|
إرثٌ
راني صيداوي
الحوار المتمدن-العدد: 5494 - 2017 / 4 / 17 - 04:22
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
كان "سين" يحدّقُ بعيدًا خارجَ نافذةِ السّيارةِ التي كان يقودُها والِدُه، وتأخذهُ أفكارُهُ أبعَدَ من أصواتِ صراخِ ومُداعبات ومُشاكساتِ إخوتِهِ الصّغار ونهرِ أمّهِ وأبيهِ لهُم. كانَ يذكُرُ هذا الفتى ذو الثّانيةَ عشرةَ من العُمرِ كيفَ ترجّى قبلَ ثلاثِ ساعاتٍ والدَهُ كي لا يأخذهُ في هذه الزّيارةِ المعهودةِ إلى مزرعةِ جدّهِ النّائيةِ تلك، وكي يتركهُ في بيتِ أهلِ صديقٍ له. وكيفَ نَهَرهُ والدُهُ حينَها قائلًا لهُ إنّ تلكَ المزرعةَ إرثُ العائلةِ وستكونُ لهُ يومًا وعليهِ المحافظةُ عليها. كانَ الأبُ ينظُرُ خلالَ المرآةِ الأماميّةِ بخوفٍ وقلقٍ إلى عيني ابنِهِ ونظراتِهِ الشّاردةِ مُستغرِبًا كيفَ كانَ ابنُهُ هذا قبلَ سنةٍ ونصف فقط يُلِحُّ عليهِ كي يأخُذَهُ أكثرَ من مرّتينِ في السّنةِ إلى مزرعةِ جدّه هذه وأن يبقيهِ هناكَ طوالَ فترة العطلةِ الصّيفيّة، وكيفَ أصبحَ الآنَ رافضًا الذّهاب. أمّا الأمُّ فكانت تديرُ وجهها بحنوٍ نحوَ بِكرِها "سين" مبتسمةً في وجهِهِ بينما تربِتُ على كتِفِ زوجِها المُنهكِ وهو يقودُ سيّارةَ العائلة. عادَ الفتى "سين" يَجولُ بينَ ثنايا ذاكرتِهِ اليافعةِ حيثُ كانَ قبلَ عامٍ يستعدُّ للخروجِ من المدرسةِ في آخر يومٍ قبلَ عطلةِ الصّيفِ، حينَ قابلهُ زميلُهُ "عين" الذي يكبُرهُ سنًّا، وسألَهُ عن خطط العطلةِ الصّيفيّةِ ومكانِ قضائها، و أجابهُ "سين" بفخرٍ أنّهُ وأسرتُهُ كالعادةِ سيقضونَها في مزرعةِ جدّهِ الكبيرةِ التي ورثها جدّهُ بدورِهِ عن جدّ جدّه. وتذكّرَ "سين" ما دارَ بينهما من حديث والذي كان كالتالي:
عين:" آه...تلكَ المزرعةُ التي يقالُ إنّها أصبحت مهترئةً وخاويةً الآنَ من كلّ ما كانَ فيها من محاصيلَ وحيوانات؟". سين: " ليسَت مُهتَرِئة! إنّما يريدُ جدّي أن يحافظَ عليها كما كانت بالضّبط حينَ بناها جدّهُ الأكبرُ بعرَقِ جبينِه".
عين: "تقصدُ بعرقِ جبينِ غيرِه حينَ استولى على أموالِهِم واستعبدهُم حتى يبنوها له".
سين: "عين.. انتبه لكلامِك!.. لا أسمحُ لكَ أن تتحدّثَ عن أجدادي بهذه الطّريقة!... كلّ النّاس يعرفون حقيقةَ أنّ أجدادي تعبوا وحوربوا كثيرًا وصمدوا في وجهِ الحاقدينَ والكارهينَ أمثالَكَ إلى أن جمعوا ثرواتهم واستثمروها في مزرعتِنا تلك... أنت فقط تغارُ منّي لأنّ عائلتي تمتلكُ كنوزًا لا تمكتلكُها عائلتُك".
عين: "سامحني يا عزيزي، لستُ أقصدُ الإساءةَ أبدًا، لكنّها الحقيقة المؤلمةُ التي لكَ أن تقرأها في مذكّراتِ جدّكَ الأكبر. كما أنّي لستُ لأغارَ منكَ يا صاحبي؛ فعائلتي التي كانت متواضعةً مادّيًّا - وبما أنّك تقيسُ الأمورَ هكذا- كانت قد تركت لنا إرثًا حضاريًّا يعجّ بالاختراعاتِ والاكتشافاتِ المفيدةِ للبشريّةِ جمعاء، ولا تنحصرُ فائدتُها فقط بأبناء عائلتي. وإن غِرتُ الآنَ، إنّما أغارُ ممّن يَسعَونَ لإفادة البشريّةِ أكثرَ منّي، لا ممّن يتباهَونَ بتاريخِ عائلاتِهِم، وهم لا يزالون مكتوفي الأيدي تجاهَ ركبِ الحضارةِ والتّقدّم. ثمّ أينَ هي تلكَ الكنوزُ التي تتحدّثُ عنها؟!".
سين: "أنتَ تهذي! فعائلتي هي التي أسّست جميعَ العلومِ التي ارتكزت عائلتك عليها: من طبٍّ، ورياضيّاتٍ، وفلكٍ، وغيرِها حين قامت باكتشافاتِها، وبذلك يكون الفضلُ في تلك الاكتشافاتِ والاختراعات لعائلتي وليس لعائلتك. وكنوزُ عائلتنا محفوظةٌ في غرفةٍ خاصّةٍ في مزرعتنا، لا يدخلها سوى كبيرُ العائلة فقط".
عين: "يا أخي، قلتُ لكَ اقرأ مذكّراتِ جدّكَ الأكبر، وفيها سترى أنّ من أخبروكَ أنّهُم من عائلتِك من العلماءِ، ليسوا سوى عبيدٍ كان أجدادُكَ يشترونَهُم وعِلمَهُم وينسبونَهُم للعائلةِ إذا أفلحوا. وكيفَ أنّ أجدادَكَ قَتلوا الكثيرَ منهُم بوحشيّةٍ؛ فقط لأنّهُم رفضوا الانتسابَ لعائلتك. ولربّما أيضًا ستكتشفُ بالعودةِ لجذورِكَ أنّك تنتسبُ لأحدِهِم. وليس مهمًّا من لهُ الفضلُ بماذا، إنّما المهمُّ ألّا يحيا المرءُ على كذبةٍ عاشَها أجدادُه حين كَذَبوها على أنفُسِهِم، وألّا يتوارَثَها بعَنَدٍ وعصبيّةٍ دونَ تحقّقٍ من الأمور. أمّا بالنّسبةِ لموضوعِ الكنوزِ المخبّئةِ تلك، فالكنوزُ حريٌّ أن تُدفَنَ في الأرضِ، بَدَلًا مِن وَضعِها في غُرَفٍ لا يراها سوى بِضعةُ أشخاص، خصوصًا أنّها -وكما تقولُ- ملكًا لكم جميعًا وليس لكبيرِ العائلة فقط... ثمّ ألا تعتقدُ أنّ جدّك كانَ ليشتريَ محاصيلَ وحيواناتٍ للمزرعةِ لو كانت تلك الكنوزُ موجودةً حقًّا كما تقول؟!".
وهنا تذكّرَ "سين" كيفَ أنّهُ هو المسالمُ المُحبُّ لأوّلِ مرّةٍ شعرَ بحنقةٍ شديدةٍ، جعلتهُ يرغبُ في ضربِ زميلِهِ "عين" حين اقتربَ منهُ وكادَ يمسكهُ من قميصِه، لكنّهُ تمالَكَ أعصابَهُ، واكتفى بالقول بنبرةٍ غاضبة :" أنتَ لا تعرفُ شيئًا عن أجدادي. ولستَ معنيًّا بهم وبتاريخهم، فكيفَ لكَ أن تقرأ مذكّراتِ جدّي وهي لي ولعائلتي وليست لك ولأمثالِك؟!... أكيدٌ أنّ ما قرأتِ إنّما موضوعٌ ومنسوبٌ لجدّيَ الأكبرَ؛ لمحاربةِ إرثنا العظيمُ من الأخلاقِ والعلوم والإنجازات... أنتَ كغيرِكَ حاقدٌ على عائلتيَ المشرّفة. ولا أسمحُ لكَ أن تشكّك بأصولي التي أعُدُّها مَفخرةً لي أنا الذي أنتمي بكلّ جوارحي لهذه العائلة، ولا يشرّفني أبدًا الحديثُ إليك ولا معرفتك".
عين: "أشكُرُك جزيلًا سين، وأريدُكَ أن تعلَمَ أنّي أقولُ ما أقولُ لأنّي أحبّكَ كزميلي وأخي في الإنسانيّةِ وليس لي فيما أقولُ لا ناقةَ ولا جَمَل، غيرَ أنّي أريدُكَ أن تتحرّرَ من أكذوبةٍ أراها تقتُلُ جمالَ روحِكَ، وتضيعُ رونَقَها كلّما كبُرتَ شيئًا فشيئًا... اقرأ يا سينُ مذكّراتِ جدّكَ الأكبر، وستفهمُ ما أقول".
وتلاشى ذلك المشهدُ الصّادمُ من ذاكرةِ "سين" ليحُلّ محلّهُ مشهدٌ جَمَعَهُ هو وابنُ عمّهِ "صاد" ذاتَ السّنَةِ في مزرعةِ جدّهِما. حينَ كانَ "سين" يراها ولأوّلِ مرّةٍ باهتةَ الألوانِ مهترئةً فعلًا، لكنّهُ أصرّ على تكذيبِ عينيهِ وقتها، ومضى يركضُ وابنَ عمّهِ "صاد" خلفَ الكرةِ بفرحٍ إلى أن رَكَلَ "سينُ" الكُرةَ عاليًا فحطّت على شرفةِ الطّابقِ الثالثِ من بيت العائلةِ الذي يقعُ وسطَ المزرعة. وتسابقَ الصّبيّانِ للصّعودِ لجلب الكرةِ، بينما عائلتاهما وجَدُّهُما يجلسونَ في باحةِ البيتِ الأماميّة. وبينما هما يركضانِ على السلالمِ، تعثّرَ "سين" ليعاودَ الوقوف، ويلمحَ غرفةَ جدّهِ المفتوحةِ في الطّابق الثّاني، حيثُ خصّصَ مكتبةً لهُ مختلفةً بكتبها كثيرًا عن تلكَ التي خصّصها للزّوّارِ في الطّابِقِ الأوّل. فمشى "سين" نحو الغرفةِ وتبعهُ "صاد"، ومضى يجولُ بنظراتِهِ بين الكُتُبِ إلى أن وَصَلَ لكتابٍ قديمٍ مهترئءِ البُنيةِ الخارجيّةِ، أوراقُهُ قديمةٌ مُصفرّة لكنّها مرصوصةٌ وكأنّها لَم تُقرأ من قبل، فهَمَّ يفتحُ الكتابَ، وإذا بِهِ مذكّراتُ جدّهِ الأكبر. فاختلجَ صدرُ الصّبيّ شعورٌ بالخوفِ، ممتزجٌ بقليلٍ من الفرحِ، حينَ جلسَ على أرضيّةِ الغرفةِ إلى جانِبِ المكتبةِ -رغمَ وجودِ أريكتينِ وطاولة- وفتَحَ الكتابَ يتحسّسُ أوراقَهُ بأناملِهِ الصغيرةِ، بينما "صاد" يُصِرُّ أن يَخرُجا قبل قدوم جدّهما أو أحد أفرادِ عائلتيهِما. لكنّ "سين" كانَ قد فقد إحساسَهُ بالزّمانِ والمكانِ، وراحَ يقرأُ بحماسٍ متردّدٍ مقدّمةَ الكتابِ التي لاحظ أنّه طالَما قرأها في مدرستِهِ، وسمعَ أخبارها من الكثيرينَ من أفرادِ عائلتِهِ من قبل. والتي طمأنت قلبَهُ حروفُها المفعمةُ فخرًا، وأعادَتهُ لِما عرَفَ عن عائلتِهِ وأجدادِهِ من نصرٍ وإنجازات. فمضى عن قرابةِ النّصفِ الأوّلِ من المذكّرات كونَهُ اكتشفَ أنّهُ قد قرأها من قبل. ثمّ وصلَ إلى منتصفِ الكتابِ حيثُ بدأ يقرأُ معلوماتٍ لَم يقرأها أو يدرسها أو حتى يسمع بها من قبل. أمّا "صاد" فبقيَ واقفًا بضع دقائقَ، إلى أن استسلَمَ وجَلَسَ إلى جانب "سين"، حيثُ أخرَجَ من جيبِهِ مُجسّمينِ صغيرينِ لسيّارتينِ، وبدأ يلعبُ بهما. بينما بدأ "سين" يتصبّب عَرقًا وبدأت عيناهُ بالجحوظِ وُجولًا مما تقرأ، وتحمرُّ خدودُهُ كلّما تعمّقَ بالقراءةِ أكثر في مذكّراتِ جدّهِ الأكبرِ تلك. وفجأةً، وَقَفَ "سين" ووضعَ الكتابَ مكانَهُ ويديهِ ترتجِفانِ، فسألهُ "صاد" قائلًا:" ما بالُكَ يا سين؟ لقد أفزعتني بوقوفك هكذا فجأة!". فأجابَ "سين" بصوتٍ خافتٍ يكادُ لا يُسمَع: "لقد كان "عين" مُحقًّا.. عليّ الآنَ أن أتحقّق من الكَنز". ص: "ماذا تقول؟ لَم أسمعك". س: "ليس مُهمًّا فأنا قَد سمعتُ وَلَم أستَمِع... ثمّ قد استمعتُ ولَم أسمَع". "صاد" وهو مايزالُ يلعبُ بسيارتيهِ الصغيرتين: "لَم أفهَم شيئًا". س: "وأنا أيضًا لَم أكُن لأفهَم".
وهنا تذكّرَ "سين" كيف راحَ يركُضُ مُسرِعًا إلى الطّابِقِ الثّالثِ، لا ليجلبَ الكرةَ من الشّرفة، ولكن ليضع السّلّمَ الخشبيّ، ويصعدَ ولأوّلِ مرّةٍ إلى عُلِّيَّةِ البيت. وأثناءَ صعودِهِ السّلّمَ الخشبيّ، شَعَرَ بيدٍ تُمسكُ قَدَمَه بحَنوٍ، وحينَ نَظَرَ إلى الأسفَل، وَجَدَ ابنةَ عمّهِ "ميم" وهي أخت "صاد" وتكبرُ كليهِما بسبعِ سنواتٍ، تمسكُ بقدمِهِ وتنظُرُ إليهِ نظرةَ خوفٍ ورجاء. فهَمّ كي يصعدَ، لكنّها رجَتهُ كي ينزِل. وفي تلكَ اللحظةِ، دَخَلَ "صاد" وهو يلهثُ من الرّكض سائلًا "سين": "ما خَطبُكَ تتصرّفُ اليومَ بشكلٍ مُريب؟!". فأجابهُ "سين" بحُزنٍ وانفعالٍ وهو ينزِلُ من على السّلّم: "نحنُ مخدوعونَ يا صاد". ثمّ شاح بنظرهِ عن "صاد"، ونظَرَ إلى "ميم" وأعادَ قائلًا: "نحنُ مخدوعون... مخدوعونَ يا ميم". فاحتضنتهُ "ميم"، وقالت بصوتٍ خافت:" أعلمُ ذلكَ يا صغيري". فأبعدَها صارخًا: "لا.. لستِ تعلمينَ شيئًا... أتعلَمينَ أنّ جدّنا الأكبر كان قد استعانَ باللصوصِ الفارّينَ من العدالةِ في بداياتِهِ؛ كي يساعدوهُ في السّطوِ على المحالّ التّجاريّةِ للآخرينَ ممن كانوا يملكون المال والثّروات؟!". أجابتهُ بحُزنٍ شاحِبٍ: "نعم أعلَم". وهنا صرَخَ "صاد" بالاثنين قائلًا: "أنتما تكذبانِ". فقال "سين": "بل هذا ما قرأتُهُ بمذكّراتِ جدّنا الأكبر، وقد خطّهُ هو بيدِه".ثمّ استدرَكَ مُكملًا:" أتعلمانِ أيضًا أنّهُ قد منعنا من أن نتحدّثَ إلى أي أحد من غيرِ عائلتنا إلا إذا كانت لدينا مصلحة في ذلك؟!". فأجابت "ميم" :" عزيزي، هذا الأمر الذي كانَ الشّرارةَ التي جعلتني أقرأ مذكّراتِ جدّنا كما أنتَ فعلت؛ فقد شعرتُ بحنقةِ الظّلمِ الشّديدِ حينَ أحببتُ شابًّا من عائلةٍ أخرى، ومُنِعتُ تِبعًا لتوصياتِ جدّنا الأكبر من أن أرتبطَ به". وهنا جثى "سينُ" على ركبتيهِ وعيناهُ مغرورقتينِ بالدّموعِ، بينما صرخَ "صاد" وهو يجهشُ بالبكاءِ قائلًا :" توقّفا أنتما الاثنان! أنتما تؤلماني فيما تقولان!". فقال لهُ "سين" : "هذه الحقائق التي غيّبت عنّا لسنواتٍ يا صاد، ومن حقنا الاطّلاع عليها، بل ومعرفتها بشكلٍ تام". ثمّ أكمل: " الآن عرفتُ لماذا كان والدي ووالدُك يمنعانِنا من قراءةِ جميعَ مذكّراتِ جدّنا الأكبر... تصوّر أنّ جدّنا الأكبر كان قد قتلَ شقيقَهُ لأنّهُ لم يكُن يرغبُ في اقتسامِ ثروتِهِ معه! تصوّر أنّ هذا معناهُ أنّ عائلتنا هي التي ظلمت عائلةَ زميلِنا "شين" الذي أقنعنا أهلنا أنّ عائلتهُ تنكرت لعائلتنا منذ زمنٍ، وأنكرت أصلَها، واختارت أن تنتمي لعائلةٍ أخرى غيرها!". هنا صرخَ "صاد" قائلًا :"اخرَس يا سين.. أنا أيضًا سأقتلكَ إن بقيت تتحدّث عن جدّنا وعائلتنا بهذا الشّكل، فقد قال لي أبي إنّ كلّ من يتنكّرُ لعائلتنا ولا يؤمنُ تمام الإيمانِ بما قالهُ جدّنا الأكبرُ وَجَبَ قتلُه". فرفعَ "سين" رأسهُ ناظرًا باستغرابٍ إلى "صاد". وهنا حاولت "ميم" تهدئةَ الأمرِ حين احتضنت أخاها "صاد" قائلةً له: "هدّيء من روعكَ يا حبيبي. أعلمُ أنّكَ لا تقصد ما قلتَ ل سين، جميعنا نعلمُ مدى محبّتكما لبعضكما البعض". فنظر "صاد" إليها وأبعدها بعُنفٍ عنهُ وصَرَخَ بوجهِها قائلًا: "بل أعني ما قلت! وأحلفُ باللهِ أنّي سأقتلكِ أنتِ أيضًا إذا تحدّثتِ بسوءٍ عن جدّنا الأكبر... والآن أدركتُ لماذا كان جدّي قد قسّمَ لي ضعف ما قد قسّمهُ لكِ من ثروةِ العائلة، فأنتِ بنصفِ عقلٍ ولا تستطيعينَ وزنَ الأمورِ بشكلٍ صحيح... رحمك الله يا جدّي كم كنتَ عادِلًا وحكيمًا!" ثمّ أكمل وهو يسيرُ نحو باب الغرفةِ كي يخرُج: "من الأفضلِ أن تخرُجا من الغرفَةِ قبل أن أعودَ إليها، وإلّا أخبرتُ جدّي عنكما أيّها الخائنين".
أغمضَ "سين" عينيهِ قليلًا حين اجترّ عقلهُ ذلكَ المشهد من ذاكرتِه، وشعَرَ بألمِهِ كأنّهُ يحدثُ أوّل مرّة. فسألت أمّهُ أباهُ أن يُغلقَ نافذةَ السّيّارة التي يجلسُ "سين" بجانبها، ظنّا منها أنّ الهواءَ هو ما يضايقه. أمّا هو، فرسمَ على وجهِهِ بسمةً مغصُوبةً، وهو ينظُرُ إلى أمّهِ تارةٍ، وإلى عيني أبيهِ تارةً أخرى من خلال المرآةِ الأماميّةِ في السّيّارة. ثمّ عادَ ليسرَحَ في ذاكرتِه التي أخذتهُ ليكمل ذاتَ المشهدِ المؤلم حينَ خرجَ "صاد" من الغرفةِ بعدما هدّدهُ وابنة عمّهِ "ميم". فنظرَ هو إلى "ميم"، ثمّ ركض ليصعّدّ السّلّم الخشبيّ، ويفتح العلّيّةَ التي لطالما سمع وقرأ أنّها تحوي كنوز عائلتِه. رَجَتْهُ "ميم" كي لا يفعل، لكنّهُ أصرّ رغم توسّلاتِها له، وما أن فتح باب العلّيّةِ الذي كانَ يأكُلُ الصّدأُ قفلَهُ، وجدها مليئةً بصناديقَ وبعضَ معلّباتِ الأطعمةِ التي انتهت مدّة صلاحيّتها، ومضى يبحثُ بغضبٍ عن أي شكلٍ من أشكالِ الكنوزِ ولو حتى كتابٍ أو قلادةٍ، لكنّهُ لَم يجد سوى بضعةَ بيوتٍ للعناكِبِ، وصناديقَ لم تتحيّا منها الغبارُ حينَ سكنَت ما فيها من قطع قماشٍ رثّةٍ قديمة. وهنا تذكّرَ "سين" كيفَ أنّ ركبتيهِ لم تستطيعا أن تسندانهِ، حيثُ سقطَ بجسدِهِ على الأرضِ وهو يمسحُ الدّموعَ من على خدّيهِ بيديهِ المتّسختينِ من كثرةِ البحثِ العشوائي، ورئتيهِ تلفظُ الغبارَ سعالًا. حينَ ظهرت "ميم" وهي تُطلّ بنصفِ جسدها من أسفلِ العلّيّةِ، وتشيرُ لهُ بضرورة النّزولِ حالًا قبلَ أن يأتي أحد، فنزلَ والخيبة تملؤ قلبَه، وأغلقَ الباب خلفهُ بعد أن أعاد كلّ شيءٍ إلى مكانِه. تذكّرَ وقتها أنّ "ميم" كانت قد أوصتهُ قائلةً: "احتفظ بما رأيتَ لنفسِكَ يا صغيري كما أنا فعلت؛ فإن قلتَ شيئًا ليس فقط أنّهم سيلفظوكَ من العائلة ويتبرّوا منك، ولكنّهُم أيضًا سيعتبرونَ أبويكَ خائنينِ، وسيتحمّلانِ هما وإخوتُكَ تَبِعاتِ ما عرفتَ أنتَ من حقائق". وبينما هو ينزلُ سلّم البيتِ ليخرج معها لتناول الغداء مع العائلةِ، مدّت لهُ يدها قائلةً: "هيّا بنا صغيري الحبيب، لقد وصلنا". وإذ بِهِ صوتُ أمّهِ الذي صحّاهُ من صحوَةِ ذاكرتِهِ يقولُ لهُ ذاتَ الكلامِ، بينما أبوهُ مازالَ ينظرُ إليهِ بخوفٍ وقلق، ولكن هذه المرّة خلال باب السّيّارة الخلفيّ (الذي كان مفتوحًا)، وهو يحملُ الأمتعةَ من صندوق السّيّارةِ. أمّا جدّهُ وعائلةُ عمّهِ، فكانوا ينتظرونَهم على الجهةِ المقابلةِ من الطّريقِ أمامَ المزرعة، حيثُ "صاد" ينظرُ إليهِ بغضب ممزوجٍ بحزنٍ ومحبّة. فبادَلَ "سين" أباهُ النّظراتِ ليريحَ قلقهُ ويطمئنَه، ونظَرَ إلى أمّهِ وهي تمدّ يدها لهُ حيثُ وضعَ يدهُ في يدها قائلًا :"حاضر يا أمّي".
#راني_صيداوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
جدالٌ بيزنطي
-
غلّبني
-
خيّاطٌ و أعظم
المزيد.....
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|