|
شخصية الفرد العراقي
عبدالحميد برتو
باحث
(Abdul Hamid Barto)
الحوار المتمدن-العدد: 5464 - 2017 / 3 / 18 - 15:22
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
وضع عالم الإجتماع العراقي البارز الدكتور علي الوردي عنواناً كبيراً لكتابه: "شخصية الفرد العراقي ـ بحث في نفسية الشعب العراقي على ضوء علم الإجتماع الحديث". (صدر عام 1951 ويقع في 82 صفحة). يبدو أن باحثاً وعالماً مرموقاً مثل علي الوردي لا يدع المبالغة في العنوان تسير الى نهاية شوطها، فإستدرك ذلك في تمهيده للكتاب، ومن أول جملة بإشارته المهمة جداً: "لست أدعي بأن هذه المحاضرة (الكتاب) بحث قد إستوفى شروطه العلمية، وربما القول: بأنها أشبه بالمقالة الأدبية منها بالبحث العلمي".
تقع بين مبالغة العنوان وبين المبالغة في التواضع، الرغبة الصميمية لدى الوردي لإدراك الواقع الإجتماعي العراقي والتعرف على خصائصه المميزة بأعلى درجات الحيادية الممكنة علمياً وإنسانياً. وعند محاولته لتقويم حقيقة الجهد الجدي والمتفرد حقاً الذي بذله في التصدي لموضوع بالغ الحساسية وفي ذات الوقت عميق الإشكالية والتعقيد، وإدراكاً منه للنواقص التي ترافق عملية محاولة إطراق باب لم يطرق من قبل، وفي محاولة للتخلص من بعض الضرورات البنائية وحتى المنهجية أيضاً، حسم ذلك كله بقوله: تعاملت مع موضوع البحث كخواطر لا تستدعي التتابع المنطقي.
وعلى الرغم من إشارة الكاتب إلى عدم وجود تتابع منطقي في الكتاب، عاد وإستدرك تلك الإشارة القاسية إتجاه جهده ومثابرته، وخفف من وطأتها، وذلك عبر تنسيبها للقارئ حين أكد على أنه سيجد في نهاية المطاف، أن الكتاب يضم قسمين رئيسيين، الأول يتناول الشخصية البشرية بصفة عامة، والثاني يعالج الشخصية العراقية.
كان إستعراض ووصف ومناقشة خصائص الشخصية الإنسانية بصفة عامة مبرراً علمياً ومنهجياً ومفيداً من زاوية عدم تجاهل الأبحاث المتخصصة والإستفادة منها، أينما ومتى كانت. وهو أمر يمثل نوعاً من المقارنة، سواءً جاءت عن قصد أو دون قصد. وقد حلَّ ذلك التناول محل التمهيد النظري وعرض المنهج المعتمد في موضوع البحث، أي القسم الثاني ـ شخصية الفرد العراقي. وهي خطوات مبررة ومفيدة علمياً لزرع الإقتناع، وللتخفيف من وطأة الصراحة في وصف أو تقدير أو إدراج الإنطباعات الخاصة بالكاتب عن الشخصية العراقية بما لها وما عليها. وإعترف الوردي بأنه تعمد الإسهاب وحتى الخروج عن حدود الموضوع المطروح للبحث والمعالجة للتوصل إلى تقديرات معينة.
بديهي ألا يغيب عن نظر الكاتب الفروق الواسعة بين الدراسات التي تعالج الفرد وتلك التي تعالج الجماعات، والفوراق بين الأبحاث النفسية والإجتماعية. وأظهر ميلاً واضحاً إلى الإتجاهات التي ترى بأن الفرد والمجتمع توأمان أو وجهان لعملة واحدة، وأن الشخص هو صنيعة مجتمعه، وأن الخلاف بين أبناء المجتمع الواحد يظهر في التفاصيل حسب.
أكد الوردي على أنه واجه صعوبات جمّة في تشخيص خصائص وسمات المجتمع العراقي التي تميزه عن بقية المجتمعات، والتي تؤدي إلى خلق مواطنين مختلفين عن الآخرين. وأشار إلى محاولات عدد كبير من العراقيين والأجانب إكتشاف أوجه الإختلاف في الشخصية العراقية عن الآخرين، ولكنه لم يسمي أولئك الباحثين أو نتاجاتهم. وهذا حرم الباحثين والمتابعين بعده من إقتفاء أثر تلك البحوث، وفي ذلك شيء من الخلل المنهجي. ولكن ربما رفع الكاتب عن كاهله جزئياً ذلك الخلل حين أشار إلى أن الذين سبقوه أو عاصروه قد تناولوا موضوع شخصية الفرد العراقي، هم: أدباء؛ مؤرخون؛ مستشرقون؛ وسياح، ولهذا لم يتعرضوا أو يستخدموا منهجيات ومعطيات علم النفس وعلم الإجتماع، وهذا يمكن الإستنتاج منه أنهم أشاروا إلى أمور لا علاقة لها بالأبحاث الإجتماعية المتخصصة.
إن الوردي لم يبخل في بيان معايب كتابه، وهذه خاصية مهمة تكتب له، وتزداد قيمتها لأنها محاولة جاءت قبل بضعة عقود. وقد لا نجد نظيراً لها في بلادنا بعد كل المنجزات التي عرفها العلم عامة والعلوم الإجتماعية خاصة خلال العقود الماضية. يعرف الوردي على وجه الدقة أهمية الموضوع الذي يعالجه، وكذلك تفرده حينها. ووصف محاولته بما يلي نصاً: "هي محاولة مفردة في سبيل فحص المجتمع العراقي، وكيف تنمو فيه شخصية الفرد على ضوء علم الإجتماع الحديث". ولأن الكاتب واثق بنفسه وجهده ومسعاه ومخلص للتعرف على خصائص مجتمعه، دعا قرّاءه إلى التشدد في نقده من أجل تلمس الطريق الذي يفضي إلى نتائج مثمرة.
حاول الكاتب بإسلوب مبسط، ولكن جميل وعميق في ذات الوقت، إنتزاع مفهوم أو مصطلح الشخصية من فهم وتصور إنطباع اللحظة الأولى الراسخ في العقلية الشعبية إلى معناه الإصطلاحي والوضعي في العلم الإجتماعي. وإستعرض تعريفات الشخصية عند فرويد؛ موري؛ كلوكهوهن وغيرهم. وحاول إعطاء تعريف للخطوط العامة للشخصية بـ: "المجموعة المنظمة من الأفكار والسجايا والميول والعادات التي يتميز بها شخص ما عن غيره"، مؤكداً على دور الصراع (ولكن ليس بمعناه الطبقي أو الإجتماعي) في إنماء وتطور الشخصية، وأشار إلى طبيعة الشخصية التي توصف بالمركبة والتي لا تفصل إلى عناصرها المكونة.
ومن ميزات الوردي نظرته التي ترى في علم الإجتماع ليس مجرد معلبات نظرية وحسب، وإنما العلم الإجتماعي يجد تجسيده عنده بالقدرة على إختبار الحياة نفسها، وتلخيص تجاربها وخبراتها المتراكمة، تعميماً وتجريداً. ودعماً لذلك التصور وتأسيساً عليه، أورد حكاية معبرة نسبها لإعرابي، تفيد بأن ذلك الإعرابي حين رأى مكتبة عامرة قال: أعرف كل ما فيها. وأضاف: خلاصتها يا أيها الإنسان كن خيراً. وجاءت بلهجته الإعرابية: يا إبن آدم صير خوش آدمي.
وفي إلتفاتة مهمة وجريئة في وقتها جاءت إشارته إلى أن "أوامر الله ما هي في حقيقتها إلا أوامر المجتمع وتقاليده ومثله العليا"، وذلك كحقيقة كبرى. ووضع دور المفكرين والوعاظ في نصابه، ولم يغلبه على العوامل المادية والقيمية وقوة العادة التي يفرضها واقع كل مرحلة.
توقف الوردي عند إسهامات المفكر الإجتماعي العربي الأندلسي الكبير عبد الرحمن إبن خلدون الذي درس شخصية الإنسان لا على أساس الموعظة والإرشاد، ولكن على أسس تقترب من أسس علم الإجتماع الحديث. وربط إبن خلدون بين واقع الأمم والموقف من العمل، ووصف أنماطاً متعددة للشخصية، تتطابق مع الظروف السائدة في عصره. المهم أن إبن خلدون أكد على تأثير العوامل الإجتماعية العامة السائدة في تكوين الشخصية، وإخراج الأمر من إطار الإرادة الفردية المحضة المتحكمة بخصائص الشخصية إلى الواقع الإجتماعي بكل تضاريسه الخاصة والعامة.
ينظر الوردي بحق إلى عصر النهضة الأوروبية الحديثة على أنه أعاد الإهتمام بموضوع الشخصية، وطور الأبحاث بصددها، مستفيداً من الموروثات السابقة. وتوقف عند ظهور وتطور نظريات الإختلاط والغدد الصماء وتأثيرهما في تكوين الشخصية. وأشار الى القصور في تلك النظريات حين لا تدرس تأثير المحيط الإجتماعي وتفاعله مع العوامل البيولوجية.
إعتبر الوردي العوامل البيولوجية بمثابة المواد الخام، والعوامل الإجتماعية هي المعامل التي تُصنع فيها تلك المواد. ولا ينبغي في حالة التعامل معهما سوية على أنه تم إكتشاف أسرار الشخصية بصورة حاسمة. وميّز الحالات التي تتفرد فيها بعض الشخصيات في العلوم والإكتشافات والموسيقى والفنون وبقية الإبداعات المميزة وما الى ذلك، وأعطى أمثلة عليها.
وأظهر الكاتب ميلاً أو قناعة لحد ما بأن الشخصية من خواص الإنسان وحسب. وتوقف كذلك عند حالات تشير إلى وجود شخص بشخصيتين إثنتين. وإن مركز الشخصية هو الشعور بالذات. وبالغ في الحديث عن النفس و الأنا مستعرضاً الكثير من الآراء الرائجة في تلك الحقبة وما قبلها. وتناول بكثير من الإسهاب التنويم المغناطيسي وأنماط مختلفة أخرى من الإيحاء الإجتماعي والقضايا المتعلقة بعقد النقص وغيرها.
ومن جانب آخر أعطى النشأة الأولى ومحيطها (العائلة، الجيران، أصدقاء الطفولة، زملاء الدراسة ... الخ.) إهتماماً خاصاً ومناسباً لما تتركه من تأثيرات عمقية على حياة الفرد اللاحقة، وعزز ذلك ببعض التجارب التي فرضت نفسها لحدود بعيدة في وقتها. وأشار الى ما يُطرح حول العلاقة بين الهيئة أو المظهر والسلوك، ولم يقر بوجود علاقة بين الجريمة والهيئة الدميمة، وإعتبر الإجرام سلوكاً مكتسباً في الأغلب، وليس في طبيعة الإنسان البيولوجية، ولكن لا ينفي وجود حالات يجري فيها تقبل الإتهامات ضد الفقير غير المعتني بهندامه على الشخص حسن المظهر وواضح العناية بمظهره الخارجي.
وألقى الوردي على عاتق المجتمع المسؤولية عن التصرفات التي يقوم بها المهمشون، وإتهم المجتمع في المسؤولية عن إغلاق طريق عودة بعض الذين إرتكبوا إنحرافات جنائية للعودة إلى الحياة الطبيعية والسلوك السليم، وأورد إستشهادات من أحياء الأمريكيين من أصول أفريقية، مشيراً إلى أن المجتمع يخلق قاتليه بنفسه.
في نهاية المطاف يصل إلى إستنتاج وبشيء من اليقين، بأن الشخصية هي صنيعة المجتمع أو هي إنعكاس له. ويذهب مذهب ويليام جيمس بأن الإنسان له عدة نفوس، وليس نفس واحدة، وفقاً لطبيعة الجماعة التي تحيط به، ويتقلب وفق كل لون وحالة في جماعته. يكون جاداً وقوراً أو هازلاً مستخفاً وفق الحالة التي يكون فيها الجو المحيط بالجماعة. ولا تغيب على أي إنسان تحولاته بين البيت والعمل، وفي المقهى والمكتبة والشارع ومع النساء ... الخ. وضرب مثلاً بسلوك الدكتاتور الإيطالي موسوليني، حيث سلوكه الجهنمي في الحياة وفي التعامل مع مصائر الناس، وسلوكه الآخر في بيته مع أصغر أطفاله.
ويأخذ برأي ملز أستاذ علم الإجتماع في جامعة كولومبيا في تصوره للتفكير، بأنه حديث صامت بين الإنسان وشخص آخر يتخيله. ويرى في ذلك الشخص الرقيب الذي يمثل الجماعة أو تصوره عن الجماعة. ووفق تلك القاعدة يُفهم الشرف والعفة والموقف من الحجاب وغيرها من المواقف والتصرفات والحالات السلوكية. ويرى بأن كل فرقة إجتماعية ترى سلوكها ومعتقداتها وأعمالها هي الحسنة فقط، ولا ترى شيئاً حسناً عند الآخرين "الفرقة الناجية". وكل منهم لا ينظر إلى نفسه معتدياً مهما إرتكب من أفعال مشينة.
حصيلة كل ما عرضه الكاتب تصب في التأكيد على أن الشخصية بما فيها من عين وضمير وعقل ونفس وغير ذلك هي صنيعة من صنائع المجتمع، أو صورة مصغرة له وعنه. وعلى الرغم من التفاوت بين شخص وآخر، هناك خصائص وصفات عامة تجمعهم، هذا دون نفي ما وصفه بالأجزاء الدفينة في الشخصية أو سمات الشخصية. وإعتمد التمييز بين النفس الإجتماعية وبين النفس الطبيعية. وخلال تصديه لآراء الإجتماعيين والفلاسفة إستعرض بإيجاز حزمة من تلك الآراء، أراد منها أن تساعده في دراسة شخصية الفرد العراقي في خطوطها العامة، وليست الحالات المنفرد. وبعد إشارته إلى الصعوبات التي واجهته في مبحثه أعلن توصله إلى بعض النتائج التي حكم عليها بـ: إنه ليس مطمئناً كل الإطمئنان من صحتها. وفي كل الأحوال يقدر أهمية معرفة خصائص الشعب لقيادته نحو مستقبل أفضل، والتعرض بثبات ووضوح إلى النواقص والمعايب دون مواربة.
كان الإنتقال إلى القسم الثاني من دراسته، وهو هدف الدراسة أصلاً غير محكم أو واضح الربط بين مقدمات الدراسة ونتائجها، وبدا وكأنه إستمرار للقسم الأول من بحثه. أعلن في البدء توصله إلى أهم نقطة تؤكد وجود شيء من الإزدواج في شخصية الفرد العراقي، مبيناً أن كل شخص يعاني منه، وإن بنسب متفاوتة، ولفرط التعود على الحالة بات الإحساس بها ضعيفاً بل مألوفاً. ولاشك في أن دعوته إلى كشف المعايب الإجتماعية وعدم التستر عليها حالياً وفي التاريخ، خطوة ودعوة ضرورية للغاية لكي يقف المجتمع على طريق التقدم في مجالات الحياة كافة.
ربما إشارته الى رأي أرسطو في الإنسان على إعتباره إجتماعي وغير إجتماعي في الوقت ذاته، ويملك عنصر الثورة والخضوع معاً، وهو يتفق مع قيم مجتمعه تارة ويتمرد عليها في أخرى، هو المدخل الأقرب إلى أحكامه على المجتمع والشخصية العراقية. وإبراز الكاتب صفة الإزدواج في شخصية الفرد العراقي، ولكنه إستدرك بأن هذه الحالة ليست طبيعة عراقية فقط، وإنما توجد في كل شخص بنسب مختلفة، وهذا إستدراك له ما يبرره علمياً، وكما يُظهره واقع الحياة الإجتماعية عامة أيضاً. ولكن بصفة عامة يلاحظ القارئ كثرة حالات عدم اليقين في إستنتاجات الكاتب نفسه. وقد لا تضر بقدرته على طرح الأسئلة. إن قضية تقدم أجوبة وإستدراكات متواصلة تبقى مسألة جدل في الحكم على طبيعتها. ولا بأس في التحفظ على نقل بعض آراء أرسطو عن K. Young لأنه في مثل هذه الحالة قد يدخل في رأي أرسطو شيء من Young مهما بلغت الأمانة العلمية عند الأخير.
أرى من المفيد جرد أهم النتائج التي توصل إليها الوردي عبر جهده المضني، وإن كان في معظم الحالات مبني على شواهد فردية تفتقر الى الأبحاث الملموسة والإحصاء، وتقوم في الغالب على الملاحظة الفردية فقط، وهي وسيلة تدخل ضمن مناهج البحث العلمي، ولكنها لا تشكل دليلاً موثوقاً به بمفردها، توصل الوردي إلى:
ـ إن الإزدواج مركّز ومتغلغل في نفسية العراقي. ـ العراقي أكثر الناس هياماً بالمثل العليا في الكلام وأكثرهم إنحرافاً عنها في الواقع. ـ يرفض إطلاق صفة المنافق أو المرائي على العراقي في بعض الحالات، ويدرجها مثل تلك الحالات ضمن إزدواج الشخصية، ومن الأمثلة التي أشار إليها: أن العراقي أكثر الناس إمتعاضاً من الإفطار العلني، ولكنه من أكثرهم إفطاراً. وأكثر الناس حباً للوطن وتحمساً لخدمة العلم، وهو في الواقع على إستعداد للتملص منها إذا آن الأوان. وأقل الناس تمسكاً بالدين وأكثرهم إنغماساً في الطائفية؛ وتراه ملحداً من ناحية وطائفياً من ناحية أخرى. ومتحمساُ لقيم العدل والرحمة والعفو، ولكنه أسرعهم إستعداداً للإعتداء. وضرب مثلاً آخر على مقاطعة البضائع لأسباب مبدئية، ولكنه عند الشراء يختار البضاعة الأجود والأرخص بغض النظر عن مصدرها. ويصف الوردي الإزدواج؛ بأنه حين تتحرك إحدى شخصيتي العراقي تتوقف الأخرى، وهناك شخصية يتحدث بها وأخرى يمليها الواقع. بحث الكاتب في أسباب الإزدواج، وأرجعها الى ثلاثة أسباب أو نواح رئيسية:
ـ الناحية الحضارية: تمثل هذه الناحية نوعاً من المنازعة بين التحضر والبداوة بحكم موقع وتاريخ وظروف العراق. فالبداوة خلقت نتائج أدت الى إنقسام الناس إلى غالب ومغلوب، والزراعة خلقت طبقتين حاكمة ومحكومة.
كما إن إستمرار تدفق الموجات البدوية من بوادي الدول المجاورة خلقت حالة من التصارع بين البداوة والحضرية الزراعية. وهذا الواقع يملي قيماً إجتماعية غير متجانسة. تقوم الأولى (البداوة) على البسالة والشجاعة وصفات المحارب الفاتح، والثانية (الزراعية) تقوم على الصبر والتحمل والكدح والخضوع والتباكي.
حاول الكاتب الخوض في الحقب التاريخية، ذاكراً تحول بغداد إلى عاصمة الخلافة العباسية، مؤكداً على أن أغلب المترجمين والباحثين في تلك الفترة إنحدروا من الفئات الفقيرة أو ما وصفها بالطبقة المغلوبة. وهذا إستنتاج أو تقدير بحاجة إلى دراسات موسعة لإثباته أو إيصاله إلى مستوى اليقين أو إلى مستوى يركن له. وأضاف عاملاً آخر يتمثل بظهور المدارس الفكرية في بغداد التي تقوم على المثل العليا مما ترك أثره على العراقي في الخطابة، ولكن وقائع الحياة لها منطقها الخاص المؤثر، وهذا عزز حالة الإزدواج أيضاً.
وواصل عملية معالجة تأثير الفئات الحاكمة على الناس إلى العهد العثماني، ولا سيما في أواخر ذلك العهد، وتوقف عند نظام جمع الضرائب، ودور ذلك في دفع الفقراء إلى الإحتماء بالعشائر والقبائل. وهو شخصياً كان شاهداً على وجود نظامين في بلده أحدهما قانون العشائر والآخر مدني. وها نحن نشهد اليوم عودة جديدة الى ذات الحال الذي أوشك على الإنطواء على الأقل على صعيد التشريع.
وتناول وصف العراقيين بأهل الشقاق والنفاق، وأرجع ذلك إلى إعتقاد العراقي بمبادي لا يستطيع تطبيقها، فهو يدعم التوجهات الإصلاحية عند الزعماء، ولكنه في الوقت نفسه يدرك مخاطر ما سيحل به وببيته من جراء تلك المواقف. وأبدى ميلاً في أحد هوامشه على رأي الجاحظ الذي أرجع تمردات أهل العراق إلى فطنتهم.
وفي مجال آخر يقرن إنتشار رجال الدين في بعض المدن بإنتشار وإزدهار الإزدواج، مفسراً الحالة بأن رجل الدين يتحدث عن قيم يقبض ثمنها من جهات لا تؤمن بتلك القيم.
ـ الناحية الإجتماعية: لاحظ الوردي الشؤون التي تخص ما يُعرف بالجماعات الأولية المؤثرة في التنشئة، مثل العائلة والمدرسة وغيرهما. فبالنسبة للعائلة أشار إلى وجود حالة مما أطلق عليه ظاهرة التجزؤ في العائلة، أي إنقسام أسلوب أو نمط عيش العائلة إلى: الرجل، المرأة، والطفل. وأضاف بأن الرجل بعد العمل يذهب إلى المقهى، والمرأة مكانها في البيت، والطفل في الزقاق مع أقرانه. هذا الواقع قلل من شأن المرأة وأضعف دورها ومعارفها وخبراتها، مؤكداً على أن لأنماط العيش الثلاثة آثارها السلبية على المجتمع، وهي في الأصل تستحضر قيم وأنماط حياة المجتمعات البدوية.
توقف أيضاً عند الأضرار السلوكية التي يكون منبعها إنفصال عالمي الرجال والنساء، وأضرار ذلك الإنفصال عليهما وعلى الأجيال القادمة من الجنسين أيضاً. ولابد من الإشادة بجرأة الكاتب في تناول بعض المظاهر التي يجري التستر الكاذب عليها، ويزداد الإحترام للوردي لأنه عالج مثل تلك القضايا قبل ما ينوف على ستة عقود.
وبصدد تربية الأطفال في أزقة الأحياء أشار الى أضرارها البالغة على شخصية الطفل، وأحتمال إكتسابه لبعض الطباع الإجرامية وغيرها من المثالب والنواقص، مذكراً ببعض الدراسات الأمريكية عن الأحياء الفقيرة والمعزولة والمهمشة. ولم يتجاهل أيضاً طبيعة البيوت غير المناسبة لقضاء الأطفال أوقاتاً للراحة، وإن الأطفال يضطرون إلى إستخدام الشارع للتسلية، حيث تسود في تلك الشواع حالة من منطق القوي والضعيف. كما لم يتجاهل تربية الأطفال على التصنع حين يطلب منهم التصرف برزانة أمام الكبار.
يخلص الباحث من خلال سرد الحوادث والأنماط المتنوعة إلى التأثير السلبي للحالة الإجتماعية على الحالة النفسية للطفل. وعلى هذا المنوال تنشأ عند الطفل شخصيتين متناقضتين، الخاضع والمتمرد، المؤدب والوقح، والمرن والمتزمت. ويربط ذلك بالنظام التعليمي الذي يقول عنه أنه مازال يعاني من تأثيرات تلك الأنماط من التربية غير السليمة.
ـ الناحية النفسية: أفرد الوردي في مجمل الكتاب إهتماماً واسعاً بتربة الطفل، وما تلقيه بعض أنماط التربية من تأثيرات سلبية على نفسيته، وهو يمثل المستقبل. وتناول ظاهرة الكبت التي تنشأ وتنمو مع الطفل. ومن مظاهر الزيف الإجتماعي عند الأفراد أنهم في حالة العجز عن تحقيق هدف ما، يلجأون إلى الإنتقاد المشدد للتنفيس عن الرغائب المكبوتة. وهذا مما جعل العراقي أكثر الناس إنتقاداً لغيره. وأشار إلى إنتقاد الموظفين الحكوميين لمن هو أعلى منهم وظيفياً في الوقت الذي هم يمارسون ذات التصرفات. وفسر العديد من التصرفات على أساس أن الكبت هو دافعها المحرك.
أكد الوردي على أضرار الفوارق الكبيرة بين اللغة (اللهجة) الدارجة واللغة الفصحى في العراق وبعض البلاد العربية، مؤكداً على تأثير اللغة في التفكير. وإعتبر التحدث بلغتين يعني التفكير بإسلوبين مختلفين. مشيراً الى أن الفصحى نشأت من الأصول البدوية، هذا أبعد الكثير من الإبداعات عن العوام مثل الشعر. والفصحى تزخر بالكثير من القيم العليا والعامية بالسوقية.
ذكر الوردي بأن مثل تلك الفوارق بين الفصحى والعامية كانت سائدة في العصور الوسطى بأوروبا، وقد إنتبهوا الى ذلك، وثاروا عليه في بداية نهضتهم وغيروها، ولم يبق إلا فوارق ضئيلة. مما يثير الإستغراب أن دور التعليم في تقليص الفوارق بين الفصحى والعامية لم يشير إليه بصورة واضحة ومباشرة، علماً أنه من أهم العوامل المؤثرة على اللغات وعلى القيم الإجتماعية وعلى الإنتاج ونواحي الحياة الأخرى.
لاشك في أن إقتراح الحلول مسألة في غاية الأهمية عند تناول أية إشكالية إجتماعية أو غيرها. وعلى هذا الصعيد بذل الكاتب جهوداً لتحديد عوامل الخروج من الحالة السلبية، وطرح بعض المعالجات، حصرها بثلاثة أنواع حسب إعتقاده، وهي: 1 ـ إزالة الحجاب عن المرأة وإدخالها في عالم الرجل بهدف توحيد القيم. 2 ـ تقليل الفرق بين اللغة الفصحى والعامية. 3 ـ تهيئة ملاعب للأطفال لأغراض التسلية والرياضة تحت إشراف كفوء.
وفي ذيل كتابه أشار الوردي إلى تعرضه للإنتقاد بسبب تجاهله لدور الدولة في المعالجة، مبرراً ذلك بأن الفترة الزمنية لظهور الدولة العراقية كانت قصيرة. وبادر في الوقت نفسه إلى عدم نكران أهمية ذلك العامل، موكداً على أنه جدير بالبحث، وأشار إلى تنامي دور ما كان يعرف بفئة الأفندية، وعرض إرتقاء أبناء الفئات الفقيرة في المراتب الوظيفية بعد تخرجهم منتقداً قصور نظرتهم الإجتماعية.
هذا المقال ليس وجهة نظر أو تقويم عام لعالم الإجتماع العراقي الكبير علي الوردى وإنتاجه الغزير والمهم، وإنما هو قراءة لأول مؤلف له أصدره عام 1951 بعد مرور عام واحد على نيله شهادة الدكتوراه من جامعة تكساس ـ الولايات المتحدة الأمريكية فقط.
يتلمس القارئ أو الباحث من خلال قراءته للكتاب كيف يَضيعُ الكاتب في زحمة أفكاره، التي يسودها الإستطراد غير المنتظم في تسلسل موضوعاته. وكيف أن الكاتب حصر نفسه في البحث من خلال منطلقات علم الإجتماع البرجوازي، الذي يخوض في التفاصيل، ولا يمنح العوامل المحركة الرئيسية الأخرى دورها الذي تستحق.
ربما ساعدت في ظهور تلك الحالة عند مؤلف مرموق مثل الوردي أنه كان في بداية عهده في مثل تلك الأبحاث، وكتب مادته في فترة تشهد صعوداً عاصفاً لعلم الإجتماع البرجوازي. وبالمقابل كان علم الإجتماع الماركسي ـ اللينيني يواجه مصاعب حقيقية، بسبب أن ستالين إعتبر المادية التاريخية هي علم الإجتماع، ذلك الموقف عوّق علم الإجتماع الماركسي، وأضعف جانبه الخاص في الأبحاث المحدودة بصفة خاصة.
إن مبادئ الصدق والأمانة وقوة الملاحظة الشخصية الممنهجة التي إعتمدها الوردي ساعدته كثيراً في الإقتراب من تلمس العوامل الإجتماعية والصراع الإجتماعي المؤثرين في تكوين الشخصية وتحديد ملامحها وخصائصها العامة، هذا على الرغم من أن عناصر الصراع الإجتماعي الأساسية عند دراسته لشخصية الفرد العراقي لم تكن أساسية في منهجه.
#عبدالحميد_برتو (هاشتاغ)
Abdul_Hamid_Barto#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
خواطر حول أيام دامية
-
تحررت مدينة هيت ولكن متى تدور نواعيرها؟
-
عملية سياسية مندحرة ولكنها مستمرة
-
موجعة ذكرى الشهداء
-
ثورة 14 تموز
-
الفقراء يتضامون ... ويتبرعون أيضاً
-
31 آذار يوم مجيد لكل كادحي العراق
-
وداعاً أبا نصير؛ المناضل عبد السلام الناصري ...
-
ألف مبروك لكل من يهمه الأمر!
-
الوطنية الحقة وحروب التدخل (5)
-
الوطنية الحقة وحروب التدخل (4)
-
الوطنية الحقة وحروب التدخل (3)
-
الوطنية الحقة وحروب التدخل (2)
-
الوطنية الحقة وحروب التدخل (1)
-
حملة التضامن مع إبراهيم البهرزي
-
التصدي للفكر الظلامي المتعدد الأقطاب (3)
-
التصدي للفكر الظلامي المتعدد الأقطاب (2)
-
التصدي للفكر الظلامي المتعدد الأقطاب (1)
-
نظرة الى دراسة إستطلاعية
-
بين القرم ودمشق الشام
المزيد.....
-
مشهد يحبس الأنفاس.. مغامر يتسلق جدارًا صخريًا حادًا بسويسرا
...
-
وسط التصعيد الأوكراني والتحذير من الرد الروسي.. ترامب يختار
...
-
انخفاض أعدادها ينذر بالخطر.. الزرافة في قائمة الأنواع مهددة
...
-
هوكستين في تل أبيب.. هل بات وقف إطلاق النار قريبا في لبنان؟
...
-
حرس الحدود السعودي يحبط محاولة تهريب نحو طن حشيش و103 أطنان
...
-
زاخاروفا: الغرب يريد تصعيد النزاع على جثث الأوكرانيين
-
صاروخ روسي يدمر جسرا عائما للقوات الأوكرانية على محور كراسني
...
-
عشرات القتلى في قصف إسرائيلي -عنيف- على شمال غزة، ووزير الدف
...
-
الشيوخ الأمريكي يرفض بأغلبية ساحقة وقف مبيعات أسلحة لإسرائيل
...
-
غلق أشهر مطعم في مصر
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|