|
الثورة والتثوير
فارس تركي محمود
الحوار المتمدن-العدد: 5509 - 2017 / 5 / 2 - 15:05
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
إن غياب العقل والعقلانية والتعقل هو الحاضر الأبرز في حياتنا ، والوهم والإيهام والتوهم والهلوسات السمعية والبصرية والحسية صارت هي الاساس لكل ما نقوله ونفعله ، لذلك أصبحنا نرى الاشياء على غير حقيقتها ونتعامل مع الاوهام على أنها حقائق ، ونفتخر بما يدعو إلى الخجل ، ونتباهى بما هو عار وشنار . ومن الأفكار أو الأفعال التي نفتخر بها وهي مخجلة ( الثورة أو فكرة الثورة ) ، فالشعوب العربية تعد من أكثر شعوب العالم قياما بالثورات ومن أكثرها إفتخارا بفكرة الثورة وكأن القيام بثورة هدف بحد ذاته وليس وسيلة لتحسين الأحوال والانتقال من واقع متردي الى واقع افضل ، ففي القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين قامت الشعوب العربية بالكثير من الثورات والانتفاضات والوثبات والانقلابات وهي تفتخر بها وتعدها محطات مضيئة في تاريخها بل إن الكثير من هذه الشعوب - ان لم يكن كلها - يتباهى بحمله لقب الشعب الثائر والشعب المناضل وصاحب الروح الثورية ، ويتغنى المواطنون بهذه الثورات ويدبجون بمدحها القصائد والمعلقات ويقيمون لها النصب التذكارية والاحتفالات الشعبية ويطلقون عليها تسميات التبجيل والتفخيم كالثورة النبيلة والثورة المباركة والثورة العظيمة ، وينظرون الى انفسهم بعين الاعجاب والرضى عن النفس والاحساس بالبطولة الخارقة . وعلى الرغم من أن أغلب شعوب العالم قد شهدت الكثير من الثورات إلا أن الشعوب الحية والناضجة تقوم بثورة أو ثورتين على أكثر تقدير لكي تعدل ما اعوج وتصوب ما انحرف ، وترسي من خلالها أسس قوية تبني عليها حاضرها ومستقبلها وتكف عن العبث والهذيان الثوري وتتجه الى العمل الجاد والبناء العقلاني المنضبط. أما ان تصبح مهمة شعب برمته أن يثور فحسب ويصبح تاريخه كله عبارة عن ثورة تؤدي الى ثورة وثورة تلد ثورة وثورة تأكل ثورة فهذا هو المخجل شعب مخجل ينتج ثورات مخجلة لا تؤدي الى أي تقدم أو رقي أو ارتقاء في مدارج التطور ، ولا تزيدنا الا خبالا ، ولا تورثنا سوى مزيد من الجهل والتخلف والعري الثقافي والافتضاح الفكري والمزيد المزيد من الخجل مما نحن فيه ومما نعانيه ومما اصبحنا عليه . إن الثورة بحد ذاتها عمل لا يدعو الى الفخر لكن بعض الشعوب الواعية تلجأ اليه اضطرارا مرة او مرتين في تاريخها لكي تعدل مسارها ثم تهجره الى الابد لتبدأ برحلة البناء والاعمار ، ونقول انها عمل لا يدعو الى الفخر لأن الشعب عندما يصل الى مرحلة الثورة فهذا يعني أنه وصل الى الدرك الاسفل اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا والا لما قام بالثورة ، وأن مشاكله قد وصلت حدا لا حل لها الا بالثورة ، وانه لم يستطع طوال الفترة السابقة للثورة – وهي بلا شك اعوام كثيرة – أن يجد حلا لمشاكله او ان يخفف من وطأتها فكانت النتيجة اندلاع الثورة ، وانه عجز عن التعامل بعقلانية او بدراية مع الواقع الذي يعيشه والظروف التي تحيط به فلم يجد مناصا عن الثورة ، وانه ترك حياته واحواله تتدهور بدون ان يحرك ساكنا حتى وصل التدهور حدا لا يطاق فكانت الثورة ، وانه بقيامه بالثورة يقدم نوع من الاعتراف بفشله عن تغيير واقعه الا باستخدام القوة ومن خلال العنف الثوري وهذا مما لا يدعو الى الفخر بل الى الخجل لان استخدام القوة في حل المشاكل سلوك تتميز به الحيوانات ، واذا اضطر الانسان الى استخدامه فليكن لمرة واحدة ولأسباب قاهرة لكي يضل انسانا يقوده العقل وليس الغرائز . إذاً فالثورة في النهاية هي ترجمة للعجز وغياب الرؤية وفقدان البصيرة وعدم القدرة على التخطيط وانعدام العقل والتعقل والانحطاط الى مستويات حيوانية ، فبأي شيء تفخرون يا من لا تجيدون سوى القيام بالثورات ؟ . يضاف الى ذلك ان الثورة فعل عاطفي انفعالي مرتبط بالمشاعر والعواطف والغرائز اكثر من ارتباطه بالعقل ، وهي مؤشر على عدم النضوج والرشادة ، وكلما ازدادت ثورات شعبٍ ما كلما دل ذلك على قصوره العقلي وعدم نضوجه وانه لا يزال شعب مراهق ولم يبلغ الحلم بعد ، أما إذا كان هناك شعب ما لا عمل له سوى الثورات والانتفاضات والتظاهرات فهذا يعني أنه لا عقل له البتة ، لأن السلوك الثوري هو سلوك بدائي أفرط الانسان في استخدامه في العصور الماضية عندما كانت تتحكم به العقلية البدائية لكنه كلما ازداد نضوجه العقلي كلما قلت ثوراته مثلما هو حاصل مع الشعوب المتمدنة التي تجاوزت منذ قرون فكرة الثورة والانقلاب والتغيير بالقوة ، بينما بقيت الشعوب التي تسيطر عليها العقلية البدائية ارضا خصبة للثورات . كذلك يعد تكرار الثورات نوع من الهروب عن مواجهة التحديات والمشاكل وايجاد الحلول لها والالتجاء بدلا عن ذلك الى الثورات لإيهام النفس بانها تقوم بشيء مفيد وبأنها لا تقف مكتوفة اليدين ، وتكرار الثورات في مجتمع ما يؤشر الى تجذر وتأصل السلوك الغوغائي في ذلك المجتمع والى تحكم العقلية المضطربة والنفسية الفوضوية به ويكشف بوضوح ميله الى عدم الانتظام والانضباط وعدم قدرته على تحمل الحياة المنضبطة المعقلنة ويفضل بدلا عنها الحياة الفوضوية والعشوائية والمتقلبة ، الحياة المليئة بالمفاجآت التي لا يمكن التنبؤ بما ستنتجه او التكهن بما ستؤول اليه ، فكل يوم هي في شأن ! . ومما يدعو الى التعجب والاستغراب ان الكثير من الشعوب وبضمنها الشعوب العربية لديها قدرة هائلة على خلق الفوضى والاضطرابات وكأنها لا تجد نفسها الا في المناخات المضطربة ولا تستطيع أن تحيا الا في ظل اللامنطق واللامعقول واللامنضبط والتسيب والانفلات والزعيق والصراخ والاتهامات المتبادلة والجو التآمري ، وتعجز عجزا تاما عن التناغم والانسجام مع أية منظومة او حالة تشتمل على شيء من التخطيط والتأني والواقعية والعقلانية وسياسة البناء التدريجي والاهداف المسبقة المرسومة بدقة والتي يحتاج الوصول اليها الى الوقت والجهد والتعاون والعمل الجماعي ، كل هذه المفاهيم نعجز عن انتاجها ونعجز عن استيرادها من غيرنا ونعجز عن فهمها وإدراكها فضلا عن تطبيقها واتخاذها اساسا لبناء حياتنا لذلك نحن نثور ونثور ونثور وحسب وكأن الثورة غاية بحد ذاتها وليست وسيلة لتغيير الحياة نحو الافضل ، وكأن الشعب ما أن يثور حتى تصبح احواله بقدرة قادر وبعصا سحرية افضل واحسن ، وكأن الثورة واجب يجب ان يقوم به الشعب وما ان يقوم بهذا الواجب حتى يطالب بالثمن المتمثل بأحلامه في العيش بحرية وكرامة ورفاهية ، حتى اننا نسمع الكثير من المواطنين العرب يقول وبمنتهى السذاجة " ألم نقم بالثورة لماذا لم يتغير شيء ؟ ! " . نعم ايها المواطنون لم يتغير شيء ولن يتغير شيء ما دمتم تفكرون بهذه الطريقة وتتكلمون بهذا المنطق ، وما دمتم تلعبون دور ( الثائرون أبداً ) ، وما دمتم تنتمون الى شعوب ثائرة . عندما تمت محاكمة العالم والفيلسوف الايطالي غاليلو بسبب أفكاره حول كروية الارض ودورانها حول الشمس ، واضطراره في المحكمة الى التراجع عن تلك الافكار وانكارها ، اغتاظ احد طلابه وقال له : " مسكينة هي الأمة التي ليس فيها ابطال " فرد عليه غاليلو : " بل مسكينة هي الامة التي تحتاج الى ابطال " , كذلك مسكينة هي الشعوب التي تحتاج الى ثوار وثورات .
#فارس_تركي_محمود (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ظلال الله على الارض
-
التقليد والابداع
-
صفات الشعوب واشتراطات الدولة
-
الدولة الحديثة منتج اقتصادي
-
الانسان البدائي
-
اذا كان هذا صحيحا
-
التمدن والتخلف بقوة الدفع الذاتي
-
غياب العقلية الشمولية
-
المنظومة الفكرية العربية والقضية الفلسطينية ، جدلية السبب وا
...
المزيد.....
-
الجمهوريون يحذرون.. جلسات استماع مات غيتز قد تكون أسوأ من -ج
...
-
روسيا تطلق أول صاروخ باليستي عابر للقارات على أوكرانيا منذ ب
...
-
للمرة السابعة في عام.. ثوران بركان في شبه جزيرة ريكيانيس بآي
...
-
ميقاتي: مصرّون رغم الظروف على إحياء ذكرى الاستقلال
-
الدفاع الروسية تعلن القضاء على 150 عسكريا أوكرانيا في كورسك
...
-
السيسي يوجه رسالة من مقر القيادة الاستراتجية للجيش
-
موسكو تعلن انتهاء موسم الملاحة النهرية لهذا العام
-
هنغاريا تنشر نظام دفاع جوي على الحدود مع أوكرانيا بعد قرار ب
...
-
سوريا .. علماء الآثار يكتشفون أقدم أبجدية في مقبرة قديمة (صو
...
-
إسرائيل.. إصدار لائحة اتهام ضد المتحدث باسم مكتب نتنياهو بتس
...
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|