|
فقه الشرعية السياسية فى لمحة تاريخية
أحمد صبحى منصور
الحوار المتمدن-العدد: 1438 - 2006 / 1 / 22 - 12:02
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
بسم الله الرحمن الرحيم د. أحمد صبحى منصور فقه الشرعية السياسية فى لمحة تاريخية مقدمة: 1 ـ دائما نحتاج الى تحديد المصطلحات ونحتاج أيضا الى فهم مناهج التفكير ومناهج البحث . لم يعد هذا ترفا فكريا بل أصبح ضرورة للاصلاح الفكرى والدينى والسياسى ؛ هذا الاصلاح يجب أن يبدأ بالنخبة ثم يسرى الى المثقفين والمتعلمين ثم الأغلبية الصامتة الحائرة. هى بالفعل ضرورة لأن حالة السيولة التى اختلط فيها الحابل بالنابل فى الحياة العربية جعل العقل العربى فى فوضى تماثل فوضى المرور فى ميدان العتبة بالقاهرة . وبغض النظر عن رد الفعل الحاد لكتاباتى فاننى متفائل بالخطوة الأولى التى تحققت وهى أننى الان استطيع أن أنشر "كل " ما أقول بعد ربع قرن من المصادرة والمطاردة كنت فيها أكتب بنصف قلم متحسبا لارهاب واستدعاء الأخوة الأفاضل ضباط مباحث أمن الدولة فى القاهرة. وبهذه المناسبة أقدم خالص امتنانى للمواقع التى تنشر مقالاتى ، فى الوقت الذى لا تستطيع فيه أى مطبوعة عربية فى الاعلام العربى نشر أى مقال لى . كنت أجهز لسلسلة مقالات عن فقه المصطلحات ومناهج البحث ، ناويا البدء بها بعد اتمام عدة مقالات عن الاخوان فاذا بالقراء يجروننى الى قضية الصراع العربى الاسرائيلى التى كنت أتحاشاها مؤقتا مكتفيا بالكتابة فى مجال الاسلام وتراث المسلمين . الا انه وكالعادة فان قضية المصطلحات ومناهج البحث هى أساس عدم الفهم بيننا حتى فى المجالات السياسية. 2 ـ عندما قلت فى مقال سابق :" دولة اسرائيل الآن حقيقة قانونية وشرعية تعترف بها معظم دول العالم ومنها اكبر دولة عربية والسلطة الفلسطينية ذاتها .." انهال الاحتجاج من هنا وهناك ومبعثه لدى المخلصين من الناقدين هو اختلاف مفهوم الشرعية الاخلاقية عن الشرعية السياسية مما أستوجب كتابة هذا المقال.
أمثلة واقعية للشرعية السياسية: ونعطى بعض أمثلة تقرب مفهوم الشرعية السياسية 1ـ المعارضون لشرعية اسرائيل السياسية يمكنهم أن يتظاهروا امام السفارة الاسرائيلية فى احدى دول العالم المحترمة المحايدة فى الصراع العربى الاسرائيلى مثل سويسرا و دول اسكندنافيا ، وليحاولوا ازعاج العاملين بالسفارة الاسرائيلية باحتجاجاتهم وشعاراتهم. هل ستستطيع هتافاتهم هز شعرة من قفا السفارة الاسرائيلية ؟ ثم لو تطور الهتاف الى انتفاضة حجارة تلقى الطوب على السفارة الاسرائيلية، هل سيسكت البوليس التابع لهذه الدولة المحترمة على انتهاك "حرمة " السفارة الاسرائيلية أم سيتدخل بهراواته المحترمة لتنهال على أرداف السادة المحترمين لأنهم يعتدون على سفارة دولة شرعية ووظيفة البوليس المحترم فى تلك الدولة المحترمة أن يدافع عن الشرعية الاسرائيلية طبقا للقانون الدولى المحترم يا .. محترم ؟. الشرعية الاسرائيلية تتجلى فى اعتراف الدول ـ ومنها مصر ـ والأمم المتحدة بدولة اسرائيل. والاعتراف يعنى ضمن ما يعنى تبادل السفارات وحماية الرعايا والسفارات ،هذه هى مستلزمات الشرعية السياسية وفقا للقانون الدولى.هذا واقع لا يجدى فى تغييره مجرد الرفض أو مشاعر الكراهية أو صرخات الاحتجاج أو حتى كل المبررات الأخلاقية . 2 ـ العادة أنه عندما يحدث انقلاب فى دولة ما فان المجتمع الدولى لا يقيم لهذا الانقلاب محاكمة أخلاقية او يطلب منه كشف الحالة الجنائية او يسائله عن العدالة التى سيحققها أو المبادىء التى ينوى تحقيقها . كل المطلوب من النظام الجديد اصدار بيان من بضعة أسطر ليطمئن العالم على حياة الأجانب المقيمين فيه وعلى التمسك بالمعاهدات الدولية والاقليمية التى عقدت من قبل . ويتم الاعتراف الدولى بمجرد أن يوطد الانقلاب سلطاته ويمسك بزمام الأمور ويصبح بالأمر الواقع هو النظام المسيطر والقائم بالحكم فى هذا البلد . أى أن الشرعية السياسية هى الاعتراف بالأمر الواقع بغض النظر عن مبادىء الحق والعدل . بهذه الشرعية السياسية اعترف العالم باسرائيل وبكل النظم العربية بعد الاستقلال . هو اعتراف مبنى على أمر واقع قائم لا بد من التعامل معه سياسيا بغض النظر عن القيم الأخلاقية. بين الحق والاستحقاق 1ـ فى فهم الشرعية السياسية لا بد من التوقف مع مصطلحين : الحق والاستحقاق. الحق فى مفهوم القرآن واللغة العربية يعنى شيئين : الحق بمعنى العدل ، كأن يقال : فلان له حق في هذه الأرض ، او الحق بمعنى الصدق كأن تقول : شهد فلان بالحق، أو عنده حق فيما يقول. الحق أيضا نوعان : حق مطلق جاء فى الكتب السماوية وهو يعنى الصدق والعدل معا، ويستوجب الايمان من أصحاب تلك الكتب. وحق نسبى هو مدى فهم البشر لنصوص الكتب السماوية والاستشهاد بها وتطبيقها. فى مجال الحق النسبى يختلف البشر تبعا للهوى ودرجة الفهم . هذا الفهم النسبى لتلك الحقائق المطلقة قد يكون أحيانا اساسا لاقامة واقع سياسى كما حدث فى اقامة اسرائيل. الاستحقاق هو التطبيق لتلك النصوص أو لغيرها من مزاعم أو مطالب وخلقها أمرا واقعا. يبدأ الأمر بفكرة مستقاة من نصوص مقدسة أو فكرة تعبر عن غرض ما أو حجة ما أوتعبر عن مجموعة أو أمة ، المهم أن تكون الفكرة جذابة وقوية التأثير بحيث تدفع الأفراد والجماهير لاعتناقها والتضحية فى سبيلها . بعد الفكرة والدعوة اليها ونشر الاعتقاد فيها يمكن حشد كل الطاقات لتطبيقها واقعا حيا على الأرض. هذا التطبيق يحقق الشرعية السياسية بغض النظر عن قيمة العدل أو الحق أو الخير. هذا التأطير المجرد يحتاج أمثلة للتوضيح نأخذه من التاريخ القريب لاقامة اسرائيل. 2ـ العهد باقامة دولة لبنى اسرائيل جاء فى العهد القديم فى سفر التكوين للنبى ابراهيم ثم ابنه اسحاق ثم ابنه يعقوب المسمى اسرائيل.نقرأ فيه الآتى: (في ذلِكَ اليومِ قطَعَ الرّبُّ معَ أبرامَ عَهدًا قالَ: «لِنَسلِكَ أهَبُ هذِهِ الأرضَ، مِنْ نهرِ مِصْرَ إلى النَّهرِ الكبيرِ، نهرِ الفُراتِ،) تكوين اصحاح 15: 18 (وأُعطيكَ أَنتَ ونسلَكَ مِنْ بَعدِكَ أرضَ غُربَتِكَ، كُلَ أرضِ كنعانَ، مُلْكًا مؤبَّدًا وأكونُ لهُم إلهًا». تكوين اصحاح 17: 8 (فتراءى لَه الرّبُّ وقالَ: «لا تَنْزِلْ إلى مِصْرَ، بلِ اَسكُنْ في الأرضِ التي أدُلُّكَ علَيها. تغَرَّبْ بهذهِ الأرضِ وأنا أكونُ معَكَ وأُبارِكُكَ، فأُعطيَ لكَ ولِنسلِكَ جميعَ هذِهِ البِلادِ، وأفي باليمينِ التي حلَفتُها لإبراهيمَ أبيكَ،) تكوين اصحاح 26 :2 ـ3 (وكانَ اللهُ واقِفًا عَلى السُّلَّمِ يقولُ: «أنا الرّبُّ إلهُ إبراهيمَ أبيكَ وإلهُ إسحَقَ! الأرضُ التي أنتَ نائِمٌ علَيها أهبُها لكَ ولِنسلِكَ. ) تكوين اصحاح 28 :13 (وتراءَى اللهُ لِيعقوبَ أَيضًا حينَ جاءَ مِنْ سَهلِ أرامَ وبارَكَهُ وقالَ لَه: «إسمُكَ يعقوبُ. لا يُدعَى اَسمُكَ بَعدَ الآنَ يعقوبَ، بل إِسرائيلَ». فسمَّاهُ إِسرائيلَ. وقالَ لَه اللهُ: «أنا اللهُ القديرُ. اَنْمُ واَكْثُرْ. أُمَّةٌ ومجموعةُ أُمَمِ تكونُ مِنكَ، وملوكٌ مِنْ صُلبِكَ يَخرُجونَ، والأرضُ التي وهَبْتُها لإِبراهيمَ وإسحَقَ أهبُها لكَ ولِنَسلِكَ مِنْ بَعدِكَ». تكوين 35 : 9 ـ13
هذه النصوص التوراتية فى العهد القديم يؤمن بها ـ كحقائق مطلقة ـ كل من يؤمن بالعهدين القديم والجديد ولا يتصور الشك فيها. لكنهم عند الاستشهاد والتطبيق يختلفون. الصهاينة وبعض الطوائف المسيحية تؤمن بتطبيق هذه النصوص باقامة دولةاسرائيل على أرض فلسطين . بعض الطوائف الاسرائيلية ذاتها ترفض الصهيونية. قامت الصهيونية بتحويل فهمها للنصوص السابقة الى عمل سياسى يهدف الى تحويل الفهم البشرى للنصوص الدينية الى واقع عملى فعلى هو دولة اسرائيل. هذا ما فعلته الحركة الصهيونية منذ مؤتمر بال الى اقامة دولة اسرائيل سنة 1948. 3 ـ من يقرأ الجهد الصهيونى فى اقامة اسرائيل يرى ان الحركة الصهيونية حرصت على التحرك فى اتجاهين: الأول هو بناء كيان قانونى محلى واقليمى ودولى لكل حركة تخطوها ، الثانى التحرك على الأرض الفلسطينية بشراء الأرض سلما أو الاستيلاء عليها حربا، مع التحرك السياسى المحلى والاقليمى والدولىلتغييره لقبول الوضع الجديد ، والرضى بالمتاح مؤقتا والبناء عليه وتطويره للانطلاق الى ما بعده . هذا فى الوقت الذى تاه فيه العرب بين الحق والاستحقاق ، وبين الشعار والعجز عن تنفيذه ، وبين رفض المتاح وتضييعه ثم البكاء عليه بعد فوات الأوان . المشكلة انهم لا يزالون فى نفس النفق يعمهون. المستفاد هنا أن الاستحقاق يستلزم قوة بكل ما تعنيه القوة من عناصر نفسية وسياسية وحربية. قوة تعتمد على تخطيط يزن المناخ ويتحرك فيه على أساس تغييره وتطويعه لاقامة واقع جديد على الأرض. هذا الواقع الجديد القوى يستلزم الاعتراف به طبقا للشرعية السياسية. الجديد فى الحركة الصهيونية انها حرصت على وجود غطاء قانونى عصرى . لقد فهمت العصر ومتغيراته وما يعنيه وجود منظمات دولية تعبر عن ارادة المجتمع الدولى ، كما فهمت صراع القوى الكبرى واستثمرته لصالحها فبادرت أمريكا والاتحاد السوفيتىبالاعتراف بالدولة الاسرائيلية. وفى الوقت الذى استفادت فيه اسرائيل من الاستقطاب والصراع بين السوفييت والغرب لصالحها مع احتفاظها بقرارها السيادى فان العرب انقسموا بين المعسكرين ، وكل فريق كان تابعا للسوفيت أو الغرب على حساب المصلحة الوطنية والقضية الفلسطينية. المستفاد هنا فى الجانب العربى أنه بغض النظر عن الخلاف الفكرى فى فهم " الحق " ومن هو صاحب الحق فى اقامة دولة على التراب الفلسطينى فان العرب فشلوا فى تحقيق "الاستحقاق" أى فرض حقائق على الأرض بالقوة ترغم الآخرين على الاعتراف بها طبقا للشرعية السياسية.
أنواع الاستحقاق وتاريخه 1 ـ بدأ الاستحقاق ـ بمعنى استعمال القوة فى فرض واقع سياسى ـ مع بداية تاريخ البشر غير المكتوب. بدأ باقتتال مجموعات من البشر فى الصحارى ووديان الأنهار، لم تكن هناك ايدلوجيات خادعة انما مجرد الهدف الأصلى الذى لا يزال سائدا حتى الآن ، وهو الاستيلاء على عناصر الثروة. الثروة لا تزال هى الفكرة الأساسية للعمل السياسى حتى الآن مهما علا صوت المبادىء والشعارات الأخلاقية والدينية والوطنية والقومية. نعود للعصر السحيق حيث كان القادة زعماء عصابات، لم يلبث الصراع أن أفرز الأقوى بينهم فأصبح ملكا ، ثم صار بامكانه توريث السلطة لابنه. وبذلك أضيفت فكرة تالية فى الاستحقاق ، وهو توارث استحقاق القوة فى ذرية الملك طالما رضى الناس . بمرور الزمن يضعف الورثة ويطمح قائد للسلطة ، هنا تضاف فكرة ثالثة للاستحقاق هى تغييرالحكم بالانقلاب أو الثورة واحلال حكم جديد محله ، وهى فكرة تناقض فكرة التوارث. هذا يحدث بتأكيد "فكرة الرفض" لهذا الاستحقاق القائم وتشريع الثورة عليه ، فاذا وجدت تجاوبا ممن يملك القوة حدث صراع بين نوعى الاستحقاق ـ القديم والناشىء ـ فاذا تغلب الناشىء تكررت المسيرة بقيام ملك جديد و أسرة حاكمة جديدة، الى أن يأتى " متغلب " جديد. 2 ـ بمرور الزمن تحولت بعض المدن الى دول بل امبراطوريات من مدن اليونان الى روما وقرطاجنة ، وقبلهم طيبة فى مصروبابل فى العراق. أدى هذا الى تأصيل الشعور بالوطنية والقومية ، فما لبثت الوطنية والقومية أن أصبحتا من "الأفكار" الأساسية المضافة فى الاستحقاق يمكن بهما انشاء دولة أو توطيدها وتوسعها أو الثورة على حكمها او أى حكم أجنبى . 3ـ ثم مالبث أن أدخلوا الدين عنصرا فى الصراع بما يحمله من حق تختلف وجهات النظر البشرية فى فهمه وتطبيقه. بدأ مبكرا استخدام الدين فى السياسة أو جعل الدين عنصرا من عناصر الاستحقاق عن طريق تغيير حقائق الدين القائمة على العدل والخيروالحق لتقيم ملكا للقائمين على الدعوة الدينية السياسية. الاسلام يحرم ويجرم الاعتداء على الغير ويحصر القتال فى الدفاع فقط ، ويجعل الظلم من أشد المحرمات ، وبنفس المقياس يجعل القسط أساس الرسالات السماوية. الأمويون الذين قادوا قريشا فى حرب النبى محمد وصحبه الأوائل ما لبثوا أن دخلوا فى الاسلام قبيل وفاة النبى محمد ، وبعد موته استعادوا نفوذهم وسيطروا على الدولة المسلمة بعد وفاة النبى، بعد نحو عام من وفاة النبى الذى أرسله الله تعالى " رحمة للعالمين " بدأ أتباعه المسلمون يعتدون على من لم يعتد عليهم ، ثم يكونون امبراطورية امتدت من أواسط آسيا شرقا الى جنوب فرنسا غربا. فى هذا العمل السياسى الحربى الذى غيّر خريطة العالم وتاريخه تمت كل عناصر الاستحقاق ممثلة فى فكرة تم حشد كل القوى خلفها فأقامت بالاستحقاق امبراطورية قادرة منيعة حصلت على الشرعية السياسية . الا ان هذا الاستحقاق بشرعيته السياسية تم بمعزل عن الحق القرآنى المطلق الميسر للذكر، بل كان التناقض واضحا بين تشريعات قرآنية شديدة الوضوح تنهى عن الاعتداء وبين استحقاق سياسى حربى أقام امبراطورية على أساس القوة دون حق أو عدل . بعد اقامة الامبراطورية واقعا حيا تم اختراع تأصيل فقهى لها بأحاديث مثل :" أمرت ان أقاتل الناس حتى يقولوا لا اله الا الله وان محمدا رسول الله" وغيرها، ثم تم تجاهل القرآن وتغيير تشريعاته ـ بدعاوى التأويل والنسخ والتفسير والأحاديث والسنة والتشيع والتصوف ..ـ لايجاد مسوغ خلقى مزيف حتى تتسق تلك الشرعية السياسية الظالمة مع الاسلام والقرآن. المستفاد أن القوة هنا أخذت بيدها الاستحقاق حتى لو كان الحق الذى يقوله الاسلام مناقضا لما تفعله.وهكذا تم تحت اسم الاسلام ارتكاب جرائم منهى عنها مثل البغى والظلم من احتلال البلاد والقتل والسبى والنهب والاسترقاق. واصبحت سنة متبعة فى تاريخ المسلمين أن تظهر فكرة دينية سنية أو شيعية أو خارجية ـ نسبة للخوارج ـ لتؤسس لاستحقاق سياسى يتم به اقامة شرعية سياسية . الدولة العباسية بدأت بدعوة للرضى من آل محمد ، وتم تجميع الالاف تحت قيادة "أبو مسلم الخراسانى" فقضى على الدولة الأموية . واباد العباسيون معظم أفراد البيت الأموى ففر واحد منهم الى شمال أفريقيا ثم الى الاندلس فاستخدم فكرة "استرجاع الشرعية الأموية " وبذلك استحق عبدالرحمن الداخل " صقر قريش" اقامة الدولة الأموية فى الأندلس. أبو عبيد الله المهدى لبث سنوات طوالا يدعو للتشيع فى شمال أفريقيا فأقام الدولة الفاطمية التى انتقلت الى مصر وحكمت الشام وهددت الدولة العباسية. فكرة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر استغلها الحنابلة فى تأسيس نفوذ سياسى لهم فى الشارع العباسى فى العصر العباسى الثانى فأرهبوا خصومهم فى الفقه والفكر ، وتطور الأمر فى العصر المملوكى فى مدرسة ابن تيمية الى استحقاق كاد أن ينشىء دولة ، وقبله فى حركة الفقيه ابن تومرت ودولته فى شمال أفريقيا. وفى العصر الحديث ظهرت الوهابية ترفع شعار الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وتم التحالف بين الفقيه ابن عبدالوهاب والأمير أبن سعود فى الدرعية عام 1854 وبأ انشاء الدولة السعودية الأولى، وبعد سقوطها عام 1818 أعيد انشاؤها ثم سقطت فى نفس القرن ، ثم اعاد عبد العزيز بن عبد الرحمن انشاء الدولة السعودية الثالثة الراهنة على نفس الأساس. وعلى نفس النسق تقوم الحركات المتطرفة المعاصرة ، علنية كانت كالاخوان المسلمين ام سرية. الخلاف الآن بين الدولة السعودية الوهابية ومعارضيها الوهابيين المتطرفين يكمن فى مصدرية السلطة ، أو فكرة الاستحقاق ، هل هو حق عبد العزيز منشىء الدولة فى استعادة ملك آبائه ( كما تقول الأسرة السعودية ) أم هو الدعوة الوهابية ( كما يقول أعيان اللجنة الشرعية ، وهى أول تنظيم معارض أسسته المعارضة السعودية فى المملكة بعد حرب الخليج الثانية الثانية ثم هرب الى لندن مع المسعرى والفقيه). 4 ـ كلها مجرد شعارات ، كانت كذلك فى العصور الوسطى ولا تزال حتى عصرنا ـ مجرد مبررات للوصول للتمتع بالثروة والسلطة . فقهاء السنة كانوا أكثر صراحة حين وضعوا مصطلح "المتغلب" على السلطة وحكم بناء الكنائس فى البلاد التى تم فتحها "عنوة" ، وهذا فى حد ذاته دليل على تجاهل العدل،اذ لا عدل فى التغلب على الآخرين وحكمهم والتحكم فيهم ومنعهم من بناء دور عبادتهم . هذا يعبر عن الاستحقاق الذى صنعته القوة والتغلب العسكرى ولا علاقة له بالعدل والاحسان والحق . 5 ـ الا أننا قد تربينا على ثقافة الكيل بمكيالين . ما قام به العرب من غزوات وفتوحات نعتبره جهادا نفتخر به ،مع أنه يناقض عدل الاسلام وشريعة القرآن. نفخر بفتح العرب معظم العالم المعروف فى العصور الوسطى ،نباهى باحتلالهم البلاد واستعبادهم الشعوب من أصحاب البلاد المفتوحة وقد كانوا يعتبرونهم موالى من الدرجة الثالثة ويفرضون عليهم الجزية حتى لو أسلموا ، و ينتهكون حرمات النساء بالسبى والاسترقاق ظلما وبغيا. فاذا قام آخرون بفعل نفس الشىء أو أقل منه استنكرناه وشجبناه. مع أنه فى مقياس العدل الاسلامى فان ما اقترفه العرب المسلمون بعد وفاة النبى محمد عليه السلام مباشرة هو أكثر ظلما وجرما مما فعله الروم والفرس وانجلترة وفرنسا وهم الذين لم يعش بينهم خاتم النبيين ولم ينزل فيهم خاتم الكتب السماوية. 6 ـ رسالة عيسى عليه السلام لم تنج من الاستغلال السياسى مع قيامها على قاعدة" دع ما لله لله وما لقيصر لقيصر". الدولة الرومانية بعد اعتناقها المسيحية استخدمتها فى تدعيم سلطانها ، وأرست بذلك أرضية راسخة للدولة الرومانية المقدسة ، ذلك الكائن الهلامى فى أوربا العصر الوسيط الذى كرس تحالف الكهنوت مع السلطة السياسية ، وأصبح للبابوية سلطة زمنية فاسدة مما أسفر عن حركة الاصلاح وقيام البروتستانتية. الصراع العربى المسلم مع الغرب أكد الاستغلال السياسى للدين ، والاستعمار الغربى بدأ بالكشوف الجغرافية التى تحمل راية المسيحية وتزعم أن هدفها هو نشر المسيحية . 7 ـ فى العصر الحديث تمت تنحية الذريعة الدينية نوعا ما فى القرن الماضى وتم سياسيا تشريع الاستعمار فى الوطن العربى تحت ذريعة جديدة اسمها الانتداب . حركات التحرير والتوحيد رفعت رايات الوطنية والقومية فى أوربا ـ فى ايطاليا : ماتزينى ـ غاريبالدى ـ فيكتور عمانويل ، او فى ألمانيا : بروسيا وبسمارك. لاقامة الاتحاد السوفيتى رفعوا شعار العدل وانصاف البروليتاريا ، كما أن التخلص من الاستعمار الأوربى فى الوطن العربى رفع شعار الاستقلال والتحرر من السيطرة الأجنبية. وفى كل الأحوال قامت دول وسقطت دول ، وقامت امبراطوريات وانهارت أخرى، وقامت وسقطت عروش ، وفى الأغلب ظل الظلم بل ازداد لأن الاستحقاق هو لغة القوة لا العدل ، بالقوة يكتسب الاستحقاق والشرعية السياسية وليس الشرعية الأخلاقية.أما شعارات العدل فهى فقط للاستهلاك المحلى والضحك على الذقون.
هل يمكن ان تلتقى الشرعية السياسية مع الشرعية الأخلاقية؟
1 ـ فى نهاية الدولة الأموية بلغ الظلم مداه، وكان الهاشميون من أبرز ضحاياه. كان منهم طالب علم يسمى عبد الله بن محمد بن على بن عبد الله بن عباس. استضاف عبد الله هذا رفيقا له فى طلب العلم اسمه عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقى . لم يكن فى بيت عبد الله الهاشمى طعام يليق بالضيف فاستلقى ثم قرأ الآيةالكريمة :" عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم فى الأرض فينظر كيف تعملون." فى وقتها كان المثقفون يعيشون فى حلم ظهور المهدى المنتظر الذى سيدمر الظلم الأموى ويقيم العدل طبقا لدعوة سرية نشرت دعاية مركزة عن المهدى المنتظر وأحاديث نبوية كثيرة تنبىء بقرب ظهوره. الذى لم يعرفه الطالب الضيف عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقى أن صديقه الهاشمى المنشغل بطلب العلم هو فى الحقيقة من القادة السريين لتلك الحركة السرية . بعدها بسنوات نجحت الحركة السرية فى تدمير الدولة الأموية وهلل لها المثقفون الحالمون بالعدل ، ثم كانت حسرتهم كبرى اذ تحول الحلم الى كابوس مع تولى أول خليفة عباسى تلقب بالسفاح بسبب ابادته للأموين وكل من ثار عليه. وفوجىء عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقى أن رفيقه القديم عبد الله بن محمد بن على بن عبد الله بن عباس هو الخليفة العباسى الثانى الذى وطد ـ بالحديد والنار ـ الدولة العباسية ، والذى سمى ابنه المهدى ليحقق نبوءة المهدى المنتظر. انه أبو جعفر المنصور، الذى قتل مئات الألوف فى سبيل توطيد الدولة الجديدة . زاره صديقه القديم ابن أنعم الأفريقى ، قال له الخليفة:" انك كنت تفد لبنى أمية فكيف رأيت سلطانى من سلطانهم ؟ فقال : يا أمير المؤمنين والله ما رأيت من سلطانهم من الجور والظلم الا رأيته فى سلطانك " وذكّره بالأمنيات القديمة فى الاصلاح وتحقيق العدل والآية الكريمة التى استشهد بها عندما أضافه وهو فقير ثم قال للخليفة: " فقد والله أهلك الله عدوك واستخلفك فى الأرض فانظر ماذا تعمل " فقال له الخليفة : " يا عبد الرحمن انا لا نجد الأعوان" فقال له الفقيه : " يا أمير المؤمنين ، السلطان سوق نافق ، لو نفق عليك الصالحون لجلبوا اليك" يعنى لو كنت صالحا لجمعت حولك الصالحين لأن السلطان الفاسد لا يجمع حوله الا من كان فاسدا مثله. هذه القصة ذكرها ابن الجوزى فى تاريخه " المنتظم ج 7 ص 339 . خيبة أمل المثقفين الحالمين فى الخلافة العباسية أنتج حركة البكائين فى صدر العصر العباسى ، كانت حركة عجيبة لطائفة أصيبت بوسواس قهرى جعلها تتدين بالبكاء المستمر وتجعل له طقوسا ومراسم وآداب وتقاليد . تعرضت لهذه الطائفة فى مقال بحثى فى التسعينيات نشرته جريدة العالم اليوم ومجلة سطور. 2 ـ العادة السيئة أن يرفع الثوار شعارات لخداع المثقفين والعوام ، حتى اذا وصلوا للحكم سكنوا فى مساكن الذين ظلموا أنفسهم ، وتشبهوا بالظالمين السابقين ، وربما فاقوهم فى الجور. حدث نفس الشىء فى الدولةالفاطمية الشيعية والثورات والانقلابات الشيوعية والثورةالمصرية 1952 ، وسيظل الأمر يتكرر طالما ظل الوعى فى أجازة ، وطالما ظلت الأغلبية صامتة وغائبة وظلت الثقافة السمعية غالبة تسرع لتصديق الدجالين. 3 ـ ويظل السؤال مطروحا: هل يمكن أن يقام نظام حكم عادل يجمع بين الاستحقاق ( بمعنى القوة وفرض الأمر الواقع أو الشرعية السياسية ) وبين الحق والعدل ( بمعنى الشرعية الخلقية)؟ انهما دائما يجتمعان فى خيالات الحالمين بالجمهورية الفاضلة واليوتوبيا الخيالية من افلاطون الى توماس مور الى الفيلسوف المصرى الدكتور محمد كامل حسين. فى عصرنا الحالى تحقق هذا تقريبا فى جمهوريات فاضلة جمعت بين أكبر قدر من الحرية مع أكبر قسط من القسط والعدل، ترى هذا فى دول اسكندنافيا وسويسرا ، والى حد ما فى كندا ودول أوربا الغربيةوأمريكا . اكثر من ذلك ، مسموح لنا أن نحلم بامكانية حدوثه فى مصر. دعنا نتخيل ـ مجرد تخيل برىء قابل للتحقيق اذا تحقق الوعى وخلصت النوايا ـ ان المصريين قاموا بمظاهرات سلمية مستمرة لعدة أيام فقط مرتبطة باضراب وعصيان مدنى ، وتحملوا هراوات ورصاصات وقنابل البوليس المصرى الشهم ، واستعدوا لتقديم بضع مئات من القتلى . فى اليوم الأول سيسقط عشرات ، تأتى المظاهرة فى اليوم الثانى تحمل جثث الشهداء تؤنب القتلة السفاحين وتلتزم بالتظاهر السلمى المتحضر، وينهال الرصاص ويسقط بضع عشرات آخرين فيؤتى بهم فى مظاهرات وجنازات حافلة فى اليوم الثالث فى استعداد لتقديم المزيد من الشهداء . أشك ان البوليس المصرى مهما بلغت وحشيته سيطلق النار فى اليوم الثالث . سينسحب ، وستتحرك شهامة الجيش ليتحرك ويحفظ الأمن ، وسيفر الأخ الفاضل حسنى مبارك وأسرته الطاهرة الى أقرب بنك فى العالم الخارجى ليطمئن على تحويشة العمرتاركا خلفه أعمدة عهده كل منهم يطلب النجاة، وسيقوم القضاة وكبار المثقفين تحت حماية الجيش بملء الفراغ السياسى بتكوين حكومة مؤقتة ترسى اصلاحا تشريعيا ودستوريا تقام على اساسه دولة ديمقراطية يتحقق فيها الفصل الحاسم بين السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية، وتقيم حقوق المواطنة وحقوق الانسان وحرية الفكر والمعتقد مع تأكيد العدل الاجتماعى . انها بضعة أيام من المظاهرات والتضحيات ويزول الكابوس . ليس هذا مستحيلا على شعب له ميراث المصريين فى تحمل الأذى. هذا الخيال المسموح به حدث فى رومانيا ، وجاء رئيس أديب حالم قام بتحويا الحلم الى حقيقة بدلا من أن يتحول الى كابوس كما حدث فى العصر العباسى أو العصر الماركسى.. ليس صعبا ان يتحقق هذا فى الحاضر لأن العصر اليوم هو عصر الحرية وحقوق الانسان، وليس صعبا أن يتحقق هذا الآن لأنه فى عصور الظلام قامت دولة النبى محمد عليه السلام وفق تشريعات القرآن فحققت الشرعية السياسية والشرعية الأخلاقية معا. ولا يزال القرآن بيننا ، فاذا قراناه بمصطلحاته قراءة علمية موضوعية بعيدا عن التراث العباسى ومصطلحاته وجدنا فيه أسس الدولة الديمقراطية التى تجمع بين العدل والحرية ، وبين الشرعية السياسية والشرعية الأخلاقية. التفصيلات فى المقال القادم.
#أحمد_صبحى_منصور (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قدس الأقداس حماس
-
من الحضيض الى أسفل السافلين .. احزن يا قلبى
-
يحيا العدل
-
يحيا التعذيب ؟!!
-
مستقبل العرب بين الصوملة والأفغنة
-
يسألونك عن الاخوان المسلمين من هم ؟ وكيف نواجههم ؟
-
مؤتمر الأقباط فى واشنطن
-
التناقض بين الدولة الاسلامية العلمانية ودولة الاخوان المسلمي
...
-
الماعز و الطبيب البيطرى
-
تهديد لأحمد صبحى منصور ورده على هذا التهديد
-
أبو هريرة والكلاب
-
غزوة بدر والأخوان المسلمون
-
نكاح المحلل
-
التناقض فى تشريع الطلاق بين القرآن والفقه السني
-
زواج المتعة
-
ألا تزر وازرة وزر أخرى
-
نداء للأمم المتحدة لمحاكمة الحكام المستبدين المتهمين بالتعذي
...
-
فى الحفظ والصون
-
لذا كتبت هذا المقال !!
-
الدعوة الاسلامية ودعوة الجاهلية
المزيد.....
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|