطها الإرهابي، ووجد الدارسون أن 40 % منها، تم اختراقها من داخلها وتصفيتها، وأن 43 % توصلت إلى مصالحات مع حكوماتها. وتضيف أن تنظيم القاعدة ظل فاعلا في عام 2008 واجتمع أعضاؤه على هدف الاستيلاء بالقوة على الحكم في كل الدول الإسلامية، والقتال ضد أنظمة الحكم في هذه البلاد، وهو ما جعل من المستحيل التوصل إلى أي تفاهم بين القاعدة وهذه الدول. ويتفق الخبراء المختصون على أن الطريقة المثلى لحصول أجهزة المخابرات على المعلومات التي تحتاجها عن الإرهابيين، هي اتباع وسائل إدخال رجال يعملون لحسابها داخل المنظمات الإرهابية. وقد رصدت المخابرات المركزية الأميركية، أثناء تحليل المعلومات المتوافرة لديها، أن كثيرا من المنظمات الإرهابية، التي يقوم تكوينها على علاقات عرفية، أو قبلية، أو عائلية، يصعب اختراقها، أما في حالة تنظيم القاعدة فإن الوضع مختلف، لأن تنظيم القاعدة لا يقوم على أساس وحدة اللغة، لكن على فكرة أو فهم قاموا بصياغته للإسلام، وخضعوا لتفسيراتهم له. وهذا التشكيل الواسع للتنظيم سهل اختراقه من خارجه. وتقول دراسة تاكر: في مثل هذه المنظمات، فإن المعلومات المهمة التي تحتاجها المخابرات المركزية، تتوافر لدى الدائرة الضيقة لقيادات التنظيم، ونكون محظوظين حين نصل إلى عميل يكون قريبا من هذه الدائرة، ويتم ذلك بالاعتماد على من تربطه بالقيادات، روابط عائلية أو عرقية. وتتفق هذه الدراسات على أن القاعدة أصبحت تنظيما متطرفا، يدار بطريقة لا مركزية، فهناك منظمات تتحدث باسمه، وإن لم تكن مرتبطة به تنظيميا، لكنها تحمل نفس أفكاره المتطرفة والدموية . ومن وقت لآخر يحدث داخل خلايا إرهابية صغيرة، انقسامات، بخروج أعضاء ينضمون إلى خلايا غيرها، ويكون أسلوب اختراقها معتمدا على جمع معلومات كافية عنها وعن أعضائها .وتنتهي هذه الدراسات إلى أن اختراق القاعدة، والمنظمات الإرهابية الأخرى في العالم، هي أمر حيوي واستراتيجي لمصالح الولايات المتحدة. إن هذه الظاهرة التي قام فكرها وعضويتها، على العداء للدولة التي ينتمي إليها أعضاء هذه المنظمات، ورفضهم مفهوم الوطن والانتماء له، جعلها بلا أي أساس من الوطنية، وهو ما يسهل قيام جسر من وحدة المصالح، بينها وبين المخابرات الأجنبية، حتى ولو لم يكن بينهما أي اتصال أو اتفاق، وحتى لو استحوذ على هذه المنظمات وهم التصور، بأنها هي المحركة للأحداث المتورطة فيها . وقد بدأ هذا التحول يتبلور عقب انتهاء الصراع الأميركي ــ السوفياتي في أول التسعينيات، وسهل على المخابرات الأجنبيةاستخدامها، تكاثر المنظمات الإرهابية، الخارجية على الوطن، والمعادية له، فصار الإرهاب السلاح المتطور، والذي يدار عن بعد بمخططات أجهزة المخابرات الأجنبية.
-4- الحروب الحديثة: تدمير العقول وتحطيم المعنويات قبل تدمير جيوش ومنشآت الدول المستهدفة. الثلاثاء 28 مارس 2017 - 01:09 ( العمق المغربي) محمد بوبكري بعد انتهاء الحرب الباردة سنة 1989، تفرغ المفكرون السياسيون والعسكريون الغربيون للتفكير في مستقبل الحروب، فتصوروا أن تدخل الحرب مرحلة جديدة مختلفة عن المراحل السابقة التي كانت حروبها تقليدية تقوم على المواجهة المسلحة بين حشود جيشي دولتين متحاربتين، فنحتوا مفهوم "حرب الجيل الرابع"، ليشيروا به إلى هذا التحول. هكذا تم التفكير في النفاذ إلى داخل مجتمع الدولة المستهدفة لشن حرب ضدها من داخلها بهدف تدمير الإرادة السياسية لصناع القرار السياسي فيها، وتحطيم معنويات أفراد مجتمعها إلى أن يفقدوا الثقة في ذواتهم وفي مؤسسات بلادهم وقدراتها في آن واحد. وقد أجرت وزارة الدفاع الأمريكية بحوثا عديدة، استغرق إنجازها عقدا من الزمن، وتم التركيز فيها كثيرا على حرب التكنولوجيا الحديثة باعتبارها وسيلة أساسية في حرب الجيل الرابع التي تقتضي استخدام كل أساليب الحروب النفسية بهدف النفاذ إلى عقول أفراد مجتمع الدولة المستهدفة للتأثير فيهم وتقويض إرادتهم عبر تسريب الشك إلى دواخلهم، وجعلهم يفقدون الثقة في قدراتهم وفِي مختلف مؤسسات بلدهم... كما تعمقت تلك البحوث في فهم ثقافات المجتمعات المستهدفة عبر الحفر في بنياتها العميقة لمعرفة مختلف العوامل (الثقافية، والقَبَلية، والطائفية، والمذهبية، والعرقية، وما إلى ذلك) التي يمكن توظيفها لخلق الكراهية المفضية إلى الصراعات والحروب بين سائر مكونات المجتمع بهدف ضرب وحدته الوطنية وتفتيتها. وَهذَا ما يؤكد أن القوى العظمى تستفيد أساسا مما تنتجه معاهدها ومراكز البحث فيها من دراسات أنثروبولوجية تسلط الضوء على ثقافات المجتمعات المستهدفة بهدف وضع الأصبع على المعطيات الثقافية القابلة للاستغلال لإثارة الحروب والفتن في البلدان المستهدفة وإضعافها عبر إدخالها في مواجهات أهلية داخلية تفكك لحمتها الوطنية، بما يخدم إستراتيجية تلك القوى العظمى... ومن الأكيد أن هذا النوع من الحروب غير مكلف،لأنه يوفر على الدولة التي تخوضها وتديرها الخسائر في الأرواح والأموال التي كانت تفرضها الحروب التقليدية،حيث لم تعد شعوب القوى العظمى تطيق تكبد تلك الخسائر ، لاسيما أن مجتمعاتها أصبحت تعارض فقدان فلذات أكبادها، وتحمُّل التبعات المالية والاقتصادية والاجتماعية المترتبة عن الحروب المباشرة التقليدية، وأنَّ الأوضاع الاقتصادية الحالية في تلك البلدان لم تعد من الرخاء الذي يسمح لها بتحمل نفقات حروب مكلفة جدا، تبلغ فاتورتها أحيانا جبالا من الأموال. فضلا عن ذلك، لقد صدرت دراسة في الولايات المتحدة الأمريكية سنة 2004، بعنوان "حرب العصابات العالمية حرب الجيل الرابع"، تدعو إلى عدم دخول مدبري هذه الحرب في مواجهات مباشرة مع القوات المسلحة للدولة المستهدفة، وتوصي في المقابل باستهداف مجتمعات تلك الدول بضربها من الداخل، كأن يتم اختيار مناطق في خلفية الدولة، أي مساحات فارغة خارج المدن، وأمكنة جغرافية وعرة ومعزولة ، وإقامة نوع من الكيانات فيها خارجة عن نطاق سيطرة الدولة، وهو ما تحقق اليوم مع منظمات إرهابية في بعض بلدان الشرق الأوسط. علاوة على ذلك، فقد خلصت بحوث أخرى أجريت في الولايات المتحدة وأوروبا إلى ضرورة تبني الغرب لمفهوم الوكلاء المحليين المسلحين ليقوموا، نيابة عن القوى العظمى، بتنفيذ جانب مهم وأساسي من خطط حرب الجيل الرابع، وهو الدور الذي تلعبه بشكل واضح المنظمات الإرهابية، في بعض بلدان الشرق الأوسط، كسوريا واليمن والعراق وليبيا. وقد اتفق الخبراء الغربيون على ألا يشكل هؤلاء الوكلاء المحليون قوة مستقلة بذاتها،بل ينبغي أن يكونوا خاضعين لتحكّم القوى الأجنبية التي صنعتهم وتجهزهم بالأسلحة وتمدهم بالأموال..... زيادة على ذلك، فقد قال العقيد طوماس هامز في كتابه "الحروب في القرن الحادي والعشرين" إنه يجب على الولايات المتحدة أن تكون مستعدة لخوض حرب لا تتوقف عند حدوث الصدام الذي تعقبه نهاية سريعة، بل تتجاوز ذلك إلى استغراق سنوات طويلة. وقد تكون هذه الفكرة هي أصل تصريحات بعض مسؤولي الحكومة الأمريكية، في أعقاب استيلاء تنظيم داعش على مساحات كبيرة من العراق، وإعلانه الخلافة الإسلامية من ثاني أكبر مدينة عراقية، وهي الموصل، حيث توقع أولئك المسؤولون أن القضاء على هذا الكيان سوف يتطلب ثلاثين سنة على الأقل... لذلك، فما تتعرض له منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من تواجد لجماعات إرهابية من جنسيات متعددة إلى جانب عناصر محلية، ليس وليد الصدفة، بل هو ظاهرة صنعت أساسا ضمن مخططات أجنبية، ونجحت نتيجة توفر ظروف محلية هيأت لها مناخا صالحا لكي تترعرع فيه ويساعد على تطبيق فكرة حروب الجيل الرابع.... - المصدر: **عاطف الغمري يكتب: الحروب الحديثة لتدمير العقول قبل الجيوش عندما استقر المفكرون السياسيون والعسكريون الأمريكيون في عام 1989 من خلال ورش عمل مختصة بمستقبل الحروب، على مفهوم حرب الجيل الرابع، كان تصورهم أن الحرب تدخل بالفعل حقبة جديدة، تنتقل بها من المراحل التقليدية للحروب السابقة التي تعتمد على مواجهات مسلحة من جيوش دول متحاربة، إلى النفاذ داخل مجتمع الدولة المستهدفة، لإدارة المعارك في داخلها، وهي معارك تستخدم ما يمكن وصفه بالقوة الناعمة، التي تركز على تدمير الإرادة السياسية للعدو، والتأثير التدميري على عقول صنّاع القرار السياسي.وكانت هناك بحوث تجريها وزارة الدفاع الأمريكية استمرت لعشر سنوات وجهت الاهتمام بقوة نحو حرب التكنولوجيا الحديثة، باعتبارها أداة أساسية في آليات حرب الجيل الرابع، من خلال استخدام كافة أساليب الحرب النفسية للنفاذ إلى عقل المجتمع المستهدف، سواء بتشكيكه في نفسه، وفي قدراته، أو بإحداث انقسامات وصراعات داخلية، تفكك المجتمع، والوصول بالإرادة الجمعية للمجتمع إلى حالة تقويض غريزة البقاء لدى الإنسان. واتفق المشاركون في صياغة مفهوم حرب الجيل الرابع، على المعنى القائل، إن العقول هي الهدف الذي يتجه إليه الهجوم، ليسبق بذلك استهداف القوات المحاربة، والمنشآت العسكرية للدولة الأخرى. وهذا النوع من الحروب، يوفر على الدولة التي تديرها، ما كانت تتكبده في الحروب التقليدية القديمة، من خسائر بشرية في صفوف جنودها، ومن أموال باهظة تقتضيها ضرورات الحشد العسكري للمقاتلين، وانتقالهم إلى مناطق المواجهة، ومن إنفاق بالمليارات، وهي أشياء لم تعد شعوب القوى الكبرى على استعداد لتحمّلها، في ظروف تزايد المشكلات المالية والاقتصادية لهذه القوى. وطبقاً لما ورد في دراسة صادرة في الولايات المتحدة عام 2004، بعنوان «حرب العصابات العالمية حرب الجيل الرابع»، لا يدخلون في مواجهات مباشرة مع القوات المسلحة للدولة المستهدفة، لكنهم يستهدفون مجتمعها من الداخل. وأن هذه الحرب تختار أحياناً مناطق في خلفية الدولة، أي في ساحات خارج المدن، سواء كانت فراغاً عمرانياً، أو صحراوات، حتى تستطيع أن تقيم فيها لنفسها تواجداً منعزلاً عن الدولة، وتبني لنفسها نوعاً من المستعمرات التي تديرها بنفسها، وهو النمط الذي أقامته منظمات الإرهاب في سيناء، مستغلة المساحات الشاسعة بها، والخالية من التواجد السكاني .ويتصل مباشرة بما جاء في هذه الدراسة، ما أوردته مصادر بحثية أخرى في الولايات المتحدة وأوروبا، عن تبني الغرب مفهوم الوكلاء المحليين المسلحين، ليقوموا نيابة عن الدولة الأجنبية، بتنفيذ جانب مهم وأساسي من خطط حرب الجيل الرابع، وهو الدور الذي تلعبه بشكل واضح المنظمات الإرهابية، في سيناء، وفي سوريا، والعراق، واليمن، وليبيا. ووفق ما اتفق عليه الذين صاغوا مفهوم حرب الجيل الرابع في أمريكا عام 1989، فإن هؤلاء الوكلاء، ليسوا قوة مستقلة بذاتها، ولكنهم يقاتلون بالوكالة عن أطراف خارجية تستخدمهم كعملاء. Fighting Proxy وهو تطبيق عملي بعقود حرب الجيل الرابع من حيث بقاء القوة الأجنبية المحركة لهذه الصراعات، بعيداً عن ميادينها، وعن خطوط المواجهة المباشرة التي لم تعد لها ضرورة، في وجود الوكلاء المحليين، الذين تتدفق عليهم الكميات الهائلة من الأسلحة المتقدمة، والتمويل الذي يموّل أعمالهم. وحسب ما ذكره الكولونيل توماس هامز في كتابه «الحروب في القرن الحادي والعشرين»، فإن على أمريكا أن تكون مستعدة لخوض حرب لا تتوقف عند وقوع الصدام فحسب، بل تمتد لسنوات قد تطول. إن ما تتعرض له بلادنا العربية، من تدفق غير مسبوق لجماعات تتعدد جنسياتها، إلى جانب من تجذبهم من عناصر محلية شاردة، لم يكن ظاهرة ظهرت فجأة لظروف محلية فحسب، لكنها كانت في الأساس تنفيذاً لمخططات خارجية بدأت عملياً في عام 1989، واستغلت بالطبع الظروف المحلية التي تهيئ لها مناخاً يساعدها على إشعال هذا الشكل المتغير من الحروب. المصدر: الخليج. -5- في نظرية "الفوضى الخلاقة" الثلاثاء 21 مارس 2017 - 08:56 ( العمق المغربي) محمد بوبكري قي سنة 2015 ،نشرت مجلة دير شبيجل"الألمانية حوارا مع هنري كيسنجر يحمل عنوان: «هل نحن بنينا نظاماً عالمياً عن طريق الفوضى؟».يدفع هذا العنوان القارئ إلى استحضار نظرية الفوضى"، أو ما يتكرر التعبير عنه في مختلف وسائل الإعلام بـ "الفوضى الخلاقة"التي استفاض الكثير من الباحثين الغربيين وغيرهم في تحليلها وتفسيرها و الكشف عن وظيفتها ودورها ومخاطرها على السياسة الخارجية والعلاقات الدولية خدمة لإستراتيجية القوى العظمى ومصالحها . يدفع هذا العنوان قارئه إلى استحضار نظرية "الفوضى الخلاقة"التي قام بصياغتها الأولية الخبير "مايكل لادين" أحد أبرز المختصين في الدراسات الإستراتيجية في معهد «أمريكان إنتربرايز»، الذي كان الرئيس جورج بوش يلتجئ إليه للاستفادة منه في صياغة رؤيته الإستراتيجية للتعامل مع قضايا الشرق الأوسط و الحروب والنزاعات والتحولات الإقليمية، كما أن هذا الخبير قد تم تكليفه بوضع خطة لتغيير هوية دول منطقة الشرق الأوسط، من داخلها سياسياً، واقتصادياً، واجتماعياً، وثقافياً خلال عشر سنوات. لقد نسبت"نظرية الفوضى الخلاقة" خطأ إلى كوندوليزا رايس ، وارتبطت باسمها، لأنها كانت ترددها في مناسبات عديدة. وقد وضعت هذه النظرية موضع تطبيق في الشرق الأوسط في سياق أحداث عام 2011. وتكمن أهمية هذا الحوار مع هنري كيسنجر في أنه كان وزيراً للخارجية الأمريكية، ومستشاراً للأمن القومي في عهدي الرئيسين نيكسون، وجيرالد فورد، وأنه لا يزال حتى اليوم يسدي النصائح ، ويقدم الاستشارات لرؤساء، ووزراء خارجية الولايات المتحدة الأمريكية، كما أنه هو الذي أعاد تشكيل وهيكلة مجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض ، الذي تأسس في عهد الرئيس هاري ترومان عام 1947، حيث كان الخبراء الأمريكيين ينعتون هذا المجلس عندما كان كيسنجر يتولى رئاسته بكونه الجهاز الذي يتحكم في شؤون العالم... لقد أقر كيسنجر في حواره هذا مع مجلة « ديرشبيجل» بأن العالم يعيش اليوم، حالة من اللانظام أكبر مما مضى. ويعني اللانظام الفوضى،. واستطرد كيسنجر قائلا "تسود اليوم في العالم فوضى تهدده، وذلك راجع إلى انتشار أسلحة الدمار الشامل،كما يعود ذلك إلى وجود إرهاب عابر للحدود منفلت من قبضة الدولة، حيث لا توجد سيطرة حكومية عليه.وما يجري في ليبيا اليوم خير دليل على ذلك. وفِي حالة تفشي هذا النوع من الفوضى في العالم، سيستفحل اللانظام في العالم، حيث إن الدولة ، كبنية سياسية، ستصير محط هجومات". كما أوضح كيسنجر أن النظام العالمي المستقر اليوم، الذي تحكمه قواعد محددة، كان قد تأسس بعد حرب الثلاثين عاماً، التي انتهت بعد معاهدة وستفاليا عام 1648، التي أقرت مبدأ سيادة الدولة على أراضيها، كما أنها خلقت نظام توازن القوى، المفقود اليوم. وعندما سأله محاوروه: هل يحتاج العالم اليوم إلى حرب تدوم ثلاثين عاما أخرى لإقامة نظام عالمي جديد؟ رد عليهم كيسنجر بالسؤال الافتراضي التالي: وهل نحن بنينا نظاماً عالمياً عن طريق الفوضى؟ لم يحدث ذلك فعلا، ما يقتضي من القوى العظمى أن تفكر في تطوير أجندة مشتركة بينها وبين الدول الأخرى، وأن تلتزم بالحكمة في تصرفاتها لتجنب نشوب حرب ثلاثين عاماً أخرى". هكذا، فقد أقر كيسنجر أن الفوضى هي المسؤولة عمّا أسماه "بحالة اللانظام الدولي"، السائدة حالياً، وأن أخطارها لا تهدد مناطق إقليمية معينة فقط، بل إنها تهدد العالم بأسره.. لكن الفوضى كما أقرت بذلك مراكز دراسات أمريكية مهمة ومتخصصة ، تعبر عن قصر نظر بعض السياسيين والمفكرين والكتاب وانجرافهم وراء،تصورات وأفكار اعتقدوا أنها كفيلة بالحيلولة دون بروز قوى إقليمية قادرة على الانفلات من يد القوى العظمى، حيث يعتقدون أنه في حالة حدوث ذلك ، ستنافس هذه القوى الإقليمية القوى العظمى إقليمياً ودوليا، إذ يعرف العالم تحولات تؤكد إمكانية بروز قوى إقليمية قادرة على امتلاك إمكانات المنافسة. ويكشف قصر النظر عن وجود رغبة لدى هؤلاء السياسيين والمفكرين في الوقوف في وجه تيار تاريخي جارف، ما يعني أنهم لا يأخذون بعين الاعتبار سنة الحياة وقاعة الصعود والهبوط التاريخيين للقوى العظمى في كل حقبة زمنية. هكذا، فإن السؤال الافتراضي الذي طرحه كيسنجر "هل نحن بنينا نظاما عالميا عن طريق الفوضى؟ "يسلط الضوء على ما فعلته وتفعله القوى العظمى التي صنعت وتصنع الفوضى أو ما يسمَّى بـ "الفوضى الخلاقة"... - المصدر: ** تشخيص كيسنجر للفوضى في السياسة الخارجية عاطف الغمري سودان سفاري يوم 08 - 07 - 2015
كان لافتاً للنظر، صياغة عنوان الحوار الذي أجرته مجلة «ديرشبيجل» الألمانية مع هنري كيسنجر، وهو - «هل نحن أوجدنا نظاماً عالمياً عن طريق الفوضى؟ والعنوان، بالإضافة إلى شرح كيسنجر لما يقصده، لابد وأن يدفع العقل لاستدعاء نظرية الفوضى، أو تحديداً الفوضى الخلاقة، التي أسهبت كثيراً من الدراسات والبحوث في الولايات المتحدة، في كشف حقيقتها، ودورها في السياسة الخارجية، وأن البداية لها جاءت مع الصياغة التي وضعها مايكل لادين، أحد أبرز خبراء الإستراتيجية في معهد «أمريكان إنتربرايز»، وهو المؤسسة التي كان الرئيس جورج بوش يلجأ إليها لاستلهام رؤيته الإستراتيجية تجاه العالم العربي، وفي قضايا الحروب والنزاعات، والتغيير الإقليمي، كما أن لادين كان قد كلف بوضع خطة مدتها عشر سنوات، هدفها تغيير هوية الدول العربية، من داخلها سياسياً، واقتصادياً، واجتماعياً، وثقافياً. هذه النظرية نسبت خطأ إلى كوندوليزا رايس، التي ارتبطت باسمها لمجرد ترديدها لها في أكثر من مناسبة.وهي النظرية التي وضعت موضع التطبيق في العالم العربي، في سياق أحداث عام 2011. لم تكن أهمية الحوار مع كيسنجر، لمجرد أنه كان وزيراً للخارجية، ومستشاراً للأمن القومي في عهود الرئيسين نيكسون، وجيرالد فورد، لكن لأنه لا يزال حتى اليوم يقدم نصائح لرؤساء، ووزراء خارجية الولايات المتحدة، كما أن كيسنجر هو الذي أعاد تشكيل مجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض - والذي تأسس في عهد الرئيس هاري ترومان عام 1947 - لدرجة أن الخبراء الأمريكيين، وصفوا المجلس بعد تولي كيسنجر رئاسته، باللجنة التي تتحكم في شؤون العالم.. كان كيسنجر في حواره مع مجلة «شبيجل» يقول: إن العالم يعيش الآن وبدرجة كبيرة، حالة من اللانظام، عن أي وقت سابق، واللانظام يساوي الفوضى. وقال: هناك فوضى تهددنا، نتيجة انتشار أسلحة الدمار الشامل، والإرهاب العابر للحدود، والذي لا توجد سيطرة حكومية عليه، مثلما شهدنا ما يجري الآن في ليبيا على سبيل المثال، وكيف أن هذا الوضع له تأثير ضار في حالة اللانظام في العالم، بعد أن صارت الدولة كوحدة سياسية، تحت الهجوم.ويشرح كيسنجر كيف أن النظام العالمي المستقر، والمحكوم بقواعد محددة، كان قد تأسس بعد حرب الثلاثين عاماً، التي أنهتها معاهدة وستفاليا عام 1648، والتي أقرت مبدأ سيادة الدولة على أراضيها، وخلقت نظام توازن القوى، الذي يفتقده العالم اليوم.عندئذ سأله المتحاورون على الفور: هل نحتاج إلى حرب أخرى، لإنشاء نظام عالمي جديد؟ كانت إجابته: هذا سؤال جيد. ثم رد على سائليه، بسؤال من جانبه هو: وهل نحن حققنا نظاماً عالمياً عن طريق الفوضى؟ بالطبع لم يحدث ذلك. ولابد أن نفكر في أن هناك ما يدعونا بقوة، لإيجاد أجندة مشتركة بيننا وبين الدول الأخرى، وأن نلتزم بالحكمة في تصرفاتنا، حتى لا تقوم حرب ثلاثين عاماً أخرى. الملاحظ أن كيسنجر أقرّ بأن الفوضى هي المسؤولة عمّا أسماه بحالة اللانظام الدولي، السائدة حالياً،وبأن أخطارها لا تتهدد أماكن إقليمية فقط، بل تهدد العالم أجمع.لكن الفوضى كما اعترفت بذلك مراكز دراسات مهمة ومتخصصة في الولايات المتحدة، تعبر عن قصر نظر، وانجراف من ساسة ومفكرين، وراء أفكار تخيلوا أنها الضمان لعدم خروج دول إقليمية من قبضة يد القوى الكبرى. وإنه لو حدث ذلك فإن القوى الكبرى يمكن أن تواجه منافساً إقليمياً ودولياً لها، نتيجة تحولات بدأت تظهر في النظام الدولي، وبروز قوى إقليمية تمتلك إمكانات المنافسة. وكان تفسير مسألة قصر النظر هذه، أنها نتجت عن رغبة في الوقوف في وجه تيار تاريخي هادر، يجتاح العالم، وتلك هي سنة الحياة، وقاعدة الصعود والهبوط التاريخية للقوى الكبرى، مع كل حقبة زمنية.لقد كان السؤال الافتراضي الذي طرحه كيسنجر نفسه، هو بمثابة ضوء كاشف، لما فعلته القوى الكبرى، صانعة الفوضى الخلاقة، حين قال: وهل نحن أوجدنا نظاماً عالمياً عن طريق الفوضى؟!. المصدر: الخليج
-6- “نخب سياسية” بدون مواصفات محمد بوبكري 2016-10-18 10:32 ( العمق المغربي) يلاحظ المتتبعون أن التحوُّل السياسي في المغرب ما زال يعرف تعثرات كثيرة تتجلى في هيمنة البنيات التقليدية على المجتمع وسيادة فراغ فكري مهول لدى “النخب السياسية” نجم عنهما فراغ مؤسسي وسياسي، ما جعل المتتبعين يميلون إلى الحديث عن غياب أي أفق ديمقراطي فعلي لبلادنا. وقد جسدت “الانتخابات التشريعية” الأخيرة هذا الفراغ الفكري، حيث غابت المشاريع والبرامج والنقاشات عن الساحة السياسية، وتركَّز الاهتمام فقط على المقاعد، ما يعني أن الزعامات الحزبية لا تهتم بالمواطن ولا بالمجتمع ولا بالوطن ولا بالمستقبل، بقدر ما تهتم بمصالحها الفردية. وهذا ما جعلنا أمام “مؤسسات” حزبية وأخرى “منتخَبة” لا تتوفر فيها شروط المأسسة، بل تشكل عائقا في وجه ذلك لأنها تجسد فعلا الفراغ الفكري والمؤسسي الذي يدل على أن البلاد بدون أفق. لقد سادت هذه الوضعية منذ عقود، فتعمَّق تدنِّي المستوى الفكري للزعامات السياسية التي تتخوف من الفكر وأسئلته وتكرههما، فتم إقصاء المفكرين والمبدعين والمثقفين وأهل العلم والخبرة، وهذا ما جعل بلادنا تفتقر إلى رؤية تمكِّنها من رسم خطة للخروج من مأزقنا المؤسسي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي الحالي، عبر تطوير حلول آنية للمشكلات العاجلة، وصياغة خطة بعيدة المدى، لبناء الدولة والمجتمع على أسس حديثة وديمقراطية. كما قادت ممارسات إقصاء الكفاءات من لدن الأحزاب والحاكمين إلى جعل أشخاص آخرين بعينهم يتصدَّرون المشهد السياسي، رغم عدم كفاءتهم للتصدي لقضايا ذات أبعاد وطنية واستراتيجية، بل إنهم لا يعلمون عنها شيئاً أصلا. أضف إلى ذلك أن بلادنا تفتقر إلى أحزاب بالمفهوم الحديث، حيث تكشف خطاباتها وحملاتها الانتخابية وهياكلها أن بنيتها العميقة، هي في الأغلب الأعم، طائفية وقَبَلِية. ويرى بعض الباحثين أن الارتفاع المهول لنسبة المقاطعة والأصوات الملغاة يدل على وجود قطيعة بين الحاكمين والمجتمع، كما يعني أيضا عدم امتلاك الأحزاب لامتدادات مجتمعية لأنها لا تمتلك فكرا ولا تقوم بأي فعل ولا ردِّ فعل، إذ لا تحتك بالمواطنين خارج المناسبات الانتخابية، ما دفع بعض المتتبعين إلى التشكيك في شرعية “المؤسسات المنتخبة” التي يسودها فراغ فكري كبير. بذلك، لم يعد للأحزاب السياسية مخرج سوى الدخول إلى الحكومة لأنه يُمَكِّنُها من كسب زبائن وليس مناضلين، فتحوَّلت إلى مجرد هياكل فارغة لا معنى لها ولا تأثير. تبعا لذلك، تشكل طبيعة الزعامات السياسية عائقا أمام قدرتها على تطوير استراتيجية أمن قومي تمكِّن البلاد من الإبحار في عالم العولمة. فالعصر يقتضي امتلاك فكَر استراتيجي. وفي غياب ذلك، كيف يمكن تنمية الوطن وتحصينه والحفاظ على سيادته وضمان استمراره، وكيف يمكن للزعامات الحزبية أن تؤطر المجتمع وتكون مؤثرة فيه؟. عادة ما يسبق الفكر الحركة. والسياسة بمعناها النبيل هي حركة وممارسة تستند إلى فكر ينير لها الطريق، وليست جريا وراء تلبية شهوات الزعامات ولا دورانا حول النفس. كما لا يمكن حصرها في أفق ضيِّق، لأن الدول بطبيعتها هي جزء من محيط دولي أوسع يتغير ويتطور باستمرار. وتفرضُ حماية الأمن القومي والتنمية الاقتصادية وتبادل المصالح وما إلى ذلك. تفرضُ على الدول ضرورة التوافق مع المجتمع الدولي عبر اتفاقيات وقوانين وأحكام ملزمة للجميع على حد سواء. ولا تدار العلاقات الدولية بدون رؤية تتجاوز الحدود الجغرافية الضيقة للبلد، وبذلك ترى دول أن مصالحها الحيوية تمتد إلى مناطق في العالم تقع خارج حدودها، فتبني استراتيجية أمن قومي كفيلة بحماية مصالحها في تلك المناطق رغم وجودها في المجال الحيوي لدول أخرى. لذلك، فالدول التي تملك استراتيجية أمن قومي هي التي تمتلك القوة، أما التي تفتقدها، فتشكل الطرف الأضعف الذي يتأثر بمن يمتلكها، ولا يقدر على التأثير فيه. كما أن من يقوم بردِّ الفعل لا غير، ويعمل على قاعدة المُيَاوَمَة، دون امتلاك رؤية مستقبلية أو سيناريوهات للتعامل مع الأحداث المُتوقَّعة والمفاجئة، فإنه يتغيب عن ساحة مصالحه الحيوية، ويُسهِّل على أصحاب الاستراتيجيّات الفعالة اقتحام مجاله الحيوي ولعب أدوار أساسية فيه عبر حركيتهم النشطة والمستمرة. وإذا كانت الاستراتيجية تتميز بوضوح الرؤية والهدف، وامتلاك خطط لتحقيق ذلك وآليات لإنجازه، فإنَّ الوضوح يشكل أيضا ضرورة أساسية للمواطن في الداخل، ما يجعله يمنح ثقته للحاكمين ويدعم خططهم. كما أن هذا الوضوح ضروري للخارج في الآن نفسه، لأن هذا الأخير يبني إستراتيجية سياسته الخارجية بناء على هذا الوضوح كما يراه من موقعه. وبدون ذلك سيستغل الخارج غياب الرؤية الإستراتيجية لدى من لا يمتلكها ليخدم مصالحه الخاصة على حساب مصالح الأوَّل. يشكل غياب الفكر الاستراتيجي عِلَّة كبرى لأي دولة، لأن هذا الغياب يدل على عدم قدرة الأحزاب والحاكمين على إبداع فكر سياسي للدولة، حيث يتقوقع تفكيرهم حول مصالحهم الخاصة وليس حول المصلحة العامة للوطن وما تقتضيه من رؤية إستراتيجية تأخذ بعين الاعتبار أساسا حال الوطن ومستقبله. - المصدر: ** عاطف الغمري يكتب:الحياة السياسية في مصر الآن عاطف الغمري تظهر أحياناً في فترات التحول السياسي في أي دولة، حالة من الفراغ الفكري، لأن التحول هنا يهدف إلى إزاحة الفكر القائم، والإتيان بالبديل الذي يجسد أهداف الذين قادوا حركة التحول والتغيير، وهو شيء ينطبق على ما يجري في مصر الآن. والفكر عادة يسبق الحركة، والسياسة تأتي لاحقة لفكر يحدد لها طريقها . وهذه الحركة لا تدور حول نفسها، ولا تختصر في محيط ضيق، لأن الدول بطبيعتها، هي جزء من مجتمع دولي أعم وأشمل يتغير ويتطور . ثم إن الدول بمقتضى ضرورات حماية الأمن القومي، والتنمية الاقتصادية، وتبادل المصالح والمنافع مع غيرها، وسلامة مواطنيها في الداخل والخارج، مدعوة إلى التوافق مع المجتمع الدولي، على أحكام، واتفاقات، ملزمة للجميع بالدرجة نفسها . وهذه العلاقات لا تدار بطرق عشوائية، أو اجتهادية، فهناك دول ترى أن مصالحها الحيوية تتجاوز إطار حدودها، وأن لها مصالح في مناطق ممتدة إلى خارج هذه الحدود، ولذلك تصنع لنفسها استراتيجية أمن قومي، تدير على أساسها سياساتها، من أجل حماية مصالحها في هذه المناطق التي تقع في نطاق المجال الحيوي لدول أخرى . والدول التي تملك هذه الاستراتيجية هي التي تملك القوة، أما من يفتقدها، فهو يظل الطرف الأضعف الذي يتأثر بما يفعله الطرف الأول في العلاقة الثنائية، دون أن تكون لديه آلية التأثير في الآخر . ثم إن من يقيد حركته، ويبقيها في نطاق رد الفعل، ويدير سياساته حسب قاعدة العمل يوماً بيوم، من دون أن تكون لديه رؤية مستقبلية، أو خيارات متعددة للتعامل مع ما يتعرض له من أحداث، سواء كانت متوقعة أو مفاجئة، هو الذي يترك ساحة مصالحه الحيوية فارغةً، يسهل لاستراتيجيات الآخرين، أن تقتحم هذا الفراغ، وتقيم لنفسها أدواراً فيه، وخاصة أن الإستراتيجية بطبعها، تتميز بالحركة النشطة والدائبة . والإستراتيجية لها شروط، من أهمها: وضوح الرؤية، ووضوح الهدف، وامتلاك خطة لبلوغ الهدف، وآليات للتنفيذ . هذا الوضوح الكلي يعد ضرورة أساسية للمواطن في الداخل، حتى يستطيع أن يرى من النظام ما يقنعه بمنحه الثقة، والرضا العام، الذي هو شرعية وجوده، وبالتالي يدعم النظام في مشروعاته وخططه . وتلك أيضاً ضرورة رئيسة للخارج الذي يبنى إستراتيجية سياسته الخارجية، بناء على هذا الوضوح بالنسبة إليه، وإلا فإنه سوف يستغل ما لديك من غياب الرؤية، وانعدام الفكر الاستراتيجي، لتغليب مصالحه على مصالحك . لقد كان غياب الفكر الاستراتيجي عن نظام مبارك، هو علة هذا النظام . لكن، ما كان ينبغي أن تستمر الظاهرة ذاتها بعد ثورة 25 يناير . ففي السنوات السابقة للثورة، لم يقدر تفكير النظام أن يبدع فكراً سياسياً للدولة، لأن تفكيره تقوقع في مساحة تخيلها هدفاً ذاتياً يخصه، ولا يعكس المصلحة العامة للوطن، وهو هدف توريث الحكم لنجله فغابت الرؤية الإستراتيجية عنه التي تستوعب حال الوطن ومستقبله . وتكرر الوضع نفسه في ظل النظام الذي خلفه بعد الثورة، وبعد إزاحة الذين أطلقوا هذه الثورة من المشهد السياسي، وذلك نتيجة انغلاق النظام الجديد، على فكر أيديولوجي، استحوذ على تفكيره . ثم بدأت تظهر بوضوح ممارسات “النظام - الجماعة”، للتمكين من الدولة . ورغم أقوال من أعضائها تنكر ذلك، فإن العبرة بما يجري في الواقع، وليس بالكلام . فالتمكين يجري على قدم وساق . ولعل من أبرز صوره الصارخة، ما يجري من عداء معلن للإعلام، وما يحدث للصحافة التي استبدلوا برؤساء مجالس إداراتها ورؤساء تحريرها، آخرين، ممن ليس لهم تاريخ مهني أو مواقف رأي، بكوادر بعضها إخواني، وبعضها ممن لديهم خاصية السمع والطاعة، والانصياع لما يملى عليهم من خارج دور الصحف، وما حدث من تضييق على كبار الكتاب، أصحاب التاريخ المهني والوطني الذين تتشكل منهم هوية الصحيفة . وهذه ممارسات طالت مختلف قطاعات الدولة، وتعمدت إقصاء أصحاب الخبرة، والعلم، والتخصص، وهو ما ظهر بوضوح في ظروف أزمة اقتصادية حادة، حيث لم تتسع زاوية تفكيرهم المغلق على أيديولوجيته من دون سواها، أن تمد البصر، إلى أقصر الطرق المعروفة لعلاج مثل هذه الأزمات، الذي سارت فيه دول عانت قبلنا منها، وهو دعوة علماء وخبراء الاقتصاد من مختلف التوجهات، إلى مؤتمر، لا تديره قيادات النظام، بل تترك للمشاركين فيه الحرية، ليناقشوا، حتى وإن اختلفوا . فالمناقشات القائمة على أساس علمي، كفيلة دائماً بجعلهم يلتقون في النهاية، على رؤية مشتركة، تضع خطة للخروج من المأزق الاقتصادي، بحلول فورية للمشكلات العاجلة، وبخطة بعيدة المدى، لإعادة بناء الدولة على أسس سليمة . لقد برز من خلال ممارسات الإقصاء للبعض وتقريب آخرين، تصدّر أشخاص بعينهم للمشهد السياسي، يتصدون لقضايا لها أبعاد قومية وإستراتيجية، وهم لا يعلمون عنها شيئاً، وهو ما كانت آخر مظاهره تصريح الدكتور عصام العريان مستشار رئيس الجمهورية بدعوة يهود “إسرائيل” من أصل مصري، للعودة إلى مصر، وأغلبيتهم العظمى صهاينة فكراً وعقيدة، وقاتلوا ضد مصر في كل حروبها، ومن المعروف أن كل “الإسرائيليين” هم جنود احتياط، حتى وهم في وظائفهم المدنية . وهو تصريح صادم للحس الوطني، يعكس عدم إلمام بطبيعة الحركة الصهيونية، وإستراتيجيتها لقيام الدولة التي وضعت في مؤتمر بازل العام ،1897 وارتباط إسرائيل كدولة بالقوى الكبرى واستراتيجياتها في المنطقة، فضلاً عن أطماع “إسرائيل” في مصر التي أعلنت في دراسات أكاديمية “إسرائيلية”، ووردت بوضوح في ما عرف ب”استراتيجية “إسرائيل” للثمانينات” . إن من يمارس صناعة القرار السياسي، يلزم أن يكون ضالعاً في عالم السياسة، باكتساب الخبرة، والفهم، فضلاً عن تنوع قراءاته في التاريخ، وإحاطته علماً بما يجري في العالم الخارجي من تطورات في السياسة والاستراتيجية، علماً أن الفكر الاستراتيجي للدول، خاضع للتغيير والتطوير، حتى لا يتخلف عن تحولات يمكن أن تؤثر فيه، تجري في العالم الذي يتغير، بفعل انتقاله إلى عصر ثورة المعلومات، وأيضاً بسبب صعود دول، وتراجع أخرى . وكذلك التغير الذي يحدث في نوعية التحديات للأمن القومي للدول . ينطبق هذا على مختلف الدول، وهو ما راعته دول كالولايات المتحدة، و”إسرائيل”، في تطوير فكرها الاستراتيجي . ولو أننا طبقنا ذلك على السياسة الخارجية لمصر، وعلاقاتها بالعالم، فإن هذا مجال لا يمكن إدارته، من باب الهواية أو الاجتهاد، أو بدفع أشخاص من خارج دائرته ذات الخصوصية، لتولي بعض شؤونه . وهو ما شهدنا نموذجاً له في مصر الآن، حيث عهدت الدولة إلى من هو من خارج هذه الدائرة، لتولي ملفات تتعلق بالسياسة الخارجية . بينما هو مجال لا يستطيع الإحاطة بجميع أبعاده، وامتلاك مفاتيحه، سوى من تمرسوا على العمل فيه، وتنوعت خبراتهم، بين قارات الدنيا، وأحاطوا بالكيفية التي تفكر بها الدول، والقوى الداخلية المؤثرة في سياساتها، واتسعت مع الخبرة وتنوع المواقع التي شغلوها، رؤيتهم التي تتيح لهم استيعاب الأمور من زاوية متسعة، يمكنها أن تضع رؤية شاملة لمصالح مصر الخارجية، بما في ذلك دول المنطقة، وفي إطار تتناسق فيه المواقف والسياسات، ومن منظور مستقبلي . وهذا هو ما فعلته الدول التي استطاعت أن تحل مشكلاتها، وأن تتقدم، وتنهض . إن مصر لا تقدم هذه الخبرات التي تعد رصيداً وطنياً لها، ففيها من السفراء السابقين من أساطين السياسة الخارجية، المشهود لهم بأنهم من أهل العلم والمعرفة في مجالهم، إضافة إلى علاقاتهم المستمرة على المستوى الدولي . أما تجاهلهم، وعدم استثمار هذا الرصيد الثري، فهو شيء يحرم الدولة من أدوارهم، ينطبق ذلك على الاقتصاد، والصحافة، والقانون، وكل مجالات الحياة في مصر، وما يجري فيها الآن. صحيفة الخليج -7- بوبكري يكتب.."العدالة الاجتماعية" وضرورة تدخل الدولة الثلاثاء 12 يوليو 2016 - 12:30 ( العمق المغربي) محمد بوبكري شاع استعمال المطالبة بـ "العدالة الاجتماعية" من لدن الجميع في بلادنا إلى أن تحوَّل هذا المفهوم إلى شعار يردِّده مختلف "الزعماء" في سائر خطبهم. لكن، من خلال الإنصات إليهم، يبدو لي أنهم يستخدمون هذا المفهوم بطريقة مبهمة وغامضة، إذ لا يقرنوه عمليا بالتنمية التي توفر الشروط المٌلَبِّية لمختلف حاجات الإنسان. كما لا يعملون على صون الكرامة الإنسانية الناجمة عن غياب العدالة الاجتماعية، إضافة إلى أنهم لا يربطون في الواقع بين هذا المفهوم والحريّة... وما يزيد الأمر غموضا عندنا هو أن هناك من يرفع شعار "العدالة الاجتماعية"، ويدَّعي الدفاع عنه والعمل من أجله، لكنه يتبنى في الآن نفسه، وبكيفية صريحة، التوجهات السياسية والاقتصادية والاجتماعية لليبرالية المتوحِّشة، كما أن هناك من يتفوَّه بهذا المفهوم دون أن يدرك معناه. وثمة من يستخدمه ديماغوجيا للتحايل على أعضاء حزبه وعموم المواطنين، حيث لا يهمُّه في الواقع إلا الوصول إلى السلطة والاغتناء من ذلك... وقد نتج عن هذا الوضع التباس وحيرة وإحباط، حيث أصبحت "الأحزاب" تتشابه في ذهن المواطن، ما جعل من الصعب التمييز بينها، فتشابه عليه البقر... هكذا، فمفهوم "العدالة الاجتماعية" عندنا، من خلال استعمالاته الآنفة، هو مجرد شعار غامض ومبهم، بل لقد تم إفراغه من محتواه، ما يستوجب تسليط الضوء عليه لاستجلاء معانيه، وتوضيح علاقته بمختلف المطالب السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فالمفهوم الذي نحن بصدده، بمعناه السليم، هو اصطلاح واسع ومركَّب يضم مفاهيم فرعية متنوعة وسياسات وإجراءات عملية عديدة. وهو يعني انتفاء الظلم والاستغلال والفقر والإقصاء... كما يستوجب القضاء على الفوارق الاجتماعية غير المقبولة اجتماعيا بين الأفراد والفئات الاجتماعية والجهات والأقاليم في البلاد، وهو ما يتطلب بالضرورة أن يتمتع جميع أفراد المجتمع بحقوق سياسية واقتصادية واجتماعية وبيئية متساوية وحريات متكافئة، وعدم إجهاز أجيال اليوم على حقوق أجيال الغد، إذ ينبغي أن يشعر كل فرد أو جماعة بالإنصاف، وأن يسود التكافل والتضامن والمشاركة السياسية والاجتماعية. كما يقتضي إتاحة فرص متساوية للأفراد والجماعات لتنمية قدراتهم وملكاتهم وإطلاق العنان لطاقاتهم بما يكفل لهم تحسين أوضاعهم الخاصة والترقي اجتماعيا، ويمكنهم من المساهمة في التنمية المستدامة لمجتمعهم، والحيلولة دون تبعيته لمجتمع آخر، ويضمن له استقلال قراره السياسي والاقتصادي والاجتماعي... يتضمن هذا التعريف معان وأبعاد عديدة ويرمي إلى تحقيق أهداف تربط بينها علاقات وثيقة يلزم توضيحها. وأول ما ينبغي معالجته هو "العدالة الاجتماعية" و"المساواة"، حيث غالبا ما يتم اعتبار العدالة الاجتماعية مرادفة للمساواة المطلقة. لكن الأمر ليس كذلك، إذ لا تعني المساواة توزيع الدخل والثروة بين أفرد المجتمع بالتساوي حسابيا. فمن الأكيد أن تكون هناك فوارق بين الأفراد، لأن هناك فوارق بينهم في ما يبذلونه من جهد في مختلف الأعمال وفي ما تستلزمه من تكوين ومؤهلات وخبرات علمية... ونتيجة لذلك، ستظل هناك فروق بين الناس. لكن لا يجب أن تكون اللامساواة بينهم في الدخل أو الثروة غير مقبولة اجتماعيا، حيث ينبغي التوافق عليها فيما بينهم بعيدا عن معايير الظلم والاستغلال والإقصاء... ويرى الفيلسوف الأمريكي "جون راولز John Rawls" أنه يجب تنظيم اللامساواة الاقتصادية والاجتماعية بشكل يجعلها تقدم لغير المحظوظين أكبر خدمة ممكنة، وتتيح في الآن نفسه تكافؤ الفرص ضمانا للمساواة المنصفة لجميع الأفراد في ولوج مختلف الوظائف... وإجمالا، تعني العدالة الاجتماعية أساسا المساواة في الحقوق والواجبات وتكافؤ الفرص... هكذا، يتضح أن مفهوم "العدالة الاجتماعية" لا ينفصل عن مفهوم حقوق الإنسان، حيث يستحق الكائن البشري العدالة الاجتماعية لكونه إنسانا، وهو جدير بالتمتٌّع بمجموعة من الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المنصوص عليها في المواثيق والمعاهدات الدولية بِمَا في ذلك الاتفاقيات الخاصة بحقوق الطفل والنساء والأقليات. كما لا يمكن فصل العدالة الاجتماعية عن تلبية الحاجات الإنسانية، حيث لا يمكن الحديث عن إنسانية الإنسان وكرامته دون تلبية حاجاته الإنسانية الأساسية. وهذا ما يفرض على الدولة واجبات اقتصادية واجتماعية مهمة، لأن قوى السوق، بطبيعتها، لا توفر شروط المجتمع العادل. وإذا انتقلنا إلى المساواة في الواجبات، فإننا نجد أنها ليست مطلقة، لأنها ترتبط بمبدأ "القدرة"، حيث إن دفع الضرائب، على سبيل المثال، واجب على المواطنين، لكنه مرتبط بقدرة المواطن على القيام بذلك. ونظرا لارتباط العدالة الاجتماعية بالمساواة في فرص المشاركة السياسية، والتعليم، والرعاية الصحية، والعمل، والسكن، والترقي الاجتماعي، وما إلى ذلك، فتحقيقها يستوجب اقتران المساواة في الفرص بثلاثة شروط أساسية: 1 - إزالة التمييز بين المواطنين وكل العوامل المؤدية إليه، وما يترتب عن ذلك من تهميش وإقصاء وحرمان من التمتع بالحقوق الإنسانية... 2- تطوير مشاريع تنموية فعلية تُمَكِّن من توفير فرص العمل، حيث لا معنى لتكافؤ الفرص في العمل إذا كانت البطالة مستفحلة ومناصب الشغل منعدمة، ما يفرض على الدولة تطوير سياسات وبرامج واتخاذ إجراءات توفِّر فرص العمل... 3 - تمكين الأفراد من الاستفادة من الفرص والتنافس على قدم المساواة. لكن مبدأ تكافؤ الفرص يصبح خال من أيِّ معنى عندما تتسع الفروق في القدرات الاجتماعية والمادية بين المتنافسين. وهذا ما يقتضي تدخل الدولة لإتاحة فرص التعليم والتكوين والتدريب والرعاية الصحية وغيرها من العوامل التي تؤهل الأفراد وتُكسبُهم قدرات وتُمكِّنُهم من تنميتها بشكل مستمر. لذلك، يقتضي تحقيق العدالة الاجتماعية قيام الدولة بتطوير سياسات تُقلص الفوارق في الدخل والثروة والنفوذ السياسي بين مختلف الفئات الاجتماعية، لأن بقاء هذه الفوارق يجعل الحديث عن مبدأ تكافؤ الفرص غير وارد على الإطلاق، ما يعني إقصاء أغلبية أفراد المجتمع وما ينجم عنه من تهديد للاستقرار. ** المصدر: العدالة الاجتماعية: من شعار مبهم إلى مفهوم مدقق إبراهيم العيسوى نشر فى : الاثنين 1 أكتوبر 2012 - 8:35 ." الشروق" العدالة الاجتماعية مطلب تبنته جميع الأحزاب المصرية، وأدرجته فى برامجها. ولهذا الأمر دلالتان. الدلالة الأولى هى أن الأحزاب كافة، لم يكن فى وسعها تجاهل مطلب رفعته ثورة يناير 2011 من أول يوم ضمن شعار «تغيير ــ حرية ــ عدالة اجتماعي. وهذا المطلب ليس بعيدا عن شعار آخر رفعته الثورة وهو: «عيش ــ حرية ــ كرامة إنسانية». فلا عدالة اجتماعية بدون «العيش» الذى يرمز إلى التنمية وما توفره من متطلبات إشباع الحاجات الإنسانية، ولا كرامة إنسانية فى غياب العدالة الاجتماعية. كما أن ثمة صلة وثيقة بين العدالة والحرية على ما سيأتى بيانه. الدلالة الثانية فهى أنه عندما تتبنى مطلب العدالة الاجتماعية أحزاب متباينة فى توجهاتها الاقتصادية وانحيازاتها الاجتماعية، فلا بد وأن لكل منها مفهوما مختلفا عن العدالة الاجتماعية، وإن كان نادرا ما يقدم بشكل صريح وغالبا ما يبقى مضمرا. ولا يخفى ما يمكن أن يثيره هذا الوضع من حيرة و التباس لدى الناس، حيث تبدو أحزاب كثيرة متشابهة ويصعب المفاضلة بينها على أسس موضوعية. ●●● والحاصل الآن أن العدالة الاجتماعية أقرب إلى الشعار المبهم منها إلى المفهوم الواضح.ولذا تشتد الحاجة إلى إلقاء الضوء على معنى العدالة الاجتماعية، وعلى العلاقة بينها وبين عدد من المطالب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الأخرى. وإسهاما منى فى الوفاء بهذه الحاجة، سوف أبدأ بتقديم مفهوم موسع ومركب للعدالة الاجتماعية، يمكن أن تشتق منه مفاهيم فرعية متنوعة ومجموعات ضيقة أو واسعة من السياسات أو الإجراءات العملية، وذلك وفق التوجهات الاقتصادية والانحيازات الاجتماعية للأحزاب والقوى السياسية المختلفة العدالة الاجتماعية هى تلك الحالة التى ينتفى فيها الظلم والاستغلال والقهر والحرمان من الثروة أو السلطة أو من كليهما، والتى يغيب فيها الفقر والتهميش والإقصاء الاجتماعى وتنعدم فيها الفروق غير المقبولة اجتماعيا بين الأفراد والجماعات والأقاليم داخل الدولة، والتى يتمتع فيها الجميع بحقوق اقتصادية واجتماعية وسياسية وبيئية متساوية وحريات متكافئة ولا تجور فيها الأجيال الحاضرة على حقوق الأجيال المقبلة، والتى يعم فيها الشعور بالإنصاف والتكافل والتضامن والمشاركة الاجتماعية، والتى يتاح فيها لأفراد المجتمع فرص متكافئة لتنمية قدراتهم وملكاتهم ولإطلاق طاقاتهم من مكامنها ولحسن توظيف هذه القدرات والطاقات بما يوفر لهؤلاء الأفراد فرص الحراك الاجتماعى الصاعد، وبما يساعد المجتمع على النماء والتقدم المستدام، وهى أيضا الحالة التى لا يتعرض فيها المجتمع للاستغلال الاقتصادى وغيره من آثار التبعية لمجتمع أو مجتمعات أخرى، ويتمتع بالاستقلال والسيطرة الوطنية على القرارات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. ويحسن بنا التوقف عند عدد من عناصر هذا التعريف الواسع والمركب للعدالة الاجتماعية لإيضاح معانيها ومراميها وبيان بعض العلاقات المهمة التى تربط بينها. ومن أول ما يجب التوقف عنده العدالة الاجتماعية والمساواة والعلاقة بينهما. فكثيرا ما ينظر إلى العدالة الاجتماعية كمرادف للمساواة. ولكن يجب الانتباه إلى أن العدالة الاجتماعية لا تعنى المساواة الكاملة أو المطلقة، أى أنها لا تعنى مثلا التساوى الحسابى فى أنصبة أفراد المجتمع من الدخل أو الثروة. فمن الوارد أن تكون هناك فروق فى هذه الأنصبة، حيث تتواكب هذه الفروق مع الفروق الفردية بين الناس فى أمور كثيرة كالفروق فى الجهد المبذول فى الأعمال المختلفة وفيما تتطلبه من مهارة أو تأهيل علمى أو خبرة، وكذلك الفروق المرتبطة بالعمر (حيث تقل الاحتياجات الغذائية للطفل عن البالغ) أو المرتبطة بالحالة الصحية (فالمريض قد يحتاج موارد أكثر من السليم للصرف على علاجه ●●● والأمر المهم هو أن تكون اللامساواة أى الفروق بين الناس فى الدخل أو الثروة أو فى غيرهما مقبولة اجتماعيا، بمعنى أنها تتحدد وفق معايير بعيدة عن الاستغلال والظلم ومتوافق عليها اجتماعيا. وحسب نظرية رولز الشهيرة عن العدالة، فإن اللامساواة الاقتصادية والاجتماعية يجب أن تنظم على نحو يجعلها تقدم للأفراد الأقل حظا فى المجتمع أكبر نفع ممكن من جهة، ويجعلها تتيح فى الوقت نفسه إمكانية الالتحاق بالوظائف والمواقع المختلفة أمام جميع الأفراد فى إطار من المساواة المنصفة فى الفرص من جهة أخرى. وعموما فإن العدالة الاجتماعية تعنى فى الأساس المساواة فى الحقوق والواجبات، والمساواة أو التكافؤ فى الفرص. إن المساواة فى الحقوق تشير إلى أن فكرة العدالة الاجتماعية لا تنفصل عن فكرة حقوق الإنسان. فالعدالة الاجتماعية استحقاق أساسى للإنسان نابع من جدارته كإنسان بالتمتع بمجموعة من الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وذلك على ما هو مقرر فى الإعلان العالمى لحقوق الإنسان وفى طائفة واسعة من العهود والمواثيق والاتفاقات الدولية كالعهد الدولى للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والاتفاقات الخاصة بحقوق الطفل والنساء والأقليات. كما أن فكرة العدالة الاجتماعية لا تنفصل عن مبدأ الوفاء بالحاجات الإنسانية للبشر. ذلك أن إنسانية الإنسان لا تكتمل، وكرامته لا تتحقق، ما لم يمكن من إشباع حاجاته الإنسانية. ولا يخفى أن هذا الربط بين العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان وإشباع حاجاته يفرض على الدولة واجبات اقتصادية واجتماعية مهمة، حيث لا تقدر قوى السوق وحدها على الوفاء بمتطلبات المجتمع العادل. وإذا انتقلنا من المساواة فى الحقوق إلى المساواة فى الواجبات فيجدر الانتباه إلى أن المساواة فى الواجبات ليست مطلقة. بل إنها مربوطة بمبدأ أساسى، وهو مبدأ القدرة، وذلك انطلاقا من القاعدة الأصولية التى تقرر أن «القدرة مناط التكليف». فأداء الضرائب مثلا واجب على المواطنين، ولكنه مشروط بقدرة المواطن على دفع الضرائب. ●●● وعندما نربط بين العدالة والمساواة فى فرص الحصول على التعليم والرعاية الصحية والعمل اللائق والحراك الاجتماعى الصاعد والمشاركة السياسية وما إلى ذلك، فمن الضرورى أن تقترن المساواة فى الفرص بثلاثة شروط. أولها غياب التمييز بين المواطنين وإزالة كل ما يؤدى إليه من عوامل، وغياب ما يترتب على التمييز من نتائج سلبية كالتهميش والإقصاء الاجتماعى والحرمان من بعض الحقوق. وثانيها توفير الفرص، حيث لا معنى للحديث مثلا عن التكافؤ فى فرص العمل إذا كانت البطالة شائعة ومواطن الشغل غائبة. وهو ما يرتب التزاما على الدولة بوضع السياسات واتخاذ الإجراءات الكفيلة بتوفير فرص العمل. وثالثها تمكين الأفراد من الاستفادة من الفرص ومن التنافس على قدم المساواة من أجل نولها. فاغتنام الفرص قد يرتبط بتوافر قدرات معينة مثل مستوى تعليمى معين أو امتلاك أرض أو رأسمال. والمنافسة على الفرص سوف تفتقر إلى التكافؤ عندما تتسع الفروق فى القدرات بين المتنافسين. وهاهنا تظهر الحاجة إلى دور الدولة فى إتاحة التعليم والتدريب وإعادة التدريب والرعاية الصحية وغيرها من عوامل بناء القدرات وتنميتها. لاحظ أن العدالة قد لا تتحقق حتى إذا تساوت الفرص وتحققت الشروط الثلاثة السابق ذكرها. فقد ينتج الاختلاف فى قدرات الأفراد وفى حظوظ أسرهم من الفقر أوالغنى ومن تدنى المكانة الاجتماعية أو علوها، فروقا واسعة فى العوائد أو النواتج تتجاوز ما يمكن اعتبارها فروقا مقبولة اجتماعيا. ومن هنا تظهر ضرورة تدخل الدولة بسياسات إعادة التوزيع لتقريب الفروق فى الدخل والثروة بين الطبقات حتى لا تؤدى هذه الفروق للإطاحة بمبدأ تكافؤ الفرص ذاته. ذلك أن المساواة فى الفرص شرط ضرورى للعدالة الاجتماعية، ولكنه شرط غير كاف لتحقيقها، ويلزم أن يضاف إليه شرط السعى المستمر لتضييق الفوارق فى توزيع الدخول والثروات ومن ثم الفوارق فى النفوذ السياس. -8- بوبكري يكتب..رأسمالية المحسوبية الثلاثاء 26 يوليو 2016 - 09:51 ( العمق المغربي) محمد بوبكري يعتقد البعض أن بلدنا يعتمد الاختيار الليبرالي، لكنه، في الواقع، يظل بعيدا عن هذا النهج، لأنه يعمل بـ"الرأسمالية الاحتكارية"، أو بما يسميه "البنك الدولي" نفسه بـ "رأسمالية المحاسيب". بداية، رغم عيوب الرأسمالية، يجب الاعتراف بأنها قد خلَّصَت المجتمعات التي اعتمدتها من كسل القرون الوسطى ورتابتها وجمودها، فأكسَبَت أفرادها قيمة"العمل" الشاق، ورسَّخت في أذهانهم الانفتاح على الجديد، وحفَّزتهم على ركوب المخاطر والمغامرات والتحرر من ثبات المكان والزمان... كما أنها أبدعت مفهوما جديدا للزمن مليئا بالنشاطات الإنسانية وإبداعات العقل البشري وفتوحاته... وإذا كان الربح هو وازع الرأسمالية ومحرِّكٌها، فإنه لم يكن الدافع الوحيد للناس، حيث يرى ماكس فيبر Max Weber أنها قد تطورت في إطار نسق جديد من الأخلاق مرجعه المسيحية البروتستانتية، وهدفه التقشف والاستثمار في مشاريع جديدة، وتنمية الثروات، واعتبار العمل قيمة عليا... لقد مكنت هذه الأخلاق أوروبا الغربية وأمريكا من إحداث تراكم سريع للثروة، حيث قامت الرأسمالية في أنجلترا على الادخار والاستثمار وتطبيق نتائج البحوث والاكتشافات العلمية، واعتمدت معيارًا لتقييم كل فكرة أو شيء استنادا إلى أدائهما ونتائجهما... لم ينجم الاحتكار عندنا عن ظروف نشأة الرأسمالية، لكنه القانون الأساسي الذي تنهض عليه "رأسمالية المحاسيب". وهذا ما يحول دون إجراء إصلاحات ليبرالية حقيقية في اقتصادنا. لقد تم الزج ببلدنا في نهج خاص جدا للتطور الرأسمالي يتسم كثيرا بملامح الإقطاع أو القرون الوسطى، مما أفضى إلى إرساء "رأسمالية المحسوبية" التي تتعارض جذريا مع النمط الرأسمالي الفعلي. وحسب ما قرأناه في مختلف الكتب التي تُنَظِّر للرأسمالية، فإن "رأسمالية المحاسيب" لا تقوم على المنافسة الحُرَّة، بل تنهض أساسا على المنافسة الاحتكارية أو على المنافسة المغشوشة، حيث تُوظِّف السلطة إدارتها لاختيار "نخبتها الاقتصادية"، وذلك كما تفعل عند تحضيرها للانتخابات من أجل صنع "نخبتها السياسية"، إذ تقوم بيروقراطية السلطة بعملية فرز دائمة لترتيب منافسة غير ديمقراطية في مجالي الأعمال والسياسة. ووفقًا لعملية الفرز هذه، يتم باستمرار تقريب وإبعاد رجال الأعمال الكبار والزعامات السياسية، حيث يتوقف الانتقاء والإقصاء على القرب من السلطة المفضي إلى التقارب معها أو التواجد خارج دائرة الامتيازات التي توزعها. على هذا النحو تتم صناعة رجال الأعمال الذين يسيطرون على نصيب مهم من الأسواق، وينسحب الأمر نفسه على "السياسيين" الذين يتم تأثيث "المؤسسات المنتخبة" بهم. إن الاحتكار في بلادنا هو ظاهرة مختلفة لا صلة لها بالاحتكار الذي يتسم به التطور الرأسمالي، إذ من الطبيعي عندما تبرز مشروعات جديدة في مجال من المجالات أن يسيطر على السوق رأسمالي شخص أو جهة يحتكران تسويق سلعة معينة أو تقديم خدمة ما. لكن لن يستمر هذا الأمر على حاله، لأن الرأسمالية الفعلية تقتضي تكسير هذا الاحتكار لاحقا. أما في بلادنا، فالاحتكار ليس مرحلة مؤقتة أو عابرة، بل إنه سياسة مقصودة وامتياز معين تمنحه السلطة لرجال أعمال محدَّدين أو شركات دون غيرها لتمكينهم من السيطرة المطلقة على أسواق إستراتيجية معينة. فالسلطة هي التي تُمَكِّن هؤلاء من الاحتكار وتحميهم لمدة طويلة حتى يستفيدوا من الريع ويراكموا ثروات ضخمة. ومن الناحية الاقتصادية، فهذا الريع ليس ربحا، وإنما هو أشبه بالفائض الإقطاعي. يسود حُكم البلاد بهذا الأسلوب في جميع المجالات، حيث يتم توزيع المناصب الأساسية في مؤسسات الدولة والمجتمع على أساس الولاء وليس الكفاءة والجدارة والاستحقاق، ما ينجم عنه صراع محتدمٌ بين "نخب" السلطة حول المناصب المحتملة والامتيازات... وهكذا تتفشى المحسوبية والفساد، إذ يلاحظ المتتبعون أن أغلب المُعَيَّنِين على رأس مختلف المؤسسات العمومية ينتهي بهم المطاف عموما إلى الاعتقاد أنها قد أصبحت ملكية خاصة لهم، ما يجعل هذه الأخيرة تتعرض غالبا للنزيف وتسقط في أزمة خانقة يصعب حلّها، فتتم خصخصتها، أو تحميل المواطن كلفة إصلاح الأعطاب والخسائر التي ألحقها بها أولائك المستفيدون. لقد تحوَّلت المحسوبية وتعميمها على كافة الأصعدة إلى قانون عام للاستفادة من خدمة بسيطة، أو الحصول على وظيفة، أو أرض، أو امتياز، فتعرَّض المجتمع كله للتخريب الأخلاقي والثقافي الناجم أساسا عن سيادة الاقتصاد السياسي لرأسمالية المحاسيب، أو ما يسمِّيه البعض بـ "الإقطاع المالي". ونظرًا لتفشي الفساد واتساعه في المؤسسات العمومية والمجتمع، نلاحظ احتدام الصراع بين أفراد "نخبة السلطة" على ما تبقى من مناصب وامتيازات، ووقوع انقلاب في القِيَّم، فترتب عن ذلك تفكيك مؤسسات العمل الاجتماعي والتضامني... لذلك، يرى بعض الملاحظين أن المسؤولين لم تعد لديهم القدرة على مخاطبة الناس وتحفيزهم وإلهامهم، حيث خفت الخطاب الوطني المؤسِّس للدولة، وصار هؤلاء المسيرون بدون رأس ولا ذنب ولا شرعية أخلاقية، فساد فراغ إيديولوجي وفكري وثقافي كبير، ما سمح بانتشار الإرهاب التكفيري، وتفشِّي التزمت في تفسير الدين، فتغير مفهوم الإيمان لدى الناس، وساد الانغلاق والتقولٌبٌ والكراهية والعنف... وعندما يغيب الالتزام الكامل بالخطاب الوطني، يسود الاستبداد وتختفي قنوات المشاركة الشعبية التي حتى وإن وجدت، فإنها تكون شكلية وبدون جدوى. ويدلُّ تفكيك مؤسسات العمل الاجتماعي والتضامن، الناجم عن الضغط الأجنبي وتَحَالُف قوى الفساد والاستبداد والطائفية، على أن أغلبية أفراد المجتمع الساحقة ليست شريكة في الوطن... وعندما تُغلَقُ قنوات المشاركة الشعبية وتطلق يدُ الأنانية الفردية الخالية من قِيَّم المواطَنَة، تخفت نزعة الانتماء، ويغيب الالتزام بأي قِيَّم مشتركة، وقد يؤدي ذلك إلى التفرقة المضرَّة بالوحدة الوطنية.. ** المصدر رأسمالية المحاسيب محمد سيد سعيد المصري اليوم، 7 يوليو 2008 الرئيسان السادات ومبارك لم ينقلا مصر لنظام رأسمالي تنافسي نزيه الواقع أننا لا ننسب التراجع الذي ألم بثقافتنا بالمعني الواسع أو شخصيتنا القومية للرأسمالية كما جاءت في الكتب.. إننا ننسب هذا التراجع لنمط خاص جدا من الرأسمالية يسميه البنك الدولي نفسه برأسمالية المحاسيب أو رأسمالية النصابين. الرأسمالية كما جاءت في الكتب نفضت عن المجتمعات التي أخذت بها رتابة أو كسل العصور ألوسطي وعلمت الناس فضائل العمل الشاق وأدخلت في أذهانهم ضرورة القبول بالجديد ودفعتهم للمخاطرة والتحرر من ثبات المكان والزمان. لقد أنتجت مفهوما جديدا للزمن امتلأ عن آخره بفحوى النشاطية الانسانية وإبداعات العقل البشري. وإن كان الربح هو المبدأ الأول المحرك للرأسمالية فلم يكن هو الدافع الوحيد للناس. فإن أخذنا بما قاله ماكس فيبر وهو مؤسس علم الاجتماع الحديث فالرأسمالية استدعت أو تطورت في ركاب نسق جديد من الأخلاق الذي نسبه للمسيحية وفيه التقشف والاهتمام بالاستثمار في مشروعات جديدة وتنمية الثروات أو ما نسميه في الإسلام بالإعمار والاهتمام بالتالي بالادخار وأهم من ذلك كله فكرة تطهرية عن العمل باعتباره قيمة عليا أو حتى مقدسة. لقد كانت هذه الأخلاقية هي التي أفضت إلى تراكم سريع للغاية للثروة في أوروبا الغربية ثم في امريكا بعد ذلك. ولعلنا نقارن هنا بين اسلوبين مختلفين تماما للتطور. الأول حدث في انجلترا حيث تجسد بوضوح ما يقوله ماكس فيبر والعلماء الذين تلوه والثاني كان قائما بالفعل في البلد الذي أفاد إفادة ضخمة من الكشوف الجغرافية والموجة الأولي والأكثر توحشًا من الاستعمار وهي إسبانيا. الفارق أن الأولى قامت على الادخار والاستثمار وتطبيق نتائج المعارف والكشوف العلمية وكرست معيارًا لتقييم كل شيء بالنتائج وبمضمون ما تحققه اي ممارسة أو فكرة. وعلي العكس من ذلك كانت إسبانيا مازالت غارقة في قيم القرون الوسطي وكان المعيار الأساسي لتقييم كل شيء هو الطقوس الشكلية واستعراض الثروة أو حتى تدميرها علنا فيما لا طائل من ورائه سوي المتع الزائلة. وبكل بساطة تقدمت الأولي وعاشت الثانية ركودًا طويلًا جدًا لم ينته سوى من أقل من ثلاثة عقود فقط وعندما زجت بنفسها في عضوية الجماعة الأوروبية. الاحتكار في مصر ليس عيبا ينشأ عن ظروف ولادة النموذج الرأسمالي، إنه القانون الأساسي لرأسمالية المحاسيب. وهذا هو ما لم تفهمه المؤسسات الاقتصادية الدولية ويمنع تطبيق إصلاحات ليبرالية حقيقية في الاقتصاد المصري. بلدنا وجد نفسه مدفوعا من أعلي لهوة عجيبة وربما غير مسبوقة في تاريخه. فقد زج به الرئيسان السادات ومبارك في طريق خاص جدًا للتطور الرأسمالي يحمل كثيرًا من ملامح الإقطاع أو القرون الوسطي. أما الرئيس مبارك فينسب له بناء هذا النمط الأشد فسادًا من الرأسمالية وهو رأسمالية المحاسيب. أهم ما يميز هذا النمط هو أنه لا يقوم على المنافسة الحرة مثلما تعظنا الكتب التي بشرت بالرأسمالية. بل تقوم تحديدا على المنافسة الاحتكارية أو على المنافسة المزورة. والأخيرة مثل الانتخابات المزورة بالضبط تنهض على اختيار نخبة الدولة –وتحديدًا الرئيس وأجهزته الأمنية– رأسماليين محددين دون رأسماليين آخرين. هناك عملية فرز دائمة تقوم بها نخبة الحكم وتستخدم فيها بيروقراطية الدولة لفرض منافسة غير نزيهة كما يحدث في الانتخابات العامة بالضبط. ووفقًا لعملية الفرز هذه ثمة تقريب وإبعاد مستمران لرجال الأعمال الكبار. بل إن فرص العناصر التي تدخل السوق بأي دوافع وإمكانيات للتحول إلى رجال أعمال مشهود لهم تتوقف قطعًا أو بصورة حاسمة على القرب ومن ثم التقارب مع الرئيس وحاشيته والأجهزة الأمنية. وتبعًا لدرجة القرب والبعد يتم تمكين مختلف رجال الأعمال من السيطرة على نصيب كبير في الأسواق. وما نصفه بالاحتكار اليوم هو شيء مختلف للغاية عما اتسم به التطور الرأسمالي قبل 1952، فمن الطبيعي عندما تبدأ مشروعات جديدة في مجالات غير معروفة في بلد زراعي متخلف أن يسيطر رأسمالي واحد على السوق في سلعة أو خدمة ما. والمفروض أن تبدأ عملية كسر الاحتكار في مرحلة لاحقة. أما في الحقبة المباركية فالاحتكار ليس مرحلة مؤقتة بل هو سياسة قصدية أو وضعية تمنح لرجال أعمال معينين أو شركات بعينها في الأسواق الاستراتيجية. الدولة هي التي تمنح صفة الاحتكار وتحميه لفترة طويلة بما يكفي لتكوين ريوع خارقة. وهي ريوع وليست من الناحية الاقتصادية أرباحًا لأنها اشبه بالفوائض الإقطاعية. فرجال الأعمال المحظوظون أو الشركات المختارة “تُقطَع” سوقًا برغبة الرئيس أو الأجهزة الأمنية مثلما كان محمد على مثلًا “يُقطع” رجاله أي خدمه وحشمه وضباطه أراضي واسعة باسم “وسية” أو “أبعدية” أو “عزبة”. تعميم الفساد والمحسوبية ونشر “ثقافتهما” والحقيقة أن النخبة العليا للدولة حكمت بلادنا بهذه الطريقة ذاتها من القمة للقاعدة. فالمناصب الأساسية في كل أرجاء المجتمع والدولة بما فيها تلك التي تحتاج لقدرات فنية عالية تتحدد على أساس الولاء وليس الجدارة أو الاستحقاق. والمقياس الأساسي للولاء كان في أغلب الأحيان القبول بالخضوع للأجهزة الأمنية. غير أن الأهم هو أن الحصول على المناصب القيادية والعليا يضمن الهيمنة الشاملة على المؤسسات المعنية إلى حد يقرب من الملكية الخاصة. وفي اغلب الأحوال حلبت هذه المؤسسات أو نزفت عن آخرها. وفي كل الأحوال عممت القيادات الإقطاعية للمؤسسات العامة نفس قواعد السيطرة والخصخصة الفعلية على غيرها فخلقت جوًا مسمومًا بين الزملاء في كل المستويات. وما كان ذهنية فارغة شائعة في التقاليد البيروقراطية المصرية صار حالة متوحشة من الصراع بكل الوسائل على المناصب المحتملة أو على المزايا التي يمسك بها الرؤساء. وأدي تعميم قاعدة المحسوبية إلى جعل الواسطة قانونًا عامًا للحصول على كل شيء بدءً من خدمات بسيطة إلى التعيين في الوظائف إلى منح الأرض القابلة للتسقيع والبيع. لقد تم إفساد وتخريب مجتمع بكامله. ولكن لماذا نتحدث بقدر من الاستفاضة عن رأسمالية المحاسيب في مصر ونحن نتحدث عن تراجع شخصيتنا القومية وثقافتنا؟ الإجابة هي أن التدهور الواسع الذي ألم بثقافتنا القومية وبالتالي بشخصيتنا يعود أساسًا إلى الطريقة التي وُلد وتطور بها الاقتصاد السياسي لرأسمالية المحاسيب أو للرأسمالية البيروقراطية أو للإقطاع المالي السائد في بلدنا. إننا نتحدث في الحقيقة عن إقطاع.. وهو إقطاع ليس منبت الصلة بل على العكس وُلد تحديدًا على أرضية إقطاع آخر هو الإقطاع النفطي. دعونا نسرع بشرح الارتباط بين هذا النمط الخاص من الاقتصاد السياسي من ناحية وتطور شخصيتنا القومية من ناحية أخري. وفي تقديري أن هذا الارتباط واضح في شرح بسيط وموجز للغاية. فرأسمالية المحاسيب في مصر نهضت في الجوهر كأحد النواتج المشوهة للفوائض النفطية في دول الخليج وعلي رأسها المملكة السعودية. ونتحدث هنا تحديدًا عن أهم هذه النواتج على الإطلاق: أي تحويلات المصريين العاملين في بلاد النفط العربية. كل عمليات المضاربة والشركات العارضة والدائمة وأنشطة الاستثمار المالي والنقدي بل عمليات التسقيع النشطة للأرض وأنشطة البناء والمقاولات وشركات التوظيف ثم البورصة وغيرها نشأت بصورة مباشرة أو غير مباشرة عن اشكال مختلفة من توظيف تحويلات المصريين العاملين بالخارج وبدرجة معينة أيضًا توظيف مدخرات واستثمارات جانبية لرجال وأسر وأجهزة خليجية وسعودية بصورة خاصة. غير أنه لكي يكون من الممكن التنافس والسيطرة على التحويلات لابد ان يبدأ المصريون الزحف (علي ركبهم) للبحث عن فرص عمل والحصول عليها في بلاد النفط. وكل ما حدث في ثقافتنا مرتبط إلى حد كبير على الأقل حتى بداية هذا القرن ـ بهذه الواقعة: الهجرة – تحويل المدخرات – تعبئتها بأشكال مختلفة من أجل توظيفها في أنشطة مختلفة. كان يتعين أن يعمل المصريون في الخارج حتى يدخروا المال ويمكنوا الطبقة الرأسمالية البازغة من بناء شبكة معقدة أو مصفوفة متكاملة للسيطرة على هذه المدخرات وامتصاصها. انشطار الثقافة المصرية إلى نصفين متصارعين ويمكننا أن ننسب شتي مظاهر الاقتصاد والمجتمع والسلوك الفردي وتحولات الثقافة في مصر إلى هذا العامل المزدوج: الهجرة الجماهيرية الضخمة للعمل خاصةً في بلاد النفط من ناحية والصراع للسيطرة على مدخرات المصريين في الخارج. لقد تم تحويل الحياة في مصر إلى غابة حقيقية حتى يصبح العمل في الخارج الأمل الوحيد أو شبه الوحيد للبقاء والحصول على قدر من الاحترام الاجتماعي. ومع الهجرة الجماهيرية وفتح الباب واسعًا للفساد في المؤسسات العامة واحتدام المنافسة على ما بقي من فرص الترقي والوظائف على المستويات كافة تم تفكيك كل مؤسسات الفعل الجماعي والتضامني لأن المواقع الطبقية والمكانات الاجتماعية لم تعد واحدة لأشخاص كانوا متساوين في كل شيء. وكان من المحتم أن ينشد الجميع ملاحقة بعضهم البعض إلى المواقع الطبقية الجديدة وأنماط الاستهلاك الجديدة بالتضحية بأي اعتبارات موروثة من الثقافة المصرية الأصيلة والتي قد تعوق محاولات الصعود الطبقي السريعة والضرورية لاستعادة التناسب مع أقارب أو زملاء أُثروا بسرعة بسبب الهجرة أو فرص الفساد. لقد فقدت الدولة القدرة على مخاطبة وإلهام المصريين. وتفلتت الدولة من الخطاب الوطني الناصري المؤسس لها. وصارت بلا رأس أو فكر أو شرعية أخلاقية من أي نوع. ووقع فراغ أيديولوجي وفكري وثقافي رهيب كان من المحتم أن تسعي قوة ما لملئه. وهذا هو ما حاولته الأـيديولوجيا الوهابية المزودة بالمال والقوة الملكية السعودية. وساهمت عوامل كثيرة أخري في نشر التشدد الديني والتزمت الخارق في تفسير الإسلام وتراثه المديد. وفجأة تغير معني الايمان لدي المصريين. فتراجع التسامح والفهم الواسع وحل محلهما معني آخر تمامًا يتسم بالقسوة والانغلاق والتقولب والكراهية وعقيدة التفوق. وبينما تفلتت من الالتزام بالخطاب الوطني بصورة متزايدة استمرت تحكم بصورة استبدادية وتغلق ما بقي من قنوات المشاركة الشعبية أو تجعلها غير ذات معني. ولم يعد من السهل الدفاع عن مؤسسات الفعل الجماعي أمام تجميدها فعليًا على يد تحالف الفساد والاستبداد. فطالما أن الدولة استبدت بكل شيء صارت كل مشكلات مصر “مشكلتهم” في القمة وليست “مشكلاتنا” كشركاء في وطن. وانصرف الجميع تقريبًا كل إلى حال سبيله حتى لا يعوقه شيء عن جري الوحوش وراء المال والمناصب وفرص الحياة. والواقع أن انطلاق وإطلاق الأنانية والفردية اللاأخلاقية يرجع تحديدًا إلى هذه الحقيقة. فمع إغلاق قنوات المشاركة انزوت نزعة الانتماء ومن ثم الالتزام بثقافة وقيم مشتركة. ولأن ذلك تم في نفس اللحظة التي انتشر فيها الجمود والتزمت والعنف الديني انقسمت البلاد ثقافيًا على نفسها بين تيارين: الأول يحافظ على صلة ما بالتراث المدني والحضاري للدولة المصرية الحديثة ولثقافة المصريين المنفتحة والمتسامحة، والثاني أغرق نفسه في تفسيرات اكتئابية وانتقامية للدين الإسلامي الحنيف ونأي بنفسه عن التراث الديني الأصلي للمصريين. أضعف التيار الأول أن قاعدته الاجتماعية تهرأت بسبب ما قلناه عن نتائج الهجرة والاستبداد. وافترست هذه النزعة المزدوجة ثقافة المصريين الأصلية والتي منحتهم القبول الحماسي من جانب بقية الشعوب العربية والعالم الخارجي بشكل عام. - 9- بوبكري يكتب: في عواقب الأحكام المسبقة والرؤى الجاهزة الثلاثاء 16 أغسطس 2016 - 08:46 ( العمق المغربي) محمد بوبكري يؤكد مختلف الباحثين أن الناس يتشرَّبون ثقافة مجتمعاتهم وتصوراتها وقيَّمها وسلوكاتها بتلقائية دون القدرة على التمييز بين ما هو صالح للإنسان، وبين ما هو مؤذي له وضار به. كما أن هذه الثقافة والقيَّم تتحول إلى بداهات تختلف حتما من مجتمع إلى آخر. لكن الناس لا يطرحون أي تساؤل حول أصلها، ولا عن كيفية تكوُّنها، ولا حول اختلافاتها رغم أن حياتهم كلها تقوم عليها، حيث يتقبَّلها الإنسان ويتصرف على أساسها دون أن يفحصها أو يُحلِّلَها، بل إنه يبدو وكأنه مغتبط بأن يُحرَم من حقه في التفكير بشكل مستقلّ. لذلك، فقد قامت الثورة الفكرية التي أطلق شرارتها الفيلسوف الفرنسي "ديكارت"، وتمكَّن عبرها من إرساء مسيرة الحضارة المعاصرة... مبرزا خطورة الأحكام المسبقة، حيث قال في ما يتعلق بالشرط الأول الذي وضعه لخروج البشر من الغبطة بالجهل والانخراط في مسيرة البحث: "إذا أردنا أن نَفْرَغَ لدراسة جدِّية للبحث عن الحقائق، يجب علينا أن نتخلَّص أولا من أحكامنا السابقة، وأن نحرص على طرح جميع الآراء التي سلَّمنا بها من قبل، وذلك حتى نتوصل إلى الكشف عن صحتها بعد إعادة النظر فيها. كما ينبغي أن نراجع ما بأذهاننا من تصورات، وألاَّ نُصدِّق منها إلا تلك التي ندركها بوضوح وتميز. فإذا قارنا بين ما تعلَّمناه حين فحصنا الأشياء بترتيب، وبين أفكارنا عنها قبل أن نقوم بذلك الفحص، اكتسبنا عادة تحصيل تصورات واضحة ومتميزة عن كل ما نحن قادرون على معرفته...". لقد أيقظ ديكارت بهذه المنهجية الصارمة أوروبا ونبَّهها إلى خطورة الأحكام الجاهزة والآراء المسبقة، فوضع هذه القارة على الطريق السليم للتحقُّق من أفكارها وتطويرها باستمرار. وبذلك فتح أبواب العلم والمعرفة والنمو والتطور في وجه الأوروبيين، ما جعلهم يعتبرونها مصدرا مُهمّا لما يعرفونه من ازدهار وتقدم شامل. كما لفت انتباههم إلى أن الاستسلام للأحكام الجاهزة والآراء والأفكار المسبقة لا يقتصر فقط على عامَّة الناس، وإنما قد يقع في شباكه تلقائيا حتى كبار المفكرين إذا لم يفحصوها وينقدوها ويُحلِّلُوها ويراجعوها، ويعيدوا ذلك بشكل مستمر. وسيرا على هذا النهج، تمكَّن الإنسان من بناء رؤى ناضجة، وصار العقل الناقد هو أساس النمو وتقويض المسلَّمات التلقائية الزائفة... وهذا ما يفسِّر ما عاناه المفكرون الذين حاولوا نشر أفكار أو مشاريع جديدة، أو تصحيح تصورات خاطئة، أو إعادة النظر في رؤى ومواقف وسلوكات متوارثة، حيث وقفت الأحكام المسبقة والآراء الجاهزة حاجزا في وجه قيامهم بذلك. يقول "رولان بارث" في كتابه (الكتابة في الدرجة الصِّفر): "هنالك عائقٌ كبير يحول دوننا ودراسة المعاني، إنه ذاك الذي يُصطلح على تسميته بعائق البداهة". ويعني بالبداهة الأحكام الجاهزة والتصورات السائدة والآراء المسبقة، كما يرى أن الإدراك الصحيح مشروطٌ بالتخلص من هذه البداهات التي تتم تنشئة الناس عليها ثقافيا بشكل تلقائي، حيث لا تتعرض هذه التنشئة، ولا مضامينها، ولا أساليبها لأي فحص أو نقد أو تحليل. ويشكل الانفلات مما تحدثه من آثار سلبية مغامرة فكرية استثنائية، إذ يرقى الإنسان إلى اكتشاف منطق هذه البداهات والأهداف الثاوية فيها، أو الكامنة خلفها،.. إضافة إلى ذلك، تشكل الأحكام الجاهزة والآراء المسبقة والتصورات الخاطئة المُستقرَّة عوائق كبيرة في وجه التواصل والتفاهم بين الأفراد والجماعات والمجتمعات، إذ قد تقود حتما إلى رفض الآخر وعدم الاعتراف به، كما أنها قد تزجُّ بالمجتمعات في حروب طاحنة لأنها تنتمي أصلا إلى ثقافة القبيلة والطائفة... فضلا عن ذلك، إنها تحول دون انتشار البحث العلمي وشيوع روحه. وتعوق إصلاح التعليم، حيث يسقط في الاجترار المستمر، ما يؤدي إلى إعادة إنتاج أنماط التفكير العقيمة الخاطئة والأحكام المُتسرِّعة السائدة المتعارضة مع روح العصر. هكذا تتم استدامة الأفكار البائدة ويتكلس عقل الإنسان ويجفٌّ وجدانه... وبدون التغلب على هذه العوائق المستحكِمَة في حياتنا، فإننا لن نتمكن من إصلاح مجتمعاتنا ثقافيا وتربويا وتعليميا واجتماعيا وسياسيا، وتعجز بلادنا عن إحداث قطيعة مع الصراع المتوحِّش المستمر على السلطة. كما لن نكتسب أسباب القوة والتنمية، ولن نساهم في بناء الحضارة الإنسانية، إذ سنظل خارج التاريخ، بل قد ننقرض ونختفي من هذه الحياة... هكذا، فإن تقويض الأحكام المسبقة المستقرَّة والبداهات السائدة والآراء الجاهزة والتصورات الخاطئة والانتصار عليها وممارسة القطيعة معها هو ما يلزم إنجازه. وإذا كان الوعي الناقد الفاحص يشكل طفرة نوعية استثنائية، فهو لا يحدث بشكل تلقائي، ولا يُفرَضُ بالقوة، إذ ينبغي أن تتوفر له شروط ثقافية وبيداغوجية وديداكتيكية ومادية... لتتهيَّأ العقول والنفوس وتكتسب القدرة على طرح الأسئلة والفحص والتحقُّق وبناء الذات عبر تشييد المعارف والقِيَّم... فإذا تمت تربية الإنسان على خلخلة الوثوق المطلق إلى المسلّمات الخاطئة والركون الأعمى إليها، فإن ذلك يفضي إلى انفتاح أبواب عقله ووجدانه، وانخراطه في سيرورة بناء أفكار جديدة واستقبالها من الآخر... وهذا ما يركز عليه كل المفكرين الذين سعوا إلى تخلُّص الإنسان من التصورات الراسخة الخاطئة التي تحجب عنه الواقع وحقائقه وتحول دون قدرته على بناء معارفه وقيَّمه الخاصة، إذ بدون ذلك لن يستطيع التطور والنمو، بل لن يكون إنسانا. يَقُولُ غرامشي: "لابدَّ من تحطيم الحكم المسبق الشائع". ويؤكد العالم البريطاني كارل بولاني في كتابه (التحول الكبير) أنَّ "لا شيء يشوِّش نظرتنا كما تشوِّشها الأحكام المسبقة". ويكاد يُجمع المفكرون من كل المجتمعات وفي كل العصور على أن التصورات المستقرَّة والأفكار الجاهزة هي عوائق أساسية في طريق تقدم الأفراد والمجتمعات في مجالات الفكر والعلم والتواصل وتبادل الأفكار والرؤى والتفاهم والعلاقات والسِّلم. ** المصدر: التقييم الجاهز والرأي المسبق ألدّ أعداء الإنسان إبراهيم البليهي الأحد23 صفر 1431هـ - 7 فبراير 2010م – ( الرياض. العدد 15203) من حقائق التاريخ البشري المعروفة أنه ما من رسول من رسل الله عليهم الصلاة والسلام استُجيب له إلا بعد جهاد طويل وممانعة شديدة وكذلك كلّ الرواد وكل المفكرين وكل المصلحين وكل المبدعين جوبهوا بالأحكام الجاهزة والتصورات السائدة والآراء المسبقة فحالت بينهم وبين التأثير إلا بعسر مرهق وبعد بطء شديد وفي الكثير من الحالات لا تحصل الاستجابة الإيجابية أبداً. إن المواقف المسبقة هي العائق الأشد استعصاء على الاختراق والتغيير إنها الحصن التلقائي المنيع الذي يعوق التواصل ويعرقل الفهم ويحول دون الاستجابة الإيجابية فهذه القناعات المتكونة تلقائياً تقف أسواراً منيعة تفصل فرداً عن فرد ومجتمعاً عن مجتمع وثقافة عن ثقافة فبسبب هذه الحواجز التلقائية المنيعة تحتجب الحقائق ويتعطل التفاهم ، وتتفاقم المظالم وتتوطد الجهالات ويدوم التنافر وتسود القطيعة ويستمر التخلف... إن التقييمات الجاهزة والآراء المسبقة والبداهات السائدة تتحكّم بتفكير الإنسان وسلوكه وتفصل بينه وبين غيره من دون أن يحس لأن المبرمجين بها الواقعين في أسرها لا يعرفون حقيقتها ولا يخطر على بالهم أن يضعوها موضع المساءلة أو الشك، بل يجهلونها جهلاً تاماً وينكرونها إنكاراً قاطعاً إنها تحتمي بهذا الجهل والتجاهل والإنكار من أي توقف عندها أو تحديق بها أو فحص لها أو تحقق من أساسها ومصادر تكوينها وبذلك تبقى البداهات الخاطئة في ظلام اللاوعي تُسيِّر الإنسان بصورة تلقائية فيرفض ما لم يعتد عليه دون أن يحاول فحصه ، ويستخفّ بما لم يألفه دون تمعن ويتجاهل من يستحق الاهتمام من غير إحساس بالخطأ أو الإجحاف ؛ فالفرد بسبب التصورات المسبقة عن نفسه وعن الأشخاص والأعمال والأفكار والآراء والمواقف يكون جاهز البداهات فيوصد عقله عن الكثير من الحقائق المهمة أو الأساسية وبذلك يخسر مثل كل الآخرين فرصاً كثيرة للتعلُّم والفهم إنه كغيره مقتنع ببداهاته وأحكامه وآرائه ولا يلتفت لغيرها ولا يحاول أن يتحقق منها ولا أن يتفهَّم وجهات النظر الأخرى فيبقى في عماه وهو يعتقد أنه يفعل كل ذلك ببصيرة مُشرقة وتحقُّق تام وبسبب ذلك يصعب تبادل الأفكار والرؤى والخبرات وذلك بفعل الثقة التلقائية بالذات والاستهانة التلقائية بالغير وينطبق ذلك على كل الناس تقريباً مما يكشف عن فظاعة المعضلة وفداحة الخسائر!!! إن كل فرد مسيَّر بأحكام وبداهات وتصورات وآراء ومواقف تتحكم به وهو غافل عنها غفلة مطبقة إن حواجز الأحكام الجاهزة والآراء المسبقة والبداهات المستقرة لا يدركها في الغالب إلا الذين لهم ممارسة طويلة للتأمل ودربة عميقة بالشأن المعرفي ويهتمون بالفهم اهتماماً متحرراً من السوابق ويكونون مدفوعين برغبة قوية للفهم ويحركهم دافع قوي لإفهام الآخرين لأنهم يصطدمون بهذه الحواجز كلما حاولوا إيضاح فكرة أو بيان وجهة نظر أو توطين ممارسة أو شرح موقف أو نقد اتجاه أو تحليل واقع أو اقتراح بديل... ومع أن المتعاملين والباحثين من مختلف المجالات يشعرون بهذه المعضلة كلما حاولوا التفاهم مع غيرهم أو إقناع الناس بوجهة نظرهم حول مسائل خلافية إلا أن المفكرين من حُداة التنوير ودعاة التغيير هم الأكثر ارتطاماً بهذه الحواجز لأن أفكارهم تكون مغايرة للمألوف ولا تتفق مع السياق العام لذلك نجد أن شكواهم الأبرز هي هذا الارتطام القاصم المحبط المتكرر فهم لا يجدون إلا آذاناً صمّاء أمام ما يقولون ويكتبون لأن الأحكام الجاهزة والآراء المسبقة والبداهات المسيطرة قد احتلت العقول وحدَّدت المواقف وشكَّلت الرؤى وكونت مسارات العواطف ونمَّطت التصورات فلا يلتفت أحد لما يدْعون إليه إنهم يصطدمون بكل ذلك أينما تحركوا وهم يدركون أن خلخلة هذه الأحكام الجاهزة والتصورات المهيمنة والآراء المسبقة هي الشرط الأول لأي تفاعل يسمح بوصول الأفكار وتبادل الفهم إنهم يعلمون أن المجتمعات لن تخرج من كهوف التخلف ولن تتقدم إلى واقع أزهى وأرقى إلا إذا هي استنارت واندفعت اندفاعاً تلقائياً للتغيير ولكنها لن تصل إلى الاستنارة إلا إذا تحقق تخليصها من حواجز الأحكام الجاهزة وحصل تحريرها من البداهات السائدة وجرى أطلاق عقول أفرادها من أَسْرِ الآراء الخاطئة المسبقة.. إن الوعي الناقد الفاحص يمثل طفرة استثنائية فلا يأتي تلقائياً ولا يُفرض قسراً وتجرُّعاً وإنما تتهيأ النفوس للفحص والتحقق إذا تخلخل الوثوق المطلق بالمسلّمات الخاطئة وبذلك تنفتح أبوابُ العقل وتتهيأ العواطف لاستقبال الأفكار الجديدة ومن هنا ينادي المفكرون في كل العالم بضرورة التركيز على إزالة حصون التصورات الراسخة وتقويض التقييمات الجاهزة وكشف عورات الآراء المسبقة فيقول صاحب (دفاتر السجن) المفكر الإيطالي الشهير غرامشي: «لابدَّ من تحطيم الحكم المسبق الشائع» أما العالم البريطاني كارل بولاني فيؤكد في كتابه (التحول الكبير) بأنه: «لا شيء يشوِّش نظرتنا مثل الأحكام المسبقة» ويكاد يتفق المفكرون من كل المجتمعات وفي جميع العصور على أن التصورات المستقرة والتقييمات الجاهزة والآراء المسبقة سواء على مستوى الأفراد أم على مستوى المجتمعات هي العوائق الأساسية الكبرى للتقدم الإنساني في كل مجالات الفكر والعلم والتفاهم والعلاقات والأمن والسلام وتبادل الأفكار والرؤى.. إن الإنسان بطبيعته يكون مشحوناً تلقائياً بتقييمات وبداهات وتصورات وآراء وعواطف ومواقف لم تخضع لأي فحص بصير ، ولا لأي مراجعة ناقدة ولا لأي تحليل دقيق فالفرد من الناس لا يتعامل مع الأفكار والأشخاص وهو خالي الذهن ولا يحكم على الأعمال والأفراد والأفكار بعقل محايد، ولا يواجه الحياة وهو فارغ العقل وإنما يواجهها بقناعات راسخة وببداهات حدًّدَتْها له بيئته العامة وشكَّلتها معارفه وظروفه الخاصة إنه يولد بقابليات فارغة فتمتلئ تلقائياً بما تمتصه من الوسط الثقافي السائد فيتشكل ذهنه بقوالب البيئة التي ربَّتْه ويتشبَّع بما فيها من اتجاهات وأحكام وآراء ومواقف وينضاف إليها عوائق شخصية مما يَعْرِضُ للفرد في حياته فتتلوَّن به نظرته لكل شيء ولا يخطر على باله أن التصورات التي امتلأ بها عقله قد تكون خاطئة بل يعتبرها حقائق غير قابلة للنقاش وبسبب ذلك لا ينحصر الإشكال في الكيانات الثقافية المتباينة وإنما تقف الآراء المسبقة والبداهات التلقائية عائقاً للتفاهم بين الأفراد حتى داخل الثقافة نفسها فالفرد لا يَقْبَل أو يرفُض بتفكير آني ومساءلة موضوعية واهتمام حقيقي بوجهات النظر الأخرى وإنما يأتي القبول أو الرفض لما يرى أو يقرأ أو يسمع تلقائياً انسياباً من هذه البرمجة المستقرة التي تنساب من خافيته انسياباً تلقائياً شبيهاً بانسياب التنفس أو فوران الدخان من النار... فإذا كانت الثقافات عوالم متمايزة وتفصلها أسوارٌ صلدة فإن كل فرد أيضاً حتى داخل الثقافة الواحدة هو عالمٌ له كهفه الخاص ومعارفه وبداهاته وظروفه وتصوراته وآراؤه ومُسَبَّقاته لذلك نجد أن تبادل الأفكار بين الأفراد داخل أي ثقافة يكون أحياناً شديد الصعوبة فلكل فرد أحكامٌ جاهزة وآراء مستقرة مما يضع الكثير من العراقيل أمام محاولة التفاهم بين الأفراد إن الأحكام الجاهزة والآراء المستقرة هي ألدُّ أعداء الإنسان وأقوى موانع بلوغ الحقيقة سواء على مستوى الأفراد أم على مستوى المجتمعات أم على المستوى الإنساني بأجمعه لأنها تفصل الناس بعضهم عن بعض، كما أنها تؤدي إلى الثقة بالسائد مهما كان خاطئاً والاصرار على الأوهام من دون مراجعة ورفض الرأي المغاير من غير إمعان وغبن الآخرين بلا إحساسٍ بهذا الغبن وإلحاق الأذى بالمخالفين باطمئنان واقتناع إن الأحكام الجاهزة والآراء المسبقة من أقوى أسباب التجاهل إنها تؤدي إلى الإعراض عن الحق والاستخفاف بمن يستحق الاحترام والإهمال لما يستحق الاهتمام إنها من أغزر منابع الجهل والإجحاف والاختزال والجور إن التقييمات الجاهزة والآراء المسبقة توصد أبواب العقل وتسدّ منافذ التعاطف وتصدُّ روافد المعرفة وتستبقي الإنسان الفرد والمجتمع في حالة جمود في الأوضاع، وتخلُّف في الأفكار وانقطاع عن مسيرة التقدم الظافرة.. بائسٌ هذا الإنسان لأنه يتبرمج بما يسلبه فرديته وبما يملأ قابلياته بالأوهام ويصرف طاقاته لمجالات لا تستحق الاهتمام ولكن هذا هو قَدَرُهُ لأنه لا محيص له عن التبرمج بالأحكام الجاهزة والتصورات المستقرة والآراء المسبقة فهو يولد بقابليات فارغة ولا يملك يوم ولادته أية قدرات عقلية جاهزة إنه لا يدخل عالم العقل إلا إذا نشأ في أسرة ومجتمع وتشرَّب ثقافة قائمة ولغة سائدة فالتنشئة في أي ثقافة تضع تلقائياً عقول الأطفال في قوالب تصوغها تلقائياً بشكل خاص محدد فتمتلئ بأنماط محددة من التصورات وطريقة التفكير والممنوعات والتفضيلات، وأسباب القبول والرفض وأنواع الاهتمامات ورؤيته عن الشعوب والبلدان والأمم وتصنيفهم إلى أعداء وأصدقاء وخصوصاً إلى أعداء!!! إن الطفل يكبر وقد تطبَّع بأنماط من الكره والحقد والنفور والاحتقار للآخر المختلف وكل ذلك ليس من ثمار تجاربه الخاصة وبحثه واستقصائه وإنما هو يكون قد تبرمج به من البيئة فالشعوب الأخرى مصنَّفة عنده كأعداء ومنبوذين ومحاربين ومتآمرين ومتربصين ويجري في الغالب التركيز على حَشْد عاطفة الكره وتأجيج العداوة واستنفار المخاوف أما الحب وعوامل السِّلْم وتبادل الاحترام فكلها مستبعدة كلياً وكأن المطلوب دائماً هو تأكيد الجوانب السيئة فقط وتهيئة الإنسان دوماً ليكون جاهزاً للعنف والرد والمبارزة وبذلك لا يبقى في نفسه مكان للتآلف والتعاون ولا لتوقُّع حُسن النية ولا للثقة بالآخرين ويتشكل كل سلوكه وتفكيره بهذا الاحتشاد السيئ حتى مع أقرب الناس إليه لأن نفس الفرد لا تتجزأ وإنما هي تُفرز تلقائياً مما امتلأت به... إن الطفل يتبرمج بكل هذه المخاوف التي تتلوَّن بها علاقاته وتُفسد عليه حياته وتَطبع أخلاقه وتصوغ تصوراته إن الطفل بعد أن يكبر ويصبح راشداً في العُرف السائد لا يبني أحكامه على البحث والتحقُّق وإنما يبقى متبرمجاً بكل ما يوجِّه نشاطه وتفكيره وعلاقاته وسلوكه واهتماماته وبما تصطبغ به حياته إن الفرد بالتنشئة وبالامتصاص التلقائي للثقافة السائدة وبظروفه الخاصة يصبح بعقل محدّد ويصير قسراً وليس اختياراً منتمياً انتماءً صارماً لنمط من أنماط التفكير ولمنظومة من منظومات القيم، ولثقافة مختلفة عن غيرها من الثقافات فالفرد لا يختار هويته وإنما الهوية القائمة تصوغه تلقائياً ليصير مغتبطاً بها ومدافعاً عنها فيشبُّ معجوناً بها ومقولَباً بقوالبها وهو حين يكبر ينسى نسياناً مطلقاً هذه الحقيقة فيتوهم أنه قد اختار هويته بنفسه وأنه قد تعقل تصوراته بذاته وأنه قد استخلص آراءه بجهده وأنه قد كوّن بمحض إرادته تقييماته ومواقفه واهتماماته فلا يدرك إلا في حالات نادرة حقيقة ذاته وأنه مصوغٌ كلياً بغير اختياره قبل بزوغ وعيه وأن اندفاعاته هي نتاجٌ تلقائي لما تبرمج به في طفولته وما تعزّز في مراحل حياته فهو ضحية التنشئة من دون أن يفطن إنه يفخر بما لا دَوْرَ له في تكوينه ويستميت في الدفاع عما برمجه به غيره وتبلغ قوة البرمجة أن الإنسان يبقى طول عمره مغتبطاً بتصوراته التلقائية حتى لو كانت ضد مصلحته وتتصادم مع أبسط حقائق العلم ووقائع الوجود وحتى التعليم مهما بلغ نوعه ومستواه ومكانه لا يستطيع أن يغيِّر من ذلك شيئاً فالفكر الخلاق هو مصدر التغيرات أما المعلومات فلا تستطيع وحدها إحداث أي تغيير في البنية الذهنية المتشكلة ، لا يختلف في ذلك من يقدسون البقر عن الذين يعبدون الشيطان ولا من يُؤَلّهون المسيح عن الذين يعبدون الأوثان!!! أما إذا صادف أن الأفراد في أي مجتمع نشأوا على تصورات سليمة وعلى حقائق ممحَّصة فلا جهد لهم في ذلك وإنما هو حظٌ سعيدٌ محضٌ فالهندوسي لو وُلد في أسرة يهودية لنشأ يهودياً فيتبرمج بالثقافة اليهودية يتكلم لغتهم ويفكر بطريقة تفكيرهم ويعادي من يعتبرونه عدوهم ويصادق صديقهم ويتحرك تلقائياً بمنظومة قيمهم وينشغل بالاهتمامات التي تطبَّع بها من بيئتهم، وبالمقابل فإن الطفل اليهودي لو أخذ يوم ولادته ووضع في أسرة بوذية يابانية فسوف ينشأ بوذياً ويتشرَّب تلقائياً كل ما هو سائد في البيئة اليابانية من لغة وطريقة تفكير وانتماء وحب وكُره وهكذا كل الأفراد في جميع الثقافات!!!... إن الأفراد يتشرَّبون البداهات السائدة في مجتمعهم سواء كانت صالحة أم ضارة وسواء كانت جيدة أم رديئة وهي تكون حتماً مغايرة لبداهات المجتمعات الأخرى ولكن الأفراد لا يتساءلون كيف تكوَّنت هذه البداهات ، ولماذا هي تختلف عن بداهات المغايرين ولا يخطر على بالهم أن يسألوا أنفسهم أين تقف الحقيقة من هذه التباينات في البداهات التلقائية رغم أن حياتهم كلها تتأسًّس عليها فكأن الإنسان يتقبَّل راضياً بل مغتبطاً أن يصادَر حقُّهُ في التفكير المستقل وكما يقول الدكتور جمال مفرج في كتابه (أزمة القيم): «حقائق التجربة الإنسانية تحجبها عنا البداهة والإدراك العادي» لذلك فإن الثورة الفكرية التي قادها الفيلسوف الفرنسي ديكارت وأرسى بها مسيرة الحضارة المعاصرة قد تأسَّست على إعلان خطورة الأحكام المسبقة فقد كان الشرط الأول الذي أعلنه للخروج من غبطة الجهل والبدء بمسيرة البحث عن الحقائق هو: «إذا أردنا أن نَفْرَغَ لدراسة جدية للبحث عن الحقائق وجب علينا أن نتخلَّص أولاً من أحكامنا السابقة وأن نحرص على طرح جميع الآراء التي سلًّمنا بها من قبل وذلك ريثما تتكشَّف لنا صحتها بعد إعادة النظر فيها وينبغي أيضاً أن نراجع ما بأذهاننا من تصورات وأن لا نُصدِّق منها إلا التصورات التي ندركها بوضوح وتميز فإذا قارنا بين ما تعلمناه حين فحصنا عن الأشياء بترتيب وبين أفكارنا عنها قبل أن نقوم بذلك الفحص اكتسبنا عادة تحصيل تصورات واضحة ومتميزة عن كل ما نحن قادرون على معرفته ، ويبدو لي أن هذه القواعد القليلة تشتمل على أعم مبادئ المعرفة الإنسانية وأهمها» وكرر هذا المعنى بصيغ متنوعة في مختلف كتبه. إن ديكارت بهذه المنهجية الصارمة قد أيقظ أوروبا لخطورة الأحكام الجاهزة والآراء المسبقة ووضع هذه القارة السعيدة على طريق التحقق وفتح لها أبواب العلم ونصب لها سلم الصعود نحو الازدهار وبهذا اعتبره الأوروبيون الأب الفكري لما يعيشونه من ازدهار شامل وهو يلفت النظر إلى أن الاستسلام للأحكام الجاهزة والآراء المسبقة ليس محصوراً بعامة الناس وإنما حتى أعظم المفكرين يقع في حبائلها تلقائياً ما لم يستنفر ذاته لمقاومتها ويعتمد الفحص والنقد والمراجعة والتحليل ومعاودة التحقيق وبهذه الرؤية الناضجة صار العقل الناقد هو حافز النمو ومقوِّض المسلَّمات التلقائية... وما من مفكر عانى معالجة المعنى بغير المألوف أو حاول إبلاغ أفكار غير معتادة أو تصحيح تصورات سائدة أو تعديل مواقف متوارثة إلا جوبه بحواجز الأحكام الجاهزة والآراء المسبقة ، يقول رولان بارت في كتابه (الكتابة في الدرجة الصِّفر): «هنالك عائقٌ كبير يحول دوننا ودراسة المعاني ذاك الذي يُصطلح على تسميته بعائق البداهة» وما يعنيه بارت بالبداهة هنا هو الأحكام الجاهزة والتصورات السائدة والآراء المسبقة وهو يرى أن الإدراك الصحيح مشروطٌ بالإفلات من هذه البداهات التي يتبرمج بها الناس تبرمجاً تلقائياً ثم لا تتعرض هذه البرمجة لأي فحص أو تحليل فهذا الإفلات يمثل المغامرة الفكرية الاستثنائية التي ترتفع بنا إلى: «إدراك ما كان محتجباً ومستتراً وخفيَّاً». إن الأحكام الجاهزة والآراء المسبقة والتصورات المستقرة هي أكبر عائق للتفاهم بين الأفراد والجماعات والأمم وهي المانع الأقوى الذي يمنع انتشار الروح العلمية ويُجهض الجهود الهائلة في التعليم ويستبقيها في مستوى الاجترار ويضمن استمرار أنماط التفكير الخاطئة والأحكام المتسرعة ، ويديم الآراء المتكلّسة ولو استطاعت الإنسانية أن تتغلّب على هذا العائق المستحكم الفظيع لكان هذا التغلب أعظم من تفجير الذرة وغزو الفضاء واكتشاف خريطة الجينوم البشري ومن كل ما توصَّل إليه الإنسان من علوم وما اخترعه من تقنيات وما حققه من إنجازات. إن زلزلة الأحكام المسبقة والبداهات السائدة والآراء الجاهزة والتصورات الخاطئة هو الانتصار الأعظم الذي على الإنسانية أن تسعى إليه وأن توفر له من الاهتمام والدعم والاحتشاد ما يتناسب مع أولويته المطلقة وأهميته القصوى... - 10- بوبكري يكتب...الاستقرار بين الحرية والاستبداد الثلاثاء 23 أغسطس 2016 - 08:52 ( العمق المغربي) محمد بوبكري يلعب الاستقرار دورا مركزيا في حياة المجتمعات، لأنه هو أساس الحياة الجماعية السليمة والآمنة. فمنذ فجر البشرية والإنسان يعمل من أجل الأمن والحريّة والعدالة... وقد كان ضبط العوامل التي تعوق الاستقرار هو المهمة الأساسية التي اضطلع بها الحاكمون عبر التاريخ، كما يشكل، في الآن نفسه، معيارًا مجتمعيا للحكم على كفاءتهم وجدارتهم باحتكار النفوذ والسلطة. أضف إلى ذلك أن التسلٌّط والقمع والإكراه كانوا وسائل لفرض الاستقرار عبر تاريخ البشرية، كما كانت كل مفاوضات الشعوب مع حُكَّامها و"تعاقداتها" معهم تتمحور حول الخضوع للحاكم مقابل حدّ أدنى من العيش الآمن، ولو كان الحكم مستبدّا، فكان على المجتمعات أن تختار بين التناحر بين مختلف قواها ومكوِّناتها وما ينجم عن ذلك من فوضى واضطراب يعرقلان الاستقرار،أو الخضوع لحكم مستبد "قادر" على تحقيق الأمن والاستقرار... لقد سادت هذه المعادلة عبر تاريخ البشرية، لدى مختلف الحضارات، وتم إنتاج أفكار ونظريات عديدة حولها، وصولا إلى ميكافيلي في كتابه "الأمير" وتوماس هوبز في تنظيره لـ "قداسة" الدولة وأولوياتها ومبررات فرض الاستقرار. وظل الاستبداد نهجا لضمان الاستقرار عبر التاريخ، ولم يتم الفصل بينهما إلا مع عصر الأنوار الذي ظهرت فيه نظريات تٌعلي من شأن الفرد وإرادة الشعب، وتدحض تسويغ الحكام للاستبداد بكونه يحقِّق الاستقرار. وقد جاءت فكرة العقد الاجتماعي لـ ج ج روسو ومونتسكيو لتنهي احتكار حكام أوروبا للسلطة، وتنزعها منهم عبر هدم الأسس التي كانت تقوم عليها تلك السلطة المستبدَّة، ما شكَّل ثورة حقيقية في تاريخ الإنسانية، إذ كان من أولوياتها الأساسية تقويض العلاقة القديمة بين الاستقرار والاستبداد... كما أدى ظهور فكرة "الإرادة العامة" وإعلاء قيمة الفرد والشعوب إلى حدوث ثورة تاريخية نقلت الأفراد من "رعايا" للكنيسة وحكام أوروبا آنذاك إلى مواطنين يتمتعون بالأهلية والمساواة والحقوق، ما أفضى إلى انقلاب في الأدوار بين الحكام والمحكومين، إذ أصبح "المواطن" يحتل مركز الاهتمام السياسي ويشكل أساس النظام السياسي، وصار "الحاكم" يخضع لتفويض مؤقت يُحدِّده عقد اجتماعي في فترة زمنية مضبوطة يخدم فيها الحاكم المواطنَ ولا يستبدُّ به. لكن هذا التحوُّل لم يحدث دفعة واحدة، وبدون كلفة؛ فالاستبداد يقاوم التغيير بشراسة مدَّعيا ألا استقرار بدونه. ويفيدنا التاريخ بأن الاستبداد لم يستطع الصمود في وجه رياح الحرية، حيث كان يخسر في كل مرحلة مساحة جديدة. وبدأت الحرية تنتشر وتتسع، فتأكَّد تحقيق الاستقرار مع الحرية. وإذا كان محتملا أن يوجد استقرار في ظل الاستبداد، فإنه عابر ومؤقت، وتكون دواما نهايته دموية، لأنه لا يعالج قضايا المجتمع ولا يحلُّ معضلاته، بل يتصرف وكأنها غير موجودة ويتركها تتراكم وتتفاحش، كما أن "الرَّعية" تخاف من مطالبة المستبِدِّين بحلول لمشكلاتها، فيستولي هؤلاء على ثروات البلاد باستمرار، وينتشر الفساد، وسوء استغلال السلطة والنفوذ بكل أشكالهما، فتنفجر الفوضى، ويتبخر استقرار الاستبداد ويذهب مع الريح... وعلى عكس ذلك، يقوم استقرار الحرية على مواجهة المعضلات المجتمعية بعقلانية وشفافية وحزم، حيث تتم محاربة الفساد ومساءلة المواطنين للحاكمين، كما يتم تطوير المشاريع... أضف إلى ذلك أن الفصل بين السلطات يحول دون هضم المستأثرين بالسلطة والثروة لحقوق الفرد والمجتمع وحرياتهما... يدَّعي المستبدون وجود أديان ومذاهب مختلفة في المجتمع، وطوائف وإثنيات وقبائل وجماعات جاهزة للانقضاض على بعضها البعض. لذلك، يُروِّجون أنه حتى لو كان الاستبداد على حساب حرية الأفراد، فإنه يضبط مٌكَوِّنات المجتمع المتصارعة لخشيتها بطشه، إذ يتم وأد الحروب الأهلية المُحْتَمَلَة في مهدها، ويستتب الاستقرار. ويحدث ذلك طبعا في جوّ من الهلع الدائم من المستبدِّين. . لقد عرف التاريخ تطبيق هذه الفكرة بشكل واسع، لكن يبدو اليوم أنه لم يعد لها أي مفعول، إذ أصبحت ترفضها مختلف المجتمعات المعاصرة، وبدأت تتخلص منها، لأن الاستقرار القائم على قمع مكونات المجتمع المتعادية هو مجرد استقرار عابر، لأنه قائم على استبداد لا يحلّ المشكلات ولا يقضي على أسبابها ولا يستأصلها من جذورها، بل يحافظ عليها عبر إخفائها، وبذلك فهو لا يقوم سوى بتأجيل انفجارها. كما قد يلجأ أحيانا إلى تأجيج الصراعات بين مختلف جماعات المجتمع ومكوناته لشرعنة بقائه. وأحيانا أخرى قد يتحالف الاستبداد مع مجموعة عرقية أو طائفة أو عصبية معينة، ويجزي لها العطاء، فيستأثر بالحكم، مستعديا عليه باقي مكونات المجتمع. ونظرًا لضبط الاستبداد للصراع بالقوة والعنف بين هذه المكونات، فالعلاقات بينها وبينه تصبح هشة وقنبلة موقوتة، كما ينسحب ذلك حتى على العلاقات بينها. عندما يقوم الاستقرار على الحرية، قد ينشب صراع عنيف بين مكونات المجتمع في البداية، لكنه يخفُّ تدريجيا، إذ تعي القوى المتعادية أن الحلَّ يكمن في الاعتراف ببعضها البعض عبر تقديم تنازلات متبادلة، فيُتخلُّص من العنف طوعيا، ويتحقق التعايش والاستقرار. وهذا لا يعني أن الصراع والتنافس بين مكونات المجتمع يختفيان نهائيا، بل يظلان قائمين، لكن بأشكال سلمية وحضارية وأسلوب ديمقراطي. وهكذا يتم تجاوز النظرة التبسيطية التي تعتبر المجتمع كتلة منسجمة ومتناغمة، كما يروِّجُ المستبدِّون الذين يسعون جاهدين إلى ترسيخ نظام سياسي أبوي. فعندما يسود الاعتراف بالصراع والتنافس داخل المجتمع، تتمسك مختلف مكوناته بالحل الديمقراطي لتنظيمه. هكذا يتم تحقيق الاستقرار مع الحرية، وليس على حسابها. ومع هذا النوع من الاستقرار تُصان حقوق الإنسان، وتنشأ الظروف المُفجِّرَة لطاقاته الإبداعية، على عكس الاستبداد الذي يخنق أنفاسه وينزع منه إنسانيته، ويُغَيِّبُه ويفنيه... ومن المؤسف أن نجد اليوم في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من يرَوِّج لوجود تناقض بين الحرية والأمن، وبين الديمقراطية والاستقرار، وكأن الديمقراطية تضر بالاستقرار والحرية تزعزع الأمن، مع أن تجارب مختلف البلدان الديمقراطية تكشف زيف ذلك، إذ تعيش هذه الأخيرة آمنة في ظل الديمقراطية والحريات واحترام كرامة الإنسان... ويدلّ غياب الأمن والاستقرار في جوهره على انعدام الحرية والرغبة في قمع كل صوت مختلف... كما أنه يعني فشل السلطة في إدارة شؤون الدولة. وبالتالي، فإن اعتبار الحرية مزعزعة للاستقرار هو خديعة... فمجتمعات هذه المنطقة ليست ملزمة بالاختيار بين الديمقراطية وبين الاستقرار، بل عليها بالمطالبة بهما معا، والتمسك بهما، ورفض الاختيار بينهما أصلا. ** المصدر عن الحرية والاستبداد ومعنى الاستقرار./ بقلم: د.خالد الحروب ـ 25 juillet 2011, 07:12 http://www.al-ayyam.com/article.aspx?did=171245&Date=
هناك حاجة لنقاش معمق لمقولة الاستقرار وموضعتها في إطار التغيرات الجذرية التي تشهدها المنطقة من منطلق ما تجلبه الثورة من فوضى مؤقتة يستغلها اعداء الثورات. المدخل الأساسي التوافقي هنا هو التأكيد على مركزية الاستقرار في حياة المجتمعات وبكونه الاساس الذي تنبني عليه اية حياة جماعية صحية وآمنة. الاستقرار والأمن والحرية والكرامة والعدالة هي مطمح نضالات الإنسان منذ فجر البشرية. وتحقيق الاستقرار وضبط اي عوامل تخل بأمن المجتمعات والحواضر كان، تاريخيا، هو المهمة التي تقوم بها اية فئة حاكمة، وهو المعيار الذي يحكم المجتمع من خلاله على حاكمية واهلية الحكم واستحقاقه البقاء على رأس السلطة. على مدار حقب البشرية كان هذا الاستقرار، وهو الذي يمثل رأس مال الحكم، يُنجز على الدوام عن طريق جبروت السلطة والقمع والفرض. والمساومة التاريخية التي عقدتها الشعوب مع من يسيطر على الحكم فيها كانت تحوم دوما حول الانصياع للأمر القائم وحكامه ما دامت الحدود الدنيا من العيش الآمن متحققة حتى لو كان ذلك مترافقا مع الاستبداد. قامت هذه المساومة على تجربة كثيفة ومريرة في تواريخ المجتمعات كان عنوانها ضرورة الاختيار بين أمرين يتقاربان في مستوى المرارة: إما الاندراج في صراعات متأبدة وتنافسات بين القوى والمجموعات المتنافسة داخل اي مجتمع بحيث تعم الفوضى وينعدم الاستقرار وتستحيل معه الحياة الآمنة والطبيعية، وإما التسليم لحكم قوي مستبد يحقق الأمن ويقضي على الفوضى. بقيت هذه المعادلة هي المتسيدة في انظمة الحكم السياسي واغتنت بتنظيرات وتسويغات ربما في كل ثقافات وحضارات الإنسانية، من الصينية والهندية إلى الفارسية والعربية والإسلامية وصولا إلى الفكر الغربي مع ميكافيلي في كتابه الامير وتوماس هوبز في تنظيره لأولوية و"قداسة" الدولة ومبررات فرض الاستقرار. على ذلك يمكن القول ان الاستقرار والاستبداد ظلا من اشهر توائم التاريخ وأطولهما عمرا. ولم ينفصل هذ التوأم إلا حديثا في تاريخ البشرية، فمع عصر الانوار انطلقت نظريات جديدة تعلي من إرادة الشعب وترفض فكرة الاستبداد المقيم الذي يفرضه الحاكم بمسوغ تحقيق الاستقرار. جاءت افكار الجمهورية والعقد الاجتماعي مع مونتسكيو وروسو لتنزع من ملوك أوروبا احتكارهم الحكم وتقوض كل الأسس التي قامت عليها، ولتشكل ثورة حقيقية في تاريخ الإنسانية في أوجه عديدة، ومنها وعلى المدى الطويل بداية تفكيك العلاقة القديمة بين الاستقرار والاستبداد. مع أفكار الإرادة العامة واعلاء قيمة الفرد والشعوب بدأت العملية التاريخية المتمثلة في انتقال الأفراد من مرحلة "الرعية" و"الاتباع" كما كان يُنظر إليهم من قبل الكنيسة وملوك اوروبا القرون الوسطى إلى مرحلة المواطنين كاملي الاهلية والحقوق والمساواة. وبدأت بالترافق مع ذلك عملية الانقلاب الهائل في الأدوار حيث تبدل مفهوم وموقع "المواطن" متجها لاحتلال جوهر الاجتماع السياسي ومركز النظام السياسي القائم، وحيث تبدل مفهوم وموقع "الحاكم" كي يصبح مجرد مفوض مؤقت بعقد اجتماعي ذي فترة زمنية محدودة، ووظيفته خدمة المواطن وليس السيطرة عليه او الاستبداد به. لم يحدث هذا الانقلاب دفعة واحدة بطبيعة الحال، او في فترة زمنية قصيرة، او من دون اكلاف باهظة. بل استمر قرونا عدة وما زال قائما وتضمن حروبا دموية مديدة، دينية واقطاعية وملوكية، ذلك ان الاستبداد قاوم ولا يزال يقاوم بشراسة بالغة متدرعا دوما بمقولة انه الوحيد الذي يحقق الاستقرار. لكن على طول تلك القرون كان الاستبداد يخسر ارضا جديدة في كل مرة، وكانت الحرية تتمدد. انتقل الفكر الانساني مدعما بالتجربة التاريخية إلى مرحلة جديدة هي إمكانية تحقيق الاستقرار مع الحرية. استقرار الاستبداد محتمل لكنه مؤقت ونهاياته دموية على الدوام. وسبب ذلك ان آلية الاستبداد تقوم على دفن المعضلات وحشرها تحت السطح والتظاهر بأنها غير موجودة. يتوازى مع ذلك خوف "الرعية"، الافراد شبه العبيد، من مواجهة المُستبد ومطالبته بمواجهة تلك المعضلات التي يقع في جوهرها دوما الاستيلاء على الثروات العامة وانتشار الفساد وتفاقم سرطانات سوء استغلال السلطة بكل انواعها. على العكس من ذلك تشتغل آلية استقرار الحرية على مواجهة تلك المعضلات تحت الشمس ومحاولة حلها. كل فساد يظهر تتسلط عليه الاضواء ويُفضح. الشعب القائم على فكرة المواطنة القانونية والمساواة، اي الأفراد الأحرار، هم من يحاسب الفاسدين والحكام، ومن خلال الفصل بين السلطات يمنعون اي تغول لفئة حاكمة او جماعة مستأثرة بثروة او قوة على حقوق الشعب وحرياته. استقرار الاستبداد يستقوي بمسوغ دائم يقول ان المجتمع، اي مجتمع، فيه مكونات وطوائف وإثنيات واديان وجماعات منفصلة ومتعادية، جاهزة للانقضاض على بعضها البعض فور انزياح قبضة الاستبداد عنها ولو قليلا. لذا فالاستبداد، حتى لو كان على حساب حرية الافراد، يضبط مكونات المجتمع المتصارعة ويقلم اظافرها ويدفعها كي تبقى مرعوبة من بطش النظام القائم. وهكذا يتم قمع الحروب الاهلية المحتملة ويعيش الجميع في استقرار، لكن في جو من الخوف الدائم. الشكل العام لهذه الفكرة وتطبيقاتها التاريخية فيها قدر كبير من الواقعية. لكن مفعولها الإنساني انتهى ولم يعد لها رأس مال حقيقي في العالم المعاصر. فالاستقرار المتحقق من قمع كل مكونات المجتمع المتصارعة في عالم اليوم المعقد والمتداخل هو استقرار موهوم ومؤقت. ذلك ان حقيقة ما يتم لا تتجاوز دفن الخلافات واسباب الصراع تحت السطح وتأجيل انفجارها. لا يعمل الاستبداد خلال حقب الاستقرار التي حققها على إبطال مفاعيل الصراعات بين الجماعات المتنافسة في المجتمع، بل يشتغل في الغالب الاعم على الحفاظ عليها واحيانا تأجيجها لأن وجودها يبرر شرعية بقاء الاستبداد ذاته. واحيانا كثيرة اخرى يتحالف الاستبداد مع جماعة، او طائفة، او عصبية، تكون هي العمود الفقري الذي يستند إليه مستعديا بقية مكونات المجتمع مستأثرا بالحكم من ناحية ومانحا المزايا والافضلية للجماعة المُتحالف معها. وهكذا فإن العلاقات بين المكونات المتنافسة في مجتمع الاستبداد تقوم على العداء المبطن والتربص الدائم المقموع بآلية الضغط التي يفرضها الحكم. وهي بهذا تكون علاقات هشة قائمة على انتظار الانفجار القادم. في الاستقرار المبني على الحرية تتصارع القوى المتنافسة داخل المجتمع بعنف شديد اولا، قد يتخذ اشكالا دموية، ثم يخف تدريجيا إلى ان تكتشف هذه القوى ان لا حل امامها سوى التعايش فيما بينها، والوصول إلى معادلات مساومية وتنازلات متبادلة. عندها يتم تقليم الزوايا الحادة والمتوترة والعنيفة لدى كل جماعة، او طائفة، او اثنية، بشكل طوعي وقناعي وتتجه الكتل الاساسية والكبرى للجماعات نحو الوسط المعتدل في النظرة لنفسها وللجماعات الاخرى. يبقى الصراع والتنافس في ما بينها قائما لكنه يتحول إلى صراع سلمي آليات التعبير عنه ديموقراطية وليست عنفية. وهكذا يتم الاعتراف بالصراعات والتنافسات والتخلي عن النظرة الطفلية الساذجة للمجتمع بأنه منسجم ومتناغم كأنه عائلة متحابة، وهي نظرة تروجها الانظمة المستبدة التي تستند إلى ترسيخ الابوية السياسية في الحكم والمجتمع. يؤدي الاعتراف بالصراعات والتنافسات داخل المجتمع إلى صلابة في التمسك بالحل الديموقراطي لتنظيمها، ليس لأنه خال من النواقص، بل لأنه الافضل نسبيا بين كل الحلول الاخرى التي وصلت إليها البشرية. في مثل هذه الحالة يتم انجاز الاستقرار ليس على حساب الحرية بل معها ومعهما تُصان كرامة الفرد المواطن وتنطلق ابداعاته وطاقاته، على عكس استقرار الاستبداد. - 11- بوبكري يكتب.. الوعي الزائف يحول دون الإبداع والتحوُّل والتقدم الثلاثاء 30 أغسطس 2016 - 08:42 ( العمق المغربي) محمد بوبكري يُجمِع المختصون على أن الإنسان يتشرَّب تلقائيا ما يتلقاه من محيطه الثقافي والاجتماعي والسياسي منذ طفولته المبكرة، ما يسهم بشكل أساسي في تكوُّن وعيه وتحديد نمط تفكيره ومبررات مواقفه وأسلوب حياته... لكن صاحب هذا الوعي الفردي لا يتحقق منه، لأنه لا يُخضِعه لأي فحص، أو تحليل، أو نقد... وقد يرافقه ذلك عبر حياته، حيث لا يعي الإنسان ثقافة مجتمعه التي تؤطِّره، ما يشكل مأساة حقيقية له، لأنه يكون خاضعا للوعي الزائف الذي شَبَّ عليه واعتمده في النظر إلى الحياة والتصرف فيها دون تفحٌّصه، ولا فهم طبيعته، ولا كيفية اشتغاله. وتكمن الخطورة في أن هذا الوعي يحول، بطبيعته، دون أن يُخضِعَه صاحبه للنقد، فيبقى الإنسانُ مأسورا داخله وغير واع بعيوبه وخرافاته، بل إنه قد يحيطه بهالة من القدسية...!!!. لذلك تظل حقائق العِلم التي يكتسبها بعد ذلك من المدرسة مجرد حقائق طارئة، لأنها جاءت بعد تشكّل العقل البشري منذ الطفولة المبكرة من لدن ثقافة المجتمع ووعيه الزائف الذي لم يُخضعه الإنسان لأي تفكير، فصار من الصعب جدا أن تؤثر فيه هذه الحقائق، فيبقى نطاقُ فعلها ضئيلا جدا ومحصورا، بشكل خطِّي، في المجالات العلمية دون العملية، كأنها ضرب من عبادة الأوثان. وبذلك يمكن أن يكون الشخصُ طبيبا ماهرا أو مهندسا مقتدرا... لكنه عندما يخرج من مجال تخصُّصه الضيق يتكلم ويتصرف وفق ما تلقاه في تنشئته الاجتماعية أيام كان طفلا، فتطفو رواسب ثقافة مجتمعه تلقائيا. ويُعتبر الفيلسوف سقراط من أسبق الفلاسفة اكتشافاً لزيف الوعي السائد، كما عبَّر "كارل ماركس" هو الآخر عن ذلك بوضوح، بمقولته الشهيرة: "ليس وعي الناس هو الذي يحدِّد وجودهم، بل على العكس من ذلك إن الوجود الاجتماعي هو الذي يحدِّد وعيهم". وقد ألهمت شروحاته وتفسيرات غيره لهذه المقولة فلاسفة وأدباء وباحثين في مختلف حقول المعرفة. وقبل ذلك، أعلن "سبينوزا" أن أغلب ما يعتقد الناس أنه حقائق بديهية هو مجرد وعي زائف، بل إنه أيضا تبريرات وإيديولوجيا، ما يعني أن وعي الإنسان لا ينهض على تمحيص فكره وسلوكاته الرئيسية ونقد بواعثهما وأسبابهما، وإنما هو مملوك لثقافة مجتمعه الزائفة، حيث ينساب تفكيره وسلوكه تلقائيا من وعيه الزائف، وذلك حتى عندما يتوهَّم أنه يتصرف بوعيه واختياره. وقد أكد هذا المعنى بوضوح اكتشاف "فرويد" لللاشعور، حيثُ توصَّل إلى أنه هو محرك سلوك الإنسان. أما الوعي التلقائي السطحي، فتأثيره محدود جدا. ويعود ذلك إلى كونه وعيا غير مستمَد من حقائق موضوعية، حيث لا يٌكَوِّنٌه الفرد ذاتيا عبر البحث والدراسة والتحليل، وإنما يتشبَّع به باكرا من بيئته الاجتماعية والثقافية بعفوية وبدون تمحيص، ما يعني أن العادات الذهنية والسلوكية التي يتعود عليها الإنسان منذ صغره قد تتحوَّل غالبا إلى غرائز. تختلف أنماط الوعي لدى الأفراد والمجتمعات باختلاف الثقافات. وتتوارث الأجيال في كل الثقافات وعياً زائفا تكوَّن لديها تلقائيا دون أية مراجعة نقدية، فاختلطت فيه الحقائق بتضارب الأهواء وتراكم الأخطاء وغموض التصورات الزائفة ومخلفات الخصومات والصراعات والحروب وأحقادها ومغالطاتها. وهذا ما جعل العِلْم في المجتمعات العربية الإسلامية لا يؤثر بعمق في نمط تفكير الناس وتصرفاتهم وسلوكاتهم، حيث يتوجسون من التغيير خيفة ويرفضون إخضاع أي جانب من جوانب الحياة للنقد والمساءلة العقلانية,,. يتضح ممَّا سبق أنَّ الإنسان يخضع تلقائيا لنوع من البرمجة الثقافية التي قد يستطيع التخلُّص منها نسبيا. ويحدث ذلك عندما يستجمع قدراته العقلية والوجدانية خلال بحث أو مراجعة نقدية، لكنه بمجرد ما يعود إلى حياته العادية قد يرتمي مجدَّدا في أحضان الثقافة التي تشبَّع بها في صغره، فتتحكم فيه ويبدو كدُمية متحركة بين يديها. أضف إلى ذلك أن الفرد قد لا يستطيع التخلُّص كلِّيا من تحيُّزاته التلقائية حتى في البحث العلمي. لذلك، فهو لا يتمكن من تحجيم تأثيرها ما لم يُدرك طبيعتها وسيطرتها وآلياتها وكيفية اشتغالها، ويتخذ كل الاحتياطات من أجل توفير شروط القطيعة معها... لذلك، لا يوجد وعي إنساني عام ثابت ومطلق، بل إننا نكون في كل مجتمع أمام وعي من أنواع الوعي، لأن لكل ثقافة وعيها، وهي تعتقد أنّ وعيها هو السليم، وما عداه مجرد وعي زائف!! فالوعي السائد في المجتمع يخدع أفراده بحضوره الكثيف وضغطه وجاهزيته، ويوهمهم بأنه الوعي الصائب. وهذا ما يستوجب انكباب البحثُ على التعرف على نوع الوعي السائد في المجتمع، حيث لا يتأتى ذلك إلا بمعرفة الثقافة السائدة فيه وتاريخه وأوضاعه الاجتماعية والسياسية التي يتلقى الإنسانُ تنشئته في ظلها. نلاحظ اليوم أن العلوم والأفكار والتقنيات التي ازدهرت في البلدان المتقدمة متاحة لكل الشعوب، لكن مجتمعات منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لم تستطع اكتسابها واعتماد مفاهيمها ومنطقها ومناهجها لأنها مسكونة بالوعي الزائف الذي يحول دون إدراكها للتحولات النوعية التي عرفتها الحضارة الإنسانية، ما جعلها عاجزة عن الاستجابة لحقائق العلم ومفاهيمه ومناهجه ومتطلبات روح العصر... ويمكن تفسير البون الشاسع بين المجتمعات المتقدمة والمجتمعات العربية الإسلامية بالمساحة الشاسعة التي يحتلها الوعي الزائف في ثقافة هذه المجتمعات الأخيرة. وتكمن خطورة هذا الوعي الزائف في أنه قد يبقى مهيمنا على فكر الأفراد وسلوكهم طوال حياتهم، كما أنه يُحَوِّل المعلومات ويقلب المعاني، ويُفقد الأسماء والكلمات دلالاتها ومعانيها، فيزداد رسوخًا، ويتقوى بما يحوزه من معلومات ومهارات من نظام التعليم الرسمي الذي لا يمكِّن المتعلِّم من بناء معارفه والقدرة على توظيف المفاهيم لبناء معارف أخرى حول ظواهر أخرى. ويستمر هذا الوعي الزائف في إعادة إنتاج ذاته، ولا يمكن التخلص من توارثه إلا باكتساب القدرة على ممارسة الفكر النقدي ونشره وتحويله إلى عنصر أساسي في أسلوب الحياة. وتؤكد ذلك دروس تاريخ المجتمعات التي تجاوزت معيقات النهوض. فالثقافات المُغلَقة التي يهيمن عليها الوعي الزائف تُراوح مكانها، ويضربها الجفاف الفكري، ما يجعلها تتكلس وتبقى خارج التاريخ... ولن تنفتح إلا بالفكر النقدي. أما المعلومات التي غالبا ما يراكمها الأفراد عن طريق التعليم النظامي، فلا يكون لها وحدها أي تأثير مهما تراكمت وتنوعت، لأنها تبقى خارج بنية ثقافة المجتمع وخارج بنية ذهنية الفرد ما لم يتمكن من إحداث قطيعة مع الوعي الزائف لمجتمعه والانخراط في بناء معارفه الخاصة... **المصدر: تلقائية تكوين الوعي الزائف الأحد 20 صفر 1430هـ - 15 فبراير2009م - الرياض.العدد 14846 إبراهيم البليهي كل وعي لم يتم التحقق منه هو وعي زائف ومع ذلك يكون الناس مغتبطين بهذا الوعي ومن هنا تأتي الخطورة فليس أسوأ على الأفراد والمجتمعات والإنسانية أجمع من خداع الوعي الزائف لأنه خداع محجوب بالذات عن الذات فهي مغتبطة به ومستسلمة له وفخورة بانتمائها إليه إن الذات معجونة به مما يمنع رؤيتها لزيفه إن الثقافات في كل المجتمعات سابقة لوجود الأفراد لذلك فإن الوعي الزائف يباشر في تشكيل عقول وعواطف وأخلاق واهتمامات الأطفال منذ الولادة ويستمر يتعهد هذا التشكيل حتى الممات فيضع الحواجز النفسية ويقيم الحصون والسدود أمام العقول ويحول بينها وبين استقبال أي فكر مغاير فكل الأفراد يتبرمجون بالوعي الزائف تلقائيا في فترة الطفولة فإذا كبروا لا ينظرون للأمور إلا من خلاله لذلك فإن كل فرد في أي مجتمع لا يشك في أصالة وعيه بل يأخذ هذه الأصالة المتوهَّمة كمسلَّمة بديهية لا تحتاج إلى أي بحث أو فحص أو مراجعة في كل المجتمعات إن وعيه في نظره حاضر جاهز متحفز فكيف يشك فيه وهو لا يفكر إلا من خلاله؟! وكيف يقبل الوعي ذاته أن يكون محلاً للشك أو موضوعاً للنقاش والدراسة والتحليل والتعديل؟!!! إن الوعي الزائف يحمي نفسه بهذا الحضور الخادع وبالغبطة البليدة فيتقوقع الفرد داخل وعيه الزائف فيغلق كل الأبواب ويوصد جميع النوافذ فلا ينفذ إليه أي ضوء ولا يدخل إلى حماه أي موقظ وبهذا التحصين القوي المتحفز يستمر توارث الوعي الزائف.. لذلك فإن أكثر الناس لم يحاولوا ولن يحاولوا أن يضعوا وعيهم موضع التأمل والبحث والمراجعة من أجل أن يفهموا طبيعته ومصدره وعناصره وموضع تخزينه ومراحل تكوينه وكيفية تبلوره وحدود فاعليته ولم يسألوا أنفسهم: ما هو الوعي؟ وكيف يتكوَّن؟ وهل هو وعي يتطابق مع الحقائق أم يخالفها؟ وهل للأفراد أي دور في تكوينه؟ وما هو موقف الفرد من الوعي الذي تبرمج به في طفولته؟! وهل هو يعي هذا الاختطاف المبكر؟! وهل الوعي متماثل عند كل الأفراد في جميع الأمم؟ أم أن لكل أمة وعيها النوعي المختلف عن أنواع الوعي في الأمم الأخرى وهل يتماثل وعي الأفراد في كل أمة أم لكل فرد وداخل الأمة وعي يخصُّه حسب ظروف طفولته وأوضاع حياته ومستوى ذكائه وأنواع خبراته؟! وهل يبقى وعي الفرد محكوماً بالنسق السائد وتظل تنويعات الوعي الفردي محكومة بهذا النسق أم لكل فرد وعيه الفريد والمستقل؟!! وكذلك الشأن في وعي المجتمع ككل وكيف استمر التناسل الثقافي ثابتا خلال العصور فصار كل مجتمع مأسوراً بالوعي الموروث فيبقى الوعي الزائف سائداً فيه مهما طال الزمن؟ إن الوعي في نظر أكثر الناس لا يتطلب مثل هذا الاهتمام ولا هذه التساؤلات فهو شديد الحضور دائماً فلا يحتاج إلى تعريف ولكنهم لو اطلعوا على الجدل الذي دار حوله ومازال يدور بين أعظم العقول من الفلاسفة والعلماء والباحثين لأدركوا أنه مفهوم شديد الغموض وأن قابليات الإنسان الفارغة المطواعة في الطفولة تتشكل بأشكال مختلفة لا نهاية لأنواعها حسب تنوع البيئات وأنه بالغ التعقيد وأن فهمه عظيم الأهمية للأفراد والمجتمعات وللإنسانية كلها فالعالم كله كان ومازال يعاني من تبادل الكره ومن شدة التنافر وليس ذلك إلا بسبب تنويعات الوعي الزائف.. إن الناس ينخدعون بوعيهم السطحي التلقائي المعيشي فيتصورون أنهم يعيشون بوعي موضوعي خالص يمكّنهم من معرفة الحقائق كما مكّنهم من معايشة الواقع!! وتوهمهم تصرفاتهم التلقائية المعتادة بأنهم يملكون وعياً حقيقياً ناضجاً وممحَّصاً وموضوعياً وأنهم شيدوا هذا الوعي بأنفسهم وبمحض اختيارهم وأن أحكامهم وآراءهم ومواقفهم وتصرفاتهم وسلوكهم هي نتاج محاكمات عقلية محضة هم توصلوا إليها في وقتها وتغيب عنهم غياباً كاملاً حقيقة أن كل الأفراد في كافة المجتمعات ذات الثقافات المختلفة رغم تناقضاتها في الكثير من تصوراتها وعقائدها وتاريخها وقيمها ومع كل هذا التناقض في المعايير والرؤى فإن الأفراد في كل منها يملكون هذا الوعي التلقائي السطحي المعيشي ويعيشون الوهم نفسه بأنهم قد بنوا وعيهم بأنفسهم وأنهم قد اعتقدوا ما هم عليه بمحض اختيارهم ولا يخطر على بال أحدهم أن كل عناصر ومحتويات هذا الوعي قد تبرمجوا بها في طفولتهم وأنه لم يطرأ في كبرهم على تلك البرمجة إلا ما يزيدها رسوخاً وتفريغاً ويجهلون أنهم لا يرون أي شيء إلا بهذه البرمجة فتفكيرهم وسلوكهم ما هو إلا انسياب تلقائي من البرمجة المستقرة وأنها في أفضل الحالات نتاج معايير ثقافية موروثة منحازة تم التبرمج بها منذ أن اكتسبوا اللغة التي يتكلمونها ولا يدركون أن هذا الوعي الذي يعيشون به هو نوع خاص من أنواع الوعي وأن اختلاف وعيهم عن وعي أهل الثقافات الأخرى مماثل لاختلاف لغتهم وأنه لا نهاية للتنوع في الوعي مثلما أنه لا حدود لتنوع اللغات وأن وعيهم نتاج تلقائي لنشأتهم في بيئة معينة وأنهم امتصوا مكوّناته ومعاييره ومنطقه وبداهاته من هذه البيئة في طفولتهم وأنهم لو نشأوا في بيئة أخرى لكانوا بوعي مختلف ويتكلمون لغة مختلفة ويدينون بدين مختلف ولهم طريقة تفكير مختلفة ومنظومة قيم مغايرة وأسلوب حياة مختلف ولديهم قناعات وتصورات وبداهات وعواطف وأخلاق مختلفة.. إن أشد الفترات حسماً في تحديد نوع الوعي الذي سيعيش به الفرد هي فترة السنوات الأولى من طفولته إنه في هذه الفترة المبكرة من حياته يمتص المؤثرات امتصاصاً تلقائياً ويتشبع بها بشكل عفوي فيتكون وعيه بما هو مهيمن في البيئة أياً كان نوع ومستوى هذا المهيمن إن السائد المألوف في أي مجتمع هو الذي يحدد للفرد نوع وعيه وهو الذي يفصِّل له ماذا يحب وماذا يكره وماذا يقبل وماذا يرفض وماذا يستحسن وماذا يستهجن ومتى يأمن ومتى يخاف وما هي المباحات وما هي المحظورات وما هي مصادر الفخر التي يتمثلها تلقائياً في بيئته وما هي الأمور التي تُعاب في مجتمعه وما هي مرجعياته ومعاييره وحوافزه وأدواته للفهم والتصرف والسلوك ومن هم أعداء الأمة ومن هم أصدقاؤها إنه يتشرّب من مجتمعه كل ذلك تشرُّباً تلقائياً فيجري منه مجرى الدم ويسري فيه سريان الحياة إنه ينشأ على التعاطف مع ما يتعاطف معه مجتمعه أو النفور تلقائياً فيما ينفر منه المجتمع إنه لا يحتاج إلى أن يدرس أو يبحث أو يتعلم ليدرك السلوك المرغوب والمستحسن في البيئة والسلوك المعاب والمستهجن وإنما هو ينشأ على ذلك منذ الطفولة.. إن الإنسان يتطبع تطبعاً كاملاً بما يمتصه تلقائياً من المحيط الاجتماعي والسياسي والثقافي والطبيعي ويحصل هذا الامتصاص والتشرب والتطبع في فترة الطفولة المبكرة وبهذا يتكون وعيه ويتحدد نمط تفكيره إن تكوين الوعي الفردي في أي مجتمع لا يمر بأية غربلة أو أي فحص أو أية مراجعة إن التنشئة تحدد للأفراد خياراتهم ونمط تفكيرهم ومعايير أحكامهم واتجاه آرائهم ومبررات مواقفهم وأسلوب حياتهم بكل التفاصيل وبهذا يكون الوعي محدداً تحديداً صارماً بالامتصاص التلقائي من البيئة وبالتدجين المتواصل خلال مراحل حياة الفرد من المهد إلى اللحد ولكن الفرد لا يعي هذا التحديد وهذه البرمجة الشاملة ومن هنا تأتي المأساة لأن الإنسان يصير مملوكاً لنوع من الوعي قد تبرمج به في طفولته وقد يكون هذا الوعي زائفاً فلا يتقبل بعد أن يكبر تعريضه للنقد ولا يخطر على باله أن يضعه موضع المساءلة والفحص والتحليل فيبقى مأسوراً به ومدافعاً عنه ومغتبطاً به فينغلق عقله عن غيره حتى لو كان قد تبرمج بأشد الثقافات عفونة وسخفاً وتخريفاً كما في الوثنيات أو عبادة الشيطان أو تقديس البقر!!! أو أي نوع من أنواع الوعي الزائف التي تهيمن على الحياة الإنسانية أما حقائق العلم الممحصة فهي حقائق طارئة جاءت متأخرة تأخراً شديداً بعد أن تشكل العقل البشري بمختلف الثقافات غير الممحصة فصار صعباً غاية الصعوبة أن تؤثر فيه الحقائق لذلك فإن تأثيرها ما زال محدوداً بالمجاملات العلمية فقط فعابد الوثن قد يكون طبيباً ماهراً أو مهندساً مبدعاً لكنه حين يخرج من النطاق المهني الضيق تستعيده برمجة الطفولة لتحركه تلقائياً في كل جوانب تفكيره وسلوكه.. إن الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو حين أكد في منتصف القرن الثامن عشر بأن مؤسسات المجتمع هي التي تكوِّن وعي البشر فإنما قصد أن الأفراد تصاغ عقولهم وعواطفهم وأخلاقهم وتحدد منظومة قيمهم وأنواع اهتماماتهم وأسلوب حياتهم ونمط تفكيرهم بواسطة مؤسسات المجتمع وكافة المعطيات التلقائية التي تزخر بها البيئة ويتشكل بها الأفراد إن مونتسكيو حين أكد ذلك فإنه إنما يسير على نهج سقراط الذي كان من أسبق الفلاسفة اكتشافاً لزيف الوعي السائد.. وبعد قرن التقط كارل ماركس هذه الفكرة عن مونتسكيو وبنى عليها فلسفته في التاريخ والسياسة والاجتماع والاقتصاد والتنمية والتغيير وعبَّر عنها بوضوح أكثر في مقولته الشهيرة: «ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم بل على العكس من ذلك إن الوجود الاجتماعي هو الذي يحدد وعي البشر» وقد شرح هذه المقولة بإسهاب في مؤلفاته العديدة كما نالت شروحاً واسعة وتعليقات متنوعة من الفلاسفة والأدباء والكتاب والباحثين والدارسين وعلماء الاجتماع وعلماء الانثروبولوجيا الثقافية حتى بات هذا النص القصير من أكثر النصوص تداولاً في مختلف الآداب والعلوم الاجتماعية والإنسانية. وقبل مونتسكيو كان الفيلسوف الهولندي سبينوزا قد أعلن بأن معظم ما يعتقد الناس أنه حقائق بديهية ليس سوى وعي زائف إنه أيديولوجيا وتبريرات أي أن بواعث السلوك الإنساني الرئيسية الحقيقية لا يكون الإنسان واعياً لها وعي تحقّق ومعرفة وعلم وإنما هو مبرمج بها وينساب منها التفكير والسلوك انسياباً تلقائياً حتى وإن توهَّم انه يتصرف بمحض وعيه واختياره ثم جاء فرويد ليكتشف اللاوعي الذي يُسَيِّر الإنسان تلقائياً وليؤكد هذا المعنى بوضوح أشد وليعلن بأن سلوك الإنسان يحركه اللاوعي أما الوعي التلقائي الظاهر أو السطحي فمحدود التأثير لسببين: السبب الأول انه ليس وعياً مستمداً من الحقائق الموضوعية فلم يكوِّنه الفرد بنفسه بالبحث والدراسة والتأمل والغربلة وإنما هو وعي امتصه وتشبّع به عفوياً منذ طفولته فهو وعي مشروط حقنته به البيئة الاجتماعية والسياسية والثقافية حقناً تلقائياً فهو وعي تلقائي لم يخضع لأي تحليل أو فحص أو تمحيص إنه أشبه ما يكون بالانسياب الغريزي فالعادات الذهنية والسلوكية هي غرائز بشرية مكتسبة.. إن أنماط الوعي لدى الأفراد كما لدى المجتمعات تختلف باختلاف الثقافات فما يتبرمج به أي فرد في أي مجتمع هو نمط من أنماط الوعي المختلفة التي تنتجها الثقافات المتنوعة وهي في الغالب أنماطٌ من الوعي الزائف لأن الثقافات لم تتكوَّن عن طريق البحث العلمي القائم على الشك والفحص والتحليل والاختبار والتحقق وإنما تكونت تلقائياً فالأجيال في كل الثقافات تتوارث وعياً قد تكوّن تلقائياً فاختلطت فيه الحقائق بتضارب الأهواء وركام الأخطاء وظلال التصورات ونتائج الصراعات وأحقاد الحروب ومغالطات الخصومات ومماحكات التحيزات ولم تحصل لها أية مراجعة موضوعية بمعايير العلم الصارمة الدقيقة فالعلم حتى في هذا العصر ما زال نشاطاً استثنائياً خاصاً وليس له تأثير كبير على طريقة تفكير الناس خصوصاً في الثقافات المغلقة التي تتوجس من التغيير وتنفر من النقد ولم تَعْتَدْ على المساءلات العقلانية الموضوعية في أي جانب من جوانب الحياة. أما السبب الثاني لمحدودية تأثير الوعي السطحي الظاهر فهو أن الذي يلاحظه الإنسان من نفسه ويباشر به شؤون حياته ليس إلا رأس جبل الجليد الغارق في بحر الخافية أما المحرك الحقيقي فهو اللاوعي الذي يسيِّر الإنسان انسياباً بشكل تلقائي مثلما أنه امتصه وتشربته نفسه بشكل تلقائي أيضاً فالإنسان في الغالب كائن مبرمج تلقائياً ولا يخرج الفرد عن هذه التلقائية خروجاً نسبياً إلا إذا استجمع كل قدراته العقلية والوجدانية أثناء بحث علمي أو مراجعة نقدية استثنائية ثم ما أن يعود إلى حياته العادية حتى تستلمه وتستعيده البرمجة التلقائية فتتحكم به. إن الفرد حتى في البحث العلمي لا يتخلص من تحيزاته التلقائية لذلك لا ينجح في تقليل تأثيرها إلا إذا كان يدرك سيطرتها فيأخذ حذره منها ويلتزم التزاماً صارماً بشروط الموضوعية. لذلك فإننا حين نتحدث عن الوعي فلا بد أن ندرك أننا لسنا أمام شيء محدد قابل للتعريف الجامع فلا يوجد وعي إنساني عام بشكل مطلق قابل للوصف الثابت بل نحن في كل مجتمع نكون أمام نوع من أنواع الوعي لأن الوعي يتنوع بتنوع الثقافات ولكن كل ثقافة ترى أنها تمثل الوعي الصحيح أما أنواع الوعي الأخرى السائدة في الأمم المختلفة فكلها في نظرها أنواع زائفة من الوعي!! فالوعي السائد في أي مجتمع يخدع أهله بحضوره وجاهزيته ويوهم أنه وعي راشد لذلك فإن البحث ينبغي أن يتجه دائماً للتعرف على نوع الوعي السائد في هذا المجتمع أو ذاك وبهذا التحديد يمكن التعرف على وعي الفرد في أي مجتمع استنتاجاً من معرفة الثقافة السائدة التي تبرمج بها. إن لكل أمة وعياً خاصاً بها هو نتاج ثقافتها وتاريخها ووضعها الاجتماعي والسياسي ومن هنا جاء هذا التفاوت الشديد بين أوضاع المجتمعات صعوداً أو هبوطاً فالعلوم والأفكار والمهارات والتقنيات التي حققتها المجتمعات المزدهرة متاحة لكل الشعوب لكن المجتمعات المتخلفة لم تستطع أن تستفيد منها لأنها مأسورة بأنواع من الوعي الزائف يصرفها عن إدراك التغيرات النوعية التي طرأت على الحضارة الإنسانية ويحول بينها وبين الاستجابة لحقائق العلم ويعميها عن متطلبات العصر. إن استمرار تخلف الكثير من المجتمعات ومنها المجتمعات العربية رغم توفر الإمكانات الهائلة يفضح المساحة الشاسعة التي يحتلها الوعي الزائف في الثقافات البشرية. إن الوعي الزائف الذي يتبرمج به الأطفال في طفولتهم في أي مجتمع يبقى مهيمناً عليهم طول حياتهم ولا تجديهم مواصلة التعليم النظامي مهما حملوا من شهادات من أرقى الجامعات العالمية فالوعي الزائف تتحوّر به المعلومات وتنقلب به المعاني وتفقد الأسماء دلالاتها فيزداد الوعي الزائف رسوخاً ويستقوي بما يحوزه من معلومات ومهارات. إن الإنسان يولد بقابليات مفتوحة ومطواعة فتتبرمج هذه القابليات بالوعي السائد في البيئة مهما كان نوع ومستوى واتجاه هذا الوعي. إن الأسبق من المؤثرات والمعلومات والخبرات هو الذي يحتل القابليات المفتوحة الفارغة في الطفل فإذا كانت البيئة يغلب عليها الوعي الزائف فهم يتشرَّبون هذا الوهم امتصاصاً تلقائياً من الوسط الذي ينشأون فيه. إن كل الأجيال في كل المجتمعات تتوارث الوعي السائد ويختلف نوع هذا الوعي باختلاف الثقافات فإذا كان وعياً زائفاً فإن هذا الوعي الزائف يستمر يعيد إنتاج ذاته جيلاً بعد جيل ولا يخرج المجتمع من هذا التوارث التلقائي للوعي الزائف سوى التعرف على الفكر النقدي والسماح لهذا الفكر بالانتشار والتوطن والفاعلية واعتياد الناس عليه وممارسته ليصبح عنصراً أساسياً من أسلوب حياتهم. إن كل تجارب الشعوب التي تجاوزت موانع النهوض وبارحت خنادق التخلف تؤكد هذا الشرط المبدئي. إن الدوران في ذات المواقع والاستمرار في نفس المسارات وهيمنة العطالة هي الأصل في كل الثقافات ويؤكد التاريخ في الماضي وتجارب الشعوب في الحاضر أن كل المجتمعات تظل تدور في دائرة مغلقة حتى ينتشلها الفكر النقدي من هذا الدوران العقيم ومن هنا بقيت معظم شعوب الأرض متخلفة رغم توفر العلوم وتعميم التعليم وفيض الأفكار وتجسيد عوامل الازدهار في تجارب الشعوب الناهضة لأن الثقافات المغلقة ذات بنى موصدة فلا تنفتح إلا بالفكر النقدي أما المعلومات وحدها فليس لها أي تأثير مهما تراكمت وتنوعت إنها تبقى خارج البنية الثقافية للمجتمع وخارج البنية الذهنية للفرد فلا يتأثر بها المجتمع ولا يتأثر بها الفرد إلا في حدود المتوفر من الفكر النقدي. - 12- بوبكري يكتب: لا تحوُّل ديمقراطي بدون تعدُّدِية حزبية الثلاثاء 5 أبريل 2016 - 15:19 ( العمق المغربي) محمد بوبكري لا يحدث التحوُّل الديمقراطي بشكل تلقائي، كما لا يتم لاقتناع السلطات بالديمقراطية، بل غالبا ما يكون نتيجة ضغط سياسي وشعبي. وتعتبر التعدُّدية السياسية أحد الأركان الأساسية للتحوُّل الديمقراطي، إذ يستحيل حدوث هذا النوع من التحوُّل بدون وجود تعدُّدية حزبية حقيقية قادرة على القيام بتعبئة شعبية واسعة، لأنَّ الديمقراطية هي امتلاك الشعب حق اختيار حُكَّامه بصفة دورية، وتغييرهم عبر انتخابات ديمقراطية. ويقتضي ذلك أن يختار الشعب مُمَثليه في المؤسسات المنتخَبَةِ على أساس برامج سياسية متعدِّدة... وإذا كانت الأحزاب السياسية عاجزة عن تطوير بدائل وبرامج سياسية متعدِّدة تستجيب لمطالب الوطن وتطلعات المجتمع وتدافع عن مصالح الفئات الاجتماعية التي تمثلها، فلن يكون هناك تداول سلمي للسلطة. ونظرًا لكون التحوُّل الديمقراطي لا يحدث إلا عبر ضغط سياسي شعبي تقوده القوى الحيَّة، فإنه لا يمكن لهذا الضغط أن يؤدي إلى تغيير ديمقراطي ملموس إلا إذا تم عبر أحزاب قادرة على تأطير وتعبئة جماهيريين من أجل تحقيق برامجها ومطالبها... تؤكد التجربة المغربية أن شعار الانتقال الديمقراطي كان مطروحا على الأقل منذ بداية ستينيات القرن الماضي، إذ تعدَّدت أشكال المطالبة به، بل تشكَّلت "تكتلات" بين بعض الأحزاب من أجل المطالبة بإصلاحات ديمقراطية. لكن لم تتم الاستجابة لها، كما أن هذه "التكتلات الحزبية" من أجل بلوغ ذلك الهدف لم تكن قائمة على أسس صلبة فكرا وتنظيما، بل كانت عابرة. ويكمن ضعف التعدُّدية الحزبية اليوم في كونها تضم "أحزابا"غالبا ما لا تتجاوز أنشطتها حدود مقراتها، وإصدار صحيفة ورقية أو إلكترونية، وعقد لقاءات موسمية، هنا أو هناك، يشارك فيها عدد محدود من الأفراد. لقد تشكلت في السنين الأخيرة "أحزاب" سياسية عديدة، وبدأت تظهر إرهاصات تؤشر على احتمال تقليص نسبي للقيود المفروضة على الحركة الجماهيرية، إذ صار في "إمكان" "الأحزاب" أن تتصل بالمجتمع وتنظم بعض المظاهرات والمسيرات و"تشارك" في الانتخابات... لكن، وبالرغم من تكاثر الأحزاب، فالملاحظ أنها لازالت عاجزة عن التأطير وامتلاك القدرة الفكرية والسياسية والتنظيمية على القيام بعملية التحوُّل الديمقراطي، ما جعلها غير قادرة على التحوُّل إلى قوة سياسية جماهيرية مؤثرة. ونظرًا لعدم امتلاك الأحزاب في بلادنا لأي مشروع أو برنامج، فإنها تبقى عديمة الفعل والفعالية. كما أن زعاماتها متشابهة، حيث لا تفكر إلا في الاستفادة من الريع ولا تعمل إلا لنيله، وبذلك تحوَّلت الممارسة السياسية في زمننا هذا إلى مجرد تجارة منظَّمة. ويدل استشراء هذه الظاهرة على غياب الديمقراطية داخل الأحزاب وخارجها، بل إنه يتعارض معها ومع وجود الأحزاب ذاتها. وبذلك، آل بنا الأمر إلى أننا نجد أنفسنا أمام زعامات متشابهة عقلية وسلوكا، وفاقدة لاستقلاليتها... ومن مُحِيَّت ذاتيته لا يكون سوى آلة، أو مجرد شيء بين سائر الأشياء. كما أنه لا يشعر بمعاني الحرية والإرادة والاستقلال. وهذا ما يفسر انعدام إرادة التحوُّل الديمقراطي لدى هذه الزعامات، ويدل على أن أيًّا منها لا يمتلك أداة تنظيمية فعالة قادرة على تأطير المجتمع بأفكار الحزب ومشروعه السياسي، وتحركه للانخراط في العمل من أجل التغيير بقيادة الحزب. وإذا كان هذا التنظيم الحزبي عاجزا عن الانتشار في شرايين المجتمع وربط حركته بها، وتعبئتها من أجل حركة نضالية موحَّدة، فإن الحزب نفسه يبقى مجرد كيان فارغ، كما أن ما يدَّعيه من أفكار ومشاريع هو مجرد أوهام لن تتوفر لها شروط التحقُّقِ في الواقع. ويعود ذلك إلى تعرُّض الأغلبية الساحقة من زعامات الأحزاب للتدجين إلى أن هبط مستواها الفكري، فصارت مجرد كائنات لا تفكر ولا تنتج ولا تفعل، حيث لا تعمل إلا على تلبية نزواتها المادية... لقد لجأت بعض هذه الزعامات الحزبية إلى إضعاف أحزابها بغية التحكم فيها للاستمرار على رأسها، لكن ذلك قاد هؤلاء الأشخاص إلى الموت السياسي والتنظيمي... إنهم لا يعون أن إضعاف الآخر قد يؤدي إلى إضعاف الذات، كما أن من ينظر إلى الآخر بوصفه شيئا ليس هو نفسه إلا شيئا، إذ إن الذات تَتَشَيَّأُ إذا تَشَيَّأَ الآخر. لذلك، فلا فكر ولا وجدان بدون الآخر، ولا حركة للذات ولا معنى لها بدونه، ما يفيد أنه لا وجود لها في تغييبه... فضلا عن ذلك، لا تدرك الأغلبية الساحقة من الزعامات السياسية مفهوم الوطن، ولا واجباتها تجاهه، لأنه غائبٌ أصلا في عقلها ووجدانها. وهي لا تهتم إلا بمصالحها الخاصة، بل إنها تضع نفسها فوق الوطن، وقد لا تتردد في الإساءة إليه إذا تعارضت مصلحتها مع مصلحته... وبذلك، تعرضت الأحزاب عندنا للمسخ، فتم نسف نواة المشهد الحزبي في بلادنا، ما حال دون وجود مؤسسات فعلية... تبعا لذلك، لا توجد أية فوارق جوهرية بين الأحزاب عندنا، إذ نحنُ أمام كيانات مهترئة لا يمكن تسميتها أحزابا بالمعنى الحديث المتوافَقِ عليه كونيا، لأن بنيتها العميقة لا تختلف عن القبائل والطوائف في شيء، ما يستحيل معه الحديث عن وجود أحزاب سياسية فعلية في بلدنا. كما تؤكد التجربة الراهنة أن ما يراه البعض "منجزات ديمقراطية"، هو مجرد منجزات شكلية وسطحية لا تلامس البنيات العميقة للمجتمع والدولة. فهو فقط خطاب يتزيَّا بعبارات - من قبيل "الحداثة"و"الديمقراطية"و"التحرر" - صارت عندنا مبتذلة وفارغة من المعنى، ما لا يعدو مجرَّد تغطية وتمويه. فمفهوم الأغلبية والأقلية هو المهيمن اليوم، والمذهبية والطائفية والعرقية ثالوثٌ يدير حياتنا السياسية والاجتماعية والثقافية، ويعيد مركزتها على عناصر التكوينات القبلية السحيقة... لا ينشأ التنظيم الحزبي تلقائيا، بل ينبغي أن يستجيب باستمرار لتطلعات المجتمع وطموحاته، كما يجبُ أن يُبنى تدريجيا عبر النشاط الجماهيري للحزب. وكلما استطاع الحزب اكتساب مواقع تنظيمية جديدة في المجتمع، ازداد قوة وقدرة على الفعل. لكن عندما تفتقر الأحزاب إلى المشاريع والبرامج والخطط النضالية، فإنه لا يمكنها أن تؤطر المجتمع وتكون حاضرة في مختلف مفاصله... لذلك، إذا لم تستطع تجاوز نقاط ضعفها الفكري والسياسي والتنظيمي والنضالي، فإنها لن تستطيع إنجاز عملية التحوُّل الديمقراطي. ويترتب عن ذلك أنه يجب على الأحزاب أن تعيد النظر في اختياراتها الفكرية والسياسية والتنظيمية النضالية... عبر صياغة إستراتيجية جديدة لعملها السياسي تُمكِّنها من تقوية دورها السياسي والجماهيري.... ** المصدر: عبد الغفار شكر: التعددية الحزبية والتحول الديمقراطي الاثنين 02-07-2012. 08:26 ( الوطن.) التحول الديمقراطي لا يحدث تلقائياً ولا يتم لأن الطبقات الحاكمة قد اقتنعت بالديمقراطية بل يتم تحت ضغط سياسى وجماهيرى تعتبر التعددية الحزبية أحد الأركان الأساسية للتحول الديمقراطي، وبدون تعددية حزبية قوية وفعالة قادرة على تعبئة قطاعات جماهيرية واسعة، فإن القدرة على إنجاز التحول الديمقراطى تظل محدودة، ذلك أن الديمقراطية هى فى جوهرها حق الشعب فى اختيار حكامه وتغييرهم دورياً من خلال انتخابات حرة ونزيهة، وهو فى هذه الحالة سوف يختار ممثليه إلى مجلس الشعب والمجالس الشعبية المحلية وكذلك رئاسة الجمهورية من بين بدائل مطروحة عليه وبرامج سياسية متعددة، وما لم تكن الأحزاب السياسية قادرة على تقديم هذه البدائل وبلورة برامج سياسية تحقق مصالح المجتمع العليا وتحقق مصالح الفئات الاجتماعية التى تمثلها، فإن تداول السلطة يفقد قيمته الحقيقية، ومن ناحية أخرى، فإن التحول الديمقراطى لا يحدث تلقائياً ولا يتم لأن الطبقات الحاكمة قد اقتنعت بالديمقراطية بل يتم تحت ضغط سياسى وجماهيرى تقوده القوى صاحبة المصلحة فى التغيير، ولا يمكن لهذا الضغط أن يحقق نتائج ملموسة ما لم يتم من خلال أحزاب سياسية جماهيرية قادرة على تعبئة الجماهير خلف شعاراتها ومطالبها وبرامجها السياسية. تؤكد تجربتنا فى مصر أن مطلب التحول الديمقراطي كان مطروحاً بإلحاح منذ منتصف السبعينات وتعددت أشكال المطالبة به، بل وتشكلت تحالفات وجبهات بين الأحزاب السياسية من أجله مثل لجنة الدفاع عن الديمقراطية التى قدمت العديد من المذكرات لرئيس الجمهورية تطالبه بإجراءات للإصلاح الديمقراطي ولكنه لم يجبها إلى طلبها؛ لأن التعددية الحزبية كانت ضعيفة وتضم أحزاباً لا تتجاوز قدراتها حدود المقرات الحزبية وإصدار الصحف وعقد ندوات سياسية لا يشارك فيها سوى العشرات. وبعد ثورة 25 يناير تغير الحال وانفتح الباب واسعاً أمام تشكيل عشرات الأحزاب السياسية ولم تعد هناك قيود على الحركة الجماهيرية بل أصبحت الأحزاب قادرة على الاتصال بالجماهير وتنظيم المظاهرات والمسيرات والمشاركة فى الانتخابات، ومع ذلك فإننا نلاحظ رغم تضاعف عدد الأحزاب السياسية أنها لا تزال غير قادرة على الضغط الفعال لاستكمال عملية التحول الديمقراطي، ولا تزال هذه الأحزاب تفتقد الشرط الجوهري لتحول أى حزب إلى قوة سياسية وجماهيرية مؤثرة وهو امتلاك أداة تنظيمية فعالة تنقل فكر الحزب ورؤيته السياسية وبرنامجه النضالي إلى أوسع الجماهير وتحركها للنضال تحت قيادة الحزب، وما لم يكن هذا التنظيم الحزبي قادراً على التغلغل فى صفوف الجماهير وربط حركة الحزب بها فى مواقع عملها ونشاطها وحياتها اليومية، وتعبئتها فى حركة نضالية موحدة، فإن الحزب يبقى مجرد أفكار محلقة فى خيال أصحابها لم تتوفر لها بعد إمكانية التحقق فى الواقع. التنظيم الحزبي لا ينشأ تلقائياً؛ لكنه يبنى وينضج تدريجياً من خلال النشاط الجماهيري للحزب، وكلما امتد الحزب السياسي إلى مواقع تنظيمية جديدة، قويت قدرته الجماهيرية، وما لم تتدارك الأحزاب السياسية نقاط ضعفها الحقيقية وعلى رأسها غياب التنظيم الحزبى المتغلغل فى صفوف الجماهير، فإنها ستظل عاجزة عن الضغط من أجل استكمال عملية التحول الديمقراطى بما فى ذلك صياغة دستور يحقق الهدف الأساسى لثورة 25 يناير وهو إسقاط النظام الاستبدادي وإقامة نظام ديمقراطى. من هنا، فإن الأحزاب لكي تحقق هذا الشرط، فإنها مطالبة بإعادة النظر فى توجهاتها السياسية والجماهيرية وصياغة استراتيجية جديدة لنضالها السياسي تمكنها من تقوية دوريها السياسى والجماهيرى. - 13- بوبكري يكتب: تحريم التماثيل وفن النحت باسم الإسلام السياسي الاثنين 24 أبريل 2017 - 21:34 محمد بوبكري لا يخالجنا شك في أن كلمة (تمثال) كانت تدور على الألسن قبل الإسلام أكثر من دوران كلمة (صنم) فهذا "امرؤ القيس يقول: ويا رب يوم قد لهوت وليلة بآنسة كأنها خط تمثال ويقول شارح الديوان "الأعلم الشنتمري" تفسير كلمة (تمثال): "خط تمثال، أي نقش صورة"، والتمثال والمثال: كل ما مثلته بشيء وإنما شبهها بالتمثال لأن الصانع له يتأنق في تحسينه ويمثله على أحسن ما يمكنه". وربما تستطيع أن تشتم هنا رائحة فكرة (المحاكاة) اليونانية كما وردت عن "أفلاطون" بالذات، فالفنان عنده يحاكي الأشياء، أي يمثلها أو يمثل هيئتها في الواقع. غير أن كلمة تمثال بدأت تتراجع بعد مجيء الإسلام لصالح المصطلحات القرآنية المرادفة، مثل (صنم) و(وثن)، على ما بينهما من تباين في ظلال المعنى، فالصنم كما ورد في (اللسان) هو الصورة بلا جثة. أما الوثن ، فيطلق على (كل ما له جثة معمولة من جواهر الأرض أو من الخشب والحجارة كصورة الآدمي، تعمل وتنصب فتعبد)، ومع هذا فقد كانت الكلمتان تتبادلان معنييها، وقد تستخدمان على أنهما مترادفتان. يقول "دعبل الخزاعي" مفتخرًا على النزارية بحضارة قومه القحطانيين التي تشهد بها آثارهم وأصنامهم الباقية، ومن بينها (صنم المغارب) بأيلة والخليج لهم رسوم وآثار قدمت وما محينا وفي صنم المغارب فوق رمل تسيل تلوله سيل السفينا ويقصد الشاعر بصنم المغارب التمثالَ الذي يحكي أن أحد ملوك اليمن كان قد بناه قديمًا حين خرج غازيًا إلى المغرب فواجهته تلال الرمال المتحركة، فأمر قبل أن يعود أدراجه بصنع تمثال من النحاس على هيئة إنسان، ونصبه على صخرة، ونقش على صدره تحذيرًا حتى يحترس القادمون فلا تبتلعهم الرمال. ولم تلبث كلمة (تمثال) أن عادت من جديد إلى معناها الأصلي الدال على الجمال الفني المتقن، متخلصة من الإيحاءات الدينية التي أكسبها إياها الإسلام بجعلها مرادفة تقريبًا لكلمتي (وثن) و(صنم) وينقل "القلقشندي" (ت 821 هـ) عن "ابن بنت الأعز" قوله: ظريفة الشكل والتمثال قد صنعت تحكي العروس ولكن ليس تغتلم فالشاعر يستخدم الكلمة هنا بدلالتها الفنية (الجمالية) كما كان يستخدمها "امرؤ القيس" في الجاهلية، وقد يتأنق بعض المؤلفين فيزينون عناوين كتبهم بكلمة (تمثال) بدلالتها هذه كما فعل "العبدري") (ت837 هـ) حين جعل عنوان موسوعته عن الأمثال العربية (تمثال الأمثال) وقد وردت الكلمة مرتين في القرآن، ولكن بصيغة الجمع فمرة بمعنى الأوثان، "إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عابدون) (الأنبياء52).:). أما المرة الأخيرة، فذات دلالة إيجابية لأنها جعلت من نحت التماثيل عملاً طيبًا مرغوبًا، ينتمي إلى دائرة الأعمال والأشياء الجميلة، وتتوافق الكلمة هنا مع دلالتها الفنية الجمالية التي كانت لها في الأصل (يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات) (سبأ: 13)، والحديث هنا عن الجن الذين سخرهم الله للملك "سليمان" فصنعوا له- من بين ما صنعوا من بدائع التماثيل، وربما كنا في حاجة إلى أن نقف عن تأويل هذه الآية على ضوء ما ذكرنا به "أبو العلاء المعري" من أن فصحاء العرب قد تعودوا أن ينسبوا إلى الجن كل ما تقع عليه أعينهم من صنائع جميلة يتجاوز حسنها قدرة البشر: وقد كان أرباب الفصاحة كلما رأوا حسنًا عدوه من صنعة الجن. وما يهمنا هنا، هو أن هذه الدلالة الفنية لكلمة (تمثال) هي التي أوحت قديمًا لبعض علماء السنة العقلاء بأن يبيحوا التماثيل والصور قياسًا على ما أبيح للملك «سليمان". هكذا فعل "القرطبي" (ت 671 هـ) صاحب (الجامع لأحكام القرآن)، ولم يكلف – للأسف – أحد مشايخنا الكبار في هذه الأيام نفسه بأن يستهدي بهذا الرأي، لا سيما أن "القرطبي" ليس من فقهاء المعتزلة أو الشيعة مثلاً، بل هو فقيه سني مالكي المذهب. بل لقد مال هؤلاء المشايخ إلى حزب أعداء الفن وخصوم الإبداع، فلم تستوقفهم (تماثيل سليمان) وإنما استوقفتهم الآيات الأخرى التي ذكرت الأصنام والأوثان. ولم ترد في القرآن كلمة "صنم" أو "وثن" على الإفراد، وإنما وردت الكلمتان بصيغة الجمع، ويحتاج الأمر هنا إلى إعمال العقل لكشف السبب، أي يحتاج إلى شيء من الاجتهاد، وهي كلمة أصبحت بغيضة في فقهنا المعاصر الذي قنع بالتقاليد والترديد، فالاجتهاد لا يقوم بغير قدرة على التأويل، لا تتأتى بدورها إلا لمن أحاط بعلوم اللغة وآدابها وصرفها ونحوها، وكان من أصحاب الخيال الخلاق والبصيرة الحية بضرورات الحضارة الخلاق والبصيرة الإنسانية وحاجات النفس البشرية، وكلها شروط لا تتوفر في أغلب من يعاصروننا ونعاصرهم من المشايخ الكبار. وقد وردت كلمة (الأصنام) بصيغة الجمع خمس مرات في القرآن مرة منها تتعلق ببني إسرائيل بعد نجاتهم من مطاردة المصريين (فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم) (الأعراف: 138) والمرات الأربع الأخرى تدور حول قصة "إبراهيم" المعروفة عن رفضه لعبادة الأصنام كما وجد عليها قومه: (الأنعام 74، إبراهيم: 35، الأنبياء: 57، الشعراء: 71) أما كلمة (الوثان)، فقد وردت ثلاث مرات منها مرة في سورة (الحج: 30)، والمرتان الأخريان في (سورة العنكبوت، 17و25) وكلها تنصرف إلى معنى الشرك والوثنية عند من يتخذون الأوثان من دون الله. ولنتذكر هنا كيف أن الإمام "محمد عبده" في فتواه التي أوردناها قد أشار إلى أن عصور الوثنية قد انقضت، فيزول التحريم بزوال علته، ولنتذكر أيضًا الفارق الدلالي بين (التمثال) و(الوثن) فليس كل تمثال وثنًا، وهذه تماثيل المصرين تملأ المتاحف، فنحن نرى تمثال الملك وشيخ البلد وحملة القرابين والعمال والموظفين وغيرهم من أمراء الشعب وعامته، أفكان كل هؤلاء آلهة يعبدون؟ ! إن تحريم نحت التماثيل لم يرد بصورة مباشرة ولا حتى غير مباشرة في الآيات القرآنية التي دارت حول هذا الموضوع، فهذه الآيات لم تستنكر الفعل نفسه، بل استنكرت ما قد يهدف إليه، وحتى كلمة (نحت) التي وردت بصيغة الفعل أربع مرات في القرآن، لا تفيد شيئًا من ذلك التحريم المزعوم، فثلاث من هذه المرات تذكر ما درجت عليه (ثمود) قوم (صالح) إذ ينحتون من الجبال بيوتًا: (الأعراف 74، الحجر:82، الشعراء: 49). أما المرة الرابعة، فقد وردت في سياق استنكار الهدف من النحت، أي نحت التماثيل لعبادتها: (قال أتعبدون ما تنحتون) (الصافات: 95) ينصب التحريم إذن لا على التمثال نفسه، وإنما على التمثال إذا ما نحت بغرض العبادة، وقد رأينا كيف أن كلمة (تمثال) بدلالتها الفنية الخالصة كانت مألوفة قبل الإسلام، ولم تكن كلمة صنم بالمجهولة، فقد سميت بها وبمشتقاتها بعض القبائل والبطون مثل: (صنم وصنيم وصنامة). غير أن الكلمة لم تتخذ دلالتها النهائية باعتبارها اسمًا للتمثال المعبود، إلا مع الإسلام، وهكذا غلبت في ذيوعها على كلمة (تمثال)، لوقت طويل، وربما كان هذا هو السبب في أننا لا نجد كتبًا في التراث عن التماثيل، في حين نجد عن الأصنام، مثل كتاب ابن الكلبي (ت 204 هـ) المعنون: (الأصنام)، وكتاب "الجاحظ-( ت 255 ه)" حول الموضوع نفسه، ولم يصل إلينا للأسف إلا حديث صاحبه عن مضمونه. فهو يتناول جوانب دينية تتعلق بالأصنام وأخرى فنية تعلق بالتماثيل، فمن الجوانب الدينية الحديث عن الأصنام في الديانة "الهندوسية "وسبب عبادة العرب إياها وكيف اختلف الهنود عن العرب في جهة العلة مع اتفاقهما على جملة الديانة، وكيف صار عباد البوذيين المتمسكين بعبادة الأوثان المنحوتة والأصنام المنجورة، أشد الديانين إلا لما دانوا به وشغفًا بما تعبدوا له، وأشدهم على من خالفهم ضغنًا، وبما دانوا ضنا، وما الفرق بين الدمية والجثة، ولو صوروا في محاربيهم وبيوتهم عباداتهم صور عظمائهم ورجال دعوتهم"، أما عن الجوانب الفنية في هذا الكتاب النفيس الضائع فتشمل: ..لو تأنقوا في التصوير، وتجودوا في إقامة التركيب، وبالغوا في التحسين والتفخيم"، وما شابه هذا من قضايا جمالية الطابع. وربما كان الدرس الذي ألقاه علينا (الجاحظ) هنا، صالحًا لإقناعنا بأن قضية فن النحت ليست ذات جانب أوحد هو التحليل أو التحريم، وإنما هي قضية ثقافية تتعلق في المقام الأول بطبيعة الفن ووظيفته ودوره في الحضارة الإنسانية، كغيره من الفنون. وربما كان درس "محمد عبده"، قد نجح من جهة أخرى في إقناعنا بأن النحت شأنه شأن الرسم، هو ضرب من الرسم المسموع، فلا فرق من حيث الجوهر بين التمثال والقصيدة، اللهم إلا في أداة التصوير أو مادته، فالقصيدة تقدم لنا صورًا مجسدة للمجردات ولكن من خلال اللغة، وفي القرآن كثير من هذه الصور، مثل (وجه الله ويده وعرشه). ولكننا نقبلها ونتأولها دون أن نقع في التشبيه، وقد يقدم لنا التمثال هذه الصور نفسها، ولكن عن طريق وسيط آخر هو الحجر أو المعدن أو الخشب، فتثور ثائرتنا وتهيج انفعالاتنا دون سبب مفهوم، اللهم إلا أن نكون نحن المقصودين وحدنا- دون اليهود- بما ورد في (العهد القديم) من تحريم حاسم للصور والتماثيل. - المصدر: ا مصادرة الفن باسم الدين والأخلاق والسياسة المؤلف: د.حسن طلب دار النشر: الهيئة العامة لقصور الثقافة. القاهرة الطبعة الأولى : 2013
توطئة: لم يكن مأمولاً أن بلدًا مثل مصر التي قادت شعوب الشرق إلى طريق النهضة الحديثة الشاملة منذ القرن التاسع عشر، ستعود لتنكص على عقبيه بعد أكثر من قرن ونصف فتتردى في هوة التخلف من جديد، وتتراجع بخطى حثيثة إلى عصور الظلام. نعم، هذا هو حال مصر اليوم، ومنذ أكثر من عقود ثلاثة، رفعنا فيها شعار (العلم والإيمان)، ونحن أشد ما تكون عداء للعلم والعلماء، أما الإيمان فلم نعرف منه إلا قشوره الزائفة، حيث استغنينا بالمظهر عن الجوهر، وبالخرافة عن العقل، وراح فقهاؤنا وأصحاب الفضيلة من مشايخنا الكبار، يفتون فينا باسم الدين، بما يذهب بهيبة الدين ويحمل من قداسته، كحديثهم عن شرب بول الرسول والتقاط نخامته، أو كفتواهم عن جواز إرضاع الكبير. وهكذا أصبحت مصر بين عشية وضحاها، مهيأة لكل ما يشجع على التطرف ويذكي روح التعصب، كما أصبحت من جهة أخرى بيئة معادية لحرية التفكير والتعبير، مقاومة للأدب الحر والفنون الجميلة، أما التعصب فقد رأيناه رأي العيان وهو يطل علينا بوجهه القبيح الجهول في أحداث (الكشح) والإسكندرية) و(العياط)، واما مصادرة حرية المفكرين والمبدعين، فنحن نعاني منها كل يوم، فمحاولة استتابة الفنانان وإغرائهن بالاعتزال والتحجب تجرى على قدم وساق، وما يقوم به مجمع البحوث الإسلامية وغيره مين هيئات دينية لا يخفى على أحد، فكم صادر من كتاب، وكم منع من عمل أدبي أو فني، وكم تصدى لمبدع أو مفكر أو أديب!. مصادرة الفن باسم الدين ولعل الفتوى الرسمية بتحريم التماثيل، والتي صدرت في مصر منذ شهور فأثارت جدلاً واسعًا، هي التجسيد الأمثل لذلك المناخ الأصولي الذي لم يفتأ يشدنا إلى الخلف خطوة بخطة، منذ السبعينيات إلى اليوم، ومع أن صاحب الفتوى حاول أن يتراجع قليلاً في مواجهة الرفض الواسع لفتواه الغربية من قبل عموم المثقفين، فراح يميز بين التمثال الكامل والتمثال النصفي، أو بين إقامة التماثيل في الميادين، ووضعها في البيوت، إلا أن هذه المحاولة لم تنجح في إخفاء العداء المتأصل للفن والأدب في ظل المناخ الديني المتزمت الذي نعيشه. إن الفكر الذي صدر عنه ذلك التحريم لفن النحت، وللفنون عامة، لجدير بأن يذكرنا بالكارثة الحضارية التي اقترفتها حركة (طالبان) الأفغانية على مرأى من العالم كله منذ بضع سنوات، حين أصرت على تدمير تمثال "بوذا" الشهير، في مشهد بائس لم ينجح إلا في تثبيت الصورة البشعة للأصولية الإسلامية المتطرفة في أذهان سائر البشر المنتمين إلى الأديان والحضارات الأخرى. ولم يكن يستطيع أحد أن يلوم هؤلاء إذا ما عمموا تلك الصورة، لتنسحب على الإسلام والمسلمين كافة. نعم، لا يكاد يختلف المفتي المصري عن المفتي الطالباني في هذا الموقف المعادي للفن، إلا أن الأخير كان يملك تنفيذ فتواه، لأنه مفت وحاكم معًا، وربما لو كانت الأمور عندما كذلك- لا قدر الله- لرأينا المدافع والمجنزرات وقد حملت على المتحف المصري والمعابد المصرية فتركتها أثرًا بعد عين، ثم استدارت إلى الميادين العامة فقصفت تماثيل "سعد زغلول" و"طلعت حرب" و"إبراهيم باشا" وشفت غليلها من سائر هذه الأوثان. ولاشك في أن وراء مبدأ تحريم التماثيل عمومًا، فكرًا يجسد الروح الطالبانية خير تجسيد، إلا أن ما كانت تفعله طالبان عن عقيدة محددة واضحة مهما قيل في تصلبها وتخلفها عن روح العصر، نفعله نحن عن نفاق أحيانًا، وعن جهل في أحيان أخرى فقد أصبح مشايخنا وكأنهم لا يعرفون شيئًا عن ماضينا البعيد والقريب، ماضينا البعيد الذي كان من المنتظر أن يجعلنا نعتز- نحن المصريين- بأننا الأمة التي علمت البشرية كيف تبني وتنحت وتصور وتكتب وتبدع وتفكر، وماضينا القريب الذي حسم فيه الإمام "محمد عبده" الخلاف الديني حول قضية الصور والتماثيل، فكان مما كتبه في أثناء زيارته لمتاحف صقلية بأوروبا صيف 1902 ليصف فيه حرص الأوروبيين تراثهم الفني: "...لهؤلاء القوم حرص غريب على حفظ الصور المرسومة على الورق والنسيج، ويوجد في دار الآثار عند الأمم الكبرى ما يوجد عند الأمم الصغرى كالصقليين مثلاً، يحققون تاريخ رسمها، واليد التي ترسمها، ولم تنافس في اقتناء ذلك غريب، حتى إن القطعة الواحدة من رسم "رفائيل" مثلاً، ربما تساوي مائتين من الآلاف من بعض المتاحف، وكذلك الحال في التماثيل، وكما قدم المتروك من ذلك كان أغلى قيمة وكذلك الحال في التماثيل، وكلما قدم المتروك من ذلك كان أغلى قيمة، وكان القوم عليه أشد حرصًا، هل تدريب لماذا؟ إذ كنت تدري السبب في حفظ "سلفك" للشعر وضبطه في دواوينه، والبالغة في تحريره، خصوصًا شعر الجاهلية، وما عنى الأوائل رحمهم الله بجمعه وترتيبه، أمكنك أن تعرف السبب في محافظة القوم على هذه المصنوعات من الرسوم والتماثيل، فإن الرسم ضرب من الشعر الذي يرى ولا يسمع، والشعر ضرب من الرسم الذي يسمع ولا يرى". ويستمر الإمام "محمد عبده" في معالجة هذه القضية من منظور جمالي، يدرك طبيعة العلاقة المتبادلة بين الفنون على نحو ما يدركها علماء الجمال المعاصرون في الغرب، فيقول: "إن هذه الرسوم والتماثيل قد حفظت من أحوال الأشخاص في الشئون المختلفة، ومن أحوال الجماعات في المواقع المتنوعة، ما تستحق به أن تسمى ديوان الهيئات والأحوال البشرية، يصورون الإنسان والحيوان ففي حال الفرح والرضى والطمأنينة والتسليم وهذه المعاني المدرجة في هذه الألفاظ متقاربة، لا يسهل عليك تمييز بعضها من بعض، ولكنك تنظر في رسوم مختلفة فتجد الفرق ظاهرًا باهرًا: يصورونه مثلاً في حالة الجزع والفزع والخوف والخشية. والجزع والفزع مختلفان في المعنى، ولم أجمعهما هنا طمعًا في جميع (عينين) في سطر واحد، بل لأنهما مختلفان حقيقة، ولكنك ربما تعتصر ذهنك لتحديد الفرق بينهما وبين الخوف والخشية، ولا يسهل عليك أن تعرف متى يكون الفزع ومتى يكون الجزع، وما الهيئة التي يكون عليها الشخص في هذه الحال أو تلك، أو ما إذا نظرت إلى الرسم، وهو ذلك الشعر السكت، فإنك تجد الحقيقة بارزة لك تتمتع بها نفسك، كما يتلذذ بالنظر فيها حسك، فحفظ هذه الآثار حفظ للعلم في الحقيقة، وشكر لصاحب الصنعة على الإبداع فيها". ويستطيع القارئ هنا أن يقف على عمق النظرة العقلانية ورحابة الرؤية المتحضرة في الموقف من قضية الصور والتماثيل، عند أحد الأئمة والمفكرين الدينيين الكبار في مطلع نهضتنا المعاصرة، فالإمام "محمد عده" كما يبدو من هذا النصر، لا يقصر دور الفن في الحياة الإنسانية على وظيفته التوثيقية باعتباره حافظًا للعلم البشري ويدوانا للهيئات والأحوال البشرية فحسب، هذا كله لا يمثل – على أهميته- إلا الجانب النفعي المباشر، ولذا نجد الإمام حريصًا على تأكيد الجانب الأهم في دور الفنون، وهو ما يتمثل عنده في الوظيفة الجمالية التي تستمتع بها النفوس وتتلذذ الحواس. فإذا ما جئنا إلى حكم الإسلام في هذه القضية، أحسسنا أولاً بفطنة الإمام وهو يؤخر الحديث حول الحكم الديني على الفن، إلى ما بعد الفراغ من الحديث عن قيمته الجمالية، وأحسسنا ثانيًا بالبون الشاسع الذي يفصل ما بين فتاوي الماضي القريب المثقفة المنتصرة للحياة، أو التي تنتصر للدين بأن تنتصر للحياة وبين فتاوي هذه الأيام المعادية للفن والحياة جميعًا، أي المعادلة للدين في جوهره الأسمى، يقول الإمام "محمد عبده" في فتواه العميقة المتواضعة في أن: "وربما تعرض لك المسألة عند قراءة هذا الكلام، وهي: ما حكم هذه الصورة في الشريعة الإسلامية، إذا كانت القصد منها ما ذكر من تصوير هيئات البشر في انفعالاتهم النفسية وأوضاعهم الجثمانية؟ هل هذه حرام أو جائز أو مكروه أو مندوب أو واجب؟ فأقول لك أن الرسم قد رسم، والفائدة محققة لا نزاع فيها ومعنى العبادة وتعظيم التمثال أو الصورة قد محى من الأذهان فإما أن تفهم الحكم من نفسك بعد ظهور الواقعة، وإما أن ترفع سؤالاً إلى المفتي وهو يجيبك مشافهة. فإذا أوردت عليه حديث: "إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصورون"، أو ما في معناه مما ورد في الصحيح، فالذي يغلب على ظني أنه سيقوم لك: إن الحديث جاء في أيام الوثنية، وكانت الصور تتخذ في ذلك لسببين، الأول اللهو، والثاني التبرك بتمثال من ترسم صورته من الصالحين، والأول مما يبغضه الدين، والثاني مما جاء الإسلام لمحوه، والمصور في الحالين شاغل عن الله أو ممهد للإشراك به، فإذا زال هذان العارضان وقصدت الفائدة، كان تصوير الأشخاص بمنزلة النبات والشجر في المصنوعات، وقد صنع ذلك في حواشي المصاحف وأوائل السور، ولم يمنعه أحد من العلماء، مع أن الفائدة في نقش المصاحب موضوع النزاع، وأما فائدة الصور فمما لا نزاع فيه على الوجه الذي ذكر.. ولا يمكنك أن تجيب المفتي بأن الصور على كل حال مظنة العبادة، فإني أظن أنه يقول لك: إن لسانك أيضًا مظنة الكذب، فهل يجب ربطه مع أنه يجوز أن يكذب؟ وبالجملة، إنه يغلب على ظني أن الشريعة الإسلامية أبعد من أن تحرم وسيلة من أفضل وسائل العلم، بعد تحقق أنه لا خطر فيها على الدين، لا من جهة العقيدة ولا من جهة العمل.." لقد أوردنا هذا النص على طوله، لكي نضع بين يدي القارئ صورة ناصعة لما أصاب حياتنا الفكرية والدينية من جمود وتصلب، فأصبحنا وقد نسينا – أو تناسينا- ما أشاعه فين الإمام "محمد عبده" وأعلام النهضة الآخرون، ومن تفتح واستنارة واحترام للعقل وإيمان بروح الإبداع وضرورة التحضير، لقد دون "محمد عبده" فتواه السابقة في مستهل القرن العشرين وبعد خمسة عقود تقريبًا أي من خمسينيات القرن، طلع علينا مفتي الديار المصرية آنذاك بفتوى مترددة محافظة في قضية الصور والتماثيل، يجب فيها عن حكم (الصورة)، أحلام هي أم حرام؟ وعن حكم التصوير شرعًا فيقول: "أجمع الفقهاء على حرمة تصوير الحيوان مجسمًا كاملاً، لا نعلم لأحد في ذلك خلافًا، أما الصور غير الكاملة كالتماثيل النصفية، التي لا تمثل إنسانًا أو حيوانًا يستطيع أن يعيش، فإنها ليست من الصور المتوعد عليها بهذه العقوبة الشديدة، ومع ذلك فقد كرهها العلماء واستحسنوا تركها، وقد استثنى بعض العلماء من الصور المحرمة، التماثيل الصغيرة التي يتخذها الأطفال لعبة لهم، وحكى القاضي "عياض" عن الجمهور أنهم أجازوا بيع اللعب للبنات، لتدريبهن من صغرهن على أمر بيوتهن وأولادهن، أما الصور غي المجسمة التي لا ظل لها، كالصور الفوتوغرافية والصور الزيتية والصور المنقوشة في الثياب وعلى الجدران، فهي في مجال النظر عند الفقهاء، فمهم من حرمها ومنهم من أباحها، ونمثل إلى الرأي الثاني، عملاً بما صح عن النبي من استثناء الصور المرقومة في الثياب من الصور المحرمة، وأنه لم ينقل أن أمة عبدت صورة مرقومة غير مجسدة". على أن هذه الفتوى، على ما فيها من تراجع كبير عن فتوى "محمد عبده" لم تشبع نهم الأصوليين لمحاربة الفنون والقضاء على الإبداع قضاء مبرمًا، وكانت كلمتهم قد أخذت تعلو شيئًا فشيئًا منذ ذلك الحين، ليعيدونا مرة أخرى إلى عصور الظلام والجهل، يقول أحدهم معلقًا على الفتوى السابقة: "يظهر من إشارة حضرة المفتي هذه، أنه لم يحط إحاطة تامة بأحوال القبائل والشعوب في العالم، فإنه لا يزال فيها من يعبد المجسمة، والصورة المرقومة، والنار والشجر والحجر والنهر والشمس والكواكب وغيرها. لم يرق لهم ميل المفتي، ولو بشيء من التردد، إلى إباحة ما لا ظل له من الصور فحسب، فهي إباحة لا تستند عندهم إلى الأدلة الشرعية، لم تكد تمر خمسة عقود أخرى، حتى بلغ التطرف أقصاه، فإذا بالمفتي يطلع علينا منذ شهور بتحريم التماثيل، وسط مناخ غلبت فيه الخرافة على العقل، والبداوة على الحضير، فذاع بين الناس أن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه تمثال، فالشياطين وحدها هي التي تألف أمثال هذه البيوت. والحق أننا نحتاج إلى ما هو أبعد من مجرد الفتوى لكي نقف على معنى كلمة تمثال وتطور هذا المعنى في اللغة العربية، ثم الفرق بين التمثال والصنم والوثن، فالمبحث اللغوي ليس ترفًا زائدًا هنا، بل هو ضرورة تمليها علينا دقة البحث وما يتطلبه الأمر من إحاطة وشمول، وإذا كانت بضاعة المفتي محصورة في استدعاء ما يستظهر من آيات وأحاديث، وما يستذكره من أراء السلف، فما أفقر فتواه حينئذ، خاصة إذا كان الأمر يتعلق بقضية ثقافية كبرى هي الحكم على الفنون ودورها في حياة الإنسان. ولا يخالجنا شك في أن كلمة (تمثال) كانت تدور على الألسن قبل الإسلام أكثر من دوران كلمة (صنم) فهذا "أمرؤ القيس يقول: ويا رب يوم قد لهوت وليلة بآنسة كأنها خط تمثال ويقول شارح الديوان "الأعلم الشنتمري" تفسير كلمة (تمثال): "خط تمثال، أي نقش صورة"، والتمثال والمثال: كل ما مثلته بشيء وإنما شبهها بالتمثال لأن الصانع له يتأنق في تحسينه ويمثله على أحسن ما يمكنه". وربما تستطيع أن نشتم هنا رائحة فكرة (المحاكاة) اليونانية كما وردت عن "أفلاطون" بالذات، فالفنان عنده يحاكي الأشياء، أي يمثلها أو يمثل هيئتها في الواقع. غير أن كلمة تمثال بدأت تتراجع بعد مجيء الإسلام لصالح المصطلحات القرآنية المرادفة، مثل (صنم) و(وثن)، على ما بينهما من تباين في ظلال المعنى، فالصنم كما ورد في (اللسان) هو الصورة بلا جثة، أما الوثن فيطلق على (كل ما له جثة معمولة من جواهر الأرض أو من الخشب والحجارة كصورة الآدمي، تعمل وتنصب فتعبد)، ومع هذا فقد كانت الكلمتان تتبادلان معنييها، وقد تستخدمان على أنهما مترادفتان، يقول "دعبل الخزاعي" مفتخرًا على النزارية بحضارة قومه القحطانيين التي تشهد بها آثارهم وأصنامهم الباقية، ومن بينها (صنم المغارب). بأيلة والخليج لهم رسوم وآثار قدمت وما محينا وفي صنم المغارب فوق رمل تسيل تلوله سيل السفينا ويقصد الشاعر بصنم المغارب، التمثال الذي يحكي أن أحد ملوك اليمن كان قد بناه قديمًا حين خرج غازيًا إلى المغرب فواجهته تلال الرمال المتحركة، فأمر قبل أن يعود أدراجه بصنع تمثال من النحاس على هيئة إنسان، ونصبه على صخرة، ونقش على صدره تحذيرًا حتى يحترس القادمون فلا تبتلعهم الرمال. ولم تلبث كلمة (تمثال) ان عادت من جددي إلى معناها الأصلي الدال على الجمال الفني المتقن، متخلصة من الإيحاءات الدينية التي أكسبها إياها الإسلام بجعلها مرادفة تقريبًا لكلمتي (وثن) و(صنم) وينقل "القلقشندي" (ت 821 هـ) عن "ابن بنت الأعز" قوله. ظريفة الشكل والتمثال قد صنعت تحكي العروس ولكن ليس تغتلم فالشاعر يستخدم الكلمة هنا بدلالتها الفنية (الجمالية) كما كان يستخدمها "امرؤ القيس" في الجاهلية، وقد يتأنق بعض المؤلفين فيزينون عناوين كتبهم بكلمة (تمثال) بدلالتها هذه كما فعل "العبدري) (ت837 هـ) حين جعل عنوان موسوعته عن الأمثال العربية (تمثال الأمثال) وقد وردت الكلمة مرتين في القرآن، ولكن بصيغة الجمع فمر بمعنى الأوثان "إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عابدون) (الأنبياء: 52)، أما المرة الأخيرة فذات دلالة إيجابية لأنها جعلت من نحت التماثيل عملاً طيبًا مرغوبًا، ينتمي إلى دائرة الأعمال والأشياء الجميلة، وتتوافق الكلمة هنا مع دلالتها الفنية الجمالية التي كانت لها في الأصل (يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات) (سبا: 13)، والحديث هنا عن الجن الذين سخرهم الله للملك "سليمان" فصنعوا له- من بين ما صنعوا من بدائع التماثيل، وربما كنا في حاجة إلى أن نقف عن تأويل هذه الآية على ضوء ما ذكرنا به "أبو العلاء المعري" من أن فصحاء العرب قد تعودوا أن ينسبوا إلى الجن كل ما تقع عليه أعينهم من صنائع جميلة يتجاوز حسنها قدرة البشر: وقد كان أرباب الفصاحة كلما رأوا حسنًا عدوه من صنعة الجن. ونحن على أية حال لم يصلنا شيء مما صنعته الجن للملك "سليمان" أو لغيره، لا تمثال ولا أية أعمال فنية أخرى، على حين بقيت لنا مئات التماثيل والصور مما أبدعه الإنس قبل عصر "سليمان" بآلاف السنين، سواء من الحضارة المصرية القديمة، أو من الحضارة السومرية، أو ما تلاهما من حضارات. وما يهمنا هنا، هو أن هذه الدلالة الفنية لكلمة (تمثال) هي التي أوحت قديمًا لبعض علماء السنة العقلاء بأن يبيحوا التماثيل والصور قياسًا على ما أبيح للملك "ٍسليمان" هكذا فعل "القرطبي" (ت 671 هـ) صاحب (الجامع لأحكام القرآن) ولم يكلف – للأسف – أحد مشايخنا الكبار هذ الأيام نفسه بأن يستهدي بهذا الرأي، لا سيما أن "القرطبي" ليس من فقهاء المعتزلة أو الشيعة مثلاً، بل هو فقيه سني مالكي المذهب. بل لقد مال هؤلاء المشايخ إلى حزب أعداء الفن وخصوم الإبداع، فلم تستوقفهم (تماثيل سليمان) وإنما استوقفتهم الآيات الأخرى التي ذكرت الأصنام والأوثان. ولم ترد في القرآن كلمة "صنم" أو "وثن" على الإفراد، وإنما وردت الكلمتان بصيغة الجمع، ويحتاج الأمر هنا إلى إعمال العقل لكشف السبب، أي يحتاج إلى شيء من الاجتهاد، وهي كلمة أصبحت بغيضة في فقهنا المعاصر الذي قنع بالتقاليد والترديد، فالاجتهاد لا يقوم بغير قدرة على التأويل، لا تتأتى بدورها إلا لمن أحاط بعلوم اللغة وآدابها وصرفها ونحوها، وكان من أصحاب الخيال الخلاق والبصيرة الحية بضرورات الحضارة الخلاق والبصيرة الحية بضرورات الحضارة الإنسانية وحاجات النفس البشرية، وكلها شروط لا تتوفر في أغلب من يعاصروننا ونعاصرهم من المشايخ الكبار. وردت كلمة (الأصنام) بصيغة الجمع خمس مرات في القرآن مرة منها تتعلق ببني إسرائيل بعد نجاهم من مطاردة المصريين (فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم) (الأعراف: 138) والمرات الأربع الأخرى تدور حول قصة "إبراهيم" المعروفة عن رفضه لعبادة الأصنام كما وجد عليها قومه: (الأنعام 74، إبراهيم: 35، الأنبياء: 57، الشعراء: 71) أما كلمة (الوثان) فقد وردت ثلاث مرات منها مرة في سورة (الحج: 30)، والمرتان الأخريان في (سورة العنكبوت، 17و25) وكلها تنصرف إلى معنى الشرك والوثنية عند من يتخذون الأوثان من دون الله، ولنتذكر هنا كيف أن الإمام "محمد عبده" في فتواه التي أوردناها، قد أشار إلى أن عصور الوثنية قد انقضت، فيزول التحريم بزوال علته، ولنتذكر أيضًا الفارق الدلالي بين (التمثال) و(الوثن) فليس كل تمثال وثنًا، وهذه تمايل المصرين تملأ المتاحف، فنحن نرى تمثال الملك وشيخ البلد وحملة القرابين والعمال والموظفين وغيرهم من أمراء الشعب وعامته، أفكان كل هؤلاء آلهة يعبدون. إن تحريم نحت التماثيل لم يرد بصورة مباشرة ولا حتى غير مباشرة في الآيات القرآنية التي دارت حول هذه الموضوع، فهذه الآيات لم تستنكر الفعل نفسه، بل استنكرت ما قد يهدف إليه، وحتى كلمة (نحت) التي وردت بصيغة الفعل أربع مرات في القرآن، لا تفيد شيئًا من ذلك التحريم المزعوم، فثلاث من هذه المرات تذكر ما درجت عليه (ثمود) قوم (صالح) إذا ينحتون من الجبال بيوتًا: (الأعراف 74، الحجر:82، الشعراء: 49)، أما المرة الرابعة فقد وردت في سياق استنكار الهدف من النحت، أي نحت التماثيل لعبادتها: (قال أتعبدون ما تنحتون) (الصافات: 95) ينصب التحريم إذن لا على التمثال نفسه، وإنما على التمثال إذا ما نحت بغرض العبادة، وقد رأينا كيف أن كلمة (تمثال) بدلالتها الفنية الخالصة كانت مألوفة قبل الإسلام، ولم تكن كلمة صنم بالمجهولة، فقد سميت بها وبمشتقاتها بعض القبائل والبطون مثل: (صنم وصنيم وصنامة). غير أن الكلمة لم تتخذ دلالتها النهائية باعتبارها اسمًا للتمثال المعبود، إلا مع الإسلام، وهكذا غلبت في ذيوعها على كلمة (تمثال)، لوقت طويل، وربما كان هذا هو السبب في أننا لا نجد كتبًا في التراث عن التماثيل، في حين نجد عن الأصنام، مثل كتاب ابن الكلبي (ت 204 هـ) المعنون: (الأصنام)، وكتاب "الجاحظ- ت 255 هـ" حول الموضوع نفسه، ولم يصل إلينا للأسف إلا حديث صاحبه عن مضمونه، فهو يتناول جوانب دينية تتعلق بالأصنام وأخرى فنية تعلق بالتماثيل، فمن الجوانب الدينية الحديث عن الأصنام في الديانة الهندوسية "وسبب عبادة العرب إياها وكيف اختلف الهنود عن العرب في جهة العلة مع اتفاقهما على جملة الديانة، وكيف صار عبادة البددة المتمسكون بعبادة الأوثان المنحوتة والأصنام المنجورة، أشد الديانين إلا لما دانوا به وشغفًا بما تعبدوا له، وأشدهم على من خالفهم ضغنًا، وبما دانوا ضنا، وما الفرق بين الدمية والجثة، ولم صوروا في محاربيهم وبيوتهم عباداتهم صور عظمائهم ورجال دعوتهم"، أما عن الجوانب الفنية في هذا الكتاب النفيس الضائع فتشمل: "..لم تأنقوا في التصوير، وتجودوا في إقامة التركيب، وبالغوا في التحسين والتفخيم"، وما شابه هذا من قضايا جمالية الطابع. وربما كان الدرس الذي ألقاه علينا (الجاحظ) هنا، صالحًا لإقناعنا بأن قضية فن النحت ليست ذات جانب أوحد هو التحليل أو التجريم، وإنما هي قضية ثقافية تتعلق في المقام الأول بطبيعة الفن ووظيفته ودوره في الحضارة الإنسانية، كغيره من الفنون. وربما كان درس "محمد عبده"، قد نجح من جهة أخرى في إقناعنا بأن النحت شأنه شأن الرسم، هو ضرب من الرسم المسموع، فلا فرق إين من حيث الجوهر بين التمثال والقصيدة، اللهم إلا في أداة التصوير أو مادته، فالقصيدة تقدم لنا صورًا مجسدة للمجردات ولكن من خلال اللغة، وفي القرآن كثير من هذه الصور، مثل (وجه الله ويده وعرشه). ولكننا نقبلها ونتأولها دون أن نقع في التشبيه، وقد يقدم لنا التمثال هذه الصور نفسها، ولكن عن طريق وسيط آخر هو الحجر أو المعدن أو الخشب، فتثور ثائرتنا وتهيج انفعالاتنا دون سبب مفهوم، اللهم إلا أن نكون نحن المقصودين وحدنا- دون اليهود- بما ورد في (العهد القديم) من تحريم حاسم للصور والتماثيل. (الصفحات من 14 إلى 21. هي موضع النسخ والنقل.)
#سعيدي_المولودي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مقالة تحريم التماثيل وفن النحت.. وقع الحافر على الحافر: سرقة
...
-
أراضي الجموع: الفتنة القادمة( نموذج قيادة الحمام/ إقليم خنيف
...
-
مهازل الجامعة المغربية:المفتشية العامة لوزارةالتعليم العالي:
...
-
جامعة مولاي إسماعيل.مكناس: -الهيدروجيولوجيا- تناقش -السوسيول
...
-
(Ann gui zdam) : مرآتي الأولى.
-
(سفر الخروج)
-
-شهران متتابعان قبل التماس-
-
مرثية -فيديل-
-
الأساتذة الباحثون والتقاعد
-
بلاغ جمعية أجذير إيزوران للثقافة الأمازيغية
-
- كوطا- للجميع.. وبرلمان للجميع.
-
- رئيس الحكومة والسعادة الخاصة-
-
موقع حزب التقدم والاشتراكية لا يمكن أن يكون خارج قوى اليسار
-
الجامعة المغربية: -العنف أصدق أنباء من الكتب-
-
- نشيد-
-
مرثية ( وفاء لروح الفنان حمو أوليزيد)
-
للتاريخ .. لعل الذكرى تنفع بعض السياسين. (من رسالة عبد الإله
...
-
المعادلة السياسية الجديدة: P (P+S) = P (J+D)
-
- القيم الإرْوَهَّابية-
-
-السماء ترفع دعمها عن بلاد المغرب-
المزيد.....
-
أشرف عبدالباقي وابنته زينة من العرض الخاص لفيلمها -مين يصدق-
...
-
لبنان.. ما هو القرار 1701 ودوره بوقف إطلاق النار بين الجيش ا
...
-
ملابسات انتحار أسطول والملجأ الأخير إلى أكبر قاعدة بحرية عرب
...
-
شي: سنواصل العمل مع المجتمع الدولي لوقف القتال في غزة
-
لبنان.. بدء إزالة آثار القصف الإسرائيلي وعودة الأهالي إلى أم
...
-
السعودية تحذر مواطنيها من -أمطار وسيول- وتدعو للبقاء في -أما
...
-
الحكومة الألمانية توافق على مبيعات أسلحة لإسرائيل بـ131 مليو
...
-
بعد التهديدات الإسرائيلية.. مقتدى الصدر يصدر 4 أوامر لـ-سراي
...
-
ماسك يعلق على طلب بايدن تخصيص أموال إضافية لكييف
-
لافروف: التصعيد المستمر في الشرق الأوسط ناجم عن نهج إسرائيل
...
المزيد.....
-
اللغة والطبقة والانتماء الاجتماعي: رؤية نقديَّة في طروحات با
...
/ علي أسعد وطفة
-
خطوات البحث العلمى
/ د/ سامح سعيد عبد العزيز
-
إصلاح وتطوير وزارة التربية خطوة للارتقاء بمستوى التعليم في ا
...
/ سوسن شاكر مجيد
-
بصدد مسألة مراحل النمو الذهني للطفل
/ مالك ابوعليا
-
التوثيق فى البحث العلمى
/ د/ سامح سعيد عبد العزيز
-
الصعوبات النمطية التعليمية في استيعاب المواد التاريخية والمو
...
/ مالك ابوعليا
-
وسائل دراسة وتشكيل العلاقات الشخصية بين الطلاب
/ مالك ابوعليا
-
مفهوم النشاط التعليمي لأطفال المدارس
/ مالك ابوعليا
-
خصائص المنهجية التقليدية في تشكيل مفهوم الطفل حول العدد
/ مالك ابوعليا
-
مدخل إلى الديدكتيك
/ محمد الفهري
المزيد.....
|