يتميز الموقع الجغرافي للعراق بأهمية كبرى ، حيث يقع على رأس الخليج العربي، والذي يكوّن مع بقية دول الخليج أكبر مجهز للطاقة في العالم أجمع ، كما يمثل العراق حلقة الاتصال بين أوربا ومنطقة المحيط الهندي ، التي كانت واقعة تحت سيطرة الإمبراطورية البريطانية ، ولذلك وجدنا إمبرياليو الدول الأوربية بشكل عام، وبريطانيا وألمانيا بشكل خاص ، يسعون بكل طاقتهم إلى مد سيطرتهم على العراق منذ أوائل القرن الماضي، وكان التنافس على أشده بين بريطانيا وألمانيا.
لقد سعت ألمانيا إلى ربط العراق ، ومنطقة الخليج بخط قطار الشرق السريع ، في محاولة لتمهيد الطريق إلى مد سيطرتها على اكبر مستودع للنفط في العالم ، لكن جهودها لم تتحقق بعد أن خسرت الحرب العالمية الأولى ، وتقدمت الجيوش البريطانية إلى هذه المنطقة ، وبسطت سيطرتها الكاملة عليها ، وهكذا وقع العراق تحت نير الاحتلال البريطاني في أواخر العام الأول ، وبداية العام الثاني للحرب العالمية الأولى التي اندلعت عام 1914 .
ورغم رفض الشعب العراقي لقوات الاحتلال البريطانية، واندلاع ثورة العشرين، واضطرار بريطانيا إلى تأسيس ما سمي بالحكم الوطني ، والإتيان بالأمير فيصل ابن الحسين ملكاً على العراق ، إلا أن سيطرة بريطانيا على مقدرات العراق عسكرياً واقتصادياً ، وسياسياً ، استمرت عبر أشكال جديدة أخرى . فقد اكتفت بريطانيا بقاعدتي الحبانية الواقعة شمالي بغداد ، والشعيبة الواقعة قرب البصرة ، إضافة إلى قاعدة الرشيد في بغداد ، محتفظة بقوات جوية وبرية فيها، فيما شددت قبضتها على مقدرات العراق عبر المستشارين العسكريين ، والسياسيين ، والاقتصاديين ، والثقافيين، وكان هؤلاء المستشارين هم الحكام الحقيقيون للبلاد ، وكان السفير البريطاني في بغداد صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في حكم العراق ، منذُ ذلك التاريخ، وحتى قيام ثورة الرابع عشر من تموز المجيدة 1958 حيث تم تشكيل أول حكومة وطنية من دون أي تدخل أجنبي منذ تأسيس الدولة العراقية.
ولم تتوقف أحلام ألمانيا بالحصول على موطئ قدم لها في العراق ، فقد سعى [هتلر] لتوثيق علاقاته مع الملك غازي ، الذي كان يناصب البريطانيين العداء ، ويحاول التخلص من سيطرتهم ، لكن بريطانيا التي كانت تراقب سياسة الملك غازي ، وتطور الأوضاع المحلية والدولية ، سارعت إلى التخلص منه حيث قتل في ظروف غامضة، وادعت الحكومة أنه قتل بحادث سيارة !!، واصبح طفله الصغير فيصل الثاني ملكاً على العراق، وجاء البريطانيون بخاله [ عبد الإله ] وصياً على العرش ، وولياً للعهد، حيث بقي مخلصاً للتاج البريطاني حتى مقتله صبيحة ثورة الرابع عشر من تموز 1958 .
واستمرت جهود ألمانيا للوصول إلى منابع النفط ، دون توقف ، وخاصة عندما أفلحت حركة[ رشيد عالي الكيلاني] بالاستيلاء على السلطة ، في 2مايس 1941، عندما كانت الحرب العالمية الثانية مستعرة ، وانحياز حكومة [الكيلاني ]إلى جانب ألمانيا ، وإعلانها الحرب على بريطانيا ، وتقدمها بطلب المساعدة العسكرية من [هتلر] ، لكن هتلر لم يستطع إرسال قواته إلى العراق ، مكتفياً بإرسال عدد من أسراب طائراته الحربية لحماية الانقلابيين من القوات البريطانية التي راعها هذا الانقلاب المفاجئ في العراق ، وخطورة وصول ألمانيا إلى منطقة الخليج والسيطرة على منابع النفط فيها، وصممت على إسقاط الحكومة الكيلانية بأسرع ما يمكن ، وإعادة الوصي إلى الحكم من جديد .
سارعت القوات البريطانية إلى التقدم صوب بغداد واستطاعت احتلالها ، بعد معركة غير متكافئة مع الجيش العراقي ، الذي كان يفتقد إلى السلاح ، والخبرة العسكرية ، مقارنه بالقوات البريطانية ، وهرب رشيد عالي الكيلاني ،والعقداء الأربعة، قادة الجيش ، الذين اعتمد عليهم الكيلاني في الانقلاب ، إلى خارج العراق ، وعاد الوصي عبد الإله ، والزمرة الحاكمة إلى الحكم من جديد لينفذوا حملة شعواء ضد كل المناهضين للاحتلال البريطاني ، وبذلك ذهبت محاولات هتلر أدراج الرياح، وأحكمت بريطانيا سيطرتها التامة على البلاد .
لكن الصراع على العراق وثروته النفطية لم ينتهِِ بنهاية الحرب العالمية الثانية ، فقد بدأ بعد الحرب صراع جديد بين الولايات المتحدة ، التي خرجت من الحرب كقوة عظمى ، تمتلك اكبر قوة اقتصادية في العالم ، وبين بريطانيا التي خرجت من الحرب منهكة القوى ، ومثقلة بالديون ، وبدت إمبراطوريتها التي كانت لا تغيب عنها الشمس تتهاوى ، وبدأت الولايات المتحدة تتطلع إلى الهيمنة على منطقة الخليج، واقتسام الثروات النفطية مع بريطانيا ، في بادئ الأمر، ومن ثم للاستحواذ على حصة الأسد فيما بعد .
لقد بدأ التنافس الأمريكي البريطاني على منطقة الخليج في واقع الأمر منذُ عام 1920، عندما طالبت الولايات المتحدة من بريطانيا في مؤتمر [ سان ريمو] بضرورة مشاركتها بنفط الخليج ، لكن بريطانيا رفضت ذلك رفضاً قاطعاً في ذلك الوقت ، مما حدا بالرئيس الأمريكي [ ودرو ولسن] إلى إرسال رسالة إلى الحكومة البريطانية يقول فيها : {إنكم تريدون ممارسة نوع من الاستعمار ، اصبح موضة قديمة }.
وفي عهد الرئيس [روزفلت ] جرى ضغط شديد على رئيس الوزراء البريطاني [ونستن تشرشل ] من أجل حصول الولايات المتحدة على نصيب أكبر في نفط الخليج ،وكان تشرشل يقاوم الضغط الأمريكي ، إلا أنه كان عاجزاً عن إيقاف ذلك الضغط ، بسبب ضعف موقف بريطانيا ، فقد كتب تشرشل إلى اللورد [ بيفر بروك] العضو في وزارة الحرب البريطانية يقول فيها رداً على مذكرته حول محاولات الولايات المتحدة :
{إنني أفهمك جيداً ولكني أخشى أن عالم ما بعد الحرب قد ينهار إذا دخلناه ونحن في معركة مع الولايات المتحدة حول البترول } .
لقد بعث الرئيس روزفلت لجنة رئاسية إلى الشرق الأوسط ، زارت كل من السعودية ، والعراق ، وإيران ، والكويت ، والبحرين ، وقطر، وعند عودتها قدمت تقريرها إلى الرئيس [روزفلت ] والذي بدأ بالعبارة التالية :
{ إن بترول الشرق الأوسط هو أعظم كنز تركته الطبيعة للتاريخ ، وأن التأثير الاقتصادي ، والسياسي لهذا الكنز سوف يكون فادحاً } .وعندما سأل وزير الخارجية [جيمس بيرنز] الرئيس روزفلت ما هي الحصة يا سيادة الرئيس التي ينبغي أن نسيطر عليها من بترول الشرق الأوسط ؟ سكت الرئيس روزفلت برهة ثم أجابه قائلاً :
{لا اقل من 100 % }
وكتب [ هارولد إكس ] إلى روزفلت يقول :
{إن الشرق الأوسط مجرة كونية هائلة من حقول البترول ، لا يعرف أحد نظيراً لها في الدنيا ، وأن السعودية هي شمس هذه المجرة ، فهي أكبر بئر بترول في الشرق الأوسط، وأن الظروف فيها مناسبة ، حيث فيها الملك عبد العزيز آل سعود يريد شيئين ، المال وحماية العرش ، وإن على الولايات المتحدة أن تقوم بتأمين ذلك ، وبالفعل فقد تم ترتيب الأمر مع الملك عبد العزيز عندما التقاه الرئيس [روزفلت] على ظهر الطراد الأمريكي [كويني ] في البحيرات المرة ، وسط قناة السويس ، وحصلت أمريكا على نفط السعودية ، بموجب الاتفاق بين الملك وشركة [أرامكو ]المؤلفة من أربعة شركات نفطية هي [نيوجرسي ] و[ تكساسكو ] و [ سوكال ] و [سكسوني ] بنسب متساوية .
لقد وقف رئيس أكبر شركة نفط أمريكية [سكسوني فاكوم ] عام 1945 ليقول بالحرف الواحد :
{ إن إدارة شؤون البترول تختلف عن إدارة شؤون أية سلعة أخرى ، ذلك أن شؤون البترول في 90% منها سياسية ، و10 % منها فقط بترول ، ثم زاد قائلاً، إذا كان محتماً على الولايات المتحدة أن تدير شؤون البترول في العالم ، فإن عليها أن تدرك طوال الوقت بأنها مطالبة بأن تفعل ذلك حتى خارج حدود سياستها الإقليمية ، وخارج قيود القانون الدولي إذا استدعى الأمر ذلك }.
كما استحوذت الولايات المتحدة على النفط الإيراني بعد أن أفلحت في أحداث انقلاب عسكري ضد حكومة الدكتور [محمد مصدق ] مزيحة الهيمنة البريطانية المطلقة على نفط الخليج وتمكن الإمبرياليون الجدد من السيطرة على 58,4% من نفط الخليج حتى عام 1953 بعد أن كانت حصتها عام 1946 لا تتجاوز 35, 3 %، في حين هبطت حصة بريطانيا من 49,9 % إلى 28,4% .
أما الرئيس الأمريكي [ جيمي كارتر ] فقد أعلن أمام الكونجرس في 23 كانون الثاني 1980ما عرف آنذاك [بمبدأ كارتر ] حيث قال :
{ إن أي محاولة من جانب أي قوى للحصول على مركز سيطرة في منطقة الخليج سوف يعتبر في نظر الولايات المتحدة كهجوم على المصالح الحيوية بالنسبة لها ، وسوف يتم رده بكل الوسائل ، بما فيها القوة العسكرية } .
هكذا إذاً كان الصراع محتدماً بين الإمبرياليين أنفسهم ، ومنذُ أمد بعيد على منطقة الخليج ، وثروتها النفطية ، وبطبيعة الحال فإن العراق، بموقعه الجغرافي، وبما يملكه من ثروة نفطية ، وخزين استراتيجي هائل ، كان في لب الصراع الإمبريالي للهيمنة عليه .
لقد استغلت الولايات المتحدة الفرصة بعد أن تم لها تدبير انقلاب 17 تموز 1968 على أيدي حزب البعث وزمرة عبد الرزاق النايف الرجعية ، لمواصلة مشاريعها الرامية إلى الهيمنة على منابع النفط في المنطقة ، فأوعزت إلى نظام صدام حسين لمهاجمة إيران بعد أن انقلب عليها قادة الثورة الاسلامية ، فكانت الحرب التي عملت الولايات المتحدة جاهدة على أن تستمر أطول فترة زمنية ممكنة دون أن يخرج أحد منها منتصراً ، كما جاء في مذكرات [هنري كيسنجر] وكانت الولايات المتحدة خلال تلك الحرب تصب الزيت على النار ليبقى لهيب الحرب مستعراً ،ولكي تنهك قوى البلدين الكبيرين في منطقة الخليج إلى أقصى حد ممكن ،وكانت تقدم الدعم والمساعدة لكلا البلدين في مختلف المجالات من أسلحة ومعلومات استخبارية ومواد غذائية ومختلف السلع ، وكان من نتيجة ذلك أن خرج النظام العراقي من تلك الحرب مثقلاً بديون هائلة واقتصاد منهك وبنية تحتية مدمرة ، لكنه يمتلك ترسانة حربية هائلة من الأسلحة التقليدية وأسلحة الدمار الشامل ، فكان لا بد للولايات المتحدة من تدبير خطة
لنزع أسلحة العراق بعد أن نفذ المهمة التي أُوكلت له ، ونصبت للنظام العراقي الفخ الذي تمثل باحتلال الكويت بعد أن أبلغت السفيرة الأمريكية [ كلاسبي] صدام حسين أن حكومتها لا تنوي التدخل في المشاكل بين العراق والكويت ، وأن باستطاعته حل تلك المشاكل بالطريقة التي يراها مناسبة حيث تصور صدام حسين ذلك ضوءاً اخضراً لدخول الكويت والاستحواذ على نفطها لكي يعوض خسارته في تلك الحرب التي خاضها نيابة عن الولايات المتحدة ، فكانت الكارثة الكبرى التي حلت بالعراق وشعبه وما تزال منذ عام 1990 وحتى يومنا هذا كما هو معروف للجميع ، حيث شنت الولايات المتحدة وحلفائها الحرب التي دفع العراق بسببها ثمناً باهضاً من دماء بنيه ،وخرج جيش صدام من الكويت مندحراً وتم احتلال أجزاء كبيرة من العراق ، وتم فرض شروط قاسية على النظام العراقي في خيمة صفوان ، وكان من بين تلك الشروط تصفية أسلحة الدمار الشامل العراقية ، هذا بالإضافة إلى تدمير البنية الاقتصادية للعراق وفرض الحصار الجائر منذ ذلك الحين وحتى اليوم ، والذي أصاب شعبنا دون حكامه بالضرر البليغ .
لكن النظام العراقي استمر بلعبة القط والفأر مع اللجان المكلفة بتدمير تلك الأسلحة منذ نهاية الحرب وحتى هذا التاريخ مما أعطى للولايات المتحدة المبرر لتهديد العراق بحرب جديدة لا تبقِ ولا تذر.
إن ما نشهده اليوم من نشاط أمريكي و بريطاني محموم لحشد الجيوش بغية مهاجمة العراق واحتلاله بحجة نزع أسلحة الدمار الشامل التي يمتلكها النظام العراقي ، وادعاء الحرص على حرية الشعب العراقي وسعادته لا يمكن أن تنطلي على أحد ، وكل ما تبغيه الولايات المتحدة وبريطانيا من وراء الحرب التي يجري الإعداد لها، والتي تبدو قريبة جداً ، هو الهيمنة على مقدرات العراق وثروته النفطية وخزينه الاستراتيجي الضخم بالدرجة الأولى .
وإذا ما قُُدر للولايات المتحدة احتلال العراق فإن ذلك سيعني تحقيق أهداف استراتيجية بعيدة المدى للهيمنة على سائر منطقة الشرق الأوسط ، وستكون الولايات المتحدة قد عزلت سوريا عن إيران من جهة وطوقت البلدين من سائر الجهات من جهة أخرى ، وسوف لا تتوقف شهية الإمبرياليين عند احتلال العراق فهي تسعى للهيمنة على نفط إيران عن طريق تغيير النظام القائم فيها ، والذي دعاه الرئيس الأمريكي بوش [أحد أركان محور الشر!!]
كما أن سوريا ولبنان ستجابهان خطراً كبيراً من جانب الولايات المتحدة وإسرائيل ، حيث تشكل سوريا سكيناً في خاصرة إسرائيل ،بعد أن تم إخراج مصر والأردن من معادلة التوازن العربية الإسرائيلية ، ومن أجل ضمان أمن إسرائيل ستكون سوريا الهدف التالي الذي تسعى الولايات المتحدة لتحقيقه لكي تضمن قيام وضع جديد في الشرق الأوسط يحقق لها السيطرة المطلقة على المنطقة ، وضمان الاستقرار الطويل الأمد لمصالحها ومصالح إسرائيل .
إن العراق اليوم أمام خطر جسيم ، خطر الدمار الشامل ، وخطر الاحتلال الذي قد يطول لسنوات عديدة ، وخطر تكبيله بقيود جديدة أشد وطأة من قيود معاهدة 1930 التي فرضتها بريطانيا على العراق ، وإن حمى الحرب تتسارع ، على الرغم من الرفض العالمي لها ، فالولايات المتحدة قد صممت على احتلال العراق ، وإن هذا الاحتلال تبغي من وراءه فرض هيمنتها على الإرادة الدولية دون منازع ، وإن تراجعها سيعني كسر هيبتها والوقوف بوجه محاولاتها للهيمنة على مقدرات العالم أجمع ، ولا سبيل لمنع وقوع الحرب إلا خروج صدام حسين والزمرة المحيطة به من الحكم ،وإفساح المجال لشعبنا لاختيار حكومة جديدة عن طريق إجراء انتخابات حرة ونزيهة تحت إشراف الأمم المتحدة . ذلك هو الثمن الذي يمكن بواسطته إنقاذ العراق وشعبه من حرب مدمرة لا أحد يستطيع تقدير نتائجها ، فهل ترى صدام فاعلاً ذلك من أجل الشعب والوطن أم أنه لا يزال مصمما ترك العراق دون شعب كما كان يردد سابقاً .