|
الليبراليون العراقيون: طريق غير ممهّدة وسير متعثر
رياض الأسدي
الحوار المتمدن-العدد: 1439 - 2006 / 1 / 23 - 03:53
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
التيار الليبرالي في العراق واحد من أهمّ مظاهر السياسة العراقية الحديثة في القرن العشرين. ومن الصعب أن نرى بعد نهاية القرن المضمخ بحربين عالميتين شرستين، واكثر من ثمانين حرب اقليمية واهلية على مستوى العالم ثمة قوى استطاعت ان تحدث مقدارا من الشرخ السياسي و الاجتماعي في الحياة العراقية المعاصرة مثلما احدثته تلك القوى الليبرالية على الرغم من المدة الزمنية القصيرة التي عملت فيها بشكل فاعل. ويكاد ان يكون عقد الثلاثينات الحاضنة الرئيسة لليبراليين العراقيين. لكن التيار الليبرالي بقي مستمرا كتيار "فردي" غالبا في عهود العسكرتاريا العراقية 1958-2003 وهي حقبة كبيرة تقترب من نصف القرن، أنعدمت فيها الحريات الفردية والعامة على حدّ سواء. وإذا ما أستثنينا الاشهر القليلة التي اعقبت ثورة تموز 1958وما رافقها من احداث.. فإن جميع المدد الاخرى لم تشهد تطورا بأزاء الحريات على نحو دائم. ظهرت في العراق التيارات الليبرالية في وقت مبكّر من القرن العشرين. وكانت جماعة (الأهالي) التي ظهرت في عقد الثلاثينات من القرن المنصرم من أهم الحركات الليبرالية التي عملت في الحقل السياسي العراقي. وكان جعفر أبو التمن وعبد الفتاح إبراهيم من رواد الفكر الليبرالي في العراق المعاصر. ثمّ نتج عن وجود تلك الحركة الكبيرة تأسيس (الحزب الوطني الديمقراطي) المنبر اتلكبير لليبراليين عام 1946 وفي مناخ تكون من فسحة سياسية قصيرة من الحريات النسبية التي منحت إلى الشعب العراقي بعد الحرب العالمية الثانية 1939-1945 بقيت تلك الفسحة في حالة انحسار دائم حتى عام 1955حينما أعلن (عرّاب) السياسة الاستعمارية الشرق أوسطية نوري باشا السعيد عن ولادة حلف بغداد، وما رافقه من تضييق واضح على الحريات العامة والفردية السياسية، وتمثل في غلق الصحف ذات الاتجاه الحرّ نسبيا، ومنع الأحزاب التقليدية بحجة "مكافحة الشيوعية الهدامة!" والسير بالمجتمع نحو حياة المركزة المستمرة. ولذلك من الخطأ الكبير أن يتصور البعض ان الديكتاتورية في العراق كانت وليدة النظام الجمهوري؛ بل أن عام1955 كان هو البداية التاريخية لها حينما حلّت الأحزاب وبدأت حالة الطوارئ في البلاد.. لتبدأ واحدة من أكثر مراحل العراق السياسية صعوبة وقسوة حيث مهّد الطريق تماما للعسكرتاريا الصاعدة والطامحة لتسلّم دفة الحكم فيه. كانت العسكرتاريا العراقية قد بدأت التدخل في الشؤون السياسية في وقت مبكر بعد التأثر الكبير بالتجربة الاتاتوركية القريبة أقليميا، فكان انقلاب بكر صدقي 1936من أهم المظاهر لذلك التوجه في وقت مبكر في العالم العربي. وعلى الرغم من ذلك، فأن الاوضاع السياسية في العراق لم تنسحب الى الحالة التركية بسهولة حتى قيام الحرب العالمية الثانية، حيث أسهم الضباط القوميون علم 1941 في زعزعة الكيان السياسي بما عرف بحركة مايس آنذاك. لكن نهاية الحرب اسهمت بنوع من الانفراج السياسي النسبي, مما جعل المناخ مواتيا لظهور الحزب الوطني الديمقراطي بشخصياته التقليدية من أمثال كامل الجادرجي ومحمد حديد و الليبرالي المعروف عبد الفتاح ابراهيم وغيرهم غلى جانب احزاب وطنية وقومية اخر عملت على الساحة العراقية بقوة وجهد واضحين حيث أفرزت شخصيات ليبرالية معروفة لعبت دورا كبيرا في السياسة بعد ذلك وهم من أهم رموز التيار الليبرالي في العراق. ومن الصعب أن نرى يعد ذلك، أن التيار الليبرالي العراقي قد تمخّض عن حركة ثقافية واجتماعية واضحتي المعالم إذا ما قورنتا بالحركة الشيوعية فيه، وما نتج عنها من ظهور تيارات ثقافية و أدبية واجتماعية محدودة. وعلى الرغم من المنع المتواصل والقمع الشديدين الذين تعرضت له الشيوعية في العراق الملكي غلا انها أرست نوعا من المعالم السياسية المهمة تتعلق بتطور الفكر السياسي العراقي وربطه بهذا المقدار او ذاك بحركة الفكر العالمي؛ وهذا ما لم يستطع الليبراليون العراقيون القيام به عموما. وتكاد أن تكون الأفكار الليبرالية والدعوات إلى الحرية السياسية والاجتماعية ومظاهرها الثقافية هي واجهات اخر للماركسية في أوقات كثيرة؛ بل أن كبار الليبراليين الأواخر كمحمد حديد - وهو من مؤسسي الحزب الوطني الديمقراطي- قد أعلنوا عن "ماركسيتهم" في نهايات حياتهم السياسية الحافلة. ومن هنا فإن مفهوم الليبرالية من الناحية العلمية في العراق لم يستطع على العموم ان يؤسّس اطارا واضحا لها، فضلا عن غياب التقاليد الليبرالية التي حظيت بها البلدان التي ظهرت فيها؛ وهو وضع رافق معظم بلدان العالم العربي. فلم تكن الليبرالية تتخذ شكلا واضحا تماما في ذهن عقلية عديد من السياسيين العراقيين بما في ذلك الليبراليين أنفسهم على نحو كاف. وكان الزعيم عبد الكريم قاسم1911-1963 من اقرب العسكريين إلى الفكر الليبرالي الشعبي المبسط؛ على الرغم من انه لم يكن كعسكري تقليدي يؤمن بالعمل السياسي إلا أنه وخلال مدة حكمه التي قاربت السنوات الأربع كان من اقرب الحكام العسكريين إلى الليبرالية الممزوجة بالنزعة الشعبية الساذجة احيانا؛ إذ لم تكن لدى الزعيم عبد الكريم قاسم أيديولوجيا سياسية محددة، كما لم تكن لديه نظرية عمل سياسية ذات جذور فكرية، ولعل هذا الموقف هو الذي دعاه إلى الإعلان التقليدي المتكرر له في كونه: فوق التيارات السياسية!. بيد أن الأحزاب السياسية العراقية الساعية للقفز إلى السلطة لم تكن بطبيعة الحال لتسمح بنمو ذلك الاتجاه اللامسؤول حيال قضايا الانتماء الفكري والايديولوجي التي كانت سائدة يشدة وقتذاك. كما أن الوعي السياسي لعبد الكريم قاسم كان أقلّ من ذلك بحكم شروط المرحلة التاريخية وملابساتها وما رافقها من احداث وتقلبات لم تسمح على العموم بظهور(تيار قاسمي) كما هوعليه الحال لدى اتاتورك الذي أنشأ حزب الشعب الجمهوري او جمال عبد الناصر الذي عمل على إقامة ما يعرف بالاتحاد القومي او الاتحاد الاشتراكي بعد ذلك وهما تجميعين هشّين لعموم الحركات السياسية القومية بمختلف أتجاهاتها تحت عباءة الناصرية كما هو معلن. ولذلك بقي الزعيم عبد الكريم قاسم يتعكّز على الحزب الوطني الديمقراطي طوال مدة حكمه تقريبا، دون أن يمنحه فرصة سياسية واحدة في إعادة الحياة السياسية الطبيعية إلى العراق. كما أن ذلك الحزب على العموم لم يكن يمتلك القدرة على تكوين تحالف سياسي واسع لقيادة البلاد بسبب الضعف الكبير في قيادته السياسية وعدم تماسكها الفكري والتنظيمي، فضلا عن الصراعات الحزبية التي خاضها كلا زعيميه التاريخيين كامل الجادرجي ومحمد حديد ضدّ بعضهما، وما نتج عنه من أضرار ليس على مستوى التنظيم فحسب بل على مستوى الفكر السياسي للحزب أيضا. ويعدّ نجاح ( البعثيين والقوميين) في الاستيلاء على السلطة في العراق يوم 8 شباط عام 1963 ضربة قوية للتيار الليبرالي العراقي، وعموم التيارات السياسية الأخرى حيث ساد مفهوم (الحزب الواحد) او ( الحزب القائد) بعد ذلك على نطاق واسع. ثمّ بدأ في العراق استنساخ بليد للتجربة الناصرية الدكتاتورية في ما عرف ب(الاتحاد الاشتراكي) وهو تنظيم حكومي فوقي أنشا بقرار حكومي مهمته الإبقاء على السلطة الحاكمة وقمع كلّ تحرك سياسي معارض لها. كما انه في الوقت نفسه وصفة جاهزة لمنع أي حراك سياسي و اجتماعي على نطاق حرّ أيضا. فمن الصعب بأية حال من الأحوال أن نجد التيار الليبرالي يترعرع في ظلّ تقييدات اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية. انكفأ الليبراليون العراقيون في بيوتهم طوال مدة الحكم الفاشي في العراق 1963- 2003 ولم تعد "صالوناتهم" السياسية والثقافية قائمة كما كان عليه الحال في العهد الملكي او الفسحة الهامشية من حكم عبد الكريم قاسم. ولذلك فإننا لن نفاجأ إذا ما رأينا ان لا وجود لليبراليين داخل العراق الآن! وان الجماعات التي جاءت من خارج العراق وهي تحمل طليبراليتها التنظيرية" لا جذور اجتماعية وسياسية لها؛ وهذا ما يفسّر صعود (اليمين الديني الاسلاملوجي) إلى الجمعية الوطنية بعد التحرير والاحتلال الاميركي - البريطاني، وحيازته على نسبة كبيرة من الاصوات فيها دون ان يتعلم أسس العمل على وفق الديمقراطية كخيار ستراتيجي لا حياد عنه. فالتيار الإسلامي العراقي طائفي النزعة مما افقده قدرة على التكيف والمواصلة والعمل على أستنهاض العوامل العاطفية فحسب، دون ان يحسب بان تلك العوامل لا يمكن ان تكون دائمة في ظل تفاقم مشكلات داخلية مستعصية كالامن والبطالة والسكن وضحايا الحروب والتنمية المتوازنة والفجوة الجيلية وتوزيع الثروات وتلوث البيئة وغيرها من المشكلات .. ومما أفقد الحركة الوطنية - والقوى الليبرالية الشكلية- في الوقت نفسه مقدارا كبيرا من فاعليتها وصدقيتها أيضا. فالوضع لا يشمل الإسلاميين وحدهم إذ يكطال جميع القوى الوطنية في عدم تفهم مسألة الحريات على نطاق اوسع؛ ولعل هذا الوضع ناتج عن طبيعة التغيير الذي رافق السلطة في العراق والذي تمّ من قوة خارجية مما أفقد القوى الوطنية والإسلامية العراقية توافر كوادر سياسية قائدة ومضحية ودينمية على نطاق واسع. وعطل العمل بالتجارب السلمية التي تعقب معظم انهيارات الانظمة الدكتاتورية في العالم الثالث. ويمكننا على العموم ان نجد العوامل التالية التي تحول دون ظهور تيار ليبرالي إسلامي في العراق ذي طابع ليبرالي فيحدث تغييرا أساسيا في الحياة السياسية : 1- مازال الإسلاميون العراقيون منكفئين في اطار النزعة الطائفية بكلّ أشكالها والتي هي منافية تماما لعموم الفكر الحر, مما يفقدهم على المدى البعيد قواعدهم الاجتماعية التقليدية. وان الحركات السياسية التي تحاول الخروج من هذه الشرنقة هي قليلة وضعيفة التاثير. 2- لا تمتلك الحركات والاحزاب الإسلامية في العراق ميراثا سياسيا محددا، وجلّ العمل الذي جرى بناءه يتعلق غالبا بالقضايا العقدية واصول الدفاع عن الدين من الشبهات التي تلحق به والردّ على الماركسية خاصة. اما كنموذج لبناء دولة على وفق اسس حديثة فهو لم يتوافر على نحو يتلائم وطبيعة المهمات الملقاة على عاتقه بعد التحرّر من نظام صدام. يظهر هذا الوضع جليا في البرامج السياسية المعلنة لهذه الاحزاب والتي تتسم بالضحالة الفكرية والتشابه والتبسيطية والإعلانية المحضة غالبا. 3- ما زال عديد من الحركات الإسلامية يلجأ إلى مفاهيم " الثورية والجهادية والتكفير" وغيرها من أساليب النضال السري. وان معظم القيادات الإسلامية لم تعمل كتكنوقراط، بل هي وليدة الألتزام الحزبي وقصور التجربة السياسية. ومن هنا فإن القيادات الأسلاملوجية ينبغي عليها العمل وبجدية لتكوين قدرات خاصة بها وأبتكار رؤى عمل لبناء الدولة على وفق الأسس العلمية الحديثة، وليس على وفق الاجتهادات الفردية التي تقدم من هنا وهناك، وصولا إلى تقديم أنموذج متميز وحافل بالاجتهاد السياسي. 4- ثمة ضعف شامل في جوانب الثقافة السياسية لتلك الحركات والاحزاب والمجموعات او التجمعات. فما زالت تنظر إلى قضايا (الثقافة) و(التحولات الديمقراطية)على أنها مجرد حالة لاحقة للمجتمع وليست قائدة له، مما يجعل الطريق ممهدا لتسلق العناصر الأنتهازية والجاهلة والباحثة عن فرصة عمل في السياسة والتي تشكل علىالمدى البعيد جماعات ضغط ذات حلول مليشياتية لمعظم المشكلات التي تجابه تلك الحركات. والليبراليون العراقيون من غير الأسلاملوجيين لا يلجأون إلى العمل السرّي، لأنهم بطبيعة تكوينهم لا يحبون حياة الخفافيش؛ إنهم أبناء شمس النهار، يتنفسون من خلال الشرعية ـ أية شرعية كانت ـ وحدها. وهم بذلك لا يكونون جماعات ضغط بل أفراد مميزون غالبا فيفقدهم هذا الوضع قدرات العمل بين الجماهير. كما أنهم لا يمتلكون نظرة واضحة أزاء دور الدين الاجتماعي والسياسي، ولا يستعيرون في فكرهم المبسط إلا معاني التجارب الغربية ذات البعد التاريخي فقط. وهي اجتهادات لا تتلاءم والوضع التاريخي للعراق. ويعود سبب ذلك إلى طبيعة المكونات الفكرية (التقليعة) لليبرالية الوافدة، وغياب الطبقة الوسطى المشجعة للفكر التنويري الذي يعدّ بمثابة الأنطلاقة الاولى لأية ليبرالية جادة. وعلى الرغم من وداعتهم ومسالمة الليبراليين، فهم يشكّلون إذا ما واتتهم فرص العمل اكبر المخاطر على اليمين الديني والقومي والعرقي والطائفي بكلّ أشكاله. ويعود سبب ذلك إلى طبيعة الشخصيات القوية والمؤثرة ذات الثقل الثقافي والمعرفي التي تنضوي تحت هذا التيار عموما. كما أنها في الوقت نفسه تكون واجهة كبيرة إذا ما واتتها الفرصة على النهوض بالواقع الثقافي للبلاد. ولذلك لا يمكننا ان نرى ثمة قوى ليبرالية فاعلة بلا قاعدة حضارية واجتماعية ثابتة ونمو اقتصادي يتناسب ودور الطبقة الوسطى في المجتمع. فضلا عن شيوع مناخ من السلم الاجتماعي الدائم بعيدا عن التعامل المليشياتي السريع للمشكلات والتحديات اليومية لعموم الحركات السياسية. ومن هنا فإن اختيار "الطريق السلمي" هو واحد من خيارات الليبرالية في كلّ مكان من العالم. فهل يمكن لهذا المسار من التقدم في ظل نمو متواصل للميليشيات المختلفة؟! وكيف يمكن للمجتمع ان ينمو سياسيا ويتطور فكريا إلى جانب تفاقم مستمر للقوى المسلحة، او التهديد بها؟ ان خيار الليبرالية السياسي لا يستطيع ان يقدم حلوله في آتون اوضاع شاذة لا يمكن تبريرها. ولذلك تجد هذا التيار بيقى محصورا في النزعات الفردية حتى في ظل الممارسات الانتخابية ذات الطابع الديمقراطي الشكلي لأيضا. فالدعاية السياسية معدومة تحت فوهات الكلاشنكوفات او التهديد بها. وطرح البرنامج السياسي يكاد ان يصبح ضربا من الخزعبلات في حالة فتاوى أعمل ولا تعمل أيضا. كما يسهم هذا الوضع على نمو قوى مشحونة بالعاطفة الدينية وقادرة على استخدام السلاح على وفق أي اجتهاد لشيخ دين صغير. ولدينا في تجارب منظمة ابو مصعب الزرقاوي خير دليل. ومن الخطا ان نحسب بان هذا التيار مقتصرا على هذه الشخصية العدمية وحدها فقد تلجيء الاحداث غير المتوازنة وتعثر العملية السياسية إلى ما هو أسوأ من ذلك. فأين يعمل الليبراليون العراقيون في اوضاع كهذه؟!! لكن الخيار الليبرالي وبحكم النزعات الشمولية في الشرق عموما قد وضعهم في خانة "النخبة المعزولة" غالبا عن الحياة السياسية في البلاد. فهم من أقل الناس مجازفة بحياتهم. وبسبب هذه الحال فإن الليبراليين العراقيين هم أفراد دائما طوال حقبة النظام الفاشي السابق وحتى الوقت الحاضر أيضا. وتكشف ذلك نسبة المصوتين القليلة لقائمة الحزب الوطني الديمقراطي في انتخابات الجمعية الوطنية المؤقتة: كانوا قد حصلوا في عموم العراق على اكثر من ألف صوت فقط!! اما في الانتخابات الاخيرة 15 كانون الاول 2005 التي جرت لأختيار جمعية دائمة فإن الليبراليين على الرغم من اصطفافهم مع الوطنيين والشيوعيين في قائمة ( اياد علاوي) فهم لم يستطيعوا ان يكونوا على العموم تيارا واضحا ذا وزن سياسي. ومن الصعب أن نرى الليبراليين العراقيين جماعة موحّدة أو متماسكة لغياب تقاليد العمل الحزبي الرصينة، وتفاقم النزعة في معرفة كلّ ما هو قائم بينهم دون وضع بدائل مناسبة، وسيادة النزعة الفردية دائما. ربما يكون مثل هذا (المرض المزمن) قليل التأثير في الغرب لأن تقاليد الليبرالية قد تأسست منذ وقت طويل، لكنه مستفحل هنا على نحو كبير. كانت ظاهرة عدم التماسك الفكري والتنظيمي قد وضعت الليبراليين العراقيين عرضة لتناهب الأحزاب الشيوعية والقومية على حدّ سواء؛ إذ كان بإمكان الليبرالي أن يتحول إلى أي تيار دون أن يجد في مثل هذا المر حرجا فكريا أو شخصيا. فالليبرالية صفة أقرب إلى الثقافة منها إلى السياسة. وعلى الرغم من أن "التمركس" الستيني العراقي كان يتعارض مع الليبرالية إلا أن معظم الليبراليين العراقيين هم ماركسيون بهذا المقدار أو ذاك؛ وهذا هو صلب الأزمة . وعانى الليبراليون العراقيون – كما هو عليه حال معظم الليبراليين في العالم – من ظاهرة التوزّع بين الحركات السياسية المختلفة، فان ترى ثمة ليبرالي في الحركة الشيوعية وليبرالي في الحركات الإسلامية وليبرالي وطني وليبرالي اشتراكي وليبرالي مستقل ..الخ. وإذا كانت المسيحية بحكم ليبراليتها الظاهرة (بعد البروتستانتية) قد تبدي نوعا من التسامح مع الليبراليين إلا أن مثل هذا الوضع يكاد أن يكون غريبا لدى الليبراليون الإسلاميون؟ فكيف يمكن التملّص من أحكام الشريعة الإسلامية الصارمة وحملها على الفكر الحرّ؟ تبدو ليبرالية الإسلاميين على اختلاف مشاربهم وصنوفهم هي مجرد تزويق ثقافي مطلوب، وليست منهجا في المعرفة السياسية والاجتماعية. تتسرّب الليبرالية في العراق كما النقود، وتحطّ على الأيدي المختلفة، لكنها ليست قوية وغالبا ما يتصرّف بها أصحابها. لكن الليبرالية ما زالت موضع عداء كبير من السلفيين بمدرستيهم السنية التقليدية والشيعية المتطرفة. فالليبراليون في كلّ مكان, وخاصة العراق في هذه البحبوحة من الحرية الناقصة. وهم "أعداء" خطرون إذا ما نظّموا صفوفهم على مختلف التيارات التقليدية. فالليبراليون الإسلاميون - إذا جاز التعبير- هم لوثريون من طراز آخر. وربما يمكنهم إذا ما احسنوا العمل والتوفيق من أن يحدثوا شرخا كبيرا في جدار الماضوية الإسلامية الصلد. تلك هي مهمتهم إذا ما عبروا حالة (التزويق) بنجاح وبدأوا عملا جادا جديدا. لكننا حتى هذه اللحظة لم نشهد هذا النوع من الليبراليين الإسلاميين - كالنموذج التركي والاندونيسي- في العراق على أية حال. وقد يعود ذلك إلى الضعف الشامل في الثقافة التي تهيئ لليبراليين غالبا مناخا صحيا. فإن صعود الاسلاميين الليبراليين الترك ولد على ارضية من الحريات الفردية والعامة التي تمحورت حول الحدّ من الطبقة العسكرية المتحكمة والسلطة التنفيذية والعمل بالدستور والسعي بدخول الأتحاد الأوربي الذي طالما فرض نموذجه الديمقراطي على تركيا، وترك بصمة واضحة على سياستها الداخلية. ولم تكن تلك الحالة - بالطبع- صناعة إسلامية بمقدار ألتزامها بالنموذج الغربي. كما أن النزعة الليبرالية ستجد لها مكانا أولا في أوساط الشيوعيين الذين تحولوا في العراق إلى الليبرالية من خلال إسقاط مفهوم الثورة الجذرية, ودكتاتورية البروليتاريان وديمقراطية الطبقة، والأيمان بالعنف وسيلة مثلى لتحقيق "أهداف الجماهير".إن الجماهير هذا المفهوم الواسع العريض والتاريخي ليس لها اهداف محددة غالبا تتعدى الإصلاحات الاقٌتصادية الملموسة واليومية. إن أزمة الليبراليين العراقيين ليست تنظيمية فحسب، بل هي أزمة فكرية وثقافية في آن. وهي لا تتعلّق بانحسار مدّهم السياسي في الحقبة العسكرتارية بقدر ما هي البحث عن طرق عمل جديدة. فالليبراليون العراقيون منتشرون في حركات مختلفة لكنهم - كما هو مرضهم المزمن غير متعاونين! - وتعدذ ظاهرة ألتفافهم حول القائمة العراقية الوطنية التفاتة مهمة قد لا تتجدد غالبا. ومن هنا فإن "النزف التاريخي" لليبرالية العراقية سوف يبقى مستمرا مكا دامت تبقي على الوسائل القديمة في الاتصال. كما انه سوف يهيئ مناخا جديدا لعودة الدكتاتورية بهذا الشكل أو ذاك خاصة أن مؤسسات الدولة المزمع إقامتها في العراق لم تتضح على نحو محدد، والدستور كمسودة لم يقدّم "ضمانات كافية" لصون الحريات الفردية والجماعية وحقوق الإنسان - انجيل الليبراليين العتيد- بعد الإعلان عن التخلّي عن الالتزام بمواد حقوق الإنسان في الدستور وهي خطوة، فضلا عن وجود حركات (ثورجية) سابقة يمكن أن تستعير ما تشاء من موروثها السرّي للتحول بالاتجاه الآخر المناقض للفكر الحر تماما. إن الخشية من توجيه ضربات غير متوقّعة للعمل الليبرالي العراقي بدا واضحا في مناقشات أعضاء الجمعية الوطنية من حملة الفكر الأحادي المعادي ضمنا للديمقراطية. فقد استطاعوا تقديم نماذج سيئة بعد انحسار الليبراليين العراقيين عن الساحة وانكشاف أوراقهم..وبدأوا حملة شعواء على المعاقل الأساسية التي يدافع عنها الليبراليون عادة، وهي حرية المرأة وحقوق الإنسان العراقي على وفق المعايير الدولية، وضمان الحريات الفردية، وبناء مؤسسات سياسية لدولة قانون.. وإذا كانت الطبقة الوسطى الأوربية والأميركية هي الضامنة الكبيرة لاستمرار الفكر الحرّ في الغرب، فما الضامن بالنسبة لنا في ظلّ غياب دائم للطبقة الوسطى في العراق؟! يظنّ بعض الليبراليين العراقيين الجدد والقدامى أو من أولئك( الثورجية القدامى) الذين عاشوا ردحا من الزمن في الغرب: بان الولايات المتحدة هي ضمانة الليبرالية في العراق، وأن (رسالتها الجديدة) في نشر الديمقراطية ومحاربة الإرهاب كفيلة بإنعاش وإبقاء الليبراليين على قيد الحياة السياسية في العراق؛ وهو خطأ فادح. فالولايات المتحدة راعية أعتى الأنظمة الدكتاتورية التقليدية في الشرق الأوسط لن تتحول إلى راع طيب للحريات بين ليلة وضحاها, ولسوف تضحي بكلّ حريات الآخرين من أجل مصالحها الدولية الوليدة التي لم تلتقٍ يوما مع مصالح الشعوب المضطهدة. فليس ثمة ما يجعل مصالح الشعوب المضطهدة تلتقي مع قوى مستغلة وغاشمة؛ وان ما يقال عن لقاء تلك المصالح هو هراء صحفي. ولذلك فإن سحق الليبرالية العراقية الجديدة قضية وقت ليس إلا..
#رياض_الأسدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تكرار فولتير،دراسة أولية في النظرية الأجتماعية الوردية
المزيد.....
-
مشهد يحبس الأنفاس.. مغامر يتسلق جدارًا صخريًا حادًا بسويسرا
...
-
وسط التصعيد الأوكراني والتحذير من الرد الروسي.. ترامب يختار
...
-
انخفاض أعدادها ينذر بالخطر.. الزرافة في قائمة الأنواع مهددة
...
-
هوكستين في تل أبيب.. هل بات وقف إطلاق النار قريبا في لبنان؟
...
-
حرس الحدود السعودي يحبط محاولة تهريب نحو طن حشيش و103 أطنان
...
-
زاخاروفا: الغرب يريد تصعيد النزاع على جثث الأوكرانيين
-
صاروخ روسي يدمر جسرا عائما للقوات الأوكرانية على محور كراسني
...
-
عشرات القتلى في قصف إسرائيلي -عنيف- على شمال غزة، ووزير الدف
...
-
الشيوخ الأمريكي يرفض بأغلبية ساحقة وقف مبيعات أسلحة لإسرائيل
...
-
غلق أشهر مطعم في مصر
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|