الأسعد بنرحومة
الحوار المتمدن-العدد: 5493 - 2017 / 4 / 16 - 20:03
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تواترت وتيرة الاحتجاجات في البلاد التّونسية وارتفع نسقها حتى شملت جميع الميادين تقريبا , من القطع الصحّي والقضائي وفي التعليم والأمن والمطار وصولا الى المؤسسات الخاصّة , وقد تبنّى الاتحاد العام التونسي للشغل أغلب هذه الاحتجاجات بل دعا الى الكثير منها تحت شعار " الدفاع عن حقوق الشغّالين والموظّفين والعمّال " . ومن بين الاضرابات الكثيرة والتي كان لها الأثر السيء على النّاس هو الاضراب في قطاع التّعليم والذي تصاعدت وتيرته الأشهر الأخيرة بين نقابة التعليم الثانوي وبين وزارة التربية دفع بالكثيرين لوصفها بأنها تصفية حسابات بين لسعد اليعقوبي وناجي جلّول وزير التربية . والاضراب الأخير في سلك التعليم وقرار النقابة تعليق اجراءات الامتحانات لآلاف التلاميذ وما في ذلك من تعطيل للمصالح وضرر على العائلات التي باتت تنبش الصخر بأظافرها من أجل الاستمرار في تعليم أبنائهم , وكذلك الاضراب الذي قبله الذي نفذته النقابة في شركة النقل وغيرها من الاضرابات والاعتصامات العشوائية وغيرها , وما يصاحب ذلك من اصرار من النقابة والاتحاد وبتواطئ مع الحكومة على تعطيل مصالح الناس وخلق الأزمات وتكرارها والتذرع في كل مرة بأن الاضراب حق دستوري,الى جانب العلاقة المشبوهة بين المنظمة الشّغيلة وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي والعديد من المنظمات الأجنبية, كلّ هذا يدعونا وبكل جدية لاعادة التفكير في جدوى هذه الاضرابات كآلية من آليات تحصيل المصالح ومعالجة المسائل ,دون التذرّع في كل مرة على أنه حق دستوري غير قابل للنقاش وكأن الدستور فعلا تضمن حلولا فعلية لمختلف المشاكل سواء المتعلقة بالحكم أو برعاية الشؤون عموما؟فجميعنا يعلم دور النفوذ الخارجي في سنّ هذا الدستور وفرض فصوله.
وقبل ذلك لا بد من أن نسأل أنفسنا السؤال التالي:كيف أصبح الاضراب هو الآلية الفعلية والمؤثرة التي يلتجئ اليها العمال والموظفون من أجل دفع الحكومة الى الاستجابة للمطالب ؟ .
ومع هذا السؤال لا بد من سؤال ثان:هل فعلا هناك مشكلة عمال وموظفين ؟ أم هي فعلا مشكلة مصطنعة أوجدتها فلسفة مغلوطة وفهم خاطئ للعمل وللأجرة جاء بها المبدأ الرأسمالي الدّيمقراطي ؟
ما يعانيه اليوم العمال سواء كانوا أجراء أو أصحاب حرف ومهن خاصة ,سواء كانوا مزارعين أو مربين أو موظفين أو غيرهم يمكن تلخيصه في عدة نقاط أهمها:
* جعل آلية توزيع السلع والخدمات على الناس يقوم على ميكانيزما "الثمن":فلا يحق للفرد حيازة سلع وخدمات الا اذا توفر لديه ثمنها,وحتى يتوفر الثمن كان على كل فرد في المجتمع مبادلة جهده بمقابل مالي وهو"النقد"وهو ثمن لهذا الجهد المبذول في العمل.وبحسب مقدار النقد المتحصل عليه مقابل جهد العامل يمكنه حيازة ما يعادله من سلع وخدمات من السوق ,وهذا المقدار النقدي في مقابل جهد الأجير هو المسمى"الأجرة".
ولكن أزمة النظام الديمقراطي أن القاعدة الحقيقية التي على أساسها يقع تقدير الأجرة هو المستوى المعيشي في حده الأدنى , أي أن النقد الذي يتسلمه الأجير ليس في مقابل جهده حقيقة ولكنه فقط المبلغ الذي يعادل أثمان السلع والخدمات التي يحتاجها الأجير عند الحد الأدنى وليس بحسب ما يحتاجه أو بحسب منفعة عمله أو منفعة جهدهوهذا ما يحيلنا للسبب الثاني لنشوء الاضرابات والاعتصامات في النظام الديمقراطي.
*جعل قاعدة احتساب الأجرة للأجير هي احتساب ما يحتاجه الفرد من سلع وخدمات في الحد الأدنى ,وهو ما يعبر عنه "الحد الأدنى من مستوى المعيشة أو ما يسمى "السميق"":فتقدير الأجرة التي هي ثمنا لجهد الأجيرلم يكن بناء على المنفعة سواء أكانت منفعة العامل أو منفعة العمل اذ الأجرة هي عقد على منفعة بعوض ,وبناء على هذا التقدير للأجرة فانها تكون غير ثابتة على مبلغ نقدي معين بل تتغير صعودا ونزولا بحسب المنفعة المستوفاة من الأجير ,وتقدير الأجرة بحسب قاعدة المنفعة يخلص الأجير والدولة من معضلة الزيادات في الأجور وأزمة كتلة الأجور التي يعاني منها النظام الديمقراطي,كما يجعل فض النزاع عند الاختلاف على مقدار الأجرة بين الأجير وصاحب العمل ممكنا وسهلا وميسرة ولا حاجة لوجود النقابة والمتاجرين بحقوق الناس, اذ الأجرة لها سوق يقدرها ويعود اليها الجميع عند الاختلاف.
أما تقدير الأجرة كما في الديمقراطية على أساس الحد الأدنى من المعيشة وربط الأجرة وربط الأجرة بثمن هذه السلع والخدمات فانه بذلك تتأثر أجرة الأجير بارتفاع أثمان السلع وعند غيابها أو نقصها من السوق ولم يعد كمية النقد التي يتحصل عليها الأجير تكفيه لحاجياته حتى في حدها الأدنى , وهو ما يضطره للتمرد والعصيان والاحتجاج للضغط على مؤجريه خواص أو حكومة حتى تزيده في الأجرة وهو ما يعبر عنه "الزيادات في الأجور".
كما أن اصرار الديمقراطية على جعل قاعدة تحديد الأجرة هو الحد الأدنى من مستوى المعيشة يجعل الأجير أو الموظف أمام خيار صعب وهو التخلي عن جزء مهم من احتياجاته الضرورية لأنه لا يملك ثمنها ...وهذا اعتداء صارخ على كرامة الانسان وتهديد لوجوده .
*الخلط بين قيمة الشيء وثمنه في السوق: فالديمقراطية تجعل قيمة الشيء وثمنه واحدا فيالسوق مع كونهما مختلفان اختلافا كبيرا , فالمفكرون والسياسيون والخبراء في النظام الديمقراطيى وفي نظرتهم للسلع والخدمات ,نظروا اليها على أساس اعتبارين اثنين وهما :ما في الشيء المنتج من منفعة ومدى حاجة المجتمع لهذا الشيء , وجعلوا المقياس المحدد لهذه النظرة هو الثمن سواء من جهة المستهلك أو من جهة المنتج , وبناء على هذا التقدير المغلوط لمنفعة الشيء المنتج وهو ما يعبر عنه بالسلع والخدمات , ونتيجة لجعل قيمة الشيء وثمنها أمرا واحدا وما نتج عنه لتغير قيمة الشيء بحسب تغير أثمانها في السوق ,فانه لم يعد هناك فرق في المجتمع الذي يطبق الديمقراطية فرق في السلع والخدمات بين ما هو ضروري وأساسي لأنه يتعلق باشباع الحاجات الأساسية للانسان , وبين ما هو من الكمالية لأنه يتعلق باشباع الحاجات الكمالية .ونتج عن ذلك اهدار الثروة بشكل كبير من جهة , ودوام المطالبات بالزيادة في الأجور من جهة أخرى لأن جزء كبير من السلع تمثل حاجة أساسية للفرد لكنها أصبحت بين أيدي المحتكرين والمرتشين وأصحاب القوة مما جعل أثمانها خيالية في السوق.
فالخلط بين القيمة والثمن يؤدي الى كوارث في المجتمع ,اذ قيمة الشيء هي ما فيه من منفعة مع ملاحظة عامل الندرة وهي ثابتة لا تتغير , وأما الثمن فهو ما يقابل السلعة من نقد , وهو يتغير وغير ثابت بحسب العرض والطلب , فالخبز والمسكن والتطبب والأمن قيمتها ثابتة باعتبارها تتعلق بحاجات أساسية لكل فرد وبالتالي لا يجب اخضاعها لميكانيزما الثمن كما هو حاصل في الديمقراطية ,مع أن الخبز والمسكن والتطبب والأمن لها مقابل نقدي يسمى الثمن وهو الذي يتغير بحسب العرض والطلب.
ولكن بما أن هذا النوع من السلع والخدمات يتعلق باشباع حاجات أساسية فلا يجب أن يترك الحرية للأفراد لتحصيلها بحجة أن مهمة الدولة هي حماية الحرية ,لأنه بهذه الطريقة لا يتحصل على هذه الثروة الا الأقوياء ومن لهم مقابلها من نقد أما الضعفاء والعجز ومن لا يملك أثمانها فانه يموت حسب فلسفة الديمقراطية.لذلك كان على الدولة أن تمارس دولها ولا تتهرب من مسؤوليتها فتمكن الجميع فردا فردا من الحصول على نصيبهم من هذه الثروة "سلع وخدمات" وذلك بالتدخل لفائدة كل من عجز فعلا كالمعوقين والعجز ,أو عجز حكما كالمعطلين عن العمل والبطالين فتتولى توفير هذه الحاجيات لهو وفق سياسة اقتصادية معينة.ولا يجب أن تترك المسألة هنا لفلسفة الحرية أو لقوة الأجرة.
* الخلط بين أجرة الأجير وبين كفاية الأجرة لتوفير السلع والخدمات للاشباع:فالديمقراطية نظرت للانسان ولحاجاته المتعددة والمتنوعة بمقياس واحد وهي كونها حاجات واحدة لا فرق بين ما هو ضروري وبين ما هو كمالي , وجعلت قاعدة الحصول على السلع لاشباع هذه الحاجات هي "الأجرة",فكل فرد فرد مطالب بمبادلة جهوده بالنقد للحصول على ثمن هذه السلع والخدمات ,واذا عجزت "الأجرة"عن توفيرها اما لغلاء الأسعار أو لضعف كتلة الأجور فان العامل يطالب مشغله بالزيادة في الأجر بصفة دورية وتتولى النقابة تبني هذه المطالب في جزئياتها والدخول في مفاوضات مع الدولة تكون مرجعية الحلول في هذا التفاوض دائما هو "الحل الوسط".ومن ثم تقع مسؤولية معالجة عجز الأفراد على تحصيل كفاياتهم من السلع والخدمات على عاتق المشغل وصاحب العمل , مع أن هذا غير صحيح ومخالف للواقع.فالعقد الذي يربط بين الأجير ومشغله هو المنفعة المستوفاة من الأجير لصالح المؤجر , والأجرة تكون بحسب هذه المنفعة فقط لا غير ,سواء كفى المبلغ النقدي المسمى بالأجرة العامل أو لم يكفه , فليس على المشغل أو المؤجر تجاه الأجير الا اعطاءه مقابل ما قدمه من منفعة ليس غير . أما مسألة عدم كفاية هذه الأجرة للأجير من أجل اشباع حاجاته فان هذه مسؤولية الدولة لأنها من رعاية الشؤون , والدولة وحدها مسؤولة عن رعاية الشؤون ,فهي التي تتدخل من أجل تمكين كل من عجز أو من لم تكفه أجرته من أن يشبع حاجاته الأساسية وتضمن له الوصول الى اشباع حاجاته الكمالية وفق أحكام اقتصادية معينة تتعلق بتوزيع الثروة.
وعليه فان سبب هذه الأزمات المتكررة سواء فيما يتعلق بالزيادات في الأجور أو الترقيات أو الضمانات الصحية أو غيرها الى فساد السياسة الاقتصادية في النظام الرأسمالي المطبق علينا عن طريق الاستعمار , والديمقراطية وحدها هي سبب هذه الفوضى وهذا الفقر بل هي أزمة الديمقراطية نفسها . لأن الأصل أنه لا وجود لمشكلة عمال وأجراء في الاسلام , ولا وجود أيضا لمشكل اسمه زيادات سنوية في الأجور بل لا وجود لأزمة أسعار أو عجز الناس عن تحصيل حاجاتهم سواء أكانت أساسية أو كمالية.
وفي الاسلام لا وجود للنقابات لأنه لا حاجة اليها أصلا , فالسوق هو الذي يفصل أي اختلاف في تقدير الأجرة , وعند عدم الاتفاق القاضي وبناء على رأي الخبير هو الذي يفض هذا الاختلاف , أما توفير الحاجات الأساسية والكمالية فهو ليس مسؤولية صاحب العمل لأنه من رعاية الشؤون التي هي واجب على الدولة وتحاسب متى قصرت في ذلك .
وما نشاهده اليوم من تكرار مظاهر الاضراب والاعتصام وما يترتب عن ذلك من تعطيل لمصالح الناس ومن توتر في العلاقات لا مبرر له في الاسلام ,بل ان تعطيل مصالح الناس بالاضراب والاعتصام وغلق الطرقات وغير ذلك يعد جريمة خطيرة وتعد صارخ على حقوق العباد , أما كيفية معالجة المسائل في ظل هذه العلمانية المقيتة فلا يكون من خلال الالتجاء الى النقابة ولا التفوض مع الدولة , لأن الديمقراطية وعقيدة فصل الدين عن الحياة هي المتسببة في هذه المعانة , ومعالجة المسائل اليوم لها طريق واحد وهو قلع هذا النظام برمته من جذوره والقطع مع منظومة الديمقراطية نهائيا والرمي بها الى مزبلة التاريخ , والعودة الى استنباط الحلول والمعالجات من الاسلام دين الأمة بل رحمة العالم..
#الأسعد_بنرحومة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟