أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الكردية - دلور ميقري - التحوّلات الكردية : أقلية وأكثرية















المزيد.....

التحوّلات الكردية : أقلية وأكثرية


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 1442 - 2006 / 1 / 26 - 09:51
المحور: القضية الكردية
    


مجتمعُ الأقلية ، المغلق ، في المدينة الكبيرة تحديداً ، يتميّز بإزدهار الجريمة والخروج عن القانون ، بين بعض أفراده ؛ خصوصاً إذا كانوا منحدرين بأصولهم من إقليم تسوده روحُ العنف ؛ حالُ المجتمع الإيطالي في مدينة " شيكاغو " الأمريكية ، على سبيل المثال ؛ والذي بدوره حملَ داخله تقاليد المافيا الصقليّة . المفارقة في موضوعنا ، المتناول مجتمع الأقلية الدمشقي ، أنّ الشوامَ دأبوا حتى وقت قريب على وسم حيّ الأكراد ب " حارة شيكاغو ! " ؛ بالنظر لما عاينوهُ ، أو ما كان يتناهى إليهم ، من أخبار الثارات المتبادلة فيما بين أفراد العائلات الكردية ، المعروفة ، إلى تناهي سطوتهم خارجَ حيّهم . ضافرَ هذا الميلُ للعنف ، عند كرد المدينة ، عاملٌ هام سبق لنا أن نوهنا به فيما سلف من دراستنا ؛ وهو الجذور التاريخية ، العسكرية ، لمجتمعهم الشامي ، بدءً بتأسيسه على أيام بني أيوب ، مروراً بعهود المماليك والعثمانيين والفرنسيين ، وإلى منتصف القرن الماضي . هذا ما يمكن قوله عن مجتمع الكرد ، الغريب ، الذي وجدَ الكثير من أفراده أنفسهم في خدمة من يشجعهم على التمادي في العنف ؛ فماذا عن حال أسلافهم ، في موطنهم الأول ، الجبلي ؟
يذهبُ جيراننا الترك والفرس ، في عهد أعتق ، إلى التأكيد على أنّ النهب والسلب ، هما من مقومات " طبع الكرديّ " . وإلى هذا الحدّ أو ذاك ، شاركهما في هذا الرأي مصادرُ الرحّالة والباحثين الأجانب ؛ بتأكيدها على أنّ تلك الأفعال لا تعدّ أموراً معيبة أو جرائم ، بل هي لائقة بالرجل الشجاع ، حسب مفهوم الكرد . وهذا الباحث الروسي ، ليرخ ، يكتب على لسان أحد أصدقائه ممن عايش أقواماً عديدة في آسيا وأفريقيا : " أنه لم يرَ عند أي شعب من هذه الشعوب ، مثل هذه النزعة المتأصلة للسلب كما هي لدى الأكراد " ، منوهاً بهذا الشأن ، أن الكرد : " لا يمكن إجتثاث الجموح من طباعهم ، حتى عندما يكونون خاضعين لسلطة دولة من دول الشرق . لكن في الوقت ذاته ، هناك في الشرق رأي عام مؤداه ، بأنّ الكردي لا يعامل ضحاياه بتلك القسوة مثلما يفعله التتار والتركمان والبدو " (1) . إذاً ، فهوى السلب والنهب ، لهوَ نزعة ٌ متأصلة في نفسية الكرديّ ؛ مشكلة ً نصيباً من " قِسمَته " في الحياة . إنّ أبَ الأدب الأرمني ، آبو فيان ، الذي عاصر جيرانه الجبليين ، في حوالي منتصف القرن التاسع عشر ، يقول عنهم كلمات رائعة : " الروح الحربية ؛ الصدق والإخلاص الواعي لأمرائهم ؛ الوفاء بالعهد ؛ حبّ الضيف ؛ الثأر حتى بين الأقرباء ؛ الميل إلى النهب والسلب ؛ والإحترام اللا متناهي تجاه المرأة : هذه هي الصفات العامّة لجميع الشعب " . (2)

ضارعَ كردُ الشام جميعَ تلك الخصال والمثالب ، الموسوم بها أشقاءهم في موطن الآباء . ويمكنُ الكلام عن " فرادة " فيهم ، أيضاً ، بنزعة السلب والنهب ! هذه النزعة ، التي يمكن لنا تتبعها أوباً حتى زمن ترسّخ دولة الأيوبيين في مدينتهم . ففي اليوم الذي شاع فيه نبأ إحتضار السلطان صلاح الدين : " إشتدّ الرجف في البلد وخاف الناس ، ونقلوا الأقمشة من السوق .. وكان الناس قد شغلهم البكاء عن الإشتغال بالنهب والفساد ، فما يوجدُ قلبٌ إلا حزينٌ ، ولا عينٌ إلا باكية " (3) . وعلى هذه السيرة ، وصولاً إلى عهد العثمانيين ، الذي طشتْ سماؤه بما إنهمر على " الشام الشريف " من أصناف الجند الكردي ، النظامية والمرتزقة ؛ كالدالاتية والسكمان والسباهية واللاوند . هي ذي مدونات ذلك العهد ، ذاخرة بأخبار السلب والنهب ، الممارسة من لدن تلك الأصناف ؛ كما في يوميات الشيخ البديري ، الدمشقية ، العائدة لمنتصف القرن الثامن عشر . يسرد شيخنا حادثة " توسّط " العسكر الكردي لنزاع بين قبيلتيْن عربيتيْن في بادية الشام ، والذي إنتهى إلى التالي : " وإنّ الأكراد أخذوا جميع ما نهبوه وسلبوه من مال وجمال وغنم ونساء . وكانت الغنم لا تحصى والواقعة مهولة ، فجاؤوا بالأغنام للشام وباعوها ، وكانت سنة غلاء باللحم . فأقبل الناس على شرائها بالرخص ، مع أنهم يعلمون أنه مال حرام فلم يبالوا . فإنّ لله وإن إليه لراجعون ! " (4) . أخباريّ آخر ، من ذلك العصر الصاخب ، هو الأب رفائيل كرامة ، لا يُخفي شماتته بما أتبع فيضان نهر بردى ، الحاصل عام 1797 : " الذي خرّب في جريه نحو ثلث دمشق ، مع خان الدالاتية ، وغرّقهم وغرق كثيرين " . على أنّ هؤلاء العساكر الكرد ، ينتهضون ثانية كأسلافهم الجنّ ! هاهو كاتبنا نفسه ، يرصدُ تحركاتهم على طريق حمص ، مباشرة ً بعيْدَ واقعة الطوفان : " قطعوا الطريق على قافلة من أهل زحلة فشلحوها ، وكذلك فعلوا مع قفل ٍ شامي [ يقصدُ : قافلة ] عائد من بيروت " (5) . المدوّن الدمشقي ، حسن آغا العبد ، يقصّ لنا بالمحكية المحلية ، الطريفة ، حوادثَ العام 1804 ، الطاريء فيه وفاة الباشا الجزار ؛ أحد طغاة ذلك العصر : " والأكراد والشيخ طه [ قائد عسكر اللاوند ] وجنوده يعذبوا الخلق أنواع العذاب ، حتى يقرروهم على المال . وإشتغل مسك الأولاد من الشام ، كل يوم يمسكوا أربعة خمسة ويحبسوهم بزندان القلعة ، ويشتغل العذاب من الأكراد ، الذين باعثهم الجزار إلى الشام ، بالكاشات والحدايد والعصي وغير ذلك ، إلا أن ينهنهوا الرجل من العذاب ويطلبوا شيء كثير " . (6)

ظاهرة " الزكَرتية " ، التي عرضنا لها في حلقتنا السابقة ، خسّت في الشام تدريجياً ، إلى أن إنقطعت أسبابها منذ ستينات القرن المنصرم . كان اولئك الرجال الجسورون ، في العهود الخوالي ، يتمتعون بإحترام الناس ، تبعاً لميل الواحد فيهم للعطف على أبناء حارته وقيامه للدفاع عنهم ، وقت الحاجة . في حيّ الأكراد ، حمل رأسُ الزكَرتية لقبَ " سَرْبَست " ( أيْ : شجاع ، حُر ) . كان هذا يقوم أحياناً بمهمة زعيم الحارة ؛ بحسب صلته بأوساط الوالي أو قادة العسكر. على أنّ ظاهرة اخرى ، دعاها الأهالي بحق " الزعرنة " ، حلّت بمحلّ الزكَرتية ؛ ملتصقة بأشخاص ذوي صيت بالشرّ والإجرام ، ممن عرفوا بتجارة المخدرات وإدارة المقامر والإبتزاز ( الخوّات ) ، بشكل أساسيّ . في الحيّ الكرديّ ، بخاصة ، إشتهرَ بعضُ العائلات بتقاليدها في تلك الأمور ؛ مشكلة ً نوع من " المافيا " ، إذا صحّ التعبير. أدى هذا ، في كثير من الحالات ، إلى إصطدام أفراد تلك العائلات حول مصالح متضاربة ؛ وغالباً ما ينجمُ عنها حوادث قتل ، يتبعها ثارات متبادلة ، مريرة . وقد يمرّ جيلان أو ثلاثة ، والحارة مشغولة بثأر فلان أو دم علان . وفي الأخير ، ربما تثمر بعض المساعي في حل معضلة الثأر ، ودياً ، فيما يُعرف ب " الصلحة " ؛ بتعهد أحد الأعيان نفقاتها ورعايتها ، وبحضور المختار ووجهاء الحارة : لا بل إن مصالحة عائلتيْ " تنوكي " و " بوبو " ، في مستهل التسعينات المنقضية ، إثرَ ثارات دامية ، إستدعى حضور وزير الداخلية بنفسه ! على أنّ القتيل ، عادة ً ، يحظى بشرفٍ لا يقلّ عن تشريفات الوجهاء والوزراء : فما أن تنتهي حياته ، بتلك الطريقة المأساوية ، حتى يُنذرُ لها جنازة ؛ أو قلْ تظاهرة صخابة ، متخللة بإطلاقات نارية كثيفة ، فيما هتافات رفاقه تشق عباب السماء :
" يا يادي يا يادي ، يا ويلاه يا ويلاه
يا جنة إفتحي بابك ، هذا كردي من زوارك ! " (7)

أمّا بشأن المشروبات الروحية ، فالمعروف تاريخياً أنها مرفوضة بعُرف مجتمع محافظٍ ؛ حالُ المجتمع الدمشقي . بيْدَ أنّ الخاصّة والعامّة أقبلت على تعاطي المُسكرات ، بشكل متفاوت بين الجهر والخفية . كان صلاح الدين ، بحسب شهادة كاتب سيرته ، إبن شداد ، يقارعُ أقداح المُدامة طيلة فترة شبابه ، وإلى أن دعاهُ عمّه للإنضمام للعسكر المتوجّه لمصر (8) . علاوة على أن الأخلاف ، من سلاطين وملوك ، دأبوا على ذلك التقليد ؛ حدّ أنّ أحدهم ، وهو الملك القاهر ، زوج " ست الشام ، شقيقة صلاح الدين ، مات من إكثاره للخمرة صباحَ أحد الأعياد (9) . كما أنّ قاضي الشام ، في العهد الأيوبي ، إبن خلكان ، تعاطى إبنة الكرمة نهاراً جهاراً ، وكان يفاخرُ بذلك في شِعره (10) . إلا أنّ هكذا مجاهرة ، في مدينة كدمشق ، قابلها الأهالي بكثير من الإستياء ، بإعتبارها تحدّ لأمور الدين وحطاً من مشاعر المؤمنين وتقاليدهم . ففي عهد المماليك ، دار الشيخ إبن تيمية وأعوانه على دور اللهو والسُكر ، منتهزين فرصة خلوّ المدينة ، سواءً بسواء من جيشيْ التتر الغزاة أوالسلطان : " فكسروا آنية الخمور وشققوا الظروف وأراقوا الخمور ، وعزروا جماعة من أهل الحانات المتخذة لهذه الفواحش ، ففرح الناس بذلك " (11) . في العهد العثماني ، عُرف من بين ولاة الشام المتزمتين ، الكَنج يوسف باشا الكردي ؛ الذي تشدد في منع الخمرة بيعاً وتعاطياً . يقال في هذا الوالي ، أنه عمد إلى حمل سلم الدين بالعرض لأمر ؛ هو محاولة تهدئة غلواء وهابيي الحجاز ، الذين كانوا آنذاك متمردين على الدولة ، وطريق الحج السلطاني تحت رحمتهم (12) . على أن الفاتح المصري ، إبراهيم باشا ، أنعش حياة الليل الشامية ، بفضل تسامحه ؛ مما كان من الأسباب التي تذرع بها عدوّه ، الباب العالي ، لتحريض مشايخ الخلافة ضده ، ووصمه بالزنديق وصديق الملة النصرانية . (13)
شذ أفراد المجتمع الكردي الشامي ، عموماً ، عن ناس المدينة ، فيما يخصّ تعاطي الخمور . لقد نوهنا ، دوماً ، بطبيعتهم العسكرية الغالبة ، المستشري فيها ما كان يدعوهُ مدوّنو ذلك الزمان " الفساد والإفساد ". لقد إرتاد أفراد الأصناف ، الكرد ، من جند الدالاتية والسكمان واللاوند وغيرهم ، المقاهي والخانات سعياً لمسرات المدامة . وبلغت بهم القحة حدّ العربدة ، علناً ، في شوارع المدينة القديمة ؛ حتى لقد أصدر أحد الولاة أمراً منع بموجبه تجوّل الحريم في شوارعها ، تجنيباً لهنّ من التحرش أو الإختطاف (14) . بالمقابل ، إتخذ سراة الكرد وأعيانهم مظهراً أكثر تحفظاً ، تقديراً منهم لوجاهتهم وحساسية مركزهم ، فيما يتعلق ب " رجَس ٍ من عمل الشيطان " . فالإخباريون الدمشقيون ، راعوا هذه الإعتبارات ، بمنحهم اولئك السراة صفات الطهارة والخلُق القويم ؛ وعلى هذا ، فلا فائدة ترتجى من إشاراتهم . كان لا بدّ للقرن التاسع عشر ، أن يأذن بالإنطواء ، كيما تصلنا شهادة المنوّر الكرديّ ، صالح بك بدرخان ، المشيرة دونما مواربة إلى تعاطي الخمرة ، المتفشي في طبقة الأعيان . هاهو في مذكراته ، يستعيدُ لنا رحلته المقدسية : " كنت أمرّ كل يوم على مقهى في " باب الخليل " ، في الذهاب والإياب . كنتُ ألعبُ البليارد وأحتسي بضع أقداح من الكونياك . الواقع أنني بدأتُ بتعاطي الخمرة في دمشق ، لكنني أدمنتُ هنا . كنت قد أعتدتُ على هذا المنكر في المدرسة " . (15)

ما عتم تعاطي الخمرة أن أضحى ، لاحقاً ، مسألة إعتيادية في الحياة الشامية ، بشكل عام ؛ وأن ظلّ بيعها مقتصراً على النصارى . هذه الحقيقة ، تؤدي بنا إلى ما كانه وضع أهل الذمة في دمشق . الواقع أن الباب العالي ، ومنذ بداية الفتح العثماني ، ترك الحرية لطوائف الأقليات الدينية في حيازة مؤسساتها المذهبية والثقافية ؛ الحرية ، التي حُرمَ منها بعض الطوائف الإسلامية الهرطوقية ، أو المنسوبة لها ؛ كالعلوية ( النصيرية ) والإيزيدية . وإعتباراً من القرن الثامن عشر ، سعت الدول الأوروبية إلى الحصول على إمتيازات خاصة ، في الدولة العثمانية ، تحت يافطة " حماية النصارى " . منذئذ ، سنرى كل معاهدة وقعتها السلطنة الهمايونية مع دولة غربية ما ، متضمنة بنداً يضفي الصفة الرسمية على حماية طائفة شرقية ، مرتبطة بها مذهبياً . لا غرو إذاً أن يعقب أي إصطدام بين الدولة العلية وهذه الدولة الأوروبية نفسها ، أن يتناهض المتزمتون الجهلة لنفخ نفير الجهاد المقدس ضد " طائفتها " المسيحية ، بزعم كونها " طابوراً خامساً " ! المفارقة ، أن الدول الغربية ، من جانبها ، لم تقصّر في هذا المجال : كان كل طرف يعمل ، من جهته ، على تحريض الباب العالي لمضايقة الطائفة الشرقية ، المحسوبة على منافسته . وها نحن نقرأ في تاريخ ميخائيل الدمشقي ، خبراً كان طازجاً في حينه ، عن الوالي الكردي إبراهيم باشا الدالاتي : " وفي زمانه رجعت كنائس الكاثوليك ، في صيدنايا ، إلى أصحابها ورفع الإضطهاد عنهم " . (16)
على صعيد كرد المدينة ، وهم جزء من الأغلبية المسلمة ، كانت الصورة مغايرة عما أسلفنا من تسامح الوالي الدالاتي ؛ بما طيّحها من تزمت الكَنج يوسف باشا الكردي ، أو طيش آغاوات الجند الآخرين ؛ من أمثال الشيخ طه الكردي ، في تعدياتهم غير المبررة على أهل الذمة ، إرضاءً لجشع الولاة . ثم إبتدهتْ فتنة جبل لبنان ، بين النصارى والدروز (1860) ، إنطلاقاً من دسائس الباب العالي ؛ والتي سرعان ما إمتدّ لهيبها إلى دمشق ، تبعاً لإثم المحرّض ، ذاته . الملاحظ أنّ موقف بعض القادة العسكريين الأكراد ؛ مثل أحمد بك بوظو وغيره ، كان ُمشرفاً وشجاعاً ؛ بتجاهلهم أوامر قيادتهم و قيامهم على صدّ عوام الدروز ، في البقاع والجبل (17) . إلا أن أبناء قومهم ، وتحديداً آغاوات الأصناف العسكرية ، الكردية الدمشقية ، إنصاعوا لأوامر الدولة وشاركوا بنشاط في المذبحة الحاصلة بحيّ النصارى . وهذه شهادة المستر روبسون ، الذي كان متواجداً وقتئذ في الحيّ المنكوب : " في ذلك اليوم ، تراكض الرعاع من أحياء الميدان والشاغور والصالحية . إن الباشبوزق الموجود بإمرة سليم آغا المهايني ومصطفى بك الحواصلي وغيرهما ، والأكراد مع زعيمهم محمد سعيد آغا شمدين ورجال الشرطة ، كانوا في مقدمة الذين أسرفوا في القتل والنهب " (18) . كان شمدين آغا ، المذكور ، على رأس الصنف العسكري الكردي ؛ المعروف ب " العونية " ، وسبق له أن عقد تحالفاً مع زعماء الدروز السوريين واللبنانيين على حد سواء . وبهذا المعنى ، تأتي شهادة المسيو شارل اوبانك ، أمام الجمعية الشرقية : " إن الدخان الكثيف الذي تصاعد من الحيّ المسيحيّ ، حرّك مطامع عصابات الرعاع المجاورة ، فإنقض الدروز والأكراد على هذه الغنيمة مطمع أطماعهم " . (19)
على أنّ زوال الليل العثماني ، المبشر بإشراقة العصر الحديث ، رمى جانباً كل تلك الآلام والمظالم ومشاعر الريبة والبغضاء . فما عتم أن أضحت الحياة الدمشقية أكثر يسراً ، لمكونات مجتمعها المختلفة ؛ وتعددت أسباب اللهو والبهجة ومجالات التسلية وقضاء أوقات الفراغ خارجاً ، دونما خشية من عسكر أو مرتزقة . شيئاً فشيئاً ، خرج أهالي الحيّ الكرديّ من عزلتهم ، متصلين بنواحي الحياة الشامية ، الإقتصادية والعلمية والثقافية والسياسية . ساعدَ على ذلك دخولُ المواصلات الحديثة إلى مناطقهم ، ووجود المعامل والمدارس والوظائف ، وغير ذلك من دور الحكومة ، في داخل المدينة القديمة . صارت ظواهر الزكَرتية والعصبية القبلية من ذكريات الجدّات ، يروينها لأحفادهنّ . علاوة على أنّ التشدد في مسألة تعاطي الكحول بات ، أيضاً ، من مخلفات الماضي ؛ لدرجة أنّ بعض المقاهي في حيّ الأكراد ، تحوّل إلى خمارات . فضلاً عن إنتشار محلات بيع الخمور ، والتي ما عادت محتكرة للنصارى ، بل عاد ملك بعضها لأفراد من عتاة الحارة . كما أنّ العلاقات بين الكرد وغيرهم من الأقوام المتجاورة معهم ، داخل الحيّ أو على أطرافه ، إتسمت منذئذ بالودّ والتفاهم ؛ حتى أنّ نسبة المسيحيين والعلويين والدروز وغيرهم من الأقليات ، في حيّ الأكراد ، تعدّ الأعلى بالنسبة للأحياء الدمشقبة ، الإسلامية ؛ الحيّ الذي ما لبث أن خرج من عزلة القرون الوسيطة ، متخلياً عن الكثير من طبائعه وأعرافه وتقاليده ، مندمجاً بالتحولات المتأثرة بالحداثة الشاملة أوجه الحياة الشامية جميعاً . وفي هذا الصدد ، يكتب نصوح خيّر ، أنّ أكراد دمشق : " فقدوا مع الزمن كثيراً من عصبيتهم القومية والقبلية ، وقلت الفوارق بينهم وبين باقي سكان دمشق حتى كادت تنمحي . فعلى الرغم من أن كل كردي يعرف إسم عشيرته التي ينتمي إليها ، فإن روح التعلق بالقبيلة والمفاخرة بها قد أصبحتا اليوم في طريق الزوال " . (20)

هوامش ومصادر :

1 _ ب . ليرخ ، دراسات حول الأكراد _ الطبعة العربية في دمشق 1992 ، ص 20
2 _ مينورسكي ، الأكراد _ الطبعة العربية في بغداد 1968 ، ص 80
3 _ إبن شداد ، النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية _ دمشق 1979 ، ص 369
4 _ الشيخ البديري ، حوادث دمشق اليومية _ القاهرة 1959 ، ص 89
5 _ الأب رفائيل كرامة ، تاريخ حوادث لبنان وسورية _ بيروت بلا تاريخ ، ص 144
6 _ حسن آغا العبد ، حوادث بلاد الشام _ دمشق 1986 ، ص 102
7 _ يادي ، تعني بالكردية : أمّاه
8 _ إبن شداد ، مصدر مذكور ، ص 9
9 _ خير الدين الزركلي ، الأعلام _ بيروت 1980 ، ص 160 ج 4
10 _ المصدر نفسه ، ص 220 ج 1
11 _ نقولا زياده ، دمشق في عصر المماليك _ الطبعة العربية في بيروت 1966 ، ص 35
12 _ يوسف جميل نعيسة ، مجتمع مدينة دمشق _ دمشق 1986 ، ص 350 ج 1
13 _ مذكرات تاريخية عن حملة إبراهيم باشا على سورية ، لمؤلف مجهول _ دمشق 1982 ، ص 65
14 _ الشيخ البديري ، مصدر مذكور ، ص 96
15 _ صالح بدرخان ، مذكراتي _ الطبعة العربية في دمشق 1991 ، ص 39
16 _ ميخائيل الدمشقي ، تاريخ حوادث الشام ولبنان _ دمشق 1982 ، ص 16
17 _ كمال الصليبي ، تاريخ لبنان الحديث _ بيروت 1984 ، ص 134
18 _ مجموعة المحررات السياسية والمفاوضات الدولية عن سورية ولبنان ( 1840 _ 1860 ) ، من أرشيف الدول الأوروبية / الطبعة العربية في بيروت 1980 ، ص 223 ج 1
19 _ نفس المصدر ، ص 27 ج 3
20 _ نصوح خيّر ، مدينة دمشق : دراسة في جغرافية المدن _ دمشق 1982 ، ص 23



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الإجتماعيات الكرديّة : تقاليدٌ وتجديد
- الإجتماعيات الكردية : طِباعٌ وأعراف
- الإجتماعيات الكردية : فقهٌ وتصوّف
- القصبات الكردية (2 / 2)
- الإجتماعيات الكردية : عامّة وأعيان
- رؤيا رامبو
- الميلاد والموت
- القصبات الكردية
- المهاجر الكردية الأولى
- كي لا ينام الدم
- سنوات النهضة الكردية: مدرسة الشام
- المصادر الاسطورية لملحمة ياشار کمال ..جبل آ?ري


المزيد.....




- الخارجية الفلسطينية: تسييس المساعدات الإنسانية يعمق المجاعة ...
- الأمم المتحدة تندد باستخدام أوكرانيا الألغام المضادة للأفراد ...
- الأمم المتحدة توثق -تقارير مروعة- عن الانتهاكات بولاية الجزي ...
- الأونروا: 80 بالمئة من غزة مناطق عالية الخطورة
- هيومن رايتس ووتش تتهم ولي العهد السعودي باستخدام صندوق الاست ...
- صربيا: اعتقال 11 شخصاً بعد انهيار سقف محطة للقطار خلف 15 قتي ...
- الأونروا: النظام المدني في غزة دُمر.. ولا ملاذ آمن للسكان
- -الأونروا- تنشر خارطة مفصلة للكارثة الإنسانية في قطاع غزة
- ماذا قال منسق الأمم المتحدة للسلام في الشرق الأوسط قبل مغادر ...
- الأمم المتحدة: 7 مخابز فقط من أصل 19 بقطاع غزة يمكنها إنتاج ...


المزيد.....

- سعید بارودو. حیاتي الحزبیة / ابو داستان
- العنصرية في النظرية والممارسة أو حملات مذابح الأنفال في كردس ... / كاظم حبيب
- *الحياة الحزبية السرية في كوردستان – سوريا * *1898- 2008 * / حواس محمود
- افيستا _ الكتاب المقدس للزرداشتيين_ / د. خليل عبدالرحمن
- عفرين نجمة في سماء كردستان - الجزء الأول / بير رستم
- كردستان مستعمرة أم مستعبدة دولية؟ / بير رستم
- الكرد وخارطة الصراعات الإقليمية / بير رستم
- الأحزاب الكردية والصراعات القبلية / بير رستم
- المسألة الكردية ومشروع الأمة الديمقراطية / بير رستم
- الكرد في المعادلات السياسية / بير رستم


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - القضية الكردية - دلور ميقري - التحوّلات الكردية : أقلية وأكثرية