|
( المجتمع المدني ... قراءة في المفهوم )
حارث رسمي الهيتي
الحوار المتمدن-العدد: 5490 - 2017 / 4 / 13 - 16:09
المحور:
المجتمع المدني
يبدو إن كثرة استخدام هذا المفهوم من قبل كافة القوى السياسية سواء كانت مشاركة في الحكومة أم معارضة لها ، جعلت هذا المفهوم يبدو مألوفاً ، ودفعت البعض الى الاعتقاد ببساطته كمفهوم ، لكن هذا لا يعني ان المألوف لا يكتنفه الابهام والغموض في الاطار العام . فولادة مثل هذه المفاهيم لم تكن عملية سهلة ، فهي مرتبطة بالمشكلات التي كانت مطروحة في وقت نشوئها ، كما انها لم تظهر دفعة واحدة ، بل يسبق عملية ظهورها وتطورها صراعاً وتناقضاً اجتماعياً بين معسكرين ، الأول هو المدافع عن النظام القديم والذي يكون جنوده هم اولئك الذين ترتبط مصالحهم مع بقائه كنظام اقتصادي – اجتماعي ، ومعسكر ثاني ويضم طبقات وفئات تتناقض مصالحها مع مصالح المعسكر الأول ، وترى أن النظام الجديد يمثل طموحاتها وتطلعاتها ومصالحها بكل تأكيد . وبالعودة الى مفهوم المجتمع المدني ، فان ما أحدثته الثورة الصناعية الكبرى من تغييرات افضت الى ظهور طبقة جديدة ( البرجوازية ) بعد ان مرت أوربا بتغيرات جذرية اقتصادية واجتماعية ، هذه الطبقة - البرجوازية - التي تبنت الحداثة في مناهج الدولة والمجتمع والفرد ، وخاضت صراعاً شديداً مع النظام القديم وأنصاره ، القديم المتمسك بقدسية الدولة والمؤمن بفكرة ارتباطها بنظرية بالحق الآلهي . فيجمع الكثير ممن يعملون على موضوع المجتمع المدني على إن فترة صعود الطبقة البرجوازية في مرحلة الثورة الصناعية الكبرى تعتبر هي العصر الكلاسيكي لظهور المجتمع المدني كمفهوم . فلم يكن لهذا المفهوم أن يولد قبل أن تسبقه عدة نجاحات حققتها البرجوازية ، هذه الطبقة التي أنجزت الكثير من المهمات الديمقراطية . فهو مفهوم ولد وتبلور مع ولادة وتبلور المجتمعات البرجوازية والعلاقات الرأسمالية والصراع الطبقي في أواخر التشكيلة الاقطاعية في القرنين السابع عشر والثامن عشر .(1) ففي المرحلة التاريخية الاولى من عصر النهضة كان العنصر الرئيس لهذا العصر هو أولوية الفرد وحريته والاقرار باهتماماته الشخصية ومصالحه كموقف نقيض للحكم المطلق الديني والسياسي معاً الذي كانت تلعبه الكنيسة . وبالحديث عن العصر الجديد ، العصر الذي أتسم بالإهتمام بقضايا الانسان الشخصية وحقوقه ومصالحه ، لابد من المرور على الرؤى الفلسفية والفكرية التي كسرت الجمود الفكري اللاهوتي – الاقطاعي السائد والتي دفعت باتجاه تخليص عقول الناس من سيطرة الكنيسة . فظهرت كتابات نيقولا كوبرنيكس ( 1473 – 1532 ) التي أسهمت في تحطيم الايدلوجية اللاهوتية ، ووضعت كما يقول أنجلز " الاسس الاولى لبداية تاريخ تحرر العلوم الطبيعية من اللاهوت " .فهو يعتبر أول من صاغ نظرية مركزية الشمس وكون الأرض جرماً يدور في فلكها في كتابه "حول دوران الأجرام السماوية". وهو مطور نظرية دوران الأرض، ويعتبر مؤسس علم الفلك الحديث. هذه الاسس التي تبناها فيما بعد جوردانو برونو ( 1548 – 1600 ) الذي قال إن " الكلمة الأخيرة في كل مجال من مجالات المعرفة تكمن في العقل وحده " والذي حكمته الكنيسة بالموت حرقاً . اما الخطوات الاولى فقد بدأت بزعامة مارتن لوثر( 1483 – 1546 ) الذي اعلن مطالبته بالاصلاح وانكر دور الكنيسة ورجال الدين في الوساطة بين الانسان والله ، وهو بهذا التوجه قد فتح آفاق القطيعة بين الدين والدولة . وفي خضم هذا الحراك والتناقض الفكري والصراع الاجتماعي ظهرت افكار الانجليزي فرنسيس بيكون (1561 – 1626 ) الذي دعى في أفكاره الى النزعة الشكية فيما يتعلق بكل علم سابق كخطوة اولى نحو الاصلاح وتطهير العقل من الاوهام . ومن بعد بيكون ظهر ديكارت ( 1596 – 1650 ) الذي بدى واضحاً أنه تأثر بأفكار بيكون ، ولعل اهم ما ارتكز عليه ديكارت هو الشك المنهجي والشك العقلي الذي كان يرمي من خلاله الى تحرير العقل من سائر السلطات الرجعية. ومن بعدهم كان توماس هوبز ( 1588 – 1679 ) الذي رفض نظريات الأصل الآلهي للمجتمع ودعى الى أن تكون السلطة إنعكاساً حقيقياً لأصل مجتمع دنيوي . لكن هذا المجتمع الدنيوي لم يكن منفصلاً عن الدولة ، بل هو تعبير عن انتقال مبدأ السيادة والسلطة الزمنية الدنيوية من السماء الى الأرض . ( 2 ) بعد توماس هوبز ، كانت لآراء جون لوك ( 1632 – 1704 ) أثرها البالغ من ناحية مباشرتها وصراحتها ، فقد رفض ومن خلال تلك الآراء كل مفاهيم المجتمع الاقطاعي ، وأكد إن الحالة الطبيعية للبشر تتأكد عند سيطرة الحرية والمساواة كمفاهيم اساسية تحكم المجتمع . والغاء النظام الملكي المطلق لكونها لا تتفق مع طبيعة المجتمع المدني الذي ينطلق في الاساس من مبدأ ارادة الانسان الحرة .( 3 ) كما افترض جون لوك وجود افراد في حالتهم الطبيعية ، أي دون دولة ، وهو الافتراض الذي يبني عليه المجتمع المدني في حلقته الثانية كمجتمع مدني قائم بذاته ، أي بانفصاله عن الدولة ، وهذا ما يختلف به عن هوبز .
ليأتي دور جان جاك روسو ( 1712 – 1778 ) الذي تكمن أهمية افكاره في تلك الفترة في محاولته ان يبرهن على أن الوسيلة الوحيدة لتصحيح التفاوت الاجتماعي تكمن في ضمان الحرية والمساواة المطلقة امام القانون . واكد على أن الحياة السياسية يجب أن تقوم على سيادة الشعب المطلقة . وممن اهم ما يميز " العقد الاجتماعي " كتاب روسو الشهير أن لا مكان فيه لمواطن غني الى درجة تمكنه أن يشتري الآخر وفقير يضطر أن يبيع نفسه . وبقيام الثورة الفرنسية ، وتطور البرجوازية ، كان لابد من تحطيم العلاقات الاقتصادية – الاجتماعية - الاقطاعية لصالح التطور السريع للرأسمالية في بقية دول اوربا . كان لهيغل ( 1770 – 1831 ) مأثرة في نظرته للتاريخ باعتباره انعكاساً لحرية العقل المدركة بأن الاشياء ليست مستعصية على المعرفة ، كما أكد على ان الملكية الخاصة هي اساس المجتمع المدني ، ولكن لهذه الملكية الفردية الخاصة حدوداً معينة وقيوداً ترتبط بمفهوم هيغل للحرية الذاتية . هذه الحرية تتحقق فقط في نظام اجتماعي يتيح للفرد حداً مقبولاً من مقومات الحياة . عكس ذلك وفي ظل ظروف القهر والفقر والبؤس والحرمان وغياب العدالة الاجتماعية لا يمكن أن تتوفر عوامل تؤدي الى تطور المجتمع ، وبوجود مجتمع مثل هذا لا جدوى من الحديث عن الحرية ، وبغيابها تنتفي أهم مميزات المجتمع المدني وهي تطور الوعي السياسي . وفي مواجهة ما قدم له هيغل ، من نظام الملكية الخاصة ومبدأ الحرية الذاتية ، قدم ماركس ( 1818 – 1883 ) تعريفه للمجتمع المدني باعتباره : حلبة التنافس الواسعة للمصالح الاقتصادية البورجوازية ، فالمجتمع المدني عند ماركس هو المجتمع البرجوازي كما انه ركيزة الدولة الحديثة كما كانت العبودية هي الركيزة الاساسية للدولة القديمة . ( 4 ) إستخدم ماركس مصطلح " المجتمع المدني " بطريقتين ، الأولى وردت في المسألة اليهودية على الشكل التالي : إن الدولة السياسية هي حسب جوهرها، حياة الإنسان النوعية-العامة بمعارضة حياته المادية (الخاصة). كل افتراضات هذه الحياة الأنانية تواصل بقاءها في المجتمع المدني خارج دائرة الدولة، ولكن كخصائص للمجتمع البرجوازي ، أي ( حياة مادية خاصة مقابل الحياة العامة في الدولة الحديثة ) وحيثما وصلت الدولة السياسية الى تفتحها الحقيقي، يعِشْ الإنسان، ليس فقط في الفكر، والوعي، بل في الواقع، وفي الحياة، وجوداً مزدوجاً، سماوياً وأرضياً، الوجود في الجماعة السياسية أو الاشتراك السياسي، حيث يعتبر نفسه كائناً عاماً، والوجود في المجتمع المدني، حيث يشتغل كإنسان خاص (في إطار علاقات وقوى الإنتاج الرأسمالية)، يرى في البشر الآخرين محض وسائل، يخفض ذاته الى مرتبة وسيلة محضة، ويصير لعبة بيد قوى غريبة. الدولة السياسية هي إزاء المجتمع المدني روحانية بقدر ما السماء روحانية إزاء الأرض . أما الثانية فقد وردت في الأيديولوجيا الألمانية : فإن ماركس يماثل بين المجتمع المدني وعلاقات الإنتاج التي تشمل العلاقات الاقتصادية والعلاقات الاجتماعية . وهو بهذا التماثل يجعل من المجتمع المدني عاملاً مهماً في تحديد معالم البنية الفوقية . وفي كتابه رأس المال : يستغني ماركس عن مصطلح المجتمع المدني كبنية تحتية ويتبقى على مفهوم علاقات الإنتاج الاقتصادية الاجتماعية، كمسرح تاريخي، على اعتبار أن التاريخ أساساً، هو الانتقال من شكل سائد للملكية الخاصة الى شكل آخر جديد، الى أن نصل الى التشكيلة الرأسمالية . ( 5 ) رغم كل ما تقدم لم يقلل ماركس أبداً من أهمية الانعتاق السياسي الذي حققته الثورة البورجوازية في عصر النهضة ، وهذا الانعتاق يمثل فعلاً انعطافة مهمة في التطور التاريخي وتقدماً في اطار النظام الاجتماعي القائم آنذاك ، الا انه – ماركس – حذر من الاكتفاء بهذا الانعتاق من الجانب السياسي ، ودعى الى ثورة اجتماعية تلي الثورة السياسية ، معللاً بأن الانعتاق السياسي وحده سيرسخ المجتمع المدني البورجوازي لصالح القوى الرأسمالية وسيفرض مزيداً من الهيمنة والتوسع والتحكم بمقدرات البشرية .
قدم المفكر انطونيو غرامشي (1891-1937) الذي ترك أكبر الأثر على مفهوم المجتمع المدني تعريفه ضمن اشكالية سياسية وفكرية مهمة هي الهيمنة ، فهو مجتمع يمثل مجموع العضويات او الكيانات الخاصة التي تمكن المجتمع المدني من أن يعبر عن وظائف الهيمنة . فهو يتحدث عن أن هناك مجالان رئيسان يضمنان استقرار سيطرة البورجوازية ونظامها ، المجال الاول هو مجال الدولة وما تملكه من اجهزة وفيه تتحقق السيطرة المباشرة " السياسية " ، والمجال الثاني هو مجال المجتمع المدني وما يمثله من أحزاب ونقابات وجمعيات و احزاب سياسية ووسائل اعلام ودور عبادة ، وهنا تتحقق وظيفة ثانية لا بد منها لبقاء أي نظام وهي الهيمنة الايدولوجية والثقافية . والمجتمع المدني عند غرامشي هو المجال الذي تتجلى فيه وظيفة السيطرة أو القيادة السياسية المباشرة ، هذه الدولة ورغم مراهنة غرامشي على المجتمع المدني الا انه لا يقلل من أهميتها فالعمل في اطار هذا المجتمع هو جزء من العمل في اطار الدولة ، باعتباره وحسب رسالته الى تاتيانا شوخت عام 1931 يقول " ان الماركسين يرون عادة في الدولة مجتمعاً " سياسياً " وليس توازناً بين مجتمع سياسي ومجتمع مدني " . ويختلف غرامشي عن ماركس في انه اعتبر المجتمع المدني بناءً فوقياً وهذا ما يفسر لنا اهتمامه الواسع بقضايا الثقافة وذلك الاهتمام الخاص بالمثقف وتقسيمه الشهير بين مثقف تقليدي ومثقف عضوي . هذا المثقف باعتباره من سيحقق الهيمنة التي يدعو لها غرامشي والتي يقصد بها إن أي طبقة وقبل وصولها الى استلام سلطة الدولة ، يجب أن تقيم إدعاءها بكونها طبقة حاكمة في الحقول السياسية والثقافية . ( 6 )
.....................................................................................................................................
الهوامش : ( 1 ) غازي الصوراني ، التطور التاريخي لمفهوم المجتمع المدني . ( 2 ) عامر حسن الفياض ، المجتمع المدني .. دراسة في إشكالية المفهوم . ( 3 ) غازي الصوراني ، مصدر سابق . ( 4 ) غازي الصوراني ، مصدر سابق . ( 5 ) غازي الصوراني ، مصدر سابق . ( 6 ) جون كاميت ، غرامشي .. حياته ... وأعماله ، الطبعة الاولى 1984 .
#حارث_رسمي_الهيتي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
وثائق CIA وجائزة نوبل
-
معالم وخصائص التجربة العراقية في الخصخصة خلال فترة النظام ال
...
-
هل هكذا يكتب التاريخ ؟!!
-
مئة يوم أخرى
-
دين الدولة ... ودولة الدين
-
أهمية السؤال
-
اعتزال حقيقي ... أم لا ؟!
-
متى تنتهي الصيحات الطائفية ؟!
-
14 / تموز ... ثورة أم انقلاب ؟
-
راعية الانقلابات تنتقد !!
-
30 - يونيو ... المرحلة الثانية
-
تركيا ... درسٌ جديد
-
مصر ... ما الذي حدث ... محاولة في فهم جذور الحراك .
-
9 / 4 واختلاف العناوين ...
-
مكتب الارشاد ... بين مطالب الناس واغلاق قناة التت ...
-
8 شباط ... هل نسامحهم ؟!!
-
المستقل ... من هو ؟!
-
ماذا يحدث في الأنبار ؟
-
تجارب الاسلام السياسي في بلدان الربيع العربي - مصر نموذجاً -
-
المرأة في الخطاب الديني
المزيد.....
-
المجلس النرويجي للاجئين يحذر أوروبا من تجاهل الوضع في السودا
...
-
المجلس النرويجي للاجئين يحذر أوروبا من تجاهل الوضع في السودا
...
-
إعلام إسرائيلي: مخاوف من أوامر اعتقال أخرى بعد نتنياهو وغالا
...
-
إمكانية اعتقال نتنياهو.. خبير شؤون جرائم حرب لـCNN: أتصور حد
...
-
مخاوف للكيان المحتل من أوامر اعتقال سرية دولية ضد قادته
-
مقررة أممية لحقوق الانسان:ستضغط واشنطن لمنع تنفيذ قرار المحك
...
-
اللجان الشعبية للاجئين في غزة تنظم وقفة رفضا لاستهداف الأونر
...
-
ليندسي غراهام يهدد حلفاء الولايات المتحدة في حال ساعدوا في ا
...
-
بوليفيا تعرب عن دعمها لمذكرة اعتقال نتنياهو وغالانت
-
مراسلة العالم: بريطانيا تلمح الى التزامها بتطبيق مذكرة اعتقا
...
المزيد.....
-
أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال
...
/ موافق محمد
-
بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ
/ علي أسعد وطفة
-
مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية
/ علي أسعد وطفة
-
العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد
/ علي أسعد وطفة
-
الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي
...
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن
...
/ حمه الهمامي
-
تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار
/ زهير الخويلدي
-
منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس
...
/ رامي نصرالله
-
من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط
/ زهير الخويلدي
-
فراعنة فى الدنمارك
/ محيى الدين غريب
المزيد.....
|