|
آفاق الحرب والسلام في اليمن
منذر علي
الحوار المتمدن-العدد: 5505 - 2017 / 4 / 28 - 17:25
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
الحرب، هي حالة نزاع مسلح بين بلدان مختلفة، أو بين أطراف مختلفة داخل البلد الواحد، و تشمل البر أو البحر أو الجو، و قد تكون ساحتها كل هده الأبعاد الجغرافية مجتمعة، وقد تستخدم فيها كافة الوسائل القتالية، و تتميز بالقسوة و العنف والتدمير. والحرب قد تكون قصيرة، وتستمر لأيام، وقد تكون طويلة وتستمر لسنوات. والحرب قد تكون محدودة النطاق، وقد تكون شاملة، وقد يتراوح عدد ضحاياها بين عشرات الأفراد وبين عشرات الملايين. والحرب قد تُسْقِط أنظمة قائمة وتقيم أخرى، وقد تُعدِّل الحدود الجغرافية بشكل محدود ، وقد تغيِّر الخارطة السياسية والجغرافية بشكل جذري. الحيوانات تتقاتل وتأكل بعضها بعضاً ، والإنسان يقتل الحيوان ويأكله ، كما قتل وآكل أخيه الإنسان في الماضي ، ولكن الإنسان المعاصر لا يأكل أقرانه من البشر، على الأقل في الظروف الراهنة ، بسبب الوفرة المادية ، ولكنه يمارس العنف ، بشكل أوسع نطاقاً من سابقيه ، بسبب التقدم التكنولوجي ، و يقتل العشرات والملايين منهم ، رغبة في التوسع وطمعاً في الثروة والسلطة وسعياً للهيمنة المطلقة. فمجموع الوفيات الناجمة عن العنف المنظم في القرن العشرين، يشكل حوالي 75 في المائة من مجموع الوفيات الناجمة عن الحروب خلال 5000 سنة المنصرمة من حياة البشرية ، كما لا حظ وليم إكهارد (Eckhardt, 1992: 273) ، أي إنَّ الإنسان الحديث قتل خلال المائة سنة الأخيرة ، أكثر بعشرين مرة مما أمكن لإسلافه القدماء أن يقتلوا خلال 4900 سنة الماضية. والحرب ، بحسب توصيف المنظر العسكري الألماني، كارل فون كلاوزفيتز ، Carl von Clausewitz " ليست سوى مبارزة على نطاق واسع، وإنَّ بوسع ما لا يحصى من المبارزات أنْ تصنع حرباً. إلاَّ أن صورتها الكلية ، يمكن أن تتشكل بتصور اثنين من المتصارعين ، يسعى كل منهما ، بفعل قوته المادية، لإجبار خصمه على الخضوع لمشيئته، وغايته الآنية هي إلقاء خصمه أرضاً لجعله عاجزاً عن أبداء أية مقاومة" (Clausewitz 1989:75). وهكذا فالحرب عمل مِنْ أعمال العنف، يستهدف إكراه طرف ما على تنفيذ إرادة الطرف الآخر الأقوى. ويجري احتكار و استخدام العنف المنظم ،Organised violence ، أو العنف "المشروع"، Legitimate violence ، بحسب القول الكلاسيكي الشهير لعالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، من قبل الدول التي تحتكر العنف ، ولكن العنف ، بصوره المختلفة ، وبصرف عن مشروعيته أو عدم مشروعيته ، يجري أيضاً استخدامه من قبل المجموعات البشرية الكبرى، كالتنظيمات الدينية والسياسية ، والتجمعات القبلية ، التي تمتلك وسائل العنف في ظل الضعف البيِّن للدول المركزية في المجتمعات المتخلفة، كما يضيف آخرون.
وفي مقارباته للحرب ، يربط كلاوزفيتز ، ربطاً وثيقاً ، بينها وبين السياسة. إذ يرى أن الحربَ ليست مجردَ جزءٍ من السياسية، بل هي أداة سياسية حقيقة. إنها " استمرار للنشاط السياسي بوسائل أخرى " (Clausewitz 1989: 87)، وهي فعل عنيف، يستهدف إخضاع الخصم لإرادة الطرف الأقوى، والغاية منها، تتجسد في حماية مصالح الجهة المحاربة وتوسيع دائرة نفوذها. وبما إنَّ الحرب تعبر عن تفاعل عنفي بين جماعتين أو أكثر من القوى المتعارضة في المصالح والرغبات، فأن التعريف السالف، يمكن أيضاً استخدامه عند الحديث الحروب الطبقية.
وبعيداً عن الغوص في تفاصيل الأسباب النفسية والاجتماعية العديدة للحرب، التي عرضها كلاوزفيتز ، في مقارباته المتميزة، يمكننا القول إنَّ الحروب تعبر عن الانسداد السياسي ، وتلجأ إليها الدول والجماعات البشرية حينما تفشل في الموائمة ، بشكل عقلاني، بين مصالحها المختلفة، وحينما لا تجد وسيلة ناجعة لحل الخلافات القائمة، وهي تنبثق من أسباب كثيرة ، من بينها ، إنَّ دولاً معينة تسعى للهيمنة بالقوة على دول أخرى لأسباب سياسية واقتصادية وإستراتيجية، أو إنَّ أجزاء معينة من بلد ما، تختار القتال من أجل الهيمنة على الأجزاء الأخرى ، خدمة لمصالح النخبة المسيطرة، أو إنَّ مجموعة سكانية معينة من البلد، تختار القتال من أجل انفصالها عن بقية الأجزاء الأخرى ، بسبب الكراهية المتأصلة بين بعض الجماعات، المتكئة على مشاعر قبلية، ثأرية ، أو خلافات جهوية،الناتجة عن التباين في الثروة ، أو التنافر المذهبي أو العرقي، أو جراء العزلة التاريخية، التي نشأت بفعل التركيبة الجغرافية المعقدة ، وترسختْ بفعل الاستعمار الخارجي، وخاصة حينما تُستغل تلك التباينات و المشاعر البدائية المتخلفة من قبل النخب السياسية النافذة ، فتقوم ، وبسائل ماكرة ، ببعثها وتغذيتها ، بين الجماعات المختلفة ، ودفع تلك الجماعات ، غالباً عن بعد، نحو الصدام المسلح ، ومن ثم تقوم النخب الماكرة بامتطاء ظهر تلك الجماعات نحو غاياتها السياسية ، بغية تعزيز هيمنتها القائمة على السلطة وتوسيع دائرة نفوذها، أو بغرض الإطاحة بالفئة المهيمنة والسيطرة على السلطة وتفعيل هيمنتها البديلة، ومن ثم تقوم النخب المهيمنة ، وبوسائل شتى، بالتخلص من تلك الجماعات ، والقذف بها في أقرب مزبلة ، حتى لا تهدد هيمنتها. و الحروب تنبثق عادة من الواقع، بملابساته المحلية والإقليمية والدولية وتكون في الجوهر لإغراض اقتصادية وسياسية، حتى وأن تلفعت بالقيم الدينية والأيدلوجية.
وبإيجاز ، فإنَّ الحرب قد تأخذ شكل نزاع مسلح بين دولتين أو أكثر ، جراء صراع حدودي ، ورغبة في إعادة تنظيم الجغرافية السياسية ، وقد تأخذ شكل صراع مسلح في بلد واحد بين فصائل مختلفة ومتباينة في مصالحها الاقتصادية والسياسية، أو قد تكون حرباً بالوكالة لحساب دول أخرى ، لا تريد التورط مباشرة في الحرب، فتستأجر الدهماء من أبناء البلد ، والفقراء من خارج البلد، لكي يقوموا بالحرب، نيابة عنها، لتحقيق غاياتها المختلفة.
قوى الحرب الحرب في اليمن ، هي مزيج من الحرب الأهلية بين الجماعات المتنافرة ، لأسباب قبلية و طائفية وجهوية وطبقية ، وهي أيضاً حرب بالوكالة، خدمة لمصالح بعض القوى الإقليمية ، كما أنها حرب ناتجة عن عدوان خارجي سافر علي اليمن ، حتى لو تذرعت قوى العدوان بالشرعية المحلية والدولية والمصالح القومية المشتركة. وعليه، فإنَّ الحرب القائمة في اليمن ، كما هو حال السلام المأمول فيه ، يمكن النظر إليها من بُعدين اثنين ، داخلي وخارجي، متعارضين أشد التعارض، ولكنهما متداخلين أشد التداخل : البعد الخارجي، ويتجسد في قوى المحيط الإقليمي، وتحديداً في الذئبين السعودي والإيراني وأتباعهما. و بقدر ما لهذين الذئبين الإقليمين ، من أتباع محليين صغار، فأن لهما أيضاً أسياد دوليين كبار ، ينشطون خارج القانون الدولي ، لا بسبب امتلاكهم لصفات أخلاقية أو عقلانية فائقة ، تجعلهم فوق القانون، بل لأنهم يمتلكون، بحسب توصيف المفكر اليساري الأمريكي، نعوم تشومسكي، عنصري الامتياز و القوة، privilege and power ، اللذان يتيحان لهم انتهاك القانون الدولي، ومناهضة القيم الإنسانية والافتئات على الحقائق التاريخية، دفاعاً عن مصالحهم السياسية والإستراتيجية في العالم ، وعلى وجه الخصوص في المنطقة العربية ، ذات الأهمية القصوى للمصالح الأمريكية. وفي هذا السياق ، تؤكد ،مادلين أولبرايت" وزيرة الخارجية الأمريكية، في إدارة الرئيس بل كلينتن، أمام المتحدة ، قائلة: " إننا سنتصرف جماعياً عندما نستطيع وسنتصرف أحادياً إذا استلزم الأمر؛ لأننا نعتبر هذه المنطقة ذات أهمية قصوى للمصالح الأمريكية القومية، ومن ثم لا نعترف بأي حدود أو عراقيل ولا حتى بقانون دولي أو أمم متحدة" (Chomsky 2003: 10). وضمن هذه الأسس ، غير المتوازنة في العلاقات الدولية ، تتعامل الامبريالية الأمريكية مع أتباعها في الشرق الأوسط. إذْ إنَّ العلاقات بين الذئاب الإقليميين الصغار، وأسيادهم الكبار، أبعد وأكثر تعقيداً مما يتراءى إلى كثيرين من الناس ، فهي ليست علاقات قائمة على النديِّة ، وإنما على نوعٍ جديدٍ مِنْ العبودية ، فالذئاب الإقليميين، يُنفذون توجيهات الأسياد، جراء التبعية الاقتصادية والسياسية العضوية التي تربطهم بالمركز الامبريالي المهمين، وكذا لقاء ما يحصلون عليه من دعم سياسي وحماية عسكرية مشروطة. و وفقاً لهذه العلاقات المتشابكة والمعقدة، فأنهم جميعاً يدعمون الحرب في اليمن. فالأسياد الكبار ، مثل أمريكا وبريطانيا وإسرائيل وروسيا ، لا يعنيهم في شيء الوضع الإنساني في اليمن ، ولا يهمهم السلام الاجتماعي فيه ، ولا يكترثون لحياة الملايين من أبناء هذا البلد المنكوب بنخبه الفاسدة والعميلة ، التي قادتْ اليمن إلى هذا التردي الفظيع ، بقدر ما يعنيهم أتساع سوق تجارة السلاح أمام الشركات الرأسمالية الكبرى، وخاصة الأمريكية والبريطانية، والحيلولة دون بروز دولة يمنية عصرية ، قوية ومستقلة في هذا الحيز الجغرافي المهم ، من شأنها أن تهدد مصالحهم ، فضلاً عن سعيهم للاستفادة من الموقع الاستراتيجي الفريد الذي يشغله اليمن، ومن ثرواته الظاهرة والمستترة. وفي هذا السياق، يكفي أنْ نذكُرْ إنَّ حكومةَ الولايات المتحدة الأمريكية وافقت في الآونة الأخيرة على صفقة سلاح، تشتري السعودية بموجبها أربع سفن حربية، متعددة المهام، تصل قيمتها إلى 11.25 مليار دولار. وقد عززت تلك الصفقة بعقود واتفاقيات سرية ، عقب زيارة الأمير محمد بن سلمان إلى وشطن في 13 مارس من العام الجاري. كما رخَّصت الحكومة البريطانية، منذ مارس 2015 ، للشركات البريطانية، لبيع أسلحة للسعودية، تتعدى قيمتها 3 مليارات جنيه إسترليني ، من بينها أسلحة محرمة دولياً ، مثل القنابل العنقودية ، Cluster Bombs وغيرها . وعلى الرغم من اعتراض المنظمات الحقوقية على بيع الأسلحة البريطانية للسعودية ، إلاّ إنَّ الحكومة البريطانية ، كما هو معلوم، كانت على الدوام ومازالت تتجاهل ، بمكر واحتيال، تلك الاعتراضات ، و تسعى ، بالضد من رغبات المنظمات الحقوقية والإنسانية ، لتعميق علاقاتها مع دول الخليج ، وعلى رأسها المهلكة السعودية، ، وخاصة عقب خروجها من الاتحاد الأوروبي، و سعيها الحثيث للبحث عن بدائل اقتصادية جديدة، تعوضها عن الخسائر القائمة والمحتملة ، الناتجة عن ذلك الخروج. كما بلغت قيمة صفقة الأسلحة الروسية لإيران ، التي شملت أحدث النماذج من منظومات الصواريخ المضادة للطائرات "إس – 300 بين 11 و13 مليار دولار. و يبدو إن َّ هذه الصفقات قابلة للتنوع والزيادة. إذ قد تحصل إيران في المدى المتوسطة على صواريخ " إس-400، كما كشفت بعض التسريبات السياسية والدبلوماسية في أعقاب الزيارة الأخيرة للرئيس الإيراني حسن روحاني إلى موسكو في 27 مارس 2017. وقد خصصت إيران 21 مليار دولار لشراء الأسلحة من روسيا، من الخمسين مليار دولار، التي استردتها بعد رفع العقوبات عنها، بحسب تقديرات المتخصصة الروسية في الشؤون الإيرانية كارينا كيفوركيان. وعليه ، وبما إنَّ السلام في اليمن غير مربح للقوى الكبرى ، فإنَّ العالم الخارجي ، بشقيه الشرقي والغربي، لم يسع لوقف الحرب على مدى العامين المنصرمين، ولن يسعى لوقفها في المستقبل المنظور ، وهو يقوم ، لاعتبارات اقتصادية وسياسية وإستراتيجية معلومة ، بدعم أطراف الصراع الإقليمي ، إيران والسعودية ، اللتان تقومان بدورهما ، وعن طريق القوادين المحليين ، بدفع الأغنام للتناطح على أرض اليمن، والغرق في وحل دمها حتى الفناء ، ليسهل عليها السيطرة على المنطقة. وليس ثمة أمل يُرجى من الجامعة العربية المكركبة ، مثل سفينة خربة ، ومن الإتباع الصغار الآخرين ، لدول الخليج الغازية، مثل السودان، وجبوتي والصومال والبحرين والمغرب وموريتانيا وغيرها ، فهذه الدول، لا ترغب في السلام في اليمن ، لاسيما وإنَّ الحرب في اليمن تَدُرُّ عليها مئات الملايين، في حين إنَّ السلام سيَدُرُّ عليها البطالة والجوع والحرمان. فتجارة الموت رائجة ومُربحة، ولذلك فإنَّ الأتباع الصغار، في هذه الدول المشوهة، مضطرون للمتاجرة بجيوشهم وشرفهم ودماء أبنائهم في معارك اليمن العبثية، لقاء ما يمكن أن يحصلوا عليه من دعم وعطايا. ولذلك ليس من مصلحة الذئاب الإقليمية الشرسة، المدججين، Heavily Armed ، بالسلاح الأمريكي والبريطاني والروسي، وليس من مصلحة الأتباع الإقليميِّن الصغار ، المُدجَّنين ، Domesticated، بالمال السعودي والإماراتي والقطري والإيراني ، ولا من مصلحة الأسياد الدوليين الكبار، المُتجبِّرين ، العنصرين، الطامعين، و الطامحين للهيمنة على العالم العربي، أن تتوقف الحرب في اليمن. وغني عن القول إنَّ العالم لا يُحكم وفقاً للمعايير الإنسانية السويِّة، وإنما وفقاً للمصالح الاقتصادية والسياسية والإستراتيجية المتغيرة. ولو كان العالم يُحكم وفقاً للقيم الأخلاقية ، كما يأمل الأسوياء من البشر ، لأمكن للدول الكبرى أنْ تُوقف الحرب في اليمن ، عقب نشوبها، خلال بضعة أسابيع أو أشهر. ولكن كيف نأمل مِنْ مَنْ أشعل الحروب أن يوقفها؟ نحن، إذِاً، نعيش في خضم الانكسار والتوحش و البربرية، وعلينا، كجماعة إنسانية، أنْ نفكرَ بعمقٍ كيف ننقذ وطننا من هذا المصير القاسي الذي يعصف به اليوم. البُعد الداخلي: هنا يمكننا أن نشير إلى كتلتين متفاوتتين في الحجم والقوة والتأثير في مسار الحرب والسلام في اليمن: الكتلة الأولى، وتُقدَّر بمئات الآلاف، و تتمثل بالدهماء، أو بالأغنام الجائعة، المُتَحَّكم بها من الخارج، و المُوَجَهة صوب الخراب. وهذه الكتلة ، مشوشة ، لا تجيد التفكير والتدبير ، ولكنها تجيد الكر والفر، والتناطح والتمرغ في وحل دمائها ، لقاء ما تحصل عليه من أعلاف لسد رمقها ، وقد أتسع حجم هذه الكتلة في الفترة الأخيرة ، وهي ما فتئت تتزايد بوتيرة متسارعة ، بسبب حدة الصراع ، واتساع رقعته وامتداده في الزمن ، وارتفاع منسوب السلاح لديها ، بشكل متوازٍ مع منسوب الجهل الفائض، والأحقاد التي لا حد لها . وغدا مفهوم الشعب اليمني ، لدي هذه الفئة الضالة والمشوشة ، محصوراً في عشيرتها الضيقة وقبيلتها الضئيلة ، وأصبح مفهوم الوطن لديها ، محصوراً في مناطقها الصغيرة ، وغدت المعتقدات والرؤى الفكرية مجرد "هويات قاتلة" . كما غدت الحرب بالنسبة لها مهنة وحيدة ، مثلها مثل العمارة و النجارة والتجارة والزراعة، ليس هناك ما يشين بشأنها. ولئن كانت الحرب مهنة فيها الكثير من المجازفة ، إلاَّ أنها شديدة الإثارة ، وتلبي النزوع الوحشي الكامن في الإنسان ، على حد تعبير بعض علماء النفس ، فضلاً عن أنها تمكِّن صاحبها ، في ظروف اليمن البائسة ، من إشباع حاجاته الحيوية ، من طعام وشراب ولباس وكساء ، مقابل أعماله الوحشية في سفك الدماء . فالقتل، الذي كان عملاً فردياً، يجافي القانون، غدا عملاً جماعياً مُبرراً، وعنفاً منظماً، Organized Violence ، كما يُسمِّيْه علماء الاجتماع، وغدا مقبولاً ، سواء كان دفاعاً عن القبيلة، أو الحزب، أو الطائفة، أو الجهة الجغرافية، أو المقدس، أو المدنس. ذلك إنَّ جُل المتصارعين في اليمن، يضْفون على تكويناتهم السياسية صفات القداسة: أنصار الله ، أنصار الشريعة ، أنصار السنة....الخ ، و جميعهم يزعمون ، دون خجل، مناصرة الله ، ولكنهم في واقع الأمر، يناصرون الإله الإيراني، أو الإله السعودي، الصغيرين، اللذين يناصران ، بدورهما، الإله الامبريالي الكبير، الشديد القسوة والجبروت، وبشكل يتعارض مع المقدس الديني الذي يجله المسلمون.
عواقب الحرب إنَّ الحرب في اليمن ، بتجلياتها المختلفة، خلقت تشوهات كثيرة في الوعي الجمعي. لقد أدتْ إلى انخفاض ملحوظ في الولاء الوطني ، مقابل ارتفاع متزايد في الولاء الخارجي. كما ترتب على الصراع والحرب خللاً عميقاً في التركيبة الاجتماعية. وقد نجم عن الحرب ، بشكل مباشر ، تهديم البنية التحتية وقتل عشرات الآلاف من اليمنيين، العسكريين والمدنيين، بمَنْ فيهم النساء والشيوخ والأطفال. كما نتج عن الحرب تضييق الحصار على المدن، المكتظة بالسكان، وشلل وتوقف العملية التعليمية، وأتساع رقعة الأمية، وانتشار التلوث البيئي والنقص الحاد في الأدوية و الخدمات الصحية، الأمر الذي أثَّرَ، بشكل عميق، على حياة الملايين من البشر. ونتج عن الحرب زيادة ملحوظة في "مهن" وجرائم القتال والاقتتال ، والسلب والنهب ، وانحسار وتوقف شبه كامل للأنشطة الاقتصادية والاجتماعية والتوظيف ،Employment ، و أتساع هائل في نسبة البطالة ، وانتشار الجوع على نطاق واسع بين عشرات الملايين من اليمنيين، حيث تقدر الأمم المتحدة إنَّ 80 % من السكان، يفتك بهم الجوع، وهم في حاجة إلى مساعدة إنسانية عاجلة . وفي ذات الوقت ، أدت الحرب إلى بروز شرائح غنية بفعل دورها في تجارة الحرب ، وقابلها ، في الطرف الآخر، ارتفاع كبير في نسبة التشرد ، وزيادة هائلة في معدل طبقة المعدمين، Destitute ، بفعل النتائج السلبية للحرب. وبالنتيجة أدت الحرب إلى أتساع الفوارق الاجتماعية والطبقية في المجتمع ، فضلاً عن تدمير النسيج الوطني، National fabric، و تهشيم اليمن وتمزيقه، وتشويه الوعي المجتمعي ، وخلق مقومات دائمة للصراعات والحروب الطائفية والقبلية في المستقبل. وبالتالي فإنَّ هذه الفئة، ليست فقط لا ترغب في إيقاف الحرب، باعتبارها تشكل مهنتها الوحيدة التي ترتزق منها، و غدت جزءاً أصيلاً من تكوينها النفسي، الذي تشكَّل، بفعل طول أمد الصراع المسلح، كما يؤكد المختصون في علم النفس الاجتماعي، وعلم الاجتماع العسكري، ولكنها في حقيقة الأمر، عاجزة عن وقفها، فهي حتى لو أرادت ذلك ، فأنها لن تتمكن ، بفعل العوامل الخارجية الضاغطة عليها والمتحكمة بمساراتها الآنية وغاياتها البعيدة. الكتلة الثانية ، و تقدر ببضعة الآلاف، ، وتتمثل في القوادين ، أي كلاب الفجور السياسي. وهي تضم سياسيين، وبيروقراطيين وعسكريين، ورجال دين فجرة، وصحفيين سفلة، ومتسولين جهلة، فهذه الكتلة، متفاوتة في التأثير والنفوذ والمكانة، وبالتالي متفاوتة الأجر والقيمة لدي أسيادها الإقليميين. ولذلك فأنها تؤدي وظيفتها المشبوه ضمن هرمية Hierarchical ، معينة، حينما تمارس السمسرة والبغاء مع الذئاب الإقليمين في الخارج. فبعض أجنحتها النافذة تزور اليمن ، بين وقتِ وآخر، ولكن جُلها ، تقيم، بصفة دائمة، في الرياض وطهران ، وتتنقل بين الدوحة ودبي ولبنان والعراق ، وتركيا ، وتتسكع في عواصم أوربية وأفريقية وأسيوية أخرى ، على حساب الذئاب ، وتمارس ما يعرف بالاستثمار في الحرب ، Investing in war ، على حساب الوطن ، من خلال الترويج للحرب والمتاجرة بالوطن وبدماء أبنائه. وتنحصر هذه الكتلة المجرمة في أولئك المستفيدين المباشرين من الحرب. فهذه الكتلة، الوثيقة الصلة بالذئاب ، تجني الملايين ، ولها أتباع مأجورين بين الأغنام الغارقة في الوحل في الداخل ، وتجذب إلى المستنقع الآلاف من الأغنام الجائعة ، التي جعلت من الحرب مهنة لها ، في بلدٍ تعصف به المجاعة والجهل، وتصل نسبة البطالة والأمية فيه إلى معدلات قياسية. وهؤلاء القوادين يمكن نعتهم بزعماء الخراب، لأنهم يَدْعَون إلى الحرب ويسوغونها ، وهم لا يخوضون غمارها بأنفسهم ، ولكنهم يمثلون حلقة وصل بين الأغنام الجائعة ، المتناطحة في الداخل ، حيث يوفرون لهم ما يسد رمقهم من العلف وأدوات الموت والمسوغات السياسية والإيديولوجية ، وبين أسيادهم من الذئاب الكاسرة في الخارج، وبالنتيجة ، يتربَّحُون الملايين جراء هذه التجارة الآثمة. و عليه فإَّن هذه الكتلة، هي الأخرى، لا تريد وقف الحرب، لأن وقف الحرب، سيترتب عليه وقف الأرباح و ضياع المكاسب وخسران المناصب بالنسبة لها. اليمن في إطار لعبة الأمم إنَّ المشكلة القائمة في اليمن اليوم، جزء من معضلة كبرى، يواجهها العالم العربي، ولكن الأغنام والكلاب والذئاب والعبيد في اليمن والوطن العربي والإسلامي، لا يدركون أبعاد المؤامرة القائمة والقادمة التي توشك أن تعصف بأوطاننا. ففي مقابلة أجرتها وكالة الإعلام الأمريكية مع المؤرخ الصهيوني البارز " برنارد لويس" Bernard Lewis ، مُنِّظر الخراب في 20/5/2005م قال لويس بالنص: " إنَّ العرب والمسلمين قوم فاسدون و مفسدون و فوضويون، لا يمكن تحضرهم، وإذا تُرِكوا لأنفسهم فسوف يفاجئون العالم المتحضر بموجات بشرية إرهابية تدمِّر الحضارات، وتقوِّض المجتمعات؛ ولذلك يجب تضييق الخناق على هذه الشعوب ومحاصرتها، واستثمار التناقضات العرقية، والعصبيات القبلية والطائفية فيها، قبل أن تغزو أمريكا وأوربا لتدمر الحضارة فيها". وفي حالة اليمن فقد رأى لويس في مخططه التفصيلي عن المنطقة العربية، ضرورة " إزالة الكيان الدستوري الحالي للدولة اليمنية ، بشقيها الجنوبي والشمالي، واعتبار مجمل أراضيها جزءاً من دويلة الحجاز." بعد تقسيم ما يعرف اليوم بالمملكة العربية السعودية. هل قرأت الأطراف المتصارعة في اليمن والإقليم ، بغنمها وكلابها ، وذئابها المأجورة للقوى الامبريالية في الخارج، مثل هذا الكلام وأمعنت النظر فيه؟ لا أعتقد ذلك. إذاً، لا أمل في سلام قادم في المستقبل المنظور لأن قوى الحرب ، بشقيها الداخلي والخارجي ، هي المهيمنة على مسرح الأحداث في الوقت الحاضر. فالأغنام اليمنية ، المتصارعة ، الغارقة في الوحل ، التي يديرها القوادون ، مجرد أدوات للذئاب الخارجية ، الإقليمية والدولية، وصراعها سيستمر دون هوادة. فأتباع إيران وأنصارهم ، يعتقدون ، و هم محقون في اعتقادهم، إنَّ سيطرة أتباع السعودية ، الطرف المناهض لهم ، على السلطة في اليمن ، يعني ، ذبحهم من الوريد إلى الوريد ، والأمر نفسه ، يصدق على أتباع السعودية ، فالسماح لأنصار إيران بالسيطرة على السلطة في اليمن ، سيترتب عليه تصفيتهم سياسياً وبيولوجيا . المشكلة، بالطبع ، لا تكمن في تقاتل هذين الطرفين ، فلو كان القتال يجري في جزيرة نائية، أو في كوكب آخر لما كانت ثمة مشكلة البتة، ولكن المأساة الكبرى تكمن في إنَّ التقاتل يجري على الأرض اليمنية ، و إنَّ الشعب اليمني محاصر بين هاتين الكتلتين المتصارعتين المختلفتين، المتخلفتين ، العميلتين للذئاب الإقليمية، الأمر الذي يستوجب علينا أنْ نطرح السؤال التالي: ما المخرج من هذا المأزق الخانق؟ وهذا ما سنحاول بحثه في مقال آخر.
#منذر_علي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الورطة اليمنية والاستثمار في الموت!
-
اليمن في خطر!
-
مأزق شالري شابلن و ورطة الرئيس اليمني!
-
اليمن من عبور المضيق إلى المتاهة !
-
نجاح السفير اليمني في لندن يؤرق القوى المتخلفة!
-
اليمن وضرورة فك الارتباط
-
الدوافع الحقيقية للمنسحبين من المجلس الوطني في اليمن
-
اليمن ومكر السياسة
-
تأملات في المشهد اليمني
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|