|
تطور الوعي الإنساني بالألم من الميثولوجيا إلى السوسيولوجيا 4/3 (*)
حسني إبراهيم عبد العظيم
الحوار المتمدن-العدد: 5469 - 2017 / 3 / 23 - 15:05
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
تطور الوعي الإنساني بالألم من الميثولوجيا إلى السوسيولوجيا 4/3
ثالثا: الإسهام السيكولوجي و الخروج من دائرة الحتمية العضوية
على الرغم من أهمية التفسير الفسيولوجي للألم، الذي أسـس لفهم علمي تجريبي رصين، إلا أن هذا التفسير ظل في الدائرة العضوية المرتبطة بالإنسان، ولم يتخطاها، كما أن النظرية الفسيولوجية تضمنت العديد من الافتراضات الضمنية – الفسيولوجية والتشريحية التي فشلت في تقديم إجابات للعديد من (الألغاز العويصة) Insoluble Puzzles في هذا السياق، منها على سبيل المثال، أن موضع الألم قد يختلف عن موضع الإصابة، وأن هناك آلاما تستمر بعد شفاء الجزء المصاب، وكذلك عدم وجــود علاج ملائم لأنواع معينة من الألم، وخاصة تلك الأنماط مجهولة السبب Idiopathic Pains أي أنها لا تنتج عن تلف بالأنسجة، وليس لها سبب محدد مثل آلام أسفل الظهر Low Back pain (LBP) ، والصداع النصفي. Migraine ولم تتمكن النظريات الفسيولوجية من تفسيرها بصورة ملائمة، على الرغم من التطور الكبير في قياس النبضات العصبية وتسجيلها. (Bendelow 1993:274)
من أجل ذلك جاءت محاولات وجهود تالية لتوسيع دائرة الفهم العلمي للألم، وإبراز الأبعاد الأخرى غير العضوية المؤثرة في الألم والاستجابة له، وكان علماء النفس سباقين لتوسيع هذه الدائرة، حيث حاولوا فحص العلاقة بين الألم والعوامل السـيكولوجية المعقدة.
ففي نهاية القرن التاسع عشر، طور فرويد Freud أسسَ نظرية جديدة تساعد في تفسير كيف أن أعراضا جسدية معينة كالألم، قد تنتج من ضغوط أو صراعات عاطفية عميقة، وفي ذات الوقت وقعت معركة (علمية) حامية الوطيس بين عالِمي الأعصاب (فيري) و(جولدشيدر) Goldscheider حول الجوانب الفسيولوجية لنظرية خصوصية الألم، وفي عام 1895 ظهرت رؤية جديدة مغايرة لمارشال Marshall الفيلسوف وعالم النفس الذي أصر على أن العمليات الحسية ليست هي المهيمنة في إحداث الألم، ولكن العمليات الوجدانية والعاطفية تلعب دورا مهما في ذلك السياق. (Bendelow and Williams 1995a:141)
وقد تشكلت نظرية علمية جديدة تحاول أن تعالج قصور نظرية خصوصية الألم، وغيرها من النظريات الفسيولوجية، على يدي عالمي النفس الكندي (رونالد ميلزاك) R. Melzack و البريطاني (باتريك وول) P. Wall أطلقا عليها نظرية بوابة التحكم Gate control theory ونشرا أول صياغة لها في مجلة العلم Science في عام 1965. حيث كتبا في صدر المقال فحوى النظرية: (إن نظام بوابة التحكم يُعَدل من المدخلات الحسية الواردة من الجلد قبل أن تستدعي إدراك الألم والاستجابة له). (Melzack & Wall 1965:971)
وقد كانت صياغة نظرية بوابة التحكم في الألم هي الحدث العلمي الأكثر بروزا في ستينيات القرن الماضي، حيث أعاد "ميلزاك" و "وول" تقييم النظريات الفسيولوجية السابقة، وقاما بنقدها من حيث أنها لم تأخذ في اعتبارها أن المعلومات التي يتم ترميزها عند مستوى المستقبلات الحسية، يتم تضمينها أثناء انتقال المؤثرات الحسية، وبالتالي تؤثر في الاستجابة للألم. (Carli 2011:176)
والحق أن نظرية بوابة التحكم كانت بمثابة تحد لمقولات النظريات الفسيولوجية، وخاصة نظرية خصوصية الألم، وذلك بتركيزها على الأبعاد العاطفية بنفس القدر من التركيز على الأبعاد الحسية العضوية. حيث نهضت النظرية على افتراض رئيس هو أن المتغيرات النفسية والمعرفية (والتي تتأثر بدورها بالعوامل الاجتماعية والثقافية) لها تأثير على العمليات الفسيولوجية المرتبطة بإدراك الألم والاستجابة له. (Bendelow 1993:275)
ترتكز نظرية بوابة التحكم على أن هناك آلية عصبية في منطقة القرون الحسية الظهرية Dorsal Horns للحبل الشوكي Spinal Cord تعمل كبوابة يمكن أن تـزيد أو تقلل من تدفق النبضات الحسية من الألياف العصبية الطرفية إلى الجهاز العصبي المركزي، ولذا فإن المدخلات الحسية تكون عرضة للتغيير من جانب البوابة قبل أن تستدعي إدراك الألم والاستجابة له. (Bendelow and Williams 1995a:141)
إن درجة قيام البوابة بزيادة أو إنقاص الانتقال الحسي للألم تتحدد بالنشاط النسبي في الألياف العصبية، وبالتأثيرات الآتية من المخ، ولذلك فإن العمليات النفسية كالتوتر، والقلق، والترقب، والخبرات الماضية تمارس تأثيرا قويا في عملية الألم، ولذا فإن ثمة اهتماما متزايدا من جانب النظرية بالمتغيرات النفسية والمعرفية. (Bendelow and Williams 1995a:141)
وقد قام (ميلزاك) بعد ذلك بتوسيع النظرية وتعديلها في عام 1968، ثم في عام 1982، حيث أضاف أبعادا جديدة، فأعطى اهتماما واعتباراً للأبعاد السلوكية التي تطرحها العلوم الاجتماعية، وساهمت النظرية بشكل كبير في تطور علاجات الألم، وآليات تخفيفه. (Loeser2001:54)
وبناءً على ذلك، يؤكد المدخل السيكولوجي لدراسة الألم على أن الأبعاد الوجدانية والمعرفية والتقويمية تعد أمورا جوهرية في تقييم الألم والتخفيف منه، فعلاج الألم العضوي بمفرده، قد يدع تلك الأبعاد دون حل. وربما يؤدي إلى تدعيمها وتفاقمها. إن فهم تأثير الخوف، والتوقع، والتوتر يمكن أن يساعد الأطباء في التعامل بدرجة أكثر كفاءة مع الألم الحاد، وعلى الرغم من أن أطباء الحالات الحادة قد لا يهتمون بتلك الظروف النفسية، فإنه يمكنهم المساهمة بإحالة المرضى إلى المكان الملائم للعلاج النفسي. (Hansen& Streltzer2005:345 – 346)
إن نظرية بوابة التحكم لا ترى في الإحساس بالألم مجرد عملية عضوية ميكانيكة تسير في خط مستقيم من مناطق الحس بالجلد ثم إلى المخ عبر الحبل الشوكي، ولكنها ترى أن ثمة عوامل خارجية – سيكولوجية بالأساس - تؤثر في المدخلات الحسية وتشكل ما يشبه البوابة التي تتحكم في مرور النبضات الحسية إلى المخ، وبالتالي تنتفي الآلية الفسيولوجية لحدوث الألم، ويستجيب الجهاز العصبي للمتغيرات الخارجية.
واستنادا لهذه النظرية، ميز بعض علماء النفس بين نمطين من الألم:
- الألم العضوي organic pain وهو الناتج عن أسباب عضوية خالصة، كتهيج الأطراف العصبية نتيجة مؤثر كالحرارة أو الإصابة وغيرهما. - الألم النفسي – العضوي psychogenic pain وهو مستقل عن الناحية العضوية، فلا يحدث نتيجة مؤثر عضوي كتلف الخلايا مثلا، وإنما يرتبط ببعض النواحي العاطفية والنفسية، كالتوتر العضلي الناجم عن تجارب سيكولوجية محددة. . (Bendelow and Williams 1995a:143)
والواقـع أنه على الرغم من أن نظرية بوابة التحكم أشّرت لنهاية ثنائية العقل/ الجسد الديكارتية الشهيرة فيما يتعلق بالألم، إلا أن البعد العضــوي والفســيولوجي ظل مهيمنا على البعد الاجتماعي - الثقافي . (Bendelow and Williams 1995a:141)
ومع ذلك، فقد كـان دورها واضحا وبارزا في لفت انتباه العلماء (وخاصة علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا) للأبعاد غير العضوية لظاهرة الألم، كما أن (ميلزاك) (وول) نفسيهما قاما بإجراء عدة دراسات بيّنا فيها أهمية تلك العوامل، وهذا ما سنوضحه في المقال القادم بإذن الله. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) هذه المقالات مأخوذة بشكل أساسي من المرجع التالي:
د. حسني إبراهيم عبد العظيم، الألم: مقاربة سوسيو - أنثروبولوجية، مجلة نقد وتنوير، الصادرة عن مركز نقد وتنوير للدراسات الإنسانية، الكويت، العدد الثاني خريف 2015.
(**) د. حسني إبراهيم عبد العظيم، أستاذ علم الاجتماع المساعد - كلية الآداب - جامعة بني سويف - ج.م.ع.
#حسني_إبراهيم_عبد_العظيم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تطور الوعي الإنساني بالألم من الميثولوجيا إلى السوسيولوجيا 4
...
-
تطور الوعي الإنساني بالألم من الميثولوجيا إلى السوسيولوجيا 4
...
-
الفكر الاجتماعي في الإسلام 2/2
-
بعض جوانب الفكر الاجتماعي في الإسلام 2/1
-
ملامح الفكر الاجتماعي في الديانة المسيحية
-
الفكر الاجتماعي في الحضارة الرومانية 2/2
-
الفكر الاجتماعي في الحضارة الرومانية 2/1
-
الشيخوخة النشطة: رؤية أنثروبولوجية 2/2
-
الشيخوخة النشطة: رؤية أنثروبولوجية 2/1
-
ختان الإناث: رؤية سوسيولوجية موجزة
-
الفكر الاجتماعي في الحضارة اليونانية 4/4
-
الفكر الاجتماعي في الحضارة اليونانية 4/3
-
الفكر الاجتماعي في الحضارة اليونانية 4/2
-
الفكر الاجتماعي في الحضارة اليونانية 4/1
-
رحيل فاطمة المرنيسي: الآن سكتت شهرزاد السوسيولوجيا العربية
-
ماكس فيبر: الأخلاق البروتستناتية وروح الرأسمالية
-
الفكر الاجتماعي في الحضارات الشرقية القديمة 2/2
-
الفكر الاجتماعي في الحضارات الشرقية القديمة 1/2
-
الثقافة والحضارة هل هما مترادفان؟
-
إرهاصات الفكر الاجتماعي في عصور ما قبل التاريخ
المزيد.....
-
مشهد يحبس الأنفاس.. مغامر يتسلق جدارًا صخريًا حادًا بسويسرا
...
-
وسط التصعيد الأوكراني والتحذير من الرد الروسي.. ترامب يختار
...
-
انخفاض أعدادها ينذر بالخطر.. الزرافة في قائمة الأنواع مهددة
...
-
هوكستين في تل أبيب.. هل بات وقف إطلاق النار قريبا في لبنان؟
...
-
حرس الحدود السعودي يحبط محاولة تهريب نحو طن حشيش و103 أطنان
...
-
زاخاروفا: الغرب يريد تصعيد النزاع على جثث الأوكرانيين
-
صاروخ روسي يدمر جسرا عائما للقوات الأوكرانية على محور كراسني
...
-
عشرات القتلى في قصف إسرائيلي -عنيف- على شمال غزة، ووزير الدف
...
-
الشيوخ الأمريكي يرفض بأغلبية ساحقة وقف مبيعات أسلحة لإسرائيل
...
-
غلق أشهر مطعم في مصر
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|